الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
7-
الصنعة الجاحظية:
يمتاز الجاحظ بأنه لم يترك موضوعا عاما إلا وكتب فيه رسالة أو كتابا، وإن من يرجع إلى رسائله وكتبه يجده قد ألف في النبات، وفي الشجر، وفي الحيوان وفي الإنسان، وفي المعاد والمعاش وفي الجد والهزل وفي الترك والسودان، وفي المعلمين والقيان، وفي الحواري والغلمان وفي العشق، والنساء وفي النبيذ، وفي الشيعة والعباسية وفي الزيدية والرافضة وفي الرد على النصارى، وفي حجج النبوة ونظم القرآن، وفي البيان والتبيين، وفي حيل لصوص النهار وحيل سراق الليل، وفي البخلاء واحتجاج الأشحاء، وإن في هذا ما يدل على أن الجاحظ خطا بالكتابة الفنية عند العرب خطوة جديدة نحو التعبير عن جميع الموضوعات في خلابة، وبيان عذب، وكأني به لم يكن يفهم أن الكتابة الأدبية ألفاظ ترصف، وإنما كان يفهمها على أنها معان تنسق في موضوع خاص مما يتصل بالطبيعة أو بالإنسان. وكان لذلك صبغته الخاصة في كتابته، فإنها كتابة ذات موضوع قبل أن تكون ذات أسلوب، وليس معنى هذا أنه كان يهمل ألفاظه وتراكيبه، بل لقد كان يعني بهما عناية شديدة، وقد صرح بذلك غير مرة، فقال: إنه يعني بتأليف كتبه ويتأنق في ترصيفها1. ويقول: "لربما خرج الكتاب من تحت يدي محصفا كأنه متن حجر أملس بمعان لطيفة محكمة، وألفاظ شريفة فصيحة"2. ولكن عناية الجاحظ على هذا النحو بكتبه ورسائله وأسلوبه فيهما لم تكن تجعله يخرج إلى التماس الألفاظ من حيث هي ألفاظ، فقد كان يرى أن "شر البلغاء من هيأ رسم المعنى قبل أن يهيئ المعنى، عشقًا لذلك اللفظ، وشغفا بذلك الاسم حتى صار يجر إليه المعنى جرًّا، ويلزقه به إلزاقا، حتى كأن الله تعالى لم يخلق لذلك المعنى اسمًا غيره"3. فالجاحظ كان يكره العناية البالغة باللفظ تلك العناية التي تسوق صاحبها إلى حفظ أساليب محفوظة بذاتها يبني عليها معانيه، ويصوغ عليها أفكاره، فإن ذلك يقود الكاتب إلى أن يصبح عبدًا لمجموعة من الألفاظ يجر إليها المعاني، ويشدها شدًّا.
وهذا هو الطابع العام للجاحظ في كتاباته، فهو يعني بألفاظه ومعانيه جميعا دون أن يجور أحد الفريقين على الآخر أو يحيف عليه، وقد دفعه ذلك إلى أن يعني بآرائه وأدلته وبراهينه، ومقدماته ونتائجه متأثرا في ذلك بما لقف من منطق وفلسفة، ومعرفة بالجدل والحوار اللذين كانا شائعين في بيئته، ونقصد بيئة المعتزلة،
1 مجموعة رسائل الجاحظ ص 102.
2 نفس المصدر ص 109.
3 رسائل الجاحظ "طبع الساسي" ص 159.
وبجانب ذلك نجده يعني أيضا بألفاظه، وأساليبه عناية من شأنها أن تجعله يدقق في انتخاب ألفاظه، وأن يقطع عباراته تقطيعات صوتية طريفة، وهي تقطيعات انزلقت به إلى فنون من التكرار الموسيقي، كي تتم له الموازنة بين لفظه ومعناه، تلك الموازنة التي انتهت به إلى أن يعشق الأداء الدقيق لمعانيه، وأن يعشق معه الوصف الحسي الصحيح لما شاهد، مما آذن بظهور الواقعية في كتبه، وأيضا فإنه كان يرى أن يخرج دائما في رسائله، وكتاباته من باب إلى باب حتى لا يمل القارئ، مما طبع أعماله جميعا بطابع الاستطراد، وأكبر الظن أننا لا نبعد إذا قلنا: إن الصفات الفنية الأساسية في كتابات الجاحظ هي الواقعية، والاستطراد وضروب من التلوين الصوتي، وأخرى من التلوين العقلي بحيث لا تقرأ أي أثر من آثاره، إلا وتجد هذه العناصر الأربعة لصنعته ماثلة تحت عينيك إذ يسعى الجاحظ دائما إلى أن يروي لك الوقائع كما هي دون تمويه، كما يسعى إلى الاستطراد في تآليفه حتى لا يسأم القارئ، ولا يناله شيء من الكد والسوق العنيف، وأيضًا فإنه كان يشفع كتاباته دائمًا بتلوين صوتي أنيق، وتلوين عقلي بديع، وسنقف لنفصل هذه العناصر الأربعة لصنعة الجاحظ، وهي الواقعية والاستطراد، والتلوين الصوتي، والتلوين العقلي.
