الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
5-
تصنيع ابن العميد:
وهذا الوزير المثقف ثقافة واسعة يعد أستاذ عصره في فن التصنيع، وقد أقر له ببراعته وفصاحته، وامتيازه في كتابته كل من تصدوا لترجمته، يقول صاحب اليتيمة:"هو عين المشرق ولسان الجبل، وعماد ملك آل بويه، وصدر وزرائهم، وأوحد العصر في الكتابة، وجميع أدوات الرياسة، وآلات الوزارة، والضرب في الآداب بالسهام الفائزة، والأخذ من العلوم بالأطراف القوية، يدعى الجاحظ الأخير، والأستاذ والرئيس، ويضرب به المثل في البلاغة، وينتهى إليه في الإشارة بالفصاحة والبراعة، مع حسن الترسل، وجزالة الألفاظ وسلاستها، إلى براعة المعاني ونفاستها، وما أحسن وأصدق ما قال له الصاحب، وقد سأله عن بغداد عند منصرفه عنها: بغداد في البلاد كالأستاذ في العباد، وكان يقال: بدئت الكتابة بعبد الحميد، وختمت بابن العميد"1، وفي هذه الفقرة ما يدل دلالة واضحة على مدى ما وصل إليه ابن العميد في عصرها من مكانة أدبية ممتازة، وهي مكانة لم يأخذها عن طريق مركزه السياسي، وإنما أخذها عن طريق فنه الخالص إن كان ينحو بحوصا بديعًا من التصنيع، والزخرف في كتابه، وقد مر بنا في غير هذا الموضع أن الكتاب اصطلحوا منذ عصر المقتدر على أن يعمموا السجع في كل ما يكتبون، واستمر ذلك من بعدهم،
1 اليتيمة 3/ 137.
وكان ابن العميد يسجع في كتابته، ولكن ليس هذا ما يلفتنا عنده، إنما الذي يلفتنا حقًا هو أن مذهب التصنيع تماثل على يديه في الصورة التي كانت تنتظره منذ القرن الثاني، ونقصد صورة السجع من جهة، والاحتكام إلى البديع فيما ينشئ الكاتب من جهة أخرى، ومن أجل ذلك إذا قلنا: إن ابن العميد هو أستاذ مذهب التصنيع بالمعنى الدقيق لهذه الكلمة لم نبعد؛ لأنه أول كاتب -فيما نعرف- احتكم إلى السجع في كتابته، كما احتكم إلى البديع من جناس وطباق وتصوير، وقد هيأه لذلك أنه كان ذا عين تصويريه، بل لقد كان ذا شغف بفن التصوير نفسه، يقول مسكويه:"لقد رأيته يتناول في مجلسه الذي يخلو فيه بثقاته، وأهل أنسته التفاحة وما يجري مجراها، فيعبث بها ساعة ثم يدحرجها، وعليها صورة وجه، وقد خطها بظفره، لو تعمد لها غيره بالآلات المعدة، وفي الأيام الكثيرة ما استوفى دقائقها، ولا تأتي له مثلها"، ولا شك في أن هذه النزعة التصويرية فيها كان لها أثر مهم في نثره، إذ جعلته نثرًا مصورًا يهتم صاحبه يصنع الصور والرسوم في كتاباته، كما جعلته يهتم بألوان البديع الأخرى من طباق وجناس وغيرهما، وكأنه كان يحس بأن هذه الألوان الرسام، وانظر إليه يكتب إلى ابن بلكا عند استعصائه على ركن الدولة، فيستهل رسالته على هذا النمط1:
"كتابي، وأنا متأرجح بين طمع فيك، ويأس منك، وإقبال عليك، وإعراض عنك، فإنك تدل بسابق حرمة، وتمت بسالف خدمة، أيسرهما يوجب حقًا ورعاية، ويقتضي محافظة وعناية، ثم تشفعهما بحديث غلول2 وخيانة، وتتبعهما بآنف3 خلاف، ومعصية وأدنى ذلك يحبط أعمالك، ويمحق كل ما يرعى لك. لا جرم أني وقفت بين ميل إليك، وميل عليك أقدم رجلًا لصدك، وأؤخر أخرى عن قصدك، وأبسط يدًا لاصطلامك4 واجتياجك، وأثنى
1 اليتيمة 3/ 145.
2 غلول: خيانة.
3 آنف: أشد.
4 الاصطلام: الاستئصال.
ثانية لاستبقائك واصطلاحك، وأتوقف عن امتثال بعض المأمور فيك، ضنًا بالنعمة عندك ومنافسة في الصنيعة لديك، وتأميلًا لفيئتك1 وانصرافك، ورجاء لمراجعتك وانعطافك، فقد يغرب العقل ثم يؤوب، ويعزب اللب ثم يثوب، ويذهب الحزم ثم يعود، ويفسد العزم ثم يصلح، ويضاع الرأي ثم يستدرك، ويسكر المرء ثم يصحو، ويكدر الماء ثم يصفو، وكل ضيقة فإلى رخاء، وكل غمرة فإلى انجلاء، وكما أنك أتيت من إساءتك، لما لم تحسبه أولياؤك فلا بدع أن تأتي من إحسانك بما لا ترتقبه أعداؤك، وكما استمرت بك الغفلة حتى ركبت ما ركبت، واخترت ما اخترت، فلا عجب أن تنتبه انتباهة تبصر فيها قبح ما صنعت، وسوء ما آثرت، وسأقيم على رسمي في الإبقاء، والمماطلة ما صلح، وعلى الاستيناء2 والمطاولة ما أمكن، طمعًا في إنابتك وتحكيمًا لحسن الظن بك، فلست أعدم فيما أظاهره من إعذار، وأرادفه من إنذار، احتجاجًا عليك، واستدراجًا لك، فإن يشأ الله يرشدك، ويأخذ بك إلى حظك ويسد دك".
