المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌ التعقيد في الفصول والغايات: - الفن ومذاهبه في النثر العربي

[شوقي ضيف]

فهرس الكتاب

- ‌المقدمات

- ‌مقدمة الطبعة الثالثة

- ‌مقدمة الطبعة الأولى:

- ‌الكتاب الأول: مذهب الصنعة

- ‌الفصل الأول: الصنعة في‌‌ النثر الجاهلي

- ‌ النثر الجاهلي

- ‌ الأمثال الجاهلية:

- ‌ الصنعة في الأمثال الجاهلية:

- ‌ الخطابة الجاهلية:

- ‌ الصنعة في الخطابة الجاهلية:

- ‌ سجع الكهان:

- ‌الفصل الثاني: الصنعة في النثر‌‌ الإسلامي

- ‌ الإسلام

- ‌ الخطابة في صدر الإسلام:

- ‌ الخطابة في العصر الأموي:

- ‌ الصنعة في الخطابة الأموية:

- ‌ الكتابة في صدر الإسلام:

- ‌ الكتابة في العصر الأموي:

- ‌ الصنعة في الكتابة الأموية:

- ‌ عبد الحميد الكاتب، وخصائصه الفنية:

- ‌الفصل الثالث: الصنعة في‌‌ النثر العباسي

- ‌ النثر العباسي

- ‌ ابن المقفع: أصله وحياته وزندقته:

- ‌ صنعة ابن المقفع في كتبه ورسائله:

- ‌سهل بن هرون: أصله وحياته وثقافته

- ‌ صنعه سهل في رسائله وكتبه:

- ‌ الجاحظ: نشأته وثقافته وحياته:

- ‌ الصنعة الجاحظية:

- ‌ رسالة التربيع والتدوير:

- ‌الكتاب الثاني: مذهب التصنيع، مذهب التصنع

- ‌الفصل الأول: التصنيع والدواوين

- ‌ التصنيع في الحياة العربية:

- ‌ التصنيع ودواوين الخلافة العباسية:

- ‌ التصنيع ودواوين الإمارات الفارسية:

- ‌ ابن العميد: حياته وثقافته

- ‌ تصنيع ابن العميد:

- ‌ الصاحب بن عباد وتصنيعه:

- ‌ تصنيع أبي إسحاق الصابي:

- ‌ التصنيع عام بين كتاب الدواوين:

- ‌الفصل الثاني: التصنيع والتصنع

- ‌ اشتداد موجة التصنيع:

- ‌ أبو بكر الخوارزمي، وتصنعه:

- ‌التصنع وتصنيع الخوارزمي

- ‌ بديع الزمان وتصنيعه:

- ‌التصنع وتصنيع بديع الزمان

- ‌ مقامات البديع، وما فيها من تصنع:

- ‌ قابوس بن وشمكير وتصنعه:

- ‌ ذيوع التصنع وانتشاره:

- ‌الفصل الثالث: التصنع والتعقيد

- ‌ أبو العلاء: حياته، وذكاؤه، وثقافته

- ‌ أبو العلاء وتعقيده:

- ‌ التعقيد في رسالة الغفران:

- ‌ التعقيد في الفصول والغايات:

- ‌ الحريري وتعقيده:

- ‌ التعقيد في مقامات الحريري:

- ‌ الحصكفي وتعقيده:

- ‌ التعقيد ظاهرة عامة:

- ‌الكتاب الثالث: المذاهب الفنية في‌‌ الأندلسومصر

- ‌ الأندلس

- ‌الفصل الأول: الأندلس والمذاهب الفنية

- ‌ شخصية الأندلس:

- ‌ النثر الأندلسي:

- ‌ ملوك الطوائف، ونهضة النثر الأندلسي:

- ‌ جمود النثر الأندلسي:

- ‌الفصل الثاني:‌‌ مصروالمذاهب الفنية

- ‌ مصر

- ‌ شخصية مصر:

- ‌ النثر المصري:

- ‌ الفاطميون، ونهضة النثر المصري:

- ‌ الأيوبيون، ونهضة النثر في عصرهم:

- ‌المماليك وإمتداد النهضة في عهدهم

- ‌ العصر العثماني، والعقم، والجمود:

- ‌خاتمة:

- ‌ الصورة العامة للبحث:

- ‌ النثر المصري الحديث:

- ‌ بين القديم والجديد:

- ‌فهرس الموضوعات:

الفصل: ‌ التعقيد في الفصول والغايات:

4-

‌ التعقيد في الفصول والغايات:

لعل أهم كتاب عقده أبو العلاء، وصعبه هو كتاب الفصول والغايات، وهو كتاب قصد به إلى تمجيد الله1، ومع ذلك فقد كان سببًا في حملة شعواء عليه، إذ ذهب خصومه إلى أنه ألفه معارضة للقرآن، ويظهر أنهم واجهوا أبا العلاء بهذه التهمة منذ أخرج الكتاب، يقول ناصر خسرو الذي زار المعرة عام 438هـ:"وضع أبو العلاء كتابصا سماه الفصول والغايات ذكر به كليمات مرموزة، وأمثالا في لفظ فصيح عجيب بحيث لا يقف الناس إلا على قليل منه ويفهمه من يقرؤه عليه، وقد اتهموه بقولهم: إنك وضعت هذا الكتاب معارضة للقرآن"2، وقد استمرت هذه التهمة عالقة بأذهان الناس، يقول الباخرزي:"أبو العلاء ضرير، ما له في أنواع الأدب ضريب، وإنما تحدثت الألسن بإساءته لكتابه، الذي زعموا أنه عارض به القرآن، وعنونه بالفصول والغايات في محاذاة السور والآيات، وأظهر من نفسه تلك الجناية، وجذ تلك الهوسات كما يجذ العير الصليانة"3، ويقول ابن الجوزي:"رأيت للمعري كتابًا سماه الفصول والغايات، يعارض به السور والآيات، وهو كلام في نهاية الركة"4.

وإذا فتهمة أبي العلاء بأنه عارض القرآن بكتاب الفصول والغايات، تهمة قديمة وجدت في عصره، واستمرت من بعده، وقد أضاف الرواة إلى هذه التهمة أن بعض الأدباء قال له: إن كتاب الفصول والغايات جيد، إلا أنه ليس عليه طلاوة القرآن، فقال: حتى تصقله الألسن في المحاريب أربعمائة سنة، وعند ذلك انظروا كيف يكون5، وأكثر الظن أن هذه الرواية لفقت على أبي العلاء، كما لفقت عليه فكرة معارضة القرآن بالكتاب، ولعل مما يشهد لذلك أن نجد تلميذه ابن سنان الخفاجي يردها ردًا عنيفًا إذ يقول:"وهذا الكتاب إذا تأمله العاقل علم أنه بعيد عن المعارضة، وهو بمعزل عن التشبيه بنظم القرآن العزيز والمناقضة"6، ومن يرجع إلى الكتاب يرفض رفضًا باتًا، ما ادعاه خصومه عليه فيه من هذه المعارضة المزعومة، إذ كله تسبيح وتمجيد في الله، وانظر إليه يقول: "علم ربنا

1 معجم الأدباء 3/ 146.

2 سفر نامه لناصر خسرو "الترجمة العربية"، طبع لجنة التأليف والترجمة ص11.

3 دمية القصر للباخرزي "طبع حلب" ص50، والصليانة: نبث ضعيف، والعير: حمار الوحش:

4 تعريف القدماء بأبي العلاء ص21.

5 تعريف القدماء ص426.

6 تعريف القدماء ص426.

