الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
2-
أبو العلاء وتعقيده:
تناول أبو العلاء كتابة النثر من الأدباء، والكتب الذين سبقوه وعاصروه، فعقدها تعقيدًا شديدًا، وهو تعقيد أتاحه له فراغه الطويل، الذي أمضاه في عزلته عن الناس، وربما كان لضيقه بالحياة وبرمه بها أثر في هذا التعقيد، فقد انقلب هذا الضيق من حياته إلى فنه، فإذا هو يعقده على الناس، حتى ينفس بتعقيده عن ضيقه، وأيضًا فإن فقده لبصره، وإحساسه العميق بهذا الجانب جعله يطلب التفوق على معاصريه، وقد ذهب يحاول هذا التفوف عن طريق تعقيد فنه تعقيدًا لم يكن يستطيعه إلا صانع ماهر، انبسط له ما انبسط لأبي العلاء من الزمن الطويل، إذ أقام في عزلته أو في محسبه نحو خمسين عامًا، فماذ يصنع في هذا الحبس الطويل، وكيف يمضي فراغه فيه؟ لا بد أن يفزع إلى ضروب من العبث في فنه، وإنها لضروب تؤديه إلى تعقيد هذا الفن عقدًا مختلفة، وهي عقد يلتمسها تارة في استخدامه الغريب، وأوابد الكلام والأمثال، والإشارات التاريخية، وتارة أخرى يلتمسها في تصعيب ممراته إلى أسجاعه، إذ نراه يعنى بالتزام ما لا يلزم فيها، فإذا هو يبني أسجاعه لا على حرف واحد، بل على حرفين أو أكثر، وهو لا يكتفي بذلك، بل نراه يعدل في أحوال كثيرة إلى المجانسة، وهو يستعين على هذه المجانسة باللفظ الغريب، الذي كان يشغف به شغفًا شديدًا، بحيث لا نغلو إذا قلنا: إن أهم ما يميز أبا العلاء في جميع نماذجه النثرية، أنه كان يطلب الغريب من حيث هو، كأن الإعراب زينة ينبغي أن يتحلى
بها جيد أعماله، واقرأ هذه الرسالة التي كتب بها إلى عبد السلام بن الحسين، صاحب خزانة الكتب ببغداد بعد رجوعه منها1:
"أطال الهل بقاء سيدي الشيخ إلى أن تنقل عريًا، وتنطق العرب بمكبر الثريا2، وأدام عزه إلى أن يصبح إراب3، وهو باز في الجو أو غراب، كم أكتب فلا يصل، وأنا من ذلك متنصل:
يا حبذا جبل الريان من جبل
…
وحبذا ساكن الريان من كانا
وحبذا نفحات من يمانية
…
تأتيك من قبل الريان أحيانا
ما عنيت بالريان، إلا منزله حيث كان، ولا بساكنه، إلا شخصه حيث حل من أماكنه
…
وأسفى لفراق سيدي الشيخ -أدام الله عزه- أسف ساق حر، ساقه الطرب إلى الحر، توارى بالوريقة، من حر الوديقة، كأنه قينة وراء ستر، أو كبير حجب من الهتر، في عنقه طوق، كرب يفصمه الشوق، لو قدر لانتزعه باليد من المقلد، أسفًا على إلف غادره للكمد4.. أي حلف أرسله فهلك نوح5، فالحمائم عليه تنوح، يسمعك بالفناء، أصناف الغناء، ويظهر في الغصون، خبي الوجد المصون، إن سلك طريقة الغريض، ترك المشتاق بالجريض، ويجيء بالبدي؛ إن جاء بلحن معبدي6 يدعو نوادب، إلى الكلف أو ادب، ويحهن ثاكلات، لسن على الأول بمتكلات، شجب قعيدهن إثر ود7، فورثن بكاءه جدًا بعد جد، عمرك لقد أسفرن، والعيون
1 رسائل أبي العلاء "طبع مرجليوث" ص46.
