المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌المماليك وإمتداد النهضة في عهدهم - الفن ومذاهبه في النثر العربي

[شوقي ضيف]

فهرس الكتاب

- ‌المقدمات

- ‌مقدمة الطبعة الثالثة

- ‌مقدمة الطبعة الأولى:

- ‌الكتاب الأول: مذهب الصنعة

- ‌الفصل الأول: الصنعة في‌‌ النثر الجاهلي

- ‌ النثر الجاهلي

- ‌ الأمثال الجاهلية:

- ‌ الصنعة في الأمثال الجاهلية:

- ‌ الخطابة الجاهلية:

- ‌ الصنعة في الخطابة الجاهلية:

- ‌ سجع الكهان:

- ‌الفصل الثاني: الصنعة في النثر‌‌ الإسلامي

- ‌ الإسلام

- ‌ الخطابة في صدر الإسلام:

- ‌ الخطابة في العصر الأموي:

- ‌ الصنعة في الخطابة الأموية:

- ‌ الكتابة في صدر الإسلام:

- ‌ الكتابة في العصر الأموي:

- ‌ الصنعة في الكتابة الأموية:

- ‌ عبد الحميد الكاتب، وخصائصه الفنية:

- ‌الفصل الثالث: الصنعة في‌‌ النثر العباسي

- ‌ النثر العباسي

- ‌ ابن المقفع: أصله وحياته وزندقته:

- ‌ صنعة ابن المقفع في كتبه ورسائله:

- ‌سهل بن هرون: أصله وحياته وثقافته

- ‌ صنعه سهل في رسائله وكتبه:

- ‌ الجاحظ: نشأته وثقافته وحياته:

- ‌ الصنعة الجاحظية:

- ‌ رسالة التربيع والتدوير:

- ‌الكتاب الثاني: مذهب التصنيع، مذهب التصنع

- ‌الفصل الأول: التصنيع والدواوين

- ‌ التصنيع في الحياة العربية:

- ‌ التصنيع ودواوين الخلافة العباسية:

- ‌ التصنيع ودواوين الإمارات الفارسية:

- ‌ ابن العميد: حياته وثقافته

- ‌ تصنيع ابن العميد:

- ‌ الصاحب بن عباد وتصنيعه:

- ‌ تصنيع أبي إسحاق الصابي:

- ‌ التصنيع عام بين كتاب الدواوين:

- ‌الفصل الثاني: التصنيع والتصنع

- ‌ اشتداد موجة التصنيع:

- ‌ أبو بكر الخوارزمي، وتصنعه:

- ‌التصنع وتصنيع الخوارزمي

- ‌ بديع الزمان وتصنيعه:

- ‌التصنع وتصنيع بديع الزمان

- ‌ مقامات البديع، وما فيها من تصنع:

- ‌ قابوس بن وشمكير وتصنعه:

- ‌ ذيوع التصنع وانتشاره:

- ‌الفصل الثالث: التصنع والتعقيد

- ‌ أبو العلاء: حياته، وذكاؤه، وثقافته

- ‌ أبو العلاء وتعقيده:

- ‌ التعقيد في رسالة الغفران:

- ‌ التعقيد في الفصول والغايات:

- ‌ الحريري وتعقيده:

- ‌ التعقيد في مقامات الحريري:

- ‌ الحصكفي وتعقيده:

- ‌ التعقيد ظاهرة عامة:

- ‌الكتاب الثالث: المذاهب الفنية في‌‌ الأندلسومصر

- ‌ الأندلس

- ‌الفصل الأول: الأندلس والمذاهب الفنية

- ‌ شخصية الأندلس:

- ‌ النثر الأندلسي:

- ‌ ملوك الطوائف، ونهضة النثر الأندلسي:

- ‌ جمود النثر الأندلسي:

- ‌الفصل الثاني:‌‌ مصروالمذاهب الفنية

- ‌ مصر

- ‌ شخصية مصر:

- ‌ النثر المصري:

- ‌ الفاطميون، ونهضة النثر المصري:

- ‌ الأيوبيون، ونهضة النثر في عصرهم:

- ‌المماليك وإمتداد النهضة في عهدهم

- ‌ العصر العثماني، والعقم، والجمود:

- ‌خاتمة:

- ‌ الصورة العامة للبحث:

- ‌ النثر المصري الحديث:

- ‌ بين القديم والجديد:

- ‌فهرس الموضوعات:

الفصل: ‌المماليك وإمتداد النهضة في عهدهم

‌المماليك وإمتداد النهضة في عهدهم

6-

مماليك، وامتداد النهضة في عهدهم:

تطلق كملة مماليك على ضرب من الرقيق، كان يؤسر في الحروب أو يباع في الأسواق، وأول من استخدم هؤلاء المماليك في شئون الحكم والسياسة المعتصم الخليفة العباسي، فقد جلب منهم جماعة كبيرة استخدمها في حروبه، وكان يجلبهم من شباب أواسط آسيا الأشداء، ونحن نعرف قصة هؤلاء المماليك الأتراك في الدولة العباسية، إذ سرعان ما انتقل إليهم تصريف الأمور، وأصبحوا هم الحاكمين بأمرهم، أما الخليفة فكان يحكم حكمًا اسميًا، وكان صلاح الدين ومولاه نور الدين، يستعينان في حروبهما ضد الصليبيين بقبيل من هؤلاء الأتراك: ولما جاء الصالح أيوب جمع حوله جيشًا كبيرًا منهم، وبنى لهم قلعة في جزيرة الروضة، لذلك سموا المماليك البحرية، وسرعان ما أصبحوا هم المتحكمين في كل أمور الدولة، كما أصبح لهم سلطان كبير، فقتلوا "توران شاه" آخر الملوك الأيوبيين، وولوا عليهم "شجرة الدر" زوج أبيه، فتزوجها أيبك التركماني، وأدار هو دفة الأمور بنفسه، ولكنها اختلفت معه فقتلته، فتولى ابنه، وفي عهده قتلها المماليك انتقامًا، ثم عزل، وتولى الحكم من بعده قطز، وفي عهده قتلها المماليك انتقامًا، ثم عزل، وتولى الحكم من بعده قطز، وفي عهده هزمت جيوشه، وعلى رأسها الظاهر بيبرس جيوش هولاكو التتري، وكان ذلك سببًا في التماع اسم الظاهر، فولي الحكم، وفي عهده انتقلت الخلافة العباسية من بغداد إلى القاهرة عام 656 للهجرة، وخلفه سلاطين أشهرهم قلاوون وابنه الناصر، ويظل الحكم في تلك الأسرة، حتى يسلبه منها برقوق زعيم المماليك الجراكسة، الذين جلبهم آل قلاوون وأسكنوهم بروج القلعة، ولذلك سموا المماليك البرجية، ويخلف برقوق سلاطين مختلفون، منهم السلطان "شيخ" الملقب بالمؤيد، وما تزال مصر في أيدي المماليك البرجية، حتى يفتحها العثمانيون في عام 923 للهجرة.

ص: 376

وكانت مصر في عهد المماليك، تعتبر زعيمة العالم الإسلامي، إذ وقفت دون موجه التتار، التي اكتسحت شرق هذا العالم حتى الشام، كما وقفت دون موجة الصليبيين وردتهم عن بلاد الإسلام، وقد انتقل إليها الخليفة العباسي، وفي هذا الانتقال ما يرمز إلى أهميتها في تلك العصور، إذ أصبحت موئل الإسلام من طرف، كما أصبحت موئل العلم والأدب من طرف آخر، فقد هاجر إليها العلماء، والأدباء من كل صوب، حتى ينعموا بما فيها من حياة آمنة مرفهة، ويظهر أن مصر كانت على جانب عظيم من الرخا، واليسر في هذا العصر المملوكي، ولذلك كثرت فيها العمارة، حتى قالوا: إنه "بني في أيام الملك الظاهر ما لم يبن في أيام الخلفاء المصريين، ولا ملوك بني أيوب من الأبنية والرباع والخانات، والقواسير والدور والمساجد والحمامات"1، وكذلك اشتهر عصر

الناصر بن قلاوون بكثرة العمائر في مصر والشام، وفي هذا ما يدل -من بعض الوجوه- على ثروة مصر في هذا الحين، ولعل مما يدل على ذلك أيضًا ما يقال من أن الناصر حج ذات مرة، فكانت تمد له مائدة في طريقه وسط حديقة مصنوعة، وعليها الفاكهة والزهور، وكان هذا المنظر يبهر الناس في صحراء بلاد العرب، وقد قالوا: إن إحدى زوجاته أنفقت في حجها مائة ألف دينار، كما قالوا: إنه أنفق في زواج كل بنت من بناته ثمانمائة ألف دينار2، وما من ريب في أن ذلك يدل بعض الدلالة على ما بلغته في عصر المماليك، من ترف وثراء.

ولعل من الغريب أن المماليك -على الرغم من أنهم كانوا من الرقيق- عنوا بالحركة العلمية، على نحو ما صنع سادتهم من الأيوبيين، فبنوا المدارس وأغدقوا عليها الأموال، وكان أول من استن هذه السنة الظاهر بيبرس، فقد أنشأ مدرسة كبيرة هي المدرسة الظاهرية، وكان لها أربعن إيوانات لتدرس الفقه الشافعي، والحنفي وتدريس الحديث، وقراءات القرآن، كما كان بها مكتبة

1 النجوم الزاهرة 7/ 196.

2 تاريخ دولة المماليك في مصر تأليف، وليم موير وترجمة محمود عابدين وسليم حسن ص90.

ص: 377

تشتمل على أمهات الكتب في سائر العلوم1، وقد احتذى الظاهر المنصور قلاوون، فبنى مدرسة كبيرة سميت المدرسة المنصورية، وكان يدرس فيها الفقه على المذاهب الأربعة، كما كان يدرس فيها التفسير والحديث، وأيضًا كان يدرس فيها الطب2، ثم جاء الناصر ابن قلاوون، فأنشأ مدرسة عظيمة ورتب فيها دروسًا للمذاهب الأربعة، ويقول المقريزي: إنه أدرك هذه المدرسة3، وبنى السلطان حسن من بعده مدرسة كبيرة، يقول المقريزي عنها: إنه لا يعرف ببلاد الإسلام معبد من معابد المسلمين، يحكي هذه المدرسة في كبر قالبها، وحسن هندامها وضخامه شكلها، ويقول: إن العمارة استمرت فيها مدة ثلاث سنين لا تنقطع، وإنه كان يصرف على عمارتها يوميًا عرشون ألف درهم، وكان يدرس فيها الفقه على المذاهب الأربعة4، ثم جاء المماليك البرجية، وعلى رأسهم برقوق، الذي أنشأ مدرسة لدرس المذاهب الأربعة، ودرس التفسير والحديث، وقراءت القرآن5، وتبعه الملك المؤيد شيخ فابتنى هو الآخر مدرسة كبيرة6، وكل ذلك يدل على مبلغ عناية المماليك بالحركة العلمية، وتشجيع العلماء، وقد عرف المؤيد شيخ من بينهم بأنه كان شعرًا وموسيقيًا7، ويقول السيوطي نقلًا عن ابن حجر: إنه "كان معه إجازة بصحيح البخاري من شيخ الإسلام سراج الدين البلقيني، فكانت لا تفارقه سفرًا ولا حضرًا"8.

وإذا كان المماليك عنوا بالحركة العلمية، فإنهم عنوا كذلك بالحركة الأدبية، وقد كان لديوان الإنشاء عندهم منزلة كبيرة، وكان لا يوظف فيه إلا من اشتهر بالبلاغة، وأوتي أسرار البيان والفصاحة، وكثيرًا ما ارتقى كاتب

1 خطط المقريزي 2/ 378 وحسن المحاضرة 2/ 160 والنجوم الزاهرة 7/ 120.

2 خطط المقريزي 2/ 379 وحسن المحاضرة 2/ 160.

3 خطط المقريزي 2/ 382 وحسن المحاضرة 2/ 160.

4 حسن المحاضرة 2/ 162.

5 حسن المحاضرة 2/ 163.

6 حسن المحاضرة 2/ 163.

7 تاريخ دولة المماليك لموير ص 132.

8 حسن المحاضرة 2/ 89.

ص: 378

الإنشاء عندهم إلى مرتبة الوزارة، وقد كتبت في هذا العصر أكبر الموسوعات الأدبية من مثل مسالك الأبصار لابن فضل الله العمري، و"صبح الأعشى في صناعة دواوين الإنشاء" للقلقشندي، و"نهاية الأرب" للنويري، و"الخطط" و"السلوك" للمقريزي، ولولا هذه الكتب ما استطعنا اليوم أن نؤرخ للحركات الأدبية في مصر أثناء العصور الوسطى، ويظهر أن القوم اتجهوا هذا الاتجاه في التأليف مخافة ضياغ العلم، إذ فقد كثير من الكتب حتى عصرهم، فرأوا أن يكتبوا موسوعات تغني عن الكتب المختصة بكل عهد وكل عصر، ومن أهم كتب التاريخ الكبيرة في هذه العصر، كتاب النجوم الزاهرة لابن تغري بردي، وعقد الجمان للعيني.

وأكثر كتابات هذا العصر ينتشر فيها السجع، ومن الكتب التاريخية التي بنيت على السجع بناء كتاب "عجائب المقدور في نوائب تيمور" لابن عرب شاه، واستمرت كتابات الرسائل في هذا العصر، مطبوعة بالطابع الذي رأيناه عند القاضي الفاضل، من ميل إلى استخدام ألوان البديع من جناس وطباق، وتصوير ثم الاقتراض من ألفاظ العلوم ومصطلحاتها، ومن أشهر كتاب هذا العصر ابن فضل الله العمري، وابن نباتة، ومحيي الدين بن عبد الظاهر، وهو أشهر الثلاثة، وكتاباتهم جميعًا تمتاز باستخدام فنون البديع وألفاظ العلوم، وعنوا عناية خاصة بلون التورية، كقول ابن نباتة من توقيع لشخص بنظر مدرسة1:

"وكيف لا وهو نعم الناظر والإنسان، وفي مصالح القول، والعمل ذو اليدين واللسان، وذو العزائم الذي تقيدت في حبه الرتب، ومن وجد الإحسان".

فقد ورى في الناظر والإنسان تورية واضحة، ولم يكتف بذلك، بل رأيناه يعمد إلى الاقتضاب في آخر العبارة، أو ما كانوا يسمونه حيئنذ بالاكتفاء، إذ ختم عبارته بقوله:"ومن وجد الإحسان"، وقطع وهو يريد الشطر المشهور، "ومن وجد الإحسان قيدا تقيدًا"، وهذا الاكتفاء إنما جاء من استخدام

1 صبح الأعشى 1/ 304.

ص: 379

أساليب القرآن الكريم؛ لأن فيها حذفًا كثيرًا، فذهبوا يتأثرونها في هذا الجانب، ولا تظن أن الاكتفاء ظهر لأول مرة في تلك العصور، فهو قديم إذ نجده في العصر الفاطمي، عند ابن قادوس1، كما نجده من بعده في العصر الأيوبي2، ونستمر فنجده في هذا العصر عند ابن نباتة وغيره، وإنه لينبغي أن نقف وقفة قصيرة عند أشهر كتاب هذا العصر، وهو محيي الدين بن عبد الظاهر حتى تتراءى لنا طبيعة الكتابة في العصر المملوكي، وما تتسم به من شارات أدبية فنية.

محيي الدين بن عبد الظاهر:

عاش محيي الدين في القرن السابع الهجري، إذ توفي عام 692 للهجرة3، وقد ولي ديوان الإنشان في عهد بيبرس، وقلاوون وابنه الملك الأشرف خليل4، وكان له فضل كبير في وضع مصطلحات ديوان الإنشاء لهذه العصور، وقد استمر الكتاب من بعده يلتزمون هذه المصطلحات، وإن في هذا الالتزام ما يدل على قيمته لدى معاصريه، فقد كانوا جميعًا يشيدون به، يقول النويري:"كان محيي الدين أجل كتاب العصر، وفضلاء المصر وأكبار أعيان الدول، والذي افتخر بوجوده أبناء عصره على الأول، له من النظم الفائق ما راق صناعةً وحسنًا، ومن النثر الرائق ما فاق بلاغة ومعنى، فقصائده مدونة مشهورة، ورسائله بأيدي الفضلاء ودفاترهم مسطورة، وكلامه كاد يكون لأهل هذه الصناعة وعليهم حجة، وطريقه في البلاغة أسهل طرق، وفي الفصاحة أوضح محجة"5، وإذ رجعنا نبحث هذه الطريقة التي يشير إليها النويري، وجدناه هي الطريقة الفاضلية نفسها6، فمحيي الدين يستخدم البديع، ويتصنع لاصطلاحات العلوم، ويكثر من الاقتباس لآي الذكر الحكيم،

1 انظر الخريدة 1/ 230.

2 خزانة الأدب للحموي ص126.

3 بدائع الزهور 1/ 125. وانظر فوات الوفيات 1/ 271.

4 انظر بدائع الزهور 1/ 110 وكذلك 1/ 118، 1/ 125.

5 نهاية الأرب 8/ 301.

6 فوات الوفيات 1/ 271.

ص: 380

كما يكثر من تضمين الشعر، ونحن نسوق قطعة من كتاب تعزية كتب به عن المنصور قلاوون إلى صاحب اليمن، يخبره بوفاة ابنه علاء الدين علي، وكان قلاوون عهد له في الأمر من بعده، ثم أدركته الوفاة1:

"المملوك يخدم خدمة لا يذود المواصلة بها حادث، ولا يؤخرها عن وقتها أمر كارث، ولا تنقصها عن تحسينها، وترتيبها بواعث الاختلاف ولا اختلاف البواعث، ويطلع العلم الكريم على ورود مثال كريم، يتضمن ما كان حدث من رزء تلافاه الله يتناسيه، وتوافى هو والصبر فتولى التسليم بتبيين عاسيه2، وتمرين قاسيه، فشكرنا الله على ما أعطى وحمدناه على أخذ، ما قلنا: هذا جزع قد انتبه، إلا قلنا: هذا تثبت قد انتبذ، ولا توهمنا أن فلذة كبد قد اختطفت إلا وشاهدنا حولنا من ذريتنا والحمد لله فلذ، وأحسنا الاحتساب، ودخلت الملائكة علينا من كل باب، ووفانا الله أجر الصابرين بغير حساب..

وبكتاب الله وبسنة نبيه صلى الله عليه وسلم عندنا حسن اقتداء، نضرب به عن كل رثاء صفحًا، وما كنا مع الله -والمنة لله- نعطي لمن يؤنب ويؤبن أذنا.

ولنا بحمد الله ذرية درية3، وعقود

والشكر لله كلها درية:

إذا سيد منهم خلا قام سيد

قؤول لما قال الكرام فعول

ما منهم إلا من نظر سعده، ومن سعده ينتظر، ومن يحسن أن يكون المبتدأ، وأن تسد حاله بكفالته وكفايته مسد الخبر "والشمس طالعة إن غيب القمر" لا سيما من الدين به، إذ هو صلاحه أعرف، من قيل لبناء ملك هذا عليه قد وهي قيل: هذا خير منه من أعلى بناء سعد أشرف.. والرغبة إلى الله تعالى في أن يجعل تلك المصيبة للرزايا خاتمة، وكما لم يجعلها للظهور قاصمة، فلا يجعلها لعرا الشكر فاصمة، وأن يجعلها بعد حمل هذا الهم

1 صبح الأعشى 7/ 357. ونهاية الأرب 8/ 107.

2 من عسى الليل: اشتدت ظلمته.

3 درية: نسبة إلى الدر وهو اللبن، يريد أنه أشبه أباه وأمه في الأخلاق والصفات.

ص: 381

وفصاله على عليه فاطمة، وأن يحبب إلينا كل ما يلهي عن الأمول والأولاد من عزو وجهاد، وأن لا تقصف أرواحنا إلا في فود أو في فؤاد، ولا تجز غير شعور ملوك التتار تتوج بها رءوس الروماح، ويصعد بها على قمم الصعاد1، ولا شغل الله لب المولى بفادحة، ولا خاطرة بسانحة من الحزن ولا بارحة، ولا أسمعه بغير المسرات من هواتف الإبهاج صادحة".

وأكبر الظن أنه قد اتضحت للقارئ طريقة محيي الدين، وهي طريقة تقوم على التصنع، وهو تصنع ينتهي به إلى أن يكثر من الجناس المعكوس، وهو لا يكتفي بهذا الجناس وما فيه من مشقة، بل نراه يذهب مذهبًا بعيدًا في استخدام التورية، وقد كان يستهدف لها في جميع كتاباته، إذ كانت أهم لون شغف به الكتاب في عصره، وكانوا يدلون بها على مهارة الكاتب وبراعته، وقد ورى محيي الدين في هذه القطعة مرتين مرة في قوله:"ومن قيل لبناء مالك هذا عليه وقد وهي، قيل: هذا خير منه ومن أعلى بناء سعد أشرف"، فإن كلمة أشرف هنا لا يريد بها معنى الصفة، وإنما يريد به الإشارة إلى ولي العهد الجديد لقلاوون، بعد وفاة علي الملقب بعلاء الدين، وهو الملك الأشرف خليل، ونستمر فنجده يوري مرة أخرى في قوله:"وأن يجعلها بعد حمل هذا الهم، وفصاله على عليه فاطمة" فقد جاء بفاطمة مع علي وهو يريد هنا الصفة، وواضح أنه ذكر هنا الفصال حين ذكر الحمل كما ذكر فاطمة حين ذكر عليًّا، وهو ما يسمى عند أصحاب البديع بمراعاة النظير، وليس هذا كل ما في القطعة من تصنع، ففيها اقتباس واسع من آي الذكر الحكيم، وفيه أيضًا تضمين للشعر، تارة يضمن بيتًا، وتارة يضمن شطرًا في مثل قوله:"والشمس طالعة إن غيب القمر"، أيضًا في القطعة تصنع للذكر المبتدأ والخبر، أرأيت كيف تؤلف الرسائل عند أشهر كتاب العصر المملوكي؟ إنها تؤلف من ألواب البديع، واصطلاحات العلوم وتضمين الأبيات والأشعار، والاقتباس من آي الذكر

1 الصعاد: جمع صعدة، وهي القناة التي تنبت مستوية، فلا تحتاج إلى تثقيف.

ص: 382

الحكيم، وقد أصبحت هذه الأشياء تلصق إلصاقًا وتلفق تلفيقًا، فليس هناك كاتب ممتاز لهذا العصر، إلا وهو يسعى إلى جلب هذه الفنون في نثره يقتسرها اقتسارًا، وقد يعتسفها اعتسافًا، وانظر كيف يجتلب محيي الدين التورية اجتلابًا في أثناء عهد المنصور قلاوون لابنه الملك الأشرف خليل، إذ يقول1:"كم جلا بهي جبينه من بهيم، وكم غدا الملك بحسن روائه ويمن آرائه يهيم، وكم أبرأ مورده العذب هيم عطاش، ولا ينكر الخليل إذا قيل عنه إبراهيم".

فقد ورى في إبراهيم، وأهل لتوريته بذكر الخليل، وهو لا يريد إبراهيم حقًا إنما يريد أنه "إبراهيم" فسهل الهمزة لتتم له التورية، ومن يرجع إلى رسائله المنثورة في صبح الأعشى، يجد كثيرًا من تورياته، فمن ذلك قوله في كتاب يصف به فتوح قلاوون في الشام2:

كم شكت منه حماة تنبى بنكرها عن قلة الإنصاف، وكم خافته معرة، وما من معرة خاف، ما زالت أيدي الممالك تمتد إلى الله بالدعاء، تشكو من جور جواره تلك الحصون والصياصي، وتبكي بمد مع نهرها من تأثير آثاره مع عصيانها، وناهيك بمدمع العاصي".

فقد ورى في كلمة معرة، كما ورى في كلمة العاصي، إذ يريد بها النهر المعروف في الشام لا الصفة، ومثل ذلك قوله في كتاب لأحد ملوك الفرنج:"وكيف فارقنا بلادك، وما بقيت فيها ماشية إلا وهي لدينا ماشية، ولا جارية إلا وهي في ملكنا جارية"3، فقد ورى تورية واضحة في ماشية وجارية، ومن ذلك أنه استهدف للقب قلاوون، وهو المنصور ولقب الخليفة العباسي في عهده، وهو الحاكم فقال في كتاب له:"وكيف لا والمنصور هو الحاكم"4، ومن ذلك قوله في نسخة توقيع برياسة اليهود5:

1 صبح الأعشى 10/ 168.

2 نفس المصدر 7/ 355.

3 صبح الأعشى 8/ 300.

4 نفس المصدر 10/ 117.

5 نفس المصدر 11/ 387.

ص: 383

"وليتق الله فيما يذره ويأتيه، ويحسن في اجتلاب القلوب واختلابها تأتيه، وإياه والتيه، حتى لا يقال: كأنه بعد لم يخرج من التيه.. وجماعة القرائين، فانصب لأمرهم من لم يتوله حيةن يتوله

والجزية فيه لدمائكم وأولادكم عطية، وعلى دفاعها لا دافعها وصمة.. ومن قصد منها خلاصة، فقل له في الملأ ماذا خلاصه".

وواضح أنه ورى في التيه الثانية، فلم يرد بها الصفة، وإنما أشار بها إلى التيه الذي ضل فيه اليهود قديمًا مع موسى، واستمر فورى في توله الثانية كما ورى في كلمة خلاصه الثانية، وهي مركبة من "خلا" وكلمة "صه" بمعنى أسكت، وهذا كله كان يعتبر منتهى ما وصل إليه الفن، في عصر محيي الدين من مهارة وبراعة، وهي براعة لفظية على نحو ما نرى في هذه الأمثلة، وإذا تركت هذه التورية لم تجد إلا صورًا متكلفة، وجناسًا معكوسًا ولن تجد وراء ذلك إلا تكلفًا لمراعاة النظير، وتضمينًا للشعر وآي الذكر الحكيم، وإن سألت عن جديد، فلن تجد إلا التصنع لمصطلحات العلوم، وخاصة علم النحو، كقوله في رسالة لوزير بتقليد الوزارة في أثناء كلامه عما نيط به:"وإليه أمر قوانينها ودواوينها وكتابها وحسابها، وإليه التولية والصرف، وإلى تقدمه البدل، والنعت والتوكيد والعطف"1، ويقول في مطلع إحدى رسائله:

"نحمده على نعمه التي جنمعت إلى الزهر الثمر، وداركت بالبحر وباركت في النهر، وأجملت المبتدأ وأحسنت الخبر"2. وهناك رسالة ذكرها له القلقشندي، وقد بناها كلها على التصنع لاصطلاحات النحو، وهو يستهلها على هذا النمط3:

"حرس الله نعمة مولاي! ولا زال كليم السعد من اسمه، وفعله وحرف قلمه يأتلف، ومنادى جوده لا يرخم وأحمد عيشه لا ينصرف

ولا عدمت نحاة الجود من نواله كل موزون ومعدود، ومن فضله وظله كل مقصود وممدود،

1 صبح الأعشى 11/ 273.

2 نفس المصدر 10/ 173.

3 نفس المصدر 1/ 176.

ص: 384

ولا خاطبت الأيام ملتمسه إلا بلام التوكيد، ولا عدوه إلا بلام الجحود، هذه المفاوضة إليه -أعزه الله- تفهمه أنا بلغنا أن فلانًا، أضمر سيدنا له فعلًا غدا به منتصبًا للمكايد، ومعتلا وليس موصولًا كالذي بصلة وعائد، ما ذاك إلا؛ لأن معرفتها دخلت التنكير، وقدر لها من الاحتمالات أسوأ التقدير، ونعوت صحبته تكررت، فجارز قطعها بسب ذلك التكرير

وكان الظن أن الأشغال التي جمعت له لا تكون جمع تكسير بل جمع سلامة، وآية لا تكلف تعليما على وصول؛ لأنه في الديوان كالحرف لا يخبر به ولا عنه، والحرف ليست له علامة، وحاش الله أن يصبح معرب إحسانه مبنيا".

وتمضي الرسالة على هذا النمط من التصنع لمصطلحات النحو، وكأن الكاتب يريد أن يسلك كل ما يعرف من هذه المصطلحات في كتابه، ونعجب نحن الآن من هذا التصنع الثقيل، ولكنه كان بدعة العصور الوسطى، وإنه ليطوي في داخله مدى ما أصاب الكتابة من جمود، وتبلور في هذه العصور، فإذا الكتاب لا يعنون بأساليبهم إلا هذه العناية، التي تجعلهم يسلكون اصطلاحات العلوم في كتاباتهم، فإن تركوا ذلك فإلى الاقتباس من آي الذرك الحكيم، وتضمين الأشعار والأمثال، وهم دائمًا يوشون كلامهم بفنون البديع، وخاصة فن التورية، ومن العبث أن نبحث بعد ذلك عن شيء طريف، يمكن أن نضيفه إلى عصر المماليك، فقد كان كتابه مقلدين تقليدًا شديدًا لفن القاضي الفاضل، وما سبف أن رأينا عنده من تصنع وتعقيد، ولم يستطيعوا أن يستحدثوا من جديد، سوى أن يغرقوا إلى آذانهم في هذه الأشكال البديعية والعلمية، ومن الحق أن نلاحظ أن البديع، لم يعد يؤدي عندهم معنى التحسين في صورة طبيعية، فقد خرجوا به عن طاقته، التي كنا نألفه وأصبح عندهم تلفيفًا وتلزيقًا، فالكاتب يتصيد في رسالته تورية، أو جناسًا معكوسًا أو اصطلاحًا علميًا، ليدل على مهارته، ومما لا ريب فيه أن ذلك كان يفتن الأدباء حينئذ، وهي فتنة جعلت النثر العربي عملًا لفظيًا يعين فيه بالزخرف والتنميق، لا بالمعاني ولا ما يتصل بالمعاني من فكر دقيق، وهذا كل ما عند القوم: تصنع وتلفيق

ص: 385