الواقعية:
من يتابع الجاحظ في صنعة كتبه، ورسائله يجده يشغف بحكاية الواقع، لا يتستر، ولا يتخفى، حتى إنه ليذكر السوءات، والعورات في غير مواربة ولا مداجاة، وكأنه كان يرى أن يذكر الحقائق عارية دون أن يسدل عليها أي ستر أو أي حجاب، ودافع مرارا عن هذا المنهج، وقال: إن من يعدل عنه لا بد أن يكون صاحب رياء ونفاق، وهو ليس من أهل الرياء والنفاق، بل هو من أهل الصراحة، أو هو بعبارة أدق من أصحاب منهج الواقعية "Realism" الذين لا يداجلون، ولا ينافقون بل يصفون الأشياء، كما هي في غير تحرج، ولا تأثم حتى إنهم لا يخجلون من وصف بعض النزعات الجنسية؛ لأنهم يريدون أن يصفوا
الحياة كما هي بدون تغيير، ولا تبديل إلا في حدود التعبير الفني.
وهذه النغمة من الواقعية من آثار الجاحظ أثرت في كتاباته آثارًا مختلفة، ولعل أول هذه الآثار أننا نجده يعني بحكاية عصره، وتمثيله تمثيلا دقيقا بحيث تعد أعماله أهم مراجع تكشف لنا حقائق العصر الذي عاش فيه، إذ نراه يصور هذه الحقائق بكل ما فيها من طهر ووزر، ودين وزندقة، وجد ولهو، وبالغ في ذلك حتى إنه ليروي كلام المجانين الموسوسين، وكلام أهل الغفلة من النوكي والحمقى1، وإنه ليروي أيضا عن الغلمان، والصعاليك والزط واللصوص كما يروي عن الخلفاء والأمراء، والوزراء وقواد الدولة وكبار كتابها، وارجع إلى كتاب البخلاء، فإنك تراه يعرض عليك بخلاء عصره من مثل سهل بن هارون والكندي، وابن غزوان والحارثي، والحرامي في غير تصنع ولا مداراة، وفيم يتصنع الجاحظ ويداري؟ إنه يريد أن يجعل الأدب صورة من الواقع، وهو لذلك لا يستعين على كتابة بخلائه بالتاريخ، أو ذاكرة الماضي، إنما يستعين بمفكرة الحاضر والعصر الذي يعيش فيه، وقد عرف كيف ينقله إلينا بجميع طبقاته وأفراده، وملامحهم، وخصائصهم النفسية.
وأثر ثان أثرته الواقعية في كتابات الجاحظ، وهو ما يلاحظ عليه من تدقيقه في ألفاظه، وانتخابها بحيث تلائم ما يصفه، أو يصوره حتى إنه ليحكي كلام المولدين، والعوام بما فيه من لحن، وخطأ لينقل إليك الواقع بكل ما فيه، يقول في البخلاء:"وإن وجدتم في هذا الكتاب لحنا، أو كلاما غير معرب أو لفظًا معدولا عن جهته، فاعلموا أنا إنما تركنا ذلك؛ لأن الإعراب يبغض هذا الباب ويخرجه من حده إلا أن أحكي كلاما من كلام متعاقلي البخلاء، وأشحاء العلماء كسهل بن هارون وأشباهه"2، فهو يحكي دائما أخباره، وحوادثه بلغتها الدقيقة، وأكبر الظن أن هذه النزعة فيه هي التي حملته على أن يلهج في كتبه، ورسائله كثيرًا بفكرة مطابقة الكلام لمقتضى الحال3، ومن قوله بصدد ذلك: "إن
1 انظر البيان والتبيين 2/ 225، وكذلك 2/ 344. وأيضًا 4/ 5، وما بعدها.
2 البخلاء 1/ 78.
3 الحيوان 3/ 43، وانظر البيان والتبيين 1/ 138.
لكل معنى شريف أو وضيع، هزل أو جد، حرقة أو صناعة، ضربًا من اللفظ هو حقه، ونصيبه الذي لا ينبغي أن يجاوزه أو يقصر دونه"1، وفي هذا ما يدل على شدة عنايته بالملاءمة بين الألفاظ ومعانيها، ولعله من أجل ذلك كان يدعو إلى "النظر في مواقع الألفاظ، وأين استعملتها العرب"2.
وأثر ثالث أثرت به الواقعية في كتابات الجاحظ وأعماله، وهو ما يمتاز به من عدم عنايته بالتشبيهات، والاستعارات إلا ما جاء عفو الخاطر، أو كان الغرض منه تمثيل الواقع، وهذا طبيعي عند الجاحظ؛ لأنه لم يكن يعمد إلى زينة لفظية عشقا للزينة من حيث هي على نحو ما سنعرف فيما بعد عند أصحاب مذهب التصنيع، فالكتابة عنده ليست زخرفا خالصًا يراد به إلى الوشي، والحلي، وما يندمج في ذلك من صور، وتشبيهات، واستعارات، بل هي معان تؤدى في دقة، تفسر الوقائع، والأحداث تفسيرًا لا تستره أسجاف الاستعارات والأخيلة، وليس معنى ذلك أن الجاحظ لم يكن دقيق التصوير، فإنه إنما عزف عن الأخيلة، لما تضع أمام القارئ من مبالغات، أما بعد ذلك، فإنه كان مصورًا عظيمًا، إذ كان يعرف كيف ينقل المشاهد بجميع تفاصيلها، ودقائقها تسعفه في ذلك قدرة غريبة على الملاحظة، وهي قدرة جعلته يحسن التصوير من جهة كما يحسن القصص من جهة أخرى، ويتضح ذلك من كتابه البخلاء حين يرسم جشع النهمين، وحركات أيديهم، وقسمات وجوههم، كما يتضح في كتاب الحيوان وما أودعه من قصص، ومن قصصه البارعة فيه التي تصور دقة تصويره ما حكاه عن عبد الله بن سوار القاضي، ووقاره في قصصه الديني ووعظه، وأنه كان لا يحرك أثناء كلامه رأسه ولا يديه حتى كأن كلامه يخرج من صدع صخرة، فألح الذباب عليه يومًا، وما زال به حتى أخرجه عن طبعه، فاستعان يتحرك أجفانه، ولم يجده ذلك نفعا فذبه عن وجهه بيديه، فابتعد عنه قليلا ثم عاد إليه، فدفعه بطرف كمه، وما زال يتابع ذلك، يقول3:
1 رسائل الجاحظ "طبع الساسي" ص 159.