2 كلمة عريا: كلمة غامضة، ولعلها اسم موضع أما مكبر الثريا، فيلاحظ أن العرب لم تنطق بالثريا إلا مصغرة.
3 إراب نبع من الصحراء انظر معجم البلدان لياقوت "طبع مطبعة السعادة" 1/ 167.
4 ساق حر: ذكر الحمام. الوريقة: الشجرة المورقة. الوديقة. الهاجرة الهتر: ما يهذي به العجوز.
5 يريد أي أليف قديم ذهب من عهد نوح إذ أرسله فهلك.
6 الغريض ومعبد: مغنيان مشهوران. والجريض: الغصة وفي أمثالهم: حال الجريض دون القريض يضرب الأمر حال دونه عائق والبدي: المبتكر.
7 صنم من أصنام العرب في الجالية، وقد ذكر في القرآن الكريم، شجب: صاح وهو يريد أن أباهن صاح على ود.
ما زرفن، لا أدري والأمر أدب، أغناء ذلك أم ندب، كل خضباء1 كخطيب في الغصن الرطيب، قد التثمت بقار، في المناقر، ووطئت في الدم بالقدم، وأضرم نارها الفؤاد، فالقلادة حمم، والثوب رماد، بل أسف ورقاء لاح لهال نجم الخرقاء، وكانت يمانية الدار، فهبط بها بعض الأقدار، أرضًا تهمة، لامرذة ولا مرهمة، فلما بصرت بسهيل، ذكرها أيام أهيل، عهدتهم في بلاد القرظ2، كلهم بها ليس بفظ، فضاق بغرامها الجيد، فهي تهتف وتجيد تخفف بخروج الأصوات، ما تجده من كرب الأموات، ظنت أن لا مناص، من ضنك الأقفاص، فهي تود أن الله مسخها زرقاء نهار مترنمة، أو ورقاء3 يل مهينمة، لتفوز بالخلاص، من بعض الخصاص، ومستقري معمرة النعمان والفتنة عندنا صماء، طعان بالمران، ورماء إنما يجيء الضيف وقد سل السيف، ولو قدرت لم أقدح إلا بمرخ"4، ولا سكنت بلدًا غير الكرخ، ولكن نضوى5 معقول، فرحم الله لبيدًا حيث يقول:
لما رأى لبد النسور تطايرت
…
رفع القوادم كالفقير الأعزل6
وأنا أهدي إلى سيدي الشيخ -جمل الله الدنيا ببقائه- وإلى جماعة أصدقائه، وغلمانه سلامًا يؤنس موحش الإمرات، ويتصل من الشام إلى الصراة إذا مر بموقدي نار غضوية حسبوا غضاها7 قطرًا، لتركه الهواء عطرًا"؟
1 الأدب: المبهم. الخضباء من الحمام، هي التي يكون في لونها خطوط.
2 بلاد القرظ: بلاد اليمن. وسهيل وأهيل: نجمان ومرذة: يسقط عليها الرذاذ، وهو المطر الضعيف، ومرهمة: من أرهمت السماء أتت بالمطر الدائم.
3 ورقاء الليل: الذئبة. وزرقاء النهار: الهرة.
4 المرخ: شجر يتخذ منه الزناد الذي يقتدح به. والمران: رماح صلبة لدنة.
5 النضو: البعير المهزول من كثرة الأسفار.
6 لبد: نسر لقمان، ويضرب به المثل في طول السلامة. القوادم: أربع ريشات في مقدم الجناح. الفقير: المكسور فقار الظهر. الأعزل من الخيل: المائل الذنب في أحد الجانبين؟
7 الغضا: شجر معروف، والصراة: موضع. والإمرات: الإمارات.