ص: 281

ما علم، أني ألفت الكم، آمل رضا المسلم، وأتقي سخطه المؤلم، فهب لي ما أبلغ به رضاك من الكلم والمعاني الغراب"1، وتسيطر على الكتاب كله روح التقوى، والزهد، والخوف العظيم من ربه، وقد انتشرت هذه الروح في جميع صفحات الكتاب، كقوله في بعض الفصول: "إن كان الدمع يطفئ غضبك فهب لي عينين، كأنهما غمامتا شتى تبلان الصباح والمساء"2، ويقول في مكان آخر: ليت أعظمي تحولت عيدان أراك يتفلفل بها المتعبدون لله بالعشي، والأبكار، وليت أدمي جعل منه ذات طراق يمسح عليها المسافرون في سبيل الله أوقات الصلوات، أو صنع منه شعيب يحمل فيها الماء، حتى تعد في الشنان الباليات، وليت شعري عشب عبث به ركاب الناسكين، على أصل بذلك إلى الفلاح3، وانظر إليه يقول في موضوع آخر4:

"لو نقلت مياه اللجج على منكبي في قداف، وأفرغته على مناكب الجبال وجررت كثبان الأرض، وصرائمها في جر أو مشآة، فألقيتها في الخضر الدائمات، حفدًا لله كنت أحد العجزة المقصرين5، ولو أذن لي وأيدت، فابتنيت مراهص من الثرى الأسفل إلى الثريا وحضار، ومن الوتد المتخذ من عود، إلى ساحة وتد السعود6، لم أؤد ما يوجبه جلال الله، فكيف وأنا أقصر الصلاة، وأداني بين الركعات".

وأنت تحس هنا بروح رجل مؤمن مبالغ في إيمانه يخاف ربه ويخشاه، وإنه لتيصور نفسه يأتي بالمعجزات في طاعة الله، فلا ترفعه هذه المعجزات -إن استطاع أن يقوم بها- عن الشعور بأنه أحد العجزة المقصرين، وإنه ليحس

1 الفصول والغايات "طبعة محمود زناتي" 1/ 62.

2 نفس المصدر 1/ 259 شتى: من الشتاء تبلان: تسحان من الوبل، وهو المطر الغزير.

3 نفس المصدر 1/ 390. يتفلفل: يستاك. ذوات الطرق: النعال. الشعيب: القربة من أديمين.

4 نفس المصدر 1/ 59.

5 القذاف: الجرة. الجر: الزبيل. المشآة: زبيل من أدم. الخضر: اللجج. الحفد: الخدمة.

6 المراهص: المراتب. وتد السعود: سعد الأخبية: نجوم معروفة.

ص: 282

إحساسًا عميقًا بأنه مهما صنع من آيات، فلن يؤدي ما يوجبه جلال الله، وعلى هذا النحو يمضي أبو العلاء في كتابه يستشعر العجز، والضعف أمام ربه معددًا لنعمه ومآثره، مصورًا لإرادته وقدرته، وقد جعله هذا الجانب يقف عند طائفة من المستحيلات في وقائعنا المادية، فيظهر كيف أن قدرة الله التي تسع كل شيء، تستطيع أن تحولها من باب المستحيلات إلى باب الممكنات، كقوله في بعض فصوله1:

"يقدر ربنا أن يجعل الإنسان ينظر بقدمه، ويسمع الأصوات بيده، وتكون بنانه مجاري دمعه، ويجد الطعم بأذنه، ويشم الروائح بمنكبه، ويمشي إلى الغرض على هامته، وأن يقرن بين النير وسنير، حتى يريا كفرسي رهان، وينزل الوعل الزعل من النيق، ومجاوره السوذنيق2، حتى يشد فيه الغرض، وتكرب عليه الأرض، وذلك من القدرة يسير، سبحانك ملك الملوك، وعظيم الضعفاء".

ونرى من ذلك أن الفصول، والغايات لم يقصد بها إلى إلحاد ولا إلى زندقة، ولا إلى معارضة للقرآن ومناقضة، ومن أين تأتيها هذا، وهي تنساق كلها في التمجيد والتحميد، والثناء على الله، ولعله من أجل ذلك قال ابن سنان الخفاجي:

إن العاقل إذا تأملها علم أنها بعيدة عن المعارضة، وقد يكون السبب في أن الناس واجهوا أبا العلاء بهذه التهمة، أنهم رأوه يسمى كتابه باسم "الفصول والغايات في محاذاة السور والآيات"، فظنوا أنه يقصد بذلك إلى المعارضة في الأسلوب، وهو إنما يقصد إلى أن هذه الفصول محاذية للقرآن من حيث ما فيها من تسبيح، وحمد وتمجيد وثناء على الله سبحانه وتعالى، وقد يكون من أسباب هذه التهمة، ما في الكتاب من بعض أقسام تشبه أقسام القرآن3، كقوله في بعض فصوله4:

1 الفصول والغايات 1/ 31.

2 النير: جبل بأعلى نجد. سنير: جبل بين حمص وبعلبك. السوذنيق: الصقر أو الشاهين.

3 معجم الأدباء 3/ 140.

4 الفصول والغايات ص253.

ص: 283

"أقسم بخالق الخيل، والعيس الواجفة بالرحيل، تطلب مواطن حليل1، والريح الهابة بليل بين الشرط ومطابع سهيل، إن الكافر لطويل الويل، وإن العمر لمكفوف الذيل، شعر النابغة وهذيل، وغناء الطائر على الغيل، شهادة بالعظمة لمقيم الميل، فانعش سائلك بالنيل، وليكن لفظك بغير هيل2، وإياك ومدارج السيل، وعليك التوبة من قبيل، تنج، وما إخالك بناج".

ومع ذلك فلم تأت هذه الصورة من الأقسام في الكتاب كثيرًا، ولعل مما يتصل بها ما يلاحظ على لكتاب أحيانًا من النسج على أساليب مشبهة للقرآن الكريم، وقد لاحظ القدماء ذلك في قوله3:

"أذلت العائذة أباها، وأصاب الوحدة ورباها، والله بكرمه اجتباها، أولاها الشرف بما حباها، أرسل الشمال وصباها، ولا يخفا عقباها".

وربما كان من الأساليب التي تدخل في ذلك، ما يلاحظ عليه أحيانًا من استخدام صورة الفواصل في بعض جوانب من كتابه، كقوله4:

"إن الله إذا أذن أروى الشعب من القعب، فسبحان مروي الهائمين، والحليب، يطلب من ذوات الصليب، وربك رازق الممترين5، هل تقدر على التحجيب، لأسد الحجيب، وإذا شاء الله وسمت أنوف الأعزاء. من الرتب، ركوب القتب، والله منعم الحافضين6، ذهبت شعوب، وفي يدها لعوب، ولك للمنية أكيل، إلا ملك الملوك ومذل المتكبرين. يذهب الحلب، ويبقى القلب، وكل محدث من الذاهبين7، يقع الشبب في السبب، وكذلك

1 العين الواجفة: الإبل المسرعة. الرحيل: موضع بين مكة والكوفة. حليل: شخص كانت إليه سدانة الكعبة.

2 الشرط: واحد الشرطين، وهما نجمان من برج الحمل. الغيل: الماء يجري على وجه الأرض الميل: العوج. النيل: العطاء. الهيل: ضد الكيل.

3 معجم الأدباء 3/ 140، والعائذة: حديثة النتاج.

4 الفصول والغايات 1/ 227.

5 القعب: قدح صغير. الهائم: العطشان ذوات الصليب: النوق.

6 التحجيب: سمكة حول الحاجب، الحجيب: الأجمة. الرتب: غلظ العيش القتب: الرحل.

7 شعوب: المنية لعوب: امرأة. الحلب: الليف. القلب: قلب النخلة.

ص: 284

غاية المطلقين، شكا الطلب، داء في الخلب، وربك شافي المشتفين1، قد تقف الطراب، على رءوس الظراب ترمق آثار المتحملين2، ولو شاء الله جعل جناحًا كالحضر، وأبا مهدية مثل قباث"3.

ولكن هل ظهور هذه الأساليب، وما يطوي فيها من صور مشبهة لعبض صورة القرآن الكريم في أساليبه، تجعلنا ننطلق إلى اتهام أبي العلاء بمعارضة القرآن الكريم، أو ينبغي أن نتريث وأن لا نحكم هذا الحكم إلا إذا دعمناه بأدلة أشد من ذلك وضوحًا؟ والحق أن تهمة أبي العلاء لا تثبت بمثل هذه الصورة، وخاصة أن أبا العلاء لم يشعها في فصوله وغاياته، بل لقد جاء بها في القليل النادر جدًا، ومن يدري؟ ربما قلد أبو العلاء أساليب القرآن الكريم في بعض جوانب من كتابه، ولكنه لم يرد تقليده إلى المعارضة والتحدي، وإنما أراد مطلق التقليد الخالي من أي غرض من أغراض الإلحاد، وقد يكون من الأدلة على ذلك أن الكتاب كله ينساق في موجة عظيمة من تحميد الله وتمجيده، وأيضا فإننا إذا تركنا هذه الجوانب القليلة في الكتاب، ونظرنا في أساليبه نظرة عامة، وجدنا أبا العلاء يختار لنفسه فيه أسلوبًا معقدًا تعقيدًا شديدًا، وهو تعقيد يقوم على استخدام اللفظ الغريب، وما يطوي فيه من أمثال، وكلمات رمزية، وإن ذلك ليباعد الكتاب جملة عن أسلوب الذكر الحكيم، ويجعله أسلوبا من طراز آخر هو طراز مذهب التصنع، وما انتهى إليه هذا المذهب عند أبي العلاء من عقد، وكلف كثيرة.

ولعل أول ما يلاحظ من عقد أبي العلاء، وكلفه في هذا الكتاب أنه قسمه على حروف المعجم عدا حرف الألف، فخرج له من ذلك ثمانية وعشرون فصلًا، وجعل كل فصل كالهمزة مثلًا ينقسم إلى فقرات، وكل فقرة تختتم

1 الشبب: الثور الوحشي. الطلب: الذي يطلب النساء. الخلب: غشاء القلب.

2 الظراب: الحبال الصغار. المتحملين: المسافرين.

3 جناح: بيت لأبي مهدية الأعرابي، الذي يروي عنه أبو عبيدة. الحضر: حصن الملك يسمى الساطرون. قباث: ملك ملوك الفرس يسمى قباذ.

ص: 285

بغاية هي الفصل، الهمزة غاياته كلها الهمزة، وأبو العلاء لا يكتفي بذلك، بل يلتزم حرفًا قبل جميع غاياته هو الألف، ولا تظن أنه يصنع هنا ما صنعه في ديوان اللزوميات من التزام حرف قبل الروي، وتوحيده في المقطوعة التي ينظمها، فهناك كان يستطيع أن يغير الحرف كما يريد، أما هنا فهو يعينه بحرف الألف، ففصل الهمزة مثلًا تختتم فقراته كلها بجملة فيها ألف وهمزة، وكذلك فصل الباء والتاء والثاء وهلم جرًا، وانظر في الفقرة السابقة التي عرضناها عليك، فغايتها قباث، وهي مختومة بثاء بعد الألف، وكذلك جميع فقرات فصل الثاء تختتم على هذا النحو، فإذا رجعت إلى الكتاب وجدتها تتوالى هكذا: وراث، أحداث، حثاث، جثجاث

ويستمر على هذا النمط حتى يختتم الفصل.

وليست هذه العقدة هي كل ما فزع إليه أبو العلاء في فصوله وغاياته، فهناك عقد كثيرة كان يلجأ إليها، لعل من أهمها أنه كان يلتزم داخل فقره كثيرًا أن تتوالى السجعات، وقد اشتركت نهايتها في حرفين أو أكثر، على أن هذه العقدة سبق أن لاحظناها عنده في رسالة الغفران، وربما كانت أهم عقدة استمد منها أبو العلاء كل ما يريد من تعقيد في أسلوبه، وتصعيب هي عقدة اللغة، ولعل القارئ لاحظ ذلك في ما رويناه حتى الآن من الكتاب، ولذلك عمدنا في الهوامش إلى تفسير بعض الألفاظ، وحقًا ما قاله ناصر خسرو من أن هذا الكتاب أودع كلمات مرموزة، وأمثالًا وأنه لا يفهمه إلا من قرأه على أبي العلاء نفسه، وقد قالوا: إنه فسره بكتاب يسمى السادن1، ومن يرجع إلى القسم الذي نشر من الكتاب يجد أنه يصحب بتفسير، فالفقرة تكتب ثم يلحقها التفسير، فإذا انتهى التفسير جاءت كلمة "رجع" للدلالة على الرجوع إلى أصل الكتاب وفقره، وأكبر الظن أن هذا التفسير من صنع أبي العلاء، وقد يكون هو نفسه كتاب السادن الذي شرح به الكتاب، ألحقه به أحد تلاميذه، أو ألحقه به شخص متأخر.

1 تعريف القدماء ص39.

ص: 286

هذا الزخرف قبله، ولكن الإنسان يحس عند أبي العلاء، أنه فارق طاقته القديمة من الحلية والزينة إلى طاقة جدية من الإغراب، والتعمق في تصعيب الأداء، وإنه ليلتزم ذلك دائمًا في كل ما يكتب، وهل هناك أثر نثري لأبي العلاء لم يبنه على اللفظ الغريب، وهذا الجناس المعقد، وما يطوي فيهما من التزام حرفين في روي سجعه غالبًا، ثم يأتي بعد ذلك ما يستخدمه من أمثال، وما يحشده من إشارات تاريخية، وهذا كله كان يلتزمه في آثاره، بحيث لا تكاد تخلو صحيفة من أعماله، إلا وقد انبسطت عليها عقد اللفظ الغريب، أو قل اللفظ المهجور، كما انسبطت عليها زخارف الجناس المعقد، وما يندمج في هذا الجناس من أمثال وإشارات.

وبجانب هذه العقد الدائمة التي ينمق بها فنه تنميقًا نجده يقترح عقدًا أخرى لم يكن يستعملها دائمًا، ولكنه كان يستعملها على كل حال، وقد عرضنا لها في بيان تعقيده لرسائله، ونقصد ما كان يتصنع له في كتاباته من ذكره لمصطلحات العلوم بطرق وصور مختلفة، وقد غالى في هذا الجانب في أثناء صناعته للفصول والغايات غلوًا بعيدًا، إذ نراه يحاول أن يرد كثيرًا من أفكاره إلى علل أصحاب النحو والعروض ومصطلحاتهما، كأنما أعياه التفكير المستقيم الصحيح، فهو يفزع إلى النحو والصرف، وما يتصل بهما يحاول أن يفسر آراءه، ومشاكله كقوله1:

"لا أختار شبه الظالمين، فإن الشيئين يتشابهان، فينقلهما التشابه إلى الاتفاق كإن المكسورة المشددة أشبهت الأفعال، فجاء بعدها اسمان آخرهما كالفاعل وأولهما كالمفعول، وكذلك ما قاربهما من الأدوات، لا تجعلني رب معتلا كواو يقوم، ولا مبدلًا كواو موقن تبدل من الياء، ولا أحب أن أكون زائدًا مع الاستغناء كواو جدول وعجوز، فأما واو عمرو فأعوذ بك رب الأشياء، إنما هي صورة لا جرس لها، ولا غناء مشبهها لا يحسب من النسمات".

وبين أن هذه الفقرة لا يستطيع تان يفهمها، إلا من درس النحو الاشتقاق

1 الفصول والغايات 1/ 142.

ص: 288

وعرف ما يقوله النحويون عن إن، وأنها تشبه الأفعال لبنائها من ثلاثة أحرف، ثم ما يقولونه في الصرف عن الإعلال والإبدال، وما يقولونه، عن وزن الأسماء وحروف الزيادة، وكأنما سدت أمامه جميع طرق التعبير، فهو يلجأ إلى هذه الأشياء يحاول أن يفتح بها الأبواب المنسدة، وأنها لتنفتح على هذه الكلف، التي لم يكن يعرفها النثر على هذا النحو قبل أبي العلاء، ولكن ما لأبي العلاء والكتاب من قبله؟ إنه يريد أن يتفوق عليهم، وهو يجد هذا التفوق في مثل هذه الصور، التي لم يكن يلجأ إليها الكتاب السباقون، لأنهم كانوا يفهمون الفن في كتابتهم بصورة أخرى، كانوا يفهمونه على أنه تنميق وزخرف، أما عند أبي العلاء، فقد تطور الزمن وأصبح الفن يفهم على أنه قبل كل شيء عقد وكلف، واستمع إليه يقول في فقرة أخرى1:

"ألتفت إلى ذنوبي فأجدها متتابعة كحركات الفاصلة الكبرى، واستقبل جرائم تترى، طوالًا كقصائد الكميت الأسدي، مختلفة النظم كقصيدتي عبيد وعدي، وأجدني ركيكًا في الدين، ركاكة أشعار المولدين سبقتهم الفصاحة، وسبقوا أهل الصنعة! وأعمالي في الخير قصار، كثلاثة أوزان رفضها المتجزلون في قديم الأزمان، ولا بد للوتد من حذ، والسبب من جذ2، ورب فرح، طوى طي المنسرح3، فارحمني رب إذ صرت في الحافرة، كالمتقارب وحيدًا في الدائرة، وهجرني العالم هجر النون العجمات"4.

أرأيت كيف ينجح أبو العلاء إلى علم العروض يستمد من مصطلحاته، ما يغرب به على الناس في نسيج فصوله وغاياته؟! ولا يكتفي بذلك، بل نراه

1 نفس المصدر 1/ 131.

2 الوتد: جزء التفعيلة المكون من حرفين بعدهما أو بينهما ساكن، والحذ: القطع، وهو حذف وتد من التفعيلة كحذف علن من متفاعلن في الكامل. والسبب: جزء التفعلية المكون من حرف متحرك بعده ساكن، أو متحرك مثله، والجذ: القطع، وقصد حذف السبب مثل تن في فاعلاتن.

3 الطي: حذف الرابع الساكن من مستفعلن في المنسرح، فتصبح مستعلن.

4 النون: الحوت. العجمات: مجامع الرمل.

ص: 289

يشير إلى قصائد الكميت وما اشتهرت به من طول، كما يشير إلى قصيدين لعبيد وعدي عرفنا باضطراب الوزن، وهما على الترتيب "أقفر من أهله ملحوب" و"قد حان أن تصحو لو تقصر"، كما يشير إلى الأوزان الثلاثة التي استحدثها الشعراء، ولم يستخدمها القدماء وهي المجتث والمقتضب والمضارع، أما الدائرة التي يشير إليها، فهي إحدى دوائر الخليل واضع علم العروض، إذ جعل كل مجموعة من أوزان الشعر في دائرة، وأفراد المتقارب بدائرة على حدة. ولكن أين نحن الآن؟ لقد فارق النثر طبيعته، وأصبحنا نقرأ في الصحيفة منه بل في الفقرة، فإذا بنا نضطر إلى أن نعرض لأشياء لا تتصل بدوائر الفن من حيث هو، وإنما تتصل بعلوم اللغة، وهذا هو معنى ما نذهب إليه من أن أبا العلاء عقد لغته في نثره تعقيدًا شديدًا، فقد أخذ النثر يستحيل عنده إلى هذه الصورة المعقدة الملتوية، فإذا صاحبه يلجأ إلى مصطلحات من العلوم يسلكها في عمله، وإنا لنعجب الآن كيف غلا أبو العلاء في تعقيد فنه كل هذا الغلو، ولكن هذا العجب يزيله من نفوسنا، أن نعرف أن الفن في النثر العربي تطور أخيرًا إلى هذه الصور من التصعيب في الأداء، وكأنما جفت المنابع التي تؤهل له صورة صحيحة من الزخرف، إذ انتقل إلى هذه الصورة المعقدة من استخدام مصطلحات العلوم، فإن تركها أبو العلاء فإلى الألفاظ المهجورة، والأمثال والإشارات المرموزة.

ويستخدم أبو العلاء الجناس، ولكنا نحس عنده أنه فارق صورته القديمة إلى صورة هندسية جديدة، إذ أصبح عقدًا خالصة، أو ما يشبه العقد الخالصة، لا لسبب إلا؛ لأنه كان يطلبه دائمًا في اللفظ الغريب المتعمق في الإغراب، كأنما الإغراب شيء يقصد لذاته، واسمتع إلى هذه الفقرة القصيرة1.

"بل يا جفن، وابل يا جسم، وأبلي يا نفس، يبل من المرض الدين، ليس يبل عند الله أبل، فاطو صديقك على بلته ولا تثقن بلابس حبلات".

هل يقع في ذهنك أنك تقرأ الآن نثرًا كالنثر المألوف لك؟ طبعًا لا، فإن

1 الفصول والغايات 1/ 146.

ص: 290

هذا نثر جديد من صنع أبي العلاء، وإن الإنسان ليحس إزاءه، كأنه يقرأ مادة من مواد لسان العرب، قد مثل لها ابن منظور بأمثلة مختلفة باختلاف استخدام الكلمة، ولكن فكر قليلًا فسترى أن أبا العلاء لم يعمد إلى هذا اللعب إلا؛ لأنه يريد أن يعرض عليك أوسع صور للجناس في هذه العبارات، وإنه ليذهب بعيدًا في الإتيان بجناساته، إذ يبدأ بكلمة "بل"، وهي من وبل يبل أي يسقط ويهطل، ثم يثني بكلمة "ابل"، وهي بلي يبلى، ويثلث بكلمة "وأبلى"، وهي من أبل الوحش إذ اجتزأ بالكلأ عن الماء يريد:"امتنعي عن المحارم أيتها النفس، ويستمر أبو العلاء، فيأتي بكلمة "يبل"، وهي بمعنى يبرأ ويصح، ثم يأتي بكلمة "يبل"، وهي يظفر، أما الأبل فهو الخبيث، وأما قوله:

"اطو صديقك على بلته"، فمثل يضرب في السقاء يطوى وهو مبتل، فإن بلله أبقى له، وقد ختم الفقرة بكلمة "حبلات"، وهي ضرب من الحلي، وواضح ما في ذلك كله من العنت في الإغراب، والتعقيد الشديد.

والحق أن أبا العلاء يعتبر في نثره مرحلة قائمة بنفسها في تاريخ لغتنا العربية، فقد أخذ هذه اللغة من أيدي سابقيه، فلم يقف بها عند الصورة التي تركوها، بل خرج بها إلى مذهب التصنع الجديد، ولكنه حين خرج إلى هذا المذهب أوغل فيه إيغالًا لم يوغله أحد من قبله، بحيث يمكن أن يقال: إن المذهب ابتدأ به وانتهى بها أيضًا، فقد عقد لغة نثره تعقيدًا لم يقع في وهم أحد لا من سابقيه، ولا من معاصريه، حتى لتتحول جوانب من أعماله إلى ما يشبه الألغاز والأحاجي، وما من شك في أن معرفته الواسعة باللغة، وألفاظها المستعملة والمهجورة ساعدته على كل ما يطمح إليه في هذا الصدد، وإنها لمساعدة تخرج بجوانب كثيرة من آثاره إلى ما يشبه المعاجم، فهي متون لغوية قبل أن تكون متونًا أدبية أريد بها إلى اللغة قبل أن يراد بها إلى الفن، وذهب أبو العلاء يعقد هذه المتون، ويصعبها بلك ما يستطيع من أدوات ووسائل، وهل هناك أداة أو وسيلة لا يحسنها أبو العلاء؟ إن اللغة مسخرة له، وهذه ألفاظها المهجورة يستطيع أن يتخذ منها ما يريد من مواد لبناء نماذجه، وإنه ليغرب في هذه المواد ما شاء له هواه حتى يقع

ص: 291