والرسالة كلها تمضي على هذا النحو من السجع والعناية بالبديع، فكلها تحف من السجع وطرف من الجناس والطباق والتصوير، فهي وشي خالص، هي بدجيع وتطريز وترصيع، إذ ما يزال ابن العميد يدمدج وشي السجع في وشي البديع من التوصير، والطباق والجناس، فإذا أساليبه وكأنها ثروة زخرفية هائلة، وهل هناك عبارة في هذه القطعة لم تحل بلون من ألوان البديع، وهو يضع هذه الألوان الرائعة على ألفاظه المسجعة، فإذا هي تختال في هذه المقدرة البديعة من الزخرف والتصنيع، وأكبر الظن أن ابن العميد قد تأثر في صناعته بصناعة السجاد في إقليمه، فهو يعاني في كل لفظة ما يعانيه صانع السجاد في كل خيط، ثم هو بعد ذلك يعني بالوشي الذي تعبر عنه ألفاظه، كما يعني صانع السجاد بالوشي الذي تعبر عنه خيوطه، وعلى هذا النمط تحولت صناعة الكتابة عند ابن العميد إلى تطريز خالص، وهو يختال على هذا التطريز
1 الفيئة: الرجوع.
2 الاستيناء: التأني.
بحيل كثيرة، ولم لا؟ ألم يتعلم فن الحيل؟ وإذا فلماذا لا يشفع فنه بكل ما يمكنه من حيل، وقد استطاع أن يصل عن هذه الحيل إلى بدع طريف في سجعه، وذلك أنه كان يعمد إلى تقصير عباراته، وهذا التقصير، أو هذا القصر من أهم الفروق بين سجعه وسجع أصحاب الدواوين من قبله، وقد نظر فرأى نفسه يضطر في أحوال كثيرة إلى عبارات طويلة، فكيف يوفق بين رغبته في القصر، وبين طول هذه العبارات؟ لقد فكر طويلًا في هذه الصعوبة، وسرعان ما هداه تفكيره إلى حيلة طريفة: هي أن يوازن بين كل لفظة، وقرينتها في العبارتين والمتجاورتين، وبذلك يرفع ما قد يحسه القارئ، أو السامع من بعد الزمن في موسيقى الجملتين، وكأني بابن العميد كان يعرف معرفة دقيقة أنه كلما طال الزمن الذي تنتظره الأذن في سماع العبارات المسجوعة نقص التلاؤم الموسيقى. وهو لذلك يعمد كما ترى في أول القطعة إلى السجع القصير، الذي لا يأخذ من قارئه زمنًا طويلًا، ولكن استمر في القراءة تره يضطر إلى الطول في عباراته، فماذا يصنع إزاء هذه الطول الذي يثقل على أذن سامعه؟ لقد وصل إلى حيلة طريفة من الموازنة بين العبارتين المتجاورتين موازنة تجعل ألفاظهما، وكأنها جميعًا قد نغمت وسجعت على نحو ما نرى في مثل قوله:"فإنك تدلي بسابق حرمة، وتمت بسالفه خدمة"، وقوله:"وأبسط يدًا لاصطلامك واجتياحك، وأثنى ثانية لاستبقائك، واستصلاحك"، وما من ريب في أنها حيلة لطيفة تلك التي احتال بها ابن العميد على مثل هذه العبارات، فإذا هي تصبح وكأنها قصيرة لما تكامل فيها من حلاوة الموسيقى، وما تلك الحلاوة إلا ما يتخذه من المعادلة بين ألفاظ عباراته، معادلات تجعل فيها هذا الائتلاف الموسيقي الطريف، فكل كلمة تتعادل مع قرينة لها في الكلمة الأخرى، وكأنما تطلبها لتعزف معها هذا العزف البجيع الذي تمتاز به موسيقى ابن العميد، ولعل في هذا ما يشهد بأن ابن العميد كان يصنع في سجعه إلى أقصى حدود التصنيع التي يستطيعها، وهو يحتال على ذلك بوشي البديع من جهة، كما يحتال عليه بقصر الزمن في سجعه من جهة أخرى، فإن طال زمن العبارتين المسجوعتين قصره بهذه الحيلة
من أحداث المعادلات، والموازنات بين ألفاظ العبارتين، حتى لا تخرج الأذن من ألفاظ العبارة الأولى، إلا وتحس براحة صوتية إزاء كل كلمة من كلمات العبارة الثانية؛ لأنها تماثل قرينة لها في العبارة السابقة من الوجهة الصوتية تمام التماثل.
وهذه هي صورة التصنيع في الكتابة الديوانية عند ابن العميد، فهو يعمد إلى زخرف البديع يوشي به لفظه، وهو دائمًا -كما تصوره يتيمة الثعالبي- يتخذ لفظًا مرصعًا بالسجع، وإنه ليحتال في تحسين سجعه، والإكثار من وشي بديعه حيلًا مختلفة، أما سجعه فكان يحتال عليه بالقصر، فإن كان طويلًا قصره بما مرن عليه من المعادلة بين ألفاظه، حتى لكأنها تتشابك تشابك توقيعات الراقصين، وأما بديعة فإنه كان يكثر منه، وكان ما يزال يحتال على اللفظة حتى يحملها وشي الطباق من جهة، ووشي التصوير، أو الجناس من جهة أخرى.
ومن أجل هذه الحيل كلها، وما اقترن بها من مهارة، وتفنن كان ابن العميد زعيم مذهب التصنيع في عصره غير مدافع، ولا منازع، ومع ذلك فسنقف عند الصاحب بن عباد تلميذه، وخريجه لنرى هل استطاع أن يضيف