الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
8-
التصنيع عام بين كتاب الدواوين:
إذا تركنا الصابي والصاحب إلى من عاصروهما من كتاب الدواوين، وجدناهم جميعًا يذهبون هذا المذهب من التصنيع للسجع، والبديع، ومن ينظر في كتاب اليتيمة للثعالبي، وما عرض فيه من كتاب الدواوين يعرف أنهم كانوا جميعًا، يلتزمون هذا المذهب في صنعة نثرهم، إذ كان بدعًا عامًا بينهم، وكان كل منهم يحاول أن يكون له شأن أي شأن في هذا البدع الجديد، ويتضح من اليتيمة أن أشهر الكتاب الذين عاشوا في هذا العصر، وكانوا متدادًا لهذا المذهب هم: عبد العزيز بن يوسف، وأبو العباس الضبي، وعلي بن محمد الإسكافي، وأبو الفتح البستي، إذ كانوا جميعًا يعنون برسائلهم عناية شديدة.
أما عبد العزيز بن يوسف، فقد تقلد ديوان الرسائل لعضد الدولة، وتقلد الوزارة للبويهيين عدة مرات، وفيه يقول صاحب اليتيمة:"أحد صدور المشرق، وفرسان المنطق، وأفراد الكرم الكبار، والآثار والأخبار، وأعيان الممدوحين المقدمين في الآداب، والكتابة البراعة والكفاية، وجميع أدوات الرياسة"1، ساق الثعالبي جملة من نثره، وهي جميعها موشحة بألوان التصنيع، وأصباغه كقوله يصف رسالة كتبها إليه أبو إسحاق الصابي: "علمت كيف تنتظم فرق البلاغة، وتتلاقى طرق الخطابة، وتتراءى أشخاص البيان، وتمايل أعطاف الحسن والإحسان، وقرأت لفظًا جليًا، حوى معنى خفيًا، وفصولًا
1 اليتيمة 2/ 287.
متباينة، كساها الائتلاف صور المشاكلة، ومنحها الامتزاج صيغة المضارعة.
ولحمة الموافقة، فصارت لدلالة الأول منها على الثاني، وتعلق العجز بالهادي فيها أولاد أرحام مبرورة، وذوات قربى موصوله، تتعاطف عيونها، وتتناصف أبكارها وعونها"1.
وأما أبو العباس الضبي، فهو خليفة الصاحب بن عباد وتلميذه، وفيه يقول الثعالبي: "هو جذوة من نار الصاحب أبي القاسم، ونهر من بحره، وخليفته النائب منابه في حياته، القائم مقامه بعد وفاته، وكان الصاحب استصحبه منذ الصبا، واجتمع فيه الرأي والهوى، فاصطنعه لنفسه، وأدبه بآدابه، وقدمه بفضل الاختصاص على سائر صنائعه وندمائه، وخرج منه صدرًا يملأ الصدوركمالًا، ويجري في طريقه ترسمًا وترسلًا، وفي ذرى المعالي توقلًا2
…
وقد كانت بلاغة العصر بعد الصاحب، والصابي بقيت متماسكة بأبي العباس، فأشرفت على التهافت بموته، وكادت تشيب بعده لمم الأقلام، وتجف غدر محاسن الكلام3، وقد روى الثعالبي له غررًا من رسائله، كقوله في صدر أحد كتبه:"قد أتاني كتاب شيخ الدولتين، فكان في الحسن روضة حزن، بل جنة عدن في شرح النفس، وبسط الأنس، بل برد الأكباد والقلوب، وقميص يوسف في أجفان يعقوب"4.
وأما علي بن محمد الإسكافي، فكان كاتب الدولة السامانية ووزيرها، وفيه يقول الثعالبي:"هو لسان خراسان وغرتها، وعينها وواحدها، وأوحدها في الكتابة والبلاغة، ومن لم تخرج مثله من البراعة والصناعة، وكان تأدب بنيسابور عند مؤدب بها، يعرف بالحسن بن المهرجان، من أعرف المؤدبين بأسرار التأديب والتدريس، وأعلمهم وأدراهم بطرق التدريج في التخريج، ثم حرر مديدة في بعض الدواوين، فخرج منقطع القرين"5، ثم يقول
1 اليتيمة 2/ 295، وعونها: جمع عوان، وهي الثيب.
2 التوقل: الصعود في الجبل.
3 اليتيمة 3/ 261.
4 اليتيمة 2/ 262.
5 اليتيمة 4/ 90.
الثعالبي: "إنه كان أكتب الناس في السلطانيات، فإذا تعاطى الإخوانيات كان قاصر السعي، قصير الباع"1، وقد لاحظ ابن الأثير نفس هذه الملاحظة على الصابي2، ويروي الثعالبي طائفة من نثر الإسكافي، وهي كلها تنهج نهج التصنيع، وما يطوى فيه من سجع وبديع، ويختم الحديث عنه بقوله: "إنه لما انتقل إلى جوار ربه غدت لفراقه الكتابة شعثاء، والبلاغة غبراء، وأكبر فضلاء الحضرة رزيته، وأكثروا مرثبته، وفيه يقول بعض الشعراء:
ألم تر ديوان الرسائل عطلت
…
لفقدانه أقلامه ودفاتره
كثغر مضى حاميه ليس يسره
…
سواه وكالكسر الذي عز جابره
ليبك عليه خطه وبيانه
…
فذامات واشيه وذامات ساحره"3
وأما أبو الفتح البستي فكان -في أول أمره- كاتبًا لباي توز أمير مدينة بست، وهي من مدن أفغانستان، فلما استولى عليها الأمير سبكتكين ألحقه بخدمته، "وصار من بعد ينظم بأقلامه منثور الآثار عن حسامه، وينسج بعباراته، وشائع فتوحه ومقاماته، هلم جرًّا، إلى زمان السلطان يمين الدولة، وأمين الملة "محمود بن سبكتكين"، فقد كتب له عدة فتوح إلى أن زخزحه القضاء عن خدمته، ونبذه إلى ديار الترك من غير قصده وإرادته"4، واشتهر البستي بكثرة الجناس في كلامه، يقول العتبي:"هو صاحب التجنيس"5، ويقول الثعالبي:"هو صاحب الطريقة الأنيقة في التجنيس الأسيس"، البديع التأسيس، وكان يسميه المتشابه، ويأتي فيه بكل طريقة لطيفة"6.
ولم يروا الثعالبي شيئًا من رسائله، وإنما اكتفي ببعض ما في كتبه من أمثال وحكمة، كقوله: "عادات السادات، سادات العادات، من سعادة جدك،
1 اليتيمة 4/ 92.
2 المثل السائر ص148.
3 اليتيمة 4/ 94.
4 انظر تاريخ اليميني للعتبي مع شرح المنيني 1/ 71.
5 نفس المصدر 1/ 67.
6 اليتيمة 4/ 284.
وقوفك عند حدك، الدعة رائد الضعة، إذا ما بقى قاتك، فلا تأس على ما فاتك، الخلاف غلاف الشر، عسى تحظى في غدك برغدك"، وهي كلها أمثال مسجعة نمقت بوشي التجنيس، وكأنما كان يعمد البستي إلى هذا الوشي عمدًا، كي يتفوق على معاصريه في استخراج كل ما يمكن من بدائعه وطرائفه، وأكبر الظن أننا لا نغلو بعد ذلك، إذا قلنا: إن الكتابة الديوانية، قد تحولت على أيدي هؤلاء الكتاب، وأضرابهم إلى تحف فنية خالصة.