الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
2-
التصنيع ودواوين الخلافة العباسية:
ونحن لا نمضي في تتبع أصحاب الدواوين في الخلافة العباسية، حتى نجدهم منصرفين إلى العناية بكتابتهم، إذ كانت هذه العناية هي التي توفر لهم أسباب النجاح في حياتهم، ونحن نعرف ما كان من مشاركة البرامكة في الأدب، والعلم ومعرفتهم بالبيان والبلاغة، وسنرى أنه كان لهم الأثر الأول في الاتجاه إلى التصنيع في الكتابة، كان الفضل بن سهل يسمى ذا الرياستين لجمعه بين رياسة السيف، ورياسة القلم، وقد روى الرواة أن عمرو بن مسعدة وقع على رقعة رفعت إلى جعفر بن يحيى البرمكي، فأعجب بها جعفر، وضرب بيده على ظهره، وقال له: أي وزير في جلدك1، وقد وصل محمد بن عبد الملك الزيات إلى الوزارة عن طريق أدبه، وبيانه وما يحققه فيه من تنميق، وتصنيع.
ويظهر أن جماعة كتاب الدواوين، كانت تأخذ نسها بثقافة واسعة، وقد رأينا في غير هذا الموضع كيف كان عبد الحميد الكاتب ينصح الكتاب بمعرفة كتاب الله، والفرائض، والثقافة العربية من الشعر وأيام العرب، وكذلك الثقافة الفارسية، وما يتصل بتاريخ الفرس، ويظهر أن هذا كله لم يكن يكتفي به كتاب الدواوين في العصر العباسي، إذ كانوا يأخذون أنفسهم بثقافة فلسفية واسعة، كما كانوا يأخذون أنفسهم بالثقافة الفارسية والهندية، ومن أجل ذلك نعى عليهم ابن قتيبة أنهم يمهلون النظر في اللغة بينما يشغفون "بالنظر في النجوم والمنطق والفسلفة"، والحديث عن "الكون والفساد، وسمع الكيان والكيفية والكمية
1 ابن خلكان 1/ 390.
والجوهر والعرض، ورأس الخط النقطة لا تنقسم1"، إلى غير ذلك مما كانوا يتشدقون به مما عرفوه من الفلسفة، والثقافات الأجنبية.
وهذا كله يدل على أن كتاب الدواوين كانوا يوسعون ثقافتهم ما استطاعوا، وغنوا خاصة بالثقافة الفلسفية، حتى يعمقوا أفكارهم، ويرتبوا معنيهم ترتيبًا دقيقًا، وهم كما عنوا بمعانيهم عنوا أيضًا بألفاظهم عناية قد تفوق عنايتهم بمعانيهم، حتى ليقول الجاحظ:"أما أنا فلم أر قط أمثل طريقة في البلاغة من الكتاب، فإنهم قد التمسوا من الألفاظ ما لم يكن متوعرًا وحشيًا، ولا ساقطًا سوقيا"2.
ويقول أيضًا: إن الكتاب لا يقفون إلا على الألفاظ المتخيرة، والمعاني المنتخبة وعلى المخارج السهلة، والديباجة الكريمة وعلى الطبع المتمكن، وعلى السبك الجيد، وعلى كل كلام له ماء ورونق: وعلى المعاني التي إذا صارت في الصدور عمرتها، وأصلحتها من الفساد القديم، وفتحت للسان باب البلاغة، ودلت الأقلام على مدافن الألفاظ، وأشارت إلى حسان المعاني3.
وما من ريب في أن هذه شهادة قيمة من الجاحظ لطائفة الكتاب، وما كانوا يوفرون لألفاظهم من عناية، وإنها لعناية تستمر بهم، فإذا هم ينقلون حرفة الكتابة من أسلوبها القديم: أسلوب الصنعة إلى أسلوب جدي من التصنيع، وبعبارة أخرى من السجع البديع، وبدأت هذه العناية واضحة منذ عصر البرامكة، الذين روت كتب التاريخ عنهم ترفًا واسعًا، وكأن هذا الترف دفعهم هم والكتاب من حولهم إلى التأنق في حياتهم الاجتماعية، والتأنق أيضا في حياتهم الأدبية، وخير من يصور ذلك جعفر بين يحيى البرمكي صاحب الدواوين في عهد الرشيد، فقد أشاد السابقون ببلاغته، يقول الجهشياري:"كان جعفر بليغًا كاتبًا، وكان إذا وقع نسخت توقيعاته، وتدورست بلاغاته"4.
ويقول ابن خلدون عنه: "وإن الناس كانوا يتنافسون في الحصول على توقيعاته
1 انظر أدب الكاتب لابن قتيبة "طبع مطبعة الوطن" ص3.