2 البيان والتبيين 1/ 20.
3 الحيوان 3/ 343.
"كان لنا بالبصرة قاض يقال له عبد الله بن سوار لم ير الناس حاكما قط، ولا زميتا1 ولا ركينا2، ولا وقورا حليما ضبط من نفسه، وملك من حركته مثل الذي ضبط وملك، كان يصلي الغداة في منزله، وهو قريب الدار من مسجده، فيأتي مجلسه، فيحتبي ولا يتكئ، فلا يزال منتصبا لا يتحرك له عضو، ولا يلتفت ولا يحل حبوته3، ولا يحول رجلا عن رجل، ولا يعتمد على أحد شقيه، حتى كأنه بناء مبني أو صخرة منصوبة، فلا يزال كذلك حتى يقوم إلى صلاة الظهر، ثم يعود إلى مجلسه، فلا يزال كذلك حتى يقوم إلى العصر، ثم يرجع إلى مجلسه، فلا يزال كذلك حتى يقوم إلى صلاة المغرب
…
كذلك كان شأنه فيطوال الأيام، وفي قصارها وفي صيفها وفي شتائها، وكان مع ذلك لا يحرك يده، ولا يشير برأسه، وليس إلا أن يتكلم فيوجز، ويبلغ بالكلام اليسير المعاني الكثيرة. فبينما هو كذلك ذات يوم وأصحابه حواليه، وفي السماطين4 بين يديه إذ سقط على أنفه ذباب فأطال المكث، ثم تحول إلى مؤق5 عينه، فرام الصبر في سقوطه على المؤق، وعلى عضه ونفاذ خرطومه كما رام الصبر على سقوطه على أنفه من غير أن يحرك أرنبته، أو يغضن وجهه، أو يذب بإصبعه، فلما طال ذلك عليه من الذباب وشغله، وأوجعه وأحرقه، وقصد إلى مكان لا يحتمل التغافل أطبق جفنه الأعلى على جفنه الأسفل، فلم ينهض "الذباب"، فدعاه ذلك إلى أن والى بين الإطباق والفتح، فتنحى ريثما سكن جفنه، ثم عاد إلى مؤقه بأشد من مرته الأولى، فغمس خرطومه في مكان كان قد أوهاه قبل ذلك، فكان احتماله له أضعف، وعجزه عن الصبر في الثانية أقوى، فحرك أجفانه، وزاد في شدة الحركة، وفي فتح العين وفي تتابع الفتح والإطباق، فتنحى عنه بقدر ما سكنت حركته، ثم عاد إلى موضعه، فما زال يلح عليه حتى استفرغ صبره وبلغ مجهوده، فلم يجد بدا من أن يذب عن عينيه بيده، ففعل، وعيون القوم إليه ترمقه، فتنحى عنه بقدر ما رد يده، وسكنت حركته، ثم عاد إلى موضعه، ثم ألجأه إلى أن ذب
1 زميتا: وقورا.
2 ركينا: رزينا.
3 الحبوة: أن يجمع الرجل بين ظهره، وساقيه بعمامة ونحوها.
4 السماطين: مثنى سماط، وهو الصف.
5 المؤق: طرف العين مما يلي الأنف.
عن وجهه بطرف كمه، ثم ألجأه إلى أن تابع بين ذلك، وعلم أن فعله كله يعين من حضره من أمنائه وجلسائه. فلما نظروا إليه قال: أشهد أن الذباب ألج من الخنفساء، وأزهى من الغراب! وأستغفر الله! فما أكثر من أعجبته نفسه، فأراد الله عز وجل أن يعرفه من ضعفه ما كان عنه مستورا، وقد علمت أني عند الناس من أزمت1 الناس، فقد غلبني، وفضحني أضعف خلقه، ثم تلا قوله تعالى:{وَإِنْ يَسْلُبْهُمُ الذُّبَابُ شَيْئًا لا يَسْتَنْقِذُوهُ مِنْهُ ضَعُفَ الطَّالِبُ وَالْمَطْلُوبُ} .
وواضح أن القصة تعتمد عل دقة التصوير، وهي دقة ترسم الواقع رسما أمينًا، بدون تهويل، أو مبالغة أو اعتماد على استعارات، وتشبيهات إلا ما يأتي عفوًا للإيضاح لا للتجميل والتزيين.
الاستطراد:
وإذا كانت الواقعية عنصرا أساسيا في أعمال الجاحظ، فإن هناك عنصرا آخر عم آثاره، وربما كان أهم من عنصر الواقعية، وهو عنصر الاستطراد إذ يلاحظ كل من يقرأ في الجاحظ حالًا من التشعث في التأليف، فهو دائما ينتقل من باب إلى باب، ومن خبر إلى خبر، ومن شعر إلى فلسفة ومن جد إلى هزل في تشعب هائل، حتى ليقول كارا دي فو: إن الموضوع عند الجاحظ ليس إلا وسيلة للاستطراد2، وقد أشار إلى هذا الاستطراد قديما المسعودي في كتابه مروج الذهب3، وقد كان الجاحظ يتخذه منهجا في تأليفه وخاصة في حيوانه وبيانه، واعترف به مرارا واحتج له، انظر إليه يقول في الحيوان: "قد عزمت -والله الموفق- أني أوشح هذا الكتاب، وأفصل أبوابه بنوادر من ضروب الشعر، وضروب الأحاديث ليخرج قارئ هذا الكتاب من باب إلى باب، ومن شكل إلى شكل، فإني رأيت الأسماع تمل الأصوات المطربة، والأغاني الحسنة والأوتار الفصيحة
1 أزمت الناس: أشدهم وقارا وسكونا.
2 Carra de Vaux، Les Pensecurs De L'Islam Vol. I، p. 295.
3 مروج الذهب 4/ 136.
إذا طال ذلك عليها، وما ذلك إلا في طريق الراحلة التي إذا طالت أورثت الغفلة، وإذا كانت الأوائل قد سارت في صغار الكتب هذه السيرة كان هذا التدبير لما طال، وكثر أصلح"1، ويقول أيضا: "ولولا أني أتكل على أنك لا تمل باب القول في البعير حتى تخرج إلى الفيل، وفي الذرة حتى يخرج إلى البعوضة، وفي العقرب حتى تخرج إلى الحية، وفي الرجل حتى تخرج إلى المرأة، وفي الذبان والنحل حتى تخرج إلى الغربان والعقبان، وفي الكلب حتى تخرج إلى الديك، وفي الذئب حتى تخرج إلى السبع، وفي الظلف حتى تخرج إلى الحافر، وفي الحافر حتى تخرج إلى الخف، وفي الخف حتى تخرج إلى البرثن، وفي البرثن حتى تخرج إلى المخلب، وكذلك القول في الطير وعامة الأصناف، لرأيت أن جملة الكتاب، وإن كثر عدد ورقه، أن ذلك ليس مما يمل، ويعتد علي فيه بالإطالة؛ لأنه وإن كان كتابا واحدا فإنه كتب كثيرة، ولك مصحف منها فهو أم على حدة، فإن أراد قراءة الجميع لم يطل عليه الباب الأول، حتى يهجم على الثاني، ولا الثاني حتى يهجم على الثالث، فهو أبدًا مستفيد ومستطرف، وبعضه يكون جمامًا لبعض، ولا يزال نشاطه زائدا، ومتى خرج من آي القرآن صار إلى الأثر، ومتى خرج من أثر صار إلى خبر، ثم يخرج من الخبر إلى شعر، ومن الشعر إلى نوادر، ومن النوادر إلى حكم عقلية، ومقاييس سداد، ثم لا يترك هذا الباب، ولعله أن يكون أثقل والملال إليه أسرع، حتى يفضي به إلى مزح وفكاهة، وإلى سخف وخرافة، ولست أراه سخفًا إذا كنت إنما استعملت سيرة الحكماء، وآداب العلماء"2.
وإذا فالجاحظ يعترف بأنه يستطرد، وبأنه يعمد إلى ذلك عمدا خشية ملل القارئ وسآمة السامع، واحتج لصنيعة بأن الأوائل قد سارت في كتبها هذه السيرة، إذ يقول: إنه إنما يستعمل سيرة الحكماء وآداب العلماء، ولسنا ندري أي حكماء، وعلماء يشير إليهم إلا أن يكون قد أشار بذلك إلى بعض ما ترجم للعرب من كتب الهند التي يشبه البيروني ما فيها "بصدف مخلوط بخزف، أو
1 الحيوان 3/ 7.
2 الحيوان 1/ 93.
بدر ممزوج ببعر، أو بمهي مقطوب بحصى"1، وإن من يتصفح كتاب كليلة ودمنة يجد ظاهرة الاستطراد واضحة فيه، على أن هناك علة لاستطراد الجاحظ ذكرها صراحة في حيوانه إذ يقول: "قد صادف هذا الكتاب مني حالات تمنع من بلوغ الإرادة فيه: أو ذلك العلة الشديدة، والثانية قلة الأعوان، والثالثة طول الكتاب
…
فإن وجدت فيه خللا من اضطراب لفظ، ومن سوء تأليف، أو من تقطيع نظام، ومن وقوع الشيء في غير موضعه، فلا تنكره بعد أن صورت لك حالي التي ابتدأت عليه كتابي"2، فهو يعترف بأن مرضه أدخل الخلل على تأليف حيوانه، ومر بنا أنه ألفه وهو مفلوج، وألف بعده كتاب البيان والتبيين3، فظهر فيه الخلل والاستطراد بأوسع مما ظهرا في كتاب الحيوان، لا لسبب إلا؛ لأن العلة طالت عليه، وكأن ما أمضه منها كان له أثره في بلبلة أفكاره واضطرابها، وحدوث كثير من النشاز فيها، فهو برم بمرضه قلق، وهو برم أيضا بما يعرض في بيانه لا يكاد يستقر عند موضوع يصفه، وإنه ليقول فيه: "كان التدبير في أسماء الخطباء وحالاتهم، وأوصافهم أن نذكر أسماء أهل الجاهلية على مراتبهم، وأسماء أهل الإسلام على منازلهم، ونجعل لكل قبيلة منهم خطباء ونقسم أمورهم بابا بابا على حدته، ولكني لما عجزت عن نظمه وتنضيده تكلفت ذكرهم في الجملة"4، فهو يقر بعجزه عن التنظيم، والتنسيق لما كان من مرضه، ولما كان أيضًا من قلة الأعوان كما يقول في الحيوان، ومن ثم كان من يقرأ في كتبه يخيل إليه أن لم يكن يعرف التركيز في تأليفه، إذ ما تزال الأفكار تندفع علينا من كل صوب في غير نظام ولا سياق مطرد، بل فكرة من هنا، وفكرة من هناك في صورة واضحة من التشعب والتشعث، وقد ساعده على ذلك ثقافته الواسعة بجميع معارف عصره من هندية، وفارسية ويونانية، وإسلامية وعربية، وإن الإنسان ليعجب إذ يقرأ الصفحة في حيوانه، فيجد هذه الثقافات
1 تحقيق ما للهند من مقولة ص12.
2 الحيوان 4/ 208.
3 ذكر الجاحظ في البيان أنه ألفه بعد الحيوان. انظر البيان والتبيين 3/ 302.
4 البيان والتبيين 1/ 306.
كلها قد وضع بعضها بجانب بعض، وكأنه حين كان يكتب -بل حين كان يملي كما سنرى بعد قليل- كانت تنطلق إليه سيول المعرفة من كل واد، فيتركها تنزلق إلى آثاره بطبيعتها التي أطبقت بها عليه.
التلوين الصوتي:
هذا هو العنصر الثالث في كتابات الجاحظ، فنحن لا نقرأ له أي عبارات من تأليفه، حتى نجده يعني بأصواته عناية تفضي إلى ضروب مختلفة من الإيقاعات الصوتية، ولم يكن يستعين على تجميل هذه الإيقاعات بشيء من البديع وألوانه، بل كان يكتفي بها لتعبر عن كل ما يريد من جمال لأسلوبه وطلاوة، وليس معنى ذلك أنه كان يستخدم السجع، أو أسلوبا مقاربا منه، فإن السجع لم يكن يصلح له في تأليف كتبه، ورسائله الطويلة، لذلك عدل عنه إلى ضروب من الإيقاعات، وهي إيقاعات كان يستعين عليها بصور مختلفة من التكرار والترداد، واستمع إليه كيف يستهل حيوانه1:
"جنبك الله الشبهة، وعصمك من الحيرة، وجعل بينك وبين المعرفة نسبًا، وبين الصدق سببا، وحبب إليك التثبت، وزين في عينيك الإنصاف، وأذاقك حلاوة التقوى، وأشعر قلبك عز الحق، وأودع صدرك برد اليقين، وطرد عنك ذل اليأس، وعرفك ما في الباطل من الذلة، وما في الجهل من القلة".
وهذه هي النغمات الأولى في الكتاب، وعلى أساسها ينصب جميع النغم الذي نقرؤه فيه، إذ نرى الجاحظ يحاول دائما أن يجود لفظه، وهو لا يكتفي بذلك، بل يسعى دائما إلى إحداث ضروب من التوقيع، وهو توقيع كان يلتمسه من معادلة ألفاظه معادلة لا تنتهي إلى السجع، ولكنها تنتهي إلى هذا التوازن الصوتي الدقيق، فكل جملة تقابل أختها في موازين الجاحظ الموسيقية، ويه موازين تحقق لصيغة هذا اللون من الجمال الموسيقي الذي كان يسميه القدماء ازدواجا، ونسميه إيقاعا وتلوينا صوتيا بديعا، وهو تلوين كان يدفع الجاحظ دفعا
1 الحيوان 1/ 3.
إلى ضروب من التكرار والترادف، واستمر مع الجاحظ في الحيوان، فستراه يقول بعد هذه النغمات الأولى من الكتاب بقليل1:
"إن كل من التقط كتابًا جامعًا، وبابا من أمهات العلم مجموعا كان له غنمه، وعلى مؤلفه غرمه، وكان له نفعه، وعلى صاحبه كده، مع تعرضه لمطاعن البغاة، ولاعتراض المنافسين، ومع عرضه عقله المكدود على العقول الفارغة، ومعانيه على الجهابذة، وتحكيمه فيه المتأولين والحسدة.. وهذا كتاب نستوي في رغبة الأمم، وتتشابه فيه العرب والعجم، ويشتهيه الفتيان كما يشتهيه الشيوخ، ويشتهيه الفاتك، كما يشتهيه الناسك، ويشتهيه اللاعب ذو اللهو، كما يشتهيه المجد ذو الحزم، ويشتهيه الغفل، كمنا يشتهيه الأريب، ويشتهيه الغبي، كما يشتهيه الفطن".
وهكذا ينطلق الجاحظ في كتاباته -على نحو ما نرى الآن في حيوانه- بهذا النفس الواسع المسترسل الذي لا يتعثر ولا يتلجلج، بل ينطلق في هذا الفيض العذب، وكأنما لا يعوقه في طريقة عائق لا من لفظ، ولا من تعبير، وانظر إليه يقول بعد ذلك في وصف الكتاب2:
"الكتاب وعاء مليء علما، وظرف حشي ظرفا، وإناء شحن مزاحا وجدا، وإن شئت كان أبين من سحبان وائل، وإن شئت كان أعيا من باقل، وإن شئت ضحكت من نوادره، وإن شئت عجبت من غرائب فرائده، وإن شئت ألهتك طرائفه، وإن شئت أشجتك مواعظه، ومن لك بواعظ مله، وبزاجر مغر، وبناسك فاتك، وبناطق أخرس، وببارد حار، ومن لك بطبيب أعرابي، ومن لك برومي هندي، وبفارسي يوناني، وبقديم مولد، وبميت ممتع، ومن لك بشيء يجمع لك الأول الآخر، والناقص والوافر، والخفي والظاهر والشاهد والغالب، والرفيع الوضيع، والغث والسمين، والشكل وخلافه، والجنس وضده".
1 الحيوان 1/ 10.
2 الحيوان 1/ 38، وما بعدها.
وعلى هذا النمط يسوق الجاحظ عباراته ومزاوجاته، وإن الإنسان ليخيل إليه كأنما سخرت له ألفاظ اللغة تسخيرًا، فهو يختار منها ما يشاء، ويهوى في غير عنت ولا تكلف، بل في مهارة وحذق، فإذا هو يصل إلى هذه الأصوات الفخمة، أو قل هذه المركبات الموسيقية، فالموسيقى أساسية في جواهر عباراته وأعراضها، وما يسمها في باطنها وظاهرها، وإذا أنت رجعت تحلل هذه المركبات، وجدتها تنحل إلى ظاهرتين أصيلتين في كل ما يؤلف، وهما: التقطيع الصوتي من طرف، والتكرار والترداد الموسيقي من طرف آخر، أما التقطيع فهو الذي يتيح له هذه المعادلات الصوتية التي تجعل العبارات تتعادل هذا التعادل الموسيقي البديع، وكأنما قد فصلت تفصيلا وقسمت تقسيما، وأما التكرار والترداد فقد كانا شائعين في بيئة المتكلمين بسبب محاضراتهم، ومناظراتهم، وأيضا فقد شاعا على نحو ما مر بنا في غير هذا الموضع عند وعاظ العصر الأموي، ومن خلفوهم في العصر العباسي، وعند عبد الحميد الكاتب، وسهل بن هارون، ولكن الشيء الذي يلفت حقا هو أن الجاحظ وسعهما إلى أبعد طاقة يمكن أن تحتملها الأساليب، وما من ريب في أن هذا التكرار يضفي على أسلوبه ضروبا من الجمال، إذ نراه يستعين به على ما يريد من تقطيعات، وتوقيعات صوتية، فإذا الفكرة لا تؤدي في عبارة واحدة، ولكن في عبارتين أو أكثر، لا لسبب إلا؛ لأن الجاحظ يريد لها أداء موسيقيا بجانب أدائها المعنوي.
ومن يتابع درس الجاحظ يعرف أن هناك سببا مهما لتكراره في كتبه وترداده، وهو أنه لم يكن يكتب بل كان يملي، وقد ذكر ذلك صراحة في إحدى رسائله لابن الزيات، إذ قال له:"إن الوراق أصبح لا يخط سطرًا"1، ويذكر ياقوت أن هذا الوراق كان يسمى زكريا بن يحيى2، وإن في هذا ما يدل على أن الجاحظ لم يكن يكتب كتبه، ورسائله منذ ابن الزيات المتوفى عام 233هـ، بل كان يملي على شخص، أو أشخاص لما قدمنا من مرضه، وطبع هذا الإملاء كتبه بطابع المحاضرة، ومن ثم طبعها بطابع التكرار والترادف، كما طبعها
1 مجموعة رسائل الجاحظ ص 77.
2 معجم الأدباء 16/ 106.
بطابع كتب الإملاءات من حيث الخلل، والاستطراد والإيجاز في بعض الأشياء المهمة، والإطناب والتفصيل في بعض الأشياء التافهة، ومهما يكن فقد كان الجاحظ يعني بأساليبه عناية توفر لها ضروبا من التقطيع الصوتي، وقد ذهب يستعين في ذلك بتكراره، وترداده حتى تستوفي أساليبه كل ما يمكن من هذا التلوين الصوتي، الذي يكسب تعبيره جمالًا خاصًّا يتفوق به على جميع الكتاب في عصره.
التلوين العقل:
ربما كان هذا العنصر أهم العناصر الأربعة التي تكون فن الجاحظ وصنعته، إذ كان يشفع كتابته دائما بضروب من التحاسين العقلية، وهي ليست تحاسين فنية في أصلها، إنما هي تحاسين منطقية وفلسفية، واستطاع الجاحظ في رسائله، وكتب أن يحولها إلى تحاسين فنية خالصة أو تكاد، إذ كان يدخلها في جميع أوعيته الصوتية، وطبيعي أن تظهر هذه التحاسين عند الجاحظ؛ لأنه كان متكلما، ووصف هو نفسه المتكلم لعصره فقال كما مر بنا في غير هذا الموضع:"لا يكون المتكلم جامعا لأقطار الكلام متمكنًا في الصناعة، يصلح للرياسة، حتى يكون الذي يحسن من كلام الدين في وزن الذي يحسن من كلام الفلسفة"، ولعل من الطريف أنه أضاف الفلسفة في حيوانه إلى بعض المتكلمين، فقال:"ورأيت ناسا من فلاسفة المتكلمين"1، وقد قال في الحيوان صراحة: إن هذا الكتاب "أخذ من طرف الفلسفة2، وإضافة الطرف إلى الفلسفة إحساس من الجاحظ بما تدخله فلسفة العقل على تعبير صاحبه من تحاسين وتلاوين، ولعل ذلك ما جعله يعد المذهب الكلامي من ألوان البديع3، وهو لا يريد بهذا المذهب إلا ما أدخله المتكلمون من طرق جدل، وحوار، وسفسطة وأدلة وبراهين ومقدمات وأقيسة، وانظر في الحوار الطويل الذي رواه في الحيوان عن النظام، ومعبد في تفضيل الكلب
1 الحيوان 2/ 140.
2 الحيوان 1/ 11.
3 البديع لابن المعتز "طبع كراتشقوفسكي" ص53.
على الديك أو العكس تر حوارها يمتد في عشرات الصحف، وقد استعان كل منهما بما يمكن من براهين حسية وعقلية على التدليل لرأيه، وإن الإنسان ليخيل إليه كأن كلا منهما، قد استعار شخصية الحيوان الذي يدفع عنه، وهو لذلك يتسلح لخصمه بكل ما يستطيع العقل أن يسعفه به من براهين صحيحة، وغير صحيحة في افتنان، وبراعة يدلان على مبلغ ما فتقت الفلسفة من عقول المتكلمين، وألسنتهم.
وقد تربى الجاحظ في هذه البيئة على يد أستاذه النظام، فأخرجه لسنًا جدلًا يعرف كيف يحاور ويداور، وكيف يستعين بالمنطق الصحيح، وكيف يستعين بالمنطق السقيم ليدعم رأيه، وينصر فكرته، وقد تشبث بطريقة الحوار والجدل وما يتعلق بهما من مغالطة وسفسطة، فتكلم كثيرا عن محاسن الأشياء، ثم عاد فتكلم عن مساويها، ولعل خير ما يفسر ذلك كتاب المحاسن، والأضداد الذي ينسب إليه، وقد لا يكون هذا الكتاب له، ولكن من يقرأ فيه يؤمن بأنه إما أن يكون من صنع الجاحظ نفسه، أو من صنع شخص استمده من مغالطات الجاحظ في كتبه.
والجاحظ كما يعتمد على المغالطة أحيانا، نراه أيضا يعتمد على صحة الأدلة وصدق المقدمات أحيانا أخرى، بل إن هذا هو الغالب عليه، وقد تلوم في حيوانه من يعنون بصحة مقدماتهم1، وعاب النظام كما مر بنا بأنه لا يصحح الأصل الذي يبني عليه قياسه، وقد جعله ذلك يمتاز من كتاب عصره باستخدام المنطق استخداما واسعا في تضاعيف أسلوبه، فهو دائما يعرض أفكاره في صورة حجاج يقوم على براهين، وأدلة ومقدمات وأقيسة، ولا غرابة، فقد كان يعتد بذلك كلون عباسي بديع ينبغي أن يدخل في دوائر النثر، وأن تحلى نماذجه به حتى تنبسط الكتابة، ويتسع التعبير فيها اتساعا يرفده العقل الدقيق، والمنطق الوثيق، وإن الجاحظ ليتشبث بذلك في أبلغ صورة يمكن العقل أن يتصور بها عباسيا في القرنين الثاني، والثالث يريد أن يسيطر المنطق على كل ما يكتب، بل أيضا على كل ما يعمل
1 الحيوان 3/ 379.
فقد روى الرواة أنه اجتمع مع يوحنا بن ماسويه على مائدة بعض الوزراء، وكان في جملة ما قدم مضيرة عقب سمك، فامتنع يوحنا من الجمع بينهما، فقال له الجاحظ:"أيها الشيخ لا يخلو أن يكون السمك من طبع اللبن أو مضادا له، فإن كان أحدهما ضد الآخر، فهو دواء له، وإن كانا من طبع واحد، فلنحسب أنا قد أكلنا من أحدهما إلى أن اكتفينا"، فقال يوحنا: والله ما لي خبرة بالكلام، ولكن كل يا أبا عثمان، وانظر ما يكون في غد، فأكل الجاحظ انتصارا لدعواه، ففلج في ليلته، فقال: هذه والله نتيجة القياس المحال"1، وإن هذه القصة لترمز إلى عنايته بالمنطق في كل ما يتصل به من قول وفعل، ونحن لا نبعد إذا قلنا: إنه أهم كاتب في العصر العباسي الأول حكم المنطق في كل ما يصنع، فقد كان يعتم عليه اعتمادا بالغا في جميع كتاباته، واقرأ له هذه القطعة التي يتحدث فيها عن الخير والشر، وأنهما ضروريان لصلاح الكون2:
"اعلم أن المصلحة في أمر ابتداء الدنيا إلى القضاء مدتها امتزاج الخير بالشر، والضار بالنافع، والمكروه بالسار، والضعة بالرفعة، والكثرة بالقلة، ولو كان الشر صرفا هلك الخلق، أو كان الخير محضا سقطت المحنة، وتقطعت أسباب الفكرة، ومع عدم الفكرة يكون عدم الحكمة، ومتى ذهب التخيير ذهب التمييز، ولم يكن للعالم تثبت وتوقف وتعلم، ولم يكن علم، ولا يعرف باب تبين، ولا دفع مضرة، ولا اجتلاب منفعة، ولا صبر على مكروه، ولا شكر على محبوب، ولا تفاضل في بيان، ولا تنافس في درجة، وبطلت فرحة الظفر وعز الغلبة، ولم يكن على ظهرها محق يجد عز الحق، ومبطل يجد ذلة الباطل، وموقن يجد برد اليقين، وشاك يجد نقص الحيرة وكرب الوجوم، ولم تكن للنفوس آمال، ولم تتشعبها الأطماع، ومن لم يعرف كيف الطمع لم يعرف اليأس، ومن جهل اليأس، جهل الأمن، وعادت الحال من الملائكة الذين هم صفوة الخلق، ومن الإنس الذين فيهم الأنبياء والأولياء حال السبع والبهيمة، وإلى حال الغباوة
1 عيون الأنبياء في طبقات الأطباء لابن أبي أصيبعة 1/ 181.
2 الحيوان 1/ 204.
والبلادة، وإلى حال النجوم في السخرة، فإنها أنقض من حال البهائم في الرتعة، ومن هذا الذي يسره أن يكون الشمس والقمر والنار، والثلج، أو برجا من البروج، أو قطعة من الغيم، أو يكون المجرة بأسرها، أو مكيالا من الماء، أو مقدارا من الهواء.. وأين تقع لذة البهيمة بالعلوفة، ولذة السبع بلطع الدم وأكل اللحم، من سرور الظفر بالأعداء، ومن انفتاح باب العلم بعد إدمان القرع؟ وأين ذلك من سرور السؤدد، ومن عز الرياسة؟ ولو استوت الأمور بطل التمييز، وإذا لم تكن كلفة لم تكن مثوبة.. ولو كان الأمر على ما يشتهيه الغرير والجاهل بعواقب الأمور لبطل النظر وما يشحذ عليه، وما يدعو إليه، ولتعطلت الأروح من معانيها والعقول من ثمارها، ولعدمت الأشياء حظوظها وحقوقها، فسبحان من جعل منافعها نعمة، ومضارها ترجع إلى أعظم المنافع، وقسمها بين ملذ ومؤلم، وبين مؤنس وموحش، وبين صغير حقير، وجليل كبير، وبين عدو يرصدك، وبين عقل يحرسك، وبين سالم يمنعك، وبين معين يعضدك، وجعل في الجميع تمام المصلحة، وباجتماعها تتم النعمة، وفي بطلان واحد منها بطلان الجميع، قياسا قائما وبرهانا واضحا، فإن الجميع إنما هو واحد ضم إلى واحد، وواحد ضم إليهما؛ ولأن الكل أبعاض؛ ولأن كل جثة فمن أجزاء، فإذا جوزت رفع واحد والآخر مثله في الوزن، وله مثل علته وحظه ونصيبه، فقد جوزت رفع الجميع؛ لأنه ليس الأول بأحق من الثاني في الوقت الذي رجوت فيه إبطال الأول، والثاني كذلك والثالث والرابع حتى تأتي على الكل، وتستفرغ الجميع".
أرأيت إلى هذا الدفاع القوي عن ضرورة بقاء الشر في الكون؟ وإنه لدفاع يستمده الجاحظ من التفكير الدقيق في حقائق الكون، وهو تفكير يقوم على المنطق والاستدلال، والقياس كما يقوم على التأثر ببعض آراء المتكلمين الذين يرفضون الجبر، والتسخير في الحياة ويضعون مكانهما الاختيار، والتمكين، وهذا كله يبسط في ضروب من تلاوين الصوت وتحاسينه، وإنها لضروب تشيع في أسلوب منطقي منقطع القرين، ومن هذين المفتاحين؛ جمال الصوت وجمال المنطق، تسقط النغمات التي تميز الجاحظ في جميع فنه وصنعته، إذ ما يزال
يتداخل التفكير العقلي، وما يشفع به من قدرة على البرهان، والاستدلال مع التفكير الفني، وما يشفع به من قدرة على تقطيع الصوت، وما ينطوي في هذا التقطيع من تكرار وترداد، وبذلك يلتئم هذا الفن الجاحظي الذي يشبع فيه جمال العقل ما يشيع فيه جمال الصوت، وارجع إلى هذه النقطة الجميلة، فإنك ترى الجاحظ يحسن التدليل على فكرته التي يذهب فيها إلى أن العالم يتألف من الخير والشر جميعًا، بحيث إذا سقط الشر منه سقط الحائط الذي يؤلفه، وكذلك الشأن إن سقط الخير، وإن الجاحظ ليجعل القضية قضية العقل، فإن تغيير الكون عما هو، يجعلنا نفقد آلة التفكير، ومتى فقدناها أصبحنا لا نستطيع التأمل في علم، ولا الشعور بشيء ملذ أو مؤلم، إذ نصير كالحيوان في الرتعة، بل لقد نتحول إلى الجماد في السخرة:"ومن هذا الذي يسره أن يكون الشمس والقمر والنار، والثلج أو برجا من البروج، أو قطعة من الغيم؟ " إن الكون يجب أن يستمر كما هو: خير ونفع، وشر وضر، وإن كل جزء من أجزاء الخير، ومثله كل جزء من أجزاء الشر، يجب أن يظل كما هو؛ لأن العالم يتألف من جميع هذه الأجزاء وما الجميع؟ "إنما هو واحد ضم إلى واحد، وواحد ضم إليهما؛ ولأن الكل أبعاض؛ ولأن كل جثة فمن أجزاء، فإذا جوزت رفع واحد والآخر مثله في الوزن، وله مثل علته وحظه ونصيبه؛ فقد جوزت رفع الجميع؛ لأنه ليس الأول بأحق من الثاني في الوقت الذي رجوت فيه إبطال الأول، والثاني كذلك، والثالث، والرابع حتى تأتي على الكل وتستفرغ الجميع"، فأي عقل هذا الذي يكتب بتلك المقدرة على توليد الأفكار من جهة، والإدلاء بكل ما يمكن من حجج، وبراهين من جهة أخرى؟ إنه عقل الجاحظ، وهو العقل الذي جعل ابن العميد -كما مر بنا- يقول:"إن كتب الجاحظ تعلم العقل أولا والأدب ثانيا". فالعقل عند الجاحظ هو أساس صنعته الذي يستمد منه أدلته كما يستمد منه توليده للأفكار والمعاني، وأيضا فإنه يستمد منه قياسه ومقابلاته، وقد كان مشغوفا بالمقابلة في معانيه، وأفكاره شغفا شديدا، وإن الإنسان ليخيل إليه كأنما سخر العقل بجميع مقوماته للجاحظ، وهو يختار ما يشاء من هذه المقومات في رسائله وكتبه، ولعل ذلك