الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
4-
الخطابة الجاهلية:
كان للخطابة في العصر الجاهلي شأن عظيم، إذ كانوا يستخدمونها في منافراتهم ومفاخراتهم1، وفي النصح والإرشاد2، وفي الحث على قتال الأعداء3، وفي الدعوة إلى السلم وحقن الدماء4، وفي مناسباتهم الاجتماعية المختلفة كالزواج، والإصهار إلى الأشراف5، وكانوا يخطبون في الأسواق والمحافل العظام، والوفادة على الملوك والأمراء، متحدثين عن مفاخر قبائلهم ومحامدها، ونحن نعرف قصة وفد تميم إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، وما كان من قيام عطارد بين حاجب بن زرارة خطيبا بين يديه6، ويقول أوس بن حجر في رثاء فضالة بن كلدة7:
أبا دليجة من يكفي العشيرة إذ
…
أمسوا من الخطب في نار وبلبال
أم من يكون خطيب القوم إذ حفلوا
…
لدى الملوك ذوي أيد وأفضال8
ويقول فيه أيضا9:
ألهفا على حسن آلائه
…
على الحابر الحي والحارب10
1 انظر البيان والتبيين في مواضع متفرقة مثل 1/ 109، 1/ 190، 2/ 272، والأغاني 15/ 51.
2 البيان والتبيين في موضع متفرقة مثل 1/ 401، والمزهر للسيوطي 1/ 501.
3 انظر الأمالي لأبي علي القالي 1/ 92 الأغاني "طبعة الساسي" 20/ 137.
4 البيان والتبيين 1/ 348.
5 انظر البيان والتبيين 2/ 77، وراجع 1/ 118، 1/ 134، 3/ 6.
6 تاريخ الطبري: القسم الأول ص 1711، والأغاني "طبع دار الكتب" 4/ 146، والبيان والتبيين 1/ 53.
7 نقد الشعر لقدامة "طبعة الجوائب" ص35، وديوان أوس "طبع فيينا" ص22.
8 أيد: قوة.
9 البيان والتبيين: 1/ 181.
10 الحارب: المحارب الغائم.
ورقبته جثمات الملو
…
ك بين السرادق والحاجب1
ويكفي المقالة أهل الدحا
…
ل غير معيب ولا عائب2
ورقبته: انتظاره إذن الملوك، وقد تجعله بين السرادق، والحاجب ليدل على مكانة من الملك.
ودلائل مختلفة تدل على أن منزلة الخطيب في الجاهلية كانت فوق منزلة الشاعر، ويقول أبو عمرو بن العلاء:"كان الشاعر في الجاهلية يقدم على الخطيب، لفرط حاجتهم إلى الشعر الذي يقيد عليهم مآثرهم، ويفخم شأنهم، ويهول على عدوهم ومن غزاهم، ويهيب من فرسانهم، ويخوف من كثرة عددهم، ويهابهم شاعر غيرهم فيراقب شاعرهم، فلما كثر الشعر والشعراء واتخذوا الشعر مكسبة، ورحلوا إلى السوقة، وتسرعوا إلى أعراض الناس صار الخطيب عندهم فوق الشاعر"3، وتابعه الجاحظ يقول: "كان الشاعر أرفع قدرا من الخطيب، وهم إليه أحوج لرده مآثرهم عليهم، وتذكيرهم بأيامهم.
فلما كثر الشعراء وكثر الشعر صار الخطيب أعظم قدرا من الشاعر"4.
وواضح أن الجاحظ يجعل كثرة الشعر والشعراء وحدها هي السبب في تقدم الخطباء، أما أبو عمرو فيرد ذلك إلى أن هذه الكثرة استتبعت تحول الشعراء إلى التكسب بشعرهم، ومسارعتهم إلى الطعن في الأعراض، ونظن ظنا أن تفوق الخطيب على الشاعر في الجاهلية يرجع إلى طائفة متشابكة من الأسباب منها أن الخطابة كانت من لوازم سادتهم الذين يتكلمون باسمهم في المواسم والمحافل العظام، ومن أجل ذلك كانت تقترن بها الحكمة والشوق والرياسة5، كما تقترن بها الشجاعة، ويتضح ذلك في مراثيهم، ومدائحهم لسادتهم على نحو ما تقدم في رثاء أوس بن حجر لفضالة بن كلدة، ويقول الأعشى في مديح قوم6:
1 جثمات الملوك: كبارهم وعظامهم.
2 الدحال: الدهاء والمراوغة.
3 البيان والتبيين 1/ 241.
4 نفس المصدر 4/ 83.
5 نفس المصدر 1/ 362، وفي مواضع متفرقة.
6 نفس المصدر 1/ 124، والصلاق: جهير الصوت.
فيهم الخصب والسماحة والنجـ
…
ـدة جمعا والخاطب الصلاق
ويقول زبان بن سيار الغزاري1:
ولسنا كأقوام أجدوا رياسة
…
يرى مالها ولا يحس فعالها
يريغون في الخصب الأمور، ونفعهم
…
قليل إذا الأموال طال هزالها2
وقلنا بلا عي وسسنا بطاقة
…
إذا النار نار الحرب طال اشتعالها
ويقول عامر المحربي3:
أولئك قومي إن يلذ ببيوتهم
…
أخو حدث يوما فلن يتهضما
وكم فيهم من سيد ذي مهابة
…
يهاب إذا مار رائد الحرب أضرما5
وهم يدعمون القول في كل موظن
…
بكل خطيب يترك القوم كظما6
يقوم فلا يعيا الكلام خطيبنا
…
إذا الكرب أنسى الحبس أن يتكلما
ويضا إلى هذا السبب في تفوق الخطيب على الشاعر في الجاهلية اتساع وظيفته، إذ كان يفاخر وينافر عن قومه، فيشترك بذلك مع الشاعر كما يشترك معه في الحض على القتال، ثم ينفرد بمواقف خاصة به كالوفادة على الملوك، وكالنصح والإرشاد، وخطبهم في الإملاك والزواج مشهورة، ومن أهم المواقف التي كان ينفرد بها أنه كان يدعو إلى السلم، وأن تضع الحرب بين القبائل المتخاصمة أوزارها، أما الشاعر فلم يكن يدعو إلا إلى الأخذ بالثأر، وإشعال نار الحرب، ولعل ذلك ما جعل ربيعة بن مقروم الضبي يقول8:
ومتى تقم عند اجتماع عشيرة
…
خطباؤنا بين العشيرة يفصل
ويقول أبو زبيد الطائي9:
وخطيب إذا تمعرت الأو
…
جه يوما في مأقط مشهود
1 البيان والتبيين 1/ 4.
2 يريغون: يدبرون، والأموال هنا: الإبل
3 المفضليات، القصيدة، 91 البيت 18، وما بعده.
4 يتهضم: ينتقص.
5 أضرم النار: أشعلها، وكانوا إذا توقعوا حربا وأرادوا الإجماع، أوقدوا نارا على جبلهم.
6 كظما: جمع كاظم، وهو الساكت غيظا:
7 الجبس: اللئيم المنقطع.
8 أغاني "طبع الساسي" 19/ 93.
9 البيان والتبيين 1/ 176، وتمعرت الوجوه تغيرت واصفرت. والمأقط: موضع القتال.
ويقول بشر بن أبي خازم1:
وكنا إذا قلنا: هوازن أقبلي
…
إلى الرشد لم يأت السداد خطيبها
وتتردد في كتاب البيان والتبيين للجاحظ وغيره من كتب الأدب أسماء طائفة كبيرة من خطباء الجاهلية الذين اشتهروا بالفصاحة، ووضوح الدلالة والبيان عما في أنفسهم، مما جعل الأسماع والقلوب تهش إليهم، ويعظم في الناس خطرهم، ويشيع في الآفاق ذكرهم، وكانوا ينتشرون في الجزيرة بمكة، والمدينة وما وراءهما من قبائل البادية، أما مكة فقد كانت بها دار الندوة، وهي أشبه بمجلس شيوخ مصغر، كان يجتمع فيها سادة العشائر القرشية يتشاورون في أمورهم، وفي أثناء ذلك يخطبون ويتحاورون2، ومن خطبائهم المفوهين عتبة بن ربيعة، وهو خطيب قريش يوم بدر، ومن خطبائها سهيل بن عمرو الأعلم، وهو الذي قال فيه عمر النبي صلى الله عليه وسلم:"يا رسول الله انزع ثنيتيه السفليين حتى يدلع لسانه، فلا يقوم عليك خطيبا أبدا، فقال الرسول عليه السلام: "لا أمثل فيمثل الله بي، وإن كنت نبيا، دعه يا عمر فعسى أن يقوم مقاما تحمده" 3. وقد أسلم وحسن إسلامه، وكانت له مواقف محمودة. ولقريش أيضا خطباء كان ينفر إليهم العرب أمثال هاشم وأمية4، ونفيل ابن عبد العزى جد عمر بن الخطاب، وإليه نفر عبد المطلب بن هاشم، وحرب بن أمية5. وأما المدينة فذكر الجاحظ من خطبائها قيس بن الشماس، وثابت ابنه خطيب الرسول صلى الله عليه وسلم، وسعد بن الربيع، وهو الذي اعترضت ابنته الرسول صلوات الله عليه، فقال لها: "من أنت؟ فقالت: ابنة الخطيب النقيب الشهيد سعد بن الربيع" 6.
1 المفضليات، القصيدة 96 البيت رقم 9.
2 السيرة النبوية "طبعة الحلبي" 2/ 124.
3 البيان والتبيين 1/ 317، والثنيتان: الأضراس في مقدم الفم.
4 شرح النقائض لأبي عبيدة "طبعة بيفن" 1/ 224.
5 تاريخ الطبري: القسم الأول ص 1091.
6 انظر البيان والتبيين 1/ 358-360.
وإذا تركنا مكة والمدينة إلى القبائل المنبطحة في البادية، وجدنا ممن اشتهروا فيها بالخطابة ابن عمار الطائي، وهو خطيب مذحج كلها1، وهانئ بن قبيصة خطيب شيبان يوم ذي قار2، وزهير بن جناب خطيب كلب وقضاعة3، وربيعة بن حذار خطيب بني أسد4، وإليه احتكم الزبرقان بن بدر والمخبل السعدي، وعبدة بن الطبيب وعمرو بن الأهتم أيهم أشعر5. ومن الخطباء المشهورين في القبائل أيضا عامر بن الظرب6 أحد حكام العرب في الجاهلية، ومن كانوا يقضون بينهم في خصوماتهم7.
وممن اشتهر باللسن والخطابة، والشعر لبيد بن ربيعة العامري، ومن قوله8:
وأخلف قسا ليتني ولو أنني
…
وأعيي على لقمان حكم التدبر
ومن قوله أيضا9:
وأبيض يجتاب الحروق على الوجى
…
خطيبا إذا التف المجامع فيصلا
ومن خطبائهم هرم بن قطبة الفزاري10، وهو صاحب المنافرة المشهورة بين علقمة بن علاثة، وعامر بن الطفيل، وقد رآه عمر بن الخطاب يوما في المسجد، فقال له:"أرأيت لو تنافرا إليك -يعني علقمة وعامر- أيهما كنت تنفر: يا أمير المؤمنين لو قلت فيهما كلمة لأعدتها جذعة، فقال عمر: لهذا العقل تحاكمت إليك العرب"11.
ومن الخطباء البلغاء عمرو بن كلثوم خطيب تغلب12. وهيذان بن شيخ
1 البيان والتبيين 1/ 349.
2 أغاني "طبعة الساسي" 20/ 137.
3 نفس المصدر 21/ 65.
4 نفس المصدر 10/ 61، والبيان والتبيين 1/ 365.
5 أغاني 12/ 40، 21/ 113.
6 أغاني "طبعة دار الكتب" 3/ 90، وانظر السيرة النبوية 1/ 129، والبيان والتبيين 1/ 365، والمعمرين 44.
7 أغاني 3/ 90، والسيرة النبوية 1/ 128.
8 البيان والتبيين 1/ 189.
9 نفس المصدر 1/ 266، ويجتاب: يقطع، الحروق: الفلوات، الوجى: الحفد.
10 البيان والتبيين 1/ 365.
11 البيان والتبيين 1/ 237.
12 نفس المصدر 2/ 141.
الذي قال فيه الرسول عليه السلام: "رب خطيب من عبس" 1، والعشراء ابن جابر، وخويلد بن عمرو خطيب يوم الفجار2، وقيس بن خارجة بن سنان، ويقال: إنه خطب في حرب داحس والغبراء يوما إلى الليل3، وكل هؤلاء من غطفان. ومن الخطباء حنظلة بن ضرار خطيب بني ضبة، وقد طال عمره حتى أدرك يوم الجمل4. ولم تشتهر قبيلة بالخطابة كما اشتهرت إياد وتميم، ومن إياد قس بن ساعدة الذي قال فيه الرسول صلى الله عليه وسلم: "رأيته بسوق عكاظ على جبل أحمر، وهو يخطب في الناس" 5. ومن خطباء تميم المفوهين ضمرة بن ضمرة6، وأكثم بن صيفي7 وقيس بن عاصم8، وعطارد بن حاجب بن زرارة خطب وفد تميم بين يدي الرسول، وعمرو بن الأهتم المنقري، ولم يكن في بادية العرب في زمانه أخطب منه9. وما من ريب في أن هذه الكثرة من الخطباء -ووراءهم كثير لم نذكرهم- تدل دلالة بينه على ما كنت عليه الخطابة من رقي وازدهار.
وكان للخطباء حينئذ سنن خاصة في أداء خطابتهم، منها أنهم كانوا يخطبون على رواحلهم في المواسم العظام، والمجامع الكبار10، وكان من عادتهم لوث العمائم على رءوسهم، والإشارة في أثناء خطابتهم بالعصي والمخاطر والقنا والقضبان والقسي11. وفي ذلك يقول لبيد12:
ما إن أهاب إذا السرادق غمه
…
قرع القسي وأرعش الرعديد
وقد حملت الشعوبية حملة شعواء على العرب لاتخاذهم في خطابتهم
1 البيان والتبيين 1/ 273.
2 نفس المصدر 1/ 350-351.
3 نفس المصدر 1/ 16، وما بعدها.
4 نفس المصدر 1/ 341.
5 البيان والتبيين 1/ 308-309.
6 جمهرة الأمثال للعسكري 1/ 186.
7 البيان والتبيين 1/ 365، والأغاني "طبعة الساسي" 15/ 70.
8 البيان والتبيين 1/ 53.
9 البيان والتبيين 1/ 355.
10 نفس المصدر 3/ 7.
11 انظر أوائل الجزء الثالث من البيان والتبيين.
12 البيان والتبيين 1/ 372، 3/ 9. وغمه: علاه، وكثر فيه.