2 البيان والتبيين 1/ 137.
3 البيان والتبيين 4/ 24.
4 الوزراء والكتاب ص204.
ليقفوا منها على أساليب البلاغة، وفنونها حتى قيل: إنها كانت تباع كل توقيع بدينار"1، ووصفه ثمامة بن أشرس فقال: "كان جعفر بن يحيى أنطق الناس، قد جمع الهدوء والتمهل، والجزالة والحلاوة، وإفهامًا يغنيه عن الإعادة، ولو كان في الأرض ناطق يستغنى بمنطقه عن الإشارة لاستغنى جعفر عن الإشارة، كما استغنى عن الإعادة"2، وفيه تقول عنان جارية الناطقي3:
بديهته وفكرته سواء
…
إذا التبست على الناس الأمور
وقد كان جعفر يبالغ في تنميق عباراته، وهو تنميق كان يستمده من حياته التي بنيت بناء من التنميق، والتصنيع والزينة، حتى قالوا: إنه كان يتخذ في عصره مثلًا للتصنيع، والزخرف في ثيابه4، فكان طبيعيًا أن يسقط ذلك إلى أدبه وبيانه. ولعل أهم ما يلاحظ من ذلك أنه كان يلتزم السجع في كتبه وتوقيعاته، روى ابن خلكان أنه وقع إلى بعض عماله:"قد كثر شاكوك وقل شاكروك، فإما اعتدلت، وإما اعتزلت"5. وأكبر الظن أن جعفرًا كان يبني عباراته على السجع، وهذا أول مظهر من مظاهر مذهب التصنيع، ويبدو أن هذا الاتجاه في صناعة النثر لم يقتصر حينئذ على جعفر البرمكي، ودواوينه بل أخذ ينتشر وخاصة عند طلاب الحاجات الذين يرفعون ظلاماتهم، أويقدمون توسلاتهم، فقد روى الجاحظ أن ابن سيابة الشاعر كتب إلى يحيى بن خالد البرمكي برسالة بليغة كان عامة أهل بغداد يحفظونها، وهي رسالة بنيت كلها على السجع6، ومر بنا في الفصل الثاني من الكتاب الأول أن كثيرًا من الوعاظ كانوا يستخدمون السجع في أواخر عصر بني أمية، وقد استمر ذلك في العصر العباسي الأول، وفي عيون الأخبار لابن قتيبة نماذج من ذلك في مقاماتهم بين أيدي الخلفاء7.
1 مقدمة ابن خلدون ص173.
2 البيان والتبيين 1/ 106.
3 الوزراء والكتاب ص204.
4 انظر دائرة المعارف الإسلامية المجلد الثالث ص495، وانظر أيضًا الوزراء والكتاب ص215.
5 وفيات الأعيان لابن خلكان 1/ 105.
6 البيان والتبيين 2/ 215.
7 عيون الأخبار 2/ 322-344.
وإذا فنحن لا نبعد إذا قلنا: إن عنصر السجع، وهو العنصر الأول في مذهب التصنيع أخذ يظهر منذ القرن الثاني الهجري، وإذا تركنا هذا القرن إلى القرن الثالث، وجدنا هذا العنصر يظهر في الرسائل السياسية، وعند كتابها، ولعل أقدم نموذج يصور ذلك وصية1 طاهر بن الحسين مؤسس الدولة الطاهرية، المتوفى سنة 207 للهجرة لابنه عبد الله، عندما عين واليًا على ديار ربيعة في سنة 206هـ. ويستمر السجع عند الكتاب، وعلى رأسهم عمرو بن مسعدة الصولي، الذي كان يلي شئون الدواوين لعهد المأمون، وكان جده صول من ملوك جرجان، وهو ترك2، وقد نشأ عمرو في دواوين البرامكة، وتربى على أساليبهم، ولذلك لم يكن غريبًا أن نجده يحتذي أحيانًا على أمثلتهم من السجع، والتنميق في عباراته، ولعله من أجل ذاك كان المأمون يعجب برسالاته3، وانظر إليه يكتب إلى الحسن بن سهل4:
"أما بعد فإنك ممن إذا غرس سقى، وإذا أسس بنى، ليستتم تشييد أسه، ويجتني ثمار غرسه، وبناؤك عندي قد شارف الدروس، وغرسك مشف على اليبوس، فتدارك بناء ما أسست، وسقى ما غرست إن شاء الله".