وأنت ترى هذه الرسالة، وقد غلا فيها أبو العلاء في استخدام اللفظ الغريب، وكان يفزع دائمًا إلى ذلك في آثاره، ورسائله، كأن اللفظ الغريب من حيث هو غاية ينبغي أن يطلبها الكاتب في نماذجه، وأعماله، وإن أبا العلاء ليبلغ من ذلك في بعض آثاره أن تصبح، وكأنها متن من المتون اللغوية، فهي تجمع كل ما يستطيعه من ألفاظ لغوية غريبة مغرقة في الإغراب، وإنه ليطلب أبعد الكلمات إغرابًا مما عثر عليه في الشعر القديم؛ وليس يهمه بعد ذلك أن تكون الكلمة سجلت في المعاجم اللغوية، بل إن عدم تسجيلها يدفعه إلى أن يسجلها هو في أعماله، ومن هناك كانت قراءة هذه الأعمال من أصعب الأشياء، وخاصة، حين تريد أن تقف وقوفًا دقيقًا على معانيه، ولعله من أجل ذلك عني بشرح آثاره، وتفسيرها من لزوميات وغير لزوميات في الشعر، ومن رسالة الغفران إلى الفصول والغايات في النثر، وإذا فالإغراب هو العقدة الأولى في آثار أبي العلاء. وحقًا إنه تتخذ السجع والبديع في عمله عن نحو ما مر بنا عند ابن العميد وتلامذته، ولكنه يعقدهما جميعًا لا بالتزام حرفين، أو أكثر في أواخر سجعاته، فهذا شيء محتمل، إنما بهذا اللفظ الغريب.
أرأيت إلى ما أصاب النثر العربي عند أبي العلاء، لقد أصبح يقصد به إحداث طرائف لغوية، وهي طرائف لا تعتمد على زخرف ولا على تنميق، فهذا عهد مضى وانقضى، إنما تعتمد على الإبهام والغموض، أو بعبارة أخرى على الإغراب؛ وهذه العقد اللغوية التي يذيعها أبو العلاء في أعماله، وليس معنى ذلك أنه لم يكن يعتمد على أصول فن التصنيع، بل لقد كان يعتمد عليها كما نرى في هذه الرسالة، ولكنا نحس أن تلك الأصول فارقت صورتها القديمة، إذا تحولت إلى صورة جديدة من الإبعاد في اللفظ الغريب، وما من ريب في أن هذا كان تحولًا من مذهب التصنيع، إلى مذهب جديد هو مذهب التصنع، إذ نرى الكاتب يتعمد أن يخرج أساليبه موشاة بطرائف جديدة لا صلة بينها، وبين التنميق والتصنيع، وإنها لطرائف يؤصلها أبو العلاء على استخدام أكثر ما يمكن من الألفاظ الغريبة المهجورة، كما يؤصلها على اللف والدوران وبسط الأساليب،
حتى تتسع لأكثر ما يمكن من هذه الألفاظ، وماذا في رسالة أبي العلاء التي قرأناها الآن من معان، سوى أنه أراد أن يصف شوقه إلى صاحبه، فذهب يبالغ ويلف ويدور على هذا النحو، فإذا هو يصور أسفه على فراقه بأسف ساق حر ينوح على إلف غادره، وإنه ليطيل في هذا المعنى ويبعد، حتى يأتي بكل ما يستطيع من لفظ غريب.
وإذا كانت هذه الطرفة من إغراب اللفظ لا تروقك عند أبي العلاء، فلا تظن أنه لا يستطيع أن يأتيك بطرفة أخرى، فهو صاحب الطرف الحديثة في فن النثر، يأتي باللفظ الغريب، ويأتي بما يشبه هذا اللفظ أحيانًا أخرى، لكن أي شيء يشبه ذلك اللفظ؟ لقد فكر أبو العلاء وقدر، فإذا هو يقع على طرفة جديدة لم يسبقه أحد إليها، أو على الأقل لم يتصنع لها أحد، كما تصنع هو لها في آثاره، ونقصد طرفة المصطلحات العلمية، وخاصة مصطلحات علوم اللغة، فقد أكثر من تصنعه لها في أعماله من رسائل وغير رسائل، واسمتع إليه يقول في إحدى رسائله1:
"حرس الله سيدنا حتى تدغم الطاء في الهاء، فتلك حراسة بغير انتهاء، وذلك أن هذين ضدان، وعلى التضاد متباعدان، رخو وشديد، وهاو وذو تصعيد، وهما في الجهر والهمس، بمنزلة غد وأمس، وجعل الله رتبته التي كالفعل والمبتدأ، نظير الفعل فإنها لا تنخفض أبدًا، فقد جعلني إن حضرت عرف شاني، وإن غبت لا يجهل مكاني، كيا في النداء، والمحذوف من الابتداء إذ قلت: زيد أقبل، والإبل والإبل، بعد ما كنت كهاء الوقف، إن ألقيت فبواجب، وإن ذكرت فغير لازب، إني وإن غدوت في زمن كثير الدد "الهلو واللعب"، كهاء العدد لزمت المذكر، فأتت بالمنكر؛ مع ألف يراني في الأًل، كألف الوصل، يذكرني لغير الثناء، ويطرحني عند الاستغناء، وحال كالهمزة تبدل العين، وتجعل بين بين، وتكون تارة حرف لين، وتارة مثل الصامت الرصين،
1 رسائل أبي العلاء ص14.
فهي لا تثبت على طريقة، ولا تدرك لها صورة في الحقيقة، ونوائب ألحقت الكبير بالصغير، كأنها ترخيم التصيغير، ردت المستحلس إلى حليس، وقابوس إلى قبيس، لأمد صوتي بتلك الآلاء؛ مد الكوفي صوته في هؤلاء، وأخفف عن سيدنا الرئيس الحبر، تخفيف المدني ما قدر عليه من النبر، إن كاتبت فلا ملتمس جواب، وإن أسهبت في الشكر فلا طالب ثواب، حسبي ما لدي من أياديه، وما غمر من فضل السيد الأكبر أبيه، أدام الله لهما القدرة ما دام الضرب الأول من الطويل صحيحًا، والمنسرح خفيفًا سريحًا، وقبض الله يمين عدوهما عن كل معن "معروف"، قبض العروض من أول وزن".
وإن الإنسان ليذهل حين يقرأ هذه الصورة من الصياغة عند أبي العلاء، كأنهما ضاقت جميع صور التعبير عن أن تؤدي المعاني التي تجول في نفسه، فهو يبحث عنها في طوايا علوم النحو، والتجويد والقراءات، والعروض على هذا النمط من التعقيد الجديد، الذي يضيفه إلى آثاره، وينثره في جميع أطرافها نثرًا، وقد كنا نفهم -إلى حد ما- أن يتصنع أبو العلاء في أعماله للفظ الغريب، فاللفظ الغريب يدخل على كل حال في نطاق التعبير الأدبي، أما الآن فقد خرج عن هذا النطاق إلى نطاق جديد لا جمال فيه، ولا فن إلا إذا كنا من ذوق أبي العلاء، وكنا نريد أن نتعب الناس في فهم ما نقول، ولن نتعبهم هذه المرة عن طريق كثرة رجوعهم إلى المعاجم اللغوية، بل سنتعبهم عن طريق رجوعهم إلى المصطلحات الخاصة بالعلوم العربية، كي يفهموا ما يقرءون.
وما للقراء، وهذا العناء كله؟ إنهم يريدون أن يصلوا إلى المعاني التي يقرءونها في صورة سريعة، أو على الأقل لا تبعد بهم كل هذا البعد، ولا تغرب بهم كل هذا الإغراب، ولكن أبا العلاء لا يفكر في شيء من ذلك كله، فقد جاء في مرحلة جديدة من مراحل النثر العربي، وهي مرحلة كانت تفترق افتراقًا شديدًا مما سبقها من مراحل، إذ كان أصحابها ما يزالون يصعبون نثرهم ضروبًا من التصعيب، وقد ذهب أبو العلاء في آثاره يعرض عليهم بعض ما استطاع أن يصل إليه من هذه الضروب، كي يفظر بتفوقه عليهم، واستعلاء آثاره على آثارهم، وأنه ليهدف إلى ذلك عن طريق اللفظ الغريب من جهة، وحشد المصطلحات العلمية من جهة أخرى.