الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الفصل الثاني: التصنيع والتصنع
1-
اشتداد موجة التصنيع:
رأينا -في الفصل السابق- كتاب الدواوين في القرن الرابع للهجرة، وكل منهم يحاول أن يبلغ من تصنيعه، وتجميله لأساليبه ما لم يبلغه كتاب آخر من كتاب الحكام، والأمراء المجاورين له، إذ كان هؤلاء الأمراء، والحكام يعتدون بالكتابة المصنعة، التي شاعت في تلك العصور، وكان كل منهم يحاول أن يكون في بلاطكه، ودواوينه أهم كاتب في عصره، حتى تشتهر دولته بتلك الطرف الزخرفية، التي يخرجها هذا الكاتب، وما من ريب في أن هذه الحال دفعت الكتاب إلى أن يصلوا بنثرهم، وتنميقه إلى مرتبة تكاد ترفع الحواجز بينه وبين الشعر، فهو نثر منظوم أو هو شعر منثور، وماذا يفصل بينه وبين الشعر؟ إنه يعتمد على الموسيقى: موسيقى السجع، كما يعتمد على زخرف البديع، وإنهم ليبالغون في ذلك حتى تتحول رسائلهم إلى ما يشبه الوشي الخالص؛ فهي حلى وتنميق، وبديع وترصيع.
وإن الإنسان ليخيل إليه، كأنما تحولت صناعة النثر في تلك العصور عن طبيعتها الأولى تحولًا تاًما، إذ أصبحت أشبه ما تكون بصناعة أدوات الترف، والزينة فهي تحف تنمق في أروع صورة للتنميق، وكل كاتب يتوفر على إحداث هذه التحف توفرًا يتيح له أن يشارك في آيايتها، وبدائعها، وإنه ليعنت نفسه في سبيل ذلك إعناتًا بعيدًا، ونحن -في الواقع- لا نكاد نتصور الآن ما كان يحدث في تلك العصور في أثناء صناعة هذه التحف، والطرف لبعد العهد
بيننا وبينها؛ ولأننا أصبحنا عجلين في إحداث النماذج الفنية، وما تحتوي عليه من زخارف دقيقة، بل لقد أصبحنا ننفر من التصنيع، وما يطوى فيه من سجع وبديع، ومن يقرأ في آثار القرن الرابع يحس أن هذا المذهب من التصنيع، لم يقف عند كتاب الدواوين، بل لقد أخذ ينتشر بين غيرهم من كتاب الرسائل الشخصية، وعلى رأسهم أبو بكر الخوارزمي، وبديع الزمان الهمذاني، فقد تركا مجموعتين كبيرتين من الرسائل، ذهبًا فيهما هذا المذهب من السجع، والبديع أو من التصنيع والترصيع، ولم يكن الخوارزمي، وبديع الزمان هما اللذين يذهبان هذا المذهب فقط، بل كان يذهبه جميع الكتاب من حولهما.
يقول الخوارزمي في كتاب إلى أبي محمد العلوي: "قرأت الفصل المسجع فشغلني الاقتباس منه، عن الجواب عنه"، وهو يتقدم ذلك بوصف هذا الفصل فيقول:"ورد كتاب السيد، فرتع الطرف منه بروضة ممطورة، وحلة منثورة، ولآلئ فرائد منثورة"1، وهكذا كانت كتابة الأدباء في هذا العصر، قد كانوا دائمًا ينمقون كتبهم، ويزخرفونها حتى تصبح كأنها الرياض المنمقة، والحلل المنشرة.
والحق أن موجة التصنيع في القرن الرابع، كانت حادة حدة شديدة، فلم يسلم منها أحد إلا في القليل الأقل، حتى كتاب التاريخ أنفسهم رأينا بينهم من يختار لنفسه هذا الأسلوب الجديد من التصنيع، وبدأ هذه الحركة الصابي في كتابه "التاجي في أخبار بني بويه"، ثم تبعه المؤلفون في التاريخ أمثال العتبي في كتابه "اليميني" نسبة إلى محمود بن سبكتكين الغزنوي، إذ لقبه الخليفة "يمين الدولة وأمين الملة"، وهو كتاب في تاريخ سبكتكين، وابنه محمود، وقد نال شهرة كبيرة في عصره، وبعد عصره، يقول السبكي:"كان أهل خوارزم، وما والاها يعتنون بهذا الكتاب، ويضبطون ألفاظه أشد من اعتناء أهل بلادنا بمقامات الحريري"2، وما من شك في أن الصابي من جانب، والعتبي من جانب آخر
1 انظر رسائل أبي بكر الخوارزمي "طبع الجوائب" ص37.
2 طبقات الشافعية 4/ 13.
كانا سببًا في شيوع السجع، والتصنيع في الكتابة التاريخية عند العماد الاصبهاني، ومن لف لفه، وقد كان اللثعالبي أيضًا أثره في هذا الجانب، فقد قدم للأدباء من كتاب، وشعراء في يتيمته بمقدمات مسجوعة، اعتمد فيها على زخرف البديع.
على أننا نلاحظ أن هؤلاء الكتاب جميعًا من أصحاب مذهب التصنيع والسجع، والبديع أخذت تظهر على أسلات أقلامهم شيات مذهب آخر هو مذهب التصنع، إذ نراهم يعمدون إلى تعقيد أساليبهم الزخرفية، أو إلى اتخاذ فنون جديدة في نثرهم، لا تمت إلى التجميل، والتصنيع بصلة، إنما تمت إلى التحذلق والتكلف، ويظهر أنه كان لكتاب الرسائل الشخصية الأثر الأول في هذا الجانب، فإن موضوع رسائلهم عادة تهنئة، أو عتاب أو رثاء، أو اعتذار أو استمناح، وهي موضوعات محدودة بطبيعتها، فماذا يصنع الكاتب المصنع الذي يريد أن يثبت براعته، وتفوقه؟ هل يقتصر على سطور معدودة؟ إن الاقتصار على سطور قليلة لا يعطي فرصة لبيان مهارة الكاتب، وإذن فلا بد له من أن يطيل، ولكن كيف يطيل، ومعانيه محدودة؟ لم يجد سبيلًا إلى ذلك إلا أن يمد معانيه بكل وسيلة ممكنة، ولم ير مانعًا أثناء هذا الامتداد عن اللجوء إلى المبالغات، والتهويلات، والاعتداد بكثيرة العبارات، حتى ليخيل إلى الإنسان، وهو يقرأ رسالة للخوارزمي، أو للبديع أنه يقرأ في أساليب كتبت لتحفظ لا لتعبر عن معنى، فالمعاني فقدت قيمتها، ولم يعد لها أهمية، إنما الأهمية كلها للألفاظ، وما تطرز به من وشي وحلي، وحتى المقامات التي ابتكرها بديع الزمان تسمها هذه المياسم، فهي لا تعبر عن قصص كما يفهم منها، وإنما تعبر عن عبارات مرصوصة، يمكن للأديب أن يستخدمها في أعماله.
والحق أننا لا نمضي في قراءة الخوارزمي، وبديع الزمان، وهما أهم المصنعين بين كتاب الرسائل الشخصية لتلك الصعور، حتى نحس بأن تألف الرسائل أصبح لا يقصد به إلى التعبير عن معان خاصة، إنما يقصد به إلى التعبير عن غايات تعليمية، فهي رسائل يقرؤها المؤدبون ليحفظوها، ويحوكوا على مثالها لأنفسهم