وهذه الرسالة القصيرة تدلنا على ضميمة أخرى، أخذت تضم إلى سجع أصحاب الدواوين في القرن الثالث، ونقصد ما يتشح به سجعهم من صور بيانيه، وضميمة ثانية تلاحظ عند عمرو، وهي سعة الحيلة في كتاباته مع الإيجاز الشديد، روى الرواة أن المأمون أمره أن يكتب لشخص كتابًا إلى بعض العمال بالوصيلة عليه، والاعتناء بأمره في سطر واحد، فكتب إليه5:
"كتابي إليك كتاب واثق، بمن كتب إليه، معني بمن كتب له، ولن يضيع بين الثقة، والعناية حامله، والسلام":
وما من ريب في أن هذا الكتاب -على قصره- يصور المهارة العقلية
1 تاريخ الطبري 3/ 1046، والكامل لابن الأثير 6/ 268.
2 معجم الأدباء طبع مصر 1/ 165.
3 وفيات الأعيان 1/ 390.
4 معجم الأدباء 16/ 130.
5 وفيات الأعيان 1/ 390.
التي كان يحتاجها كاتب الديوان في العصر العباسي، فهو يحتال في كتاباته، وهل في هذا الخطاب سوى الاحتيال بصورة طريفة عن الفكرة، التي يريد الكاتب أن يؤديها؟ اتسع هذا الاحتيال، واتسع ما يطوى معه من عناية باللفظ، كلما تقدمنا مع الزمن في العصر العباسي، وممن اشتهر في هذا الجانب كاتب آخر من الصوليين كان يكتب للمتوكل، وهو إبراهيم بن العباس الصولي، وكان يشبه عمرو بن مسعدة في دقة التعبير، وحبكته وما يطوى في ذلك أحيانًا من سجع، وانظر إليه يكتب لابن الزيات مستعطفًا1:
"كتبت وقد بلغت المدية المحز، وعدت الأيام على بعد عداوي بك عليها، وكان أسوأ الظن، وأكثر خوفي أن تسكن في وقت حركتها، وتكف عن أذاتها، فصرت أضر علي منها، كيف الصديق عن نصرتي خوفًا منك، وبادر إلي العدو تقربًا إليك".
وأنت ترى عند إبراهيم عمق التفكير، وطرافته كما ترى تأنقه في لفظه، ويظهر أن ذلك كان سمة عامة بين الكتاب فهم جميعًا يبالغون في العناية بألفاظهم، ولكن ينبغي ألا يفهم من ذلك أنهم كانوا يعمدون إلى السجع دائمًا، إنما هذه رسائل أخترناها لهؤلاء الكتاب، ولهم رسائل أخرى لا سجع فيها، ومعنى ذلك أن الكتاب حتى منتصف القرن الثالث، كانوا يسجعون أحيانًا، وأحيانًا لا يسجعون، وقد استمر ذلك شأنهم حتى أواخر هذا القرن، ومن أبرعهم في هذا الجانب، أبو العباس بن ثوابة المتوفى عام 277 للهجرة، وهو من أصل نصراني2، وكان يسجع أيضًا في بعض رسائله3، وكان له أخ يسمى جعفر بن محمد بن ثوابه تولى ديوان الرسائل في عهد الوزير، عبيد الله بن سليمان، وتوفي عام 284هـ، وقد بقي أبناؤه يتوارثون من بعده ديوان الرسائل في بغداد حتى تسمله منهم أبو إسحاق الصابي عام 349 4، ومما لا شك فيه أن هذه الأسرة لعبت دورًا مهمًا في استخدام السجع والتزامه.
1 معجم الأدباء 1/ 170.
2 نفس المصدر 4/ 144.
3 نفس المصدر 4/ 147.
4 معجم الأدباء 7/ 188.
وقد يكون من الطريف أن نلاحظ أن أهم الكتاب، الذين نموا السجع في القرنين الثاني والثالث كانوا من الأجانب، وعلى رأسهم أسرة البرامكة الفارسية، وأسرة الصوليين التركية، وأكبر الظن أن الجنس لم يكن له دخل في المسألة، فنحن نعرف كما مر بنا في القسم الأول من هذا الكتاب أن السجع قديم في اللغة العربية، وغاية ما هنالك أنه اختفى أول الأمر في الكتابة الديوانية، ثم أخذ يظهر فيها من حين إلى حين منذ القرن الثاني، على أننا لا نصل إلى أواخر القرن الثالث، حتى نجد دوافع كثيرة تدفع بعض الناس إلى التزامه في كتاباتهم، وكأنما حياتهم المليئة بالزخرف، والتصنيع هي التي دفعتهم إلى ذلك دفعًا، وممن كان يلتزم ذلك أبو العيناء المتوفى عام 282هـ، فقد كتب له أبو علي البصير رسالة جاء في آخرها:"وقد نفذت لي إليك رسالة العتاب، على مخرج ألفاظ الكتاب، وقد ملت إلى السجع على علمي بخساسة حظه، وركاكة معانيه ولفظه، إذ كنت تلوي به لسانك، وتثني إليه عنانك، قطعًا لحجتك، وإزاحة لعلتك"1، وبين أنه ينص على أن أبا العيناء، يلتزم السجع في رسائله كما ينص على أن السجع خسيس الحظ، ركيك اللفظ، وقد يكون في ذلك ما يدل على أنه لما يشع وينتشر.
على أننا لا نصل إلى عصر المقتدر "295-320هـ"، حتى نجد السجع يصبح عامًا في كل ما يصدر عن دواوينه، فليس هناك وزير، ولا كاتب إلا وهو يتخذ السجع في صياغته، وارجع إلى كتاب تاريخ الوزراء للهلال بن المحسن؛ وهو الكتاب الذي يؤرخ هذه الحقبة من خلافة المقتدر، فستجد كل ما يصدر عن هذا العهد يصدر مسجعًا، سواء في ذلك ما يصدر عن كاتب الرسائل من آل ثوابة، وما يصدر عن الوزراء أمثال ابن الفرات، وهو أول وزراء المقتدر، ثم علي بن عيسى الذي كان يتداول معه الوزارة لهذا العهد، وقد روى له الهلال طائفة كبيرة من الكتب، والرسائل، وكلها مسجوعة2؛
1 اختيار المنظوم والمنثور، ورقة 233.
2 انظر تاريخ الوزراء للهلال بن المحسن "طبع بيروت" ص336، 337، 339، 342، 344، وانظر أيضًا معجم الأدباء 7/ 1361.
وكذلك كان شأن الوزير الثالث في هذا العهد، وهو الخاقاني فقد كان صبا بالسجع مغرما به، وله في ذلك نوادر كثيرة، ومنها أن عام النيل تأخر في حمل غلة إليه، فكتب له:"احتمل الغلة، وأزح العلة، ولا تجلس متودعا في الكلة"، ثم التفت إلى الكاتب، وقل له: أفي النيل بق يحتاج إلى كلل؟ فقال: إي والله وأي بق من أجله يلزم الناس الكلل نهارًا وليلًا1، ووقع في كتاب إلى بعض عماله:"الزم -وفقك الله- المنهاج، واحذر عواقب الاعوجاج، واحتمل ما أمكن من الدجاج إن شاء الله"، فحمل العامل دجاجًا كثيرًا على سبيل الهدية، فقال: هذا دجاج وفرته بركة السجع2، وكما كان يسجع الوزراء لعهد المقتدر كان يسجع الكتاب في دواوينه، وعلى رأسهم محمد بن جعفر بن ثوابة، وقد احتفظ له ياقوت بمنشور وجهه عن الخليفة إلى العمال في الأقاليم المختلفة، وهو مسجوع كله3، ويظهر أن الولاة أخذوا يقلدون هؤلاء الكتاب والوزراء، وما كان من سجعهم، فقد روى الهلال أن أبا الحسن بن نيداد -وكان يتقلد كور الأهواز- كتب إلى علي بن عيسى كتابا سجع فيه سجعا زاد فيه فكتب إليه:"عولت بنا على كلام ألفته، وخطاب سجعته، أوجب صرفك عما توليته"4، وفي هذا كله أكبر الدلالة على أن السجع عم في الكتابة الديوانية منذ عصر المقتدر، وربما كان من الأدلة على ذلك أننا نجد الخليفة القاهر، الذي ولي الخلافة بعد المقتدر يطلب إلى بعض من يقفون على أخبار بني العباس أن يصفهم، ثم يقول له:"ولا تغيب عني شيئًَا، ولا تحسن القصة، ولا تسجع فيها"5. وكأن الخليفة مل كثرة ما يقرأ من السجع الخالص، فهو يطلب كتابًا لا سجع فيه ونرى من كل ما سبق أن السجع -وهو أحد الجوانب المهمة في التصنيع، وزخرف الأساليب- أخذ يظهر من حين منذ القرن الثاني، وما يزال ينمو ويتسع استخدامه في القرن الثالث، حتى إذا وصلنا إلى عصر المقتدر أصبح عامًا بين كل الكتاب في ديوانه الخلافة، فليس هناك شيء يكتب إلا ويصاغ في أسلوب السجع، وبذلك يتكامل أحد الجانبين الأسايين في مذهب التصنيع وهما: السجع والبديع، وسنرى -عما قليل- الكتاب له جميعًا الجانب الثاني: جانب البديع والترصيع.
1 تاريخ الوزراء ص277.
2 نفس المصدر ص277.
3 معجم الأدباء 18/ 97.
4 تاريخ الوزراء ص335.
5 مروج الذهب للمسعودي 4/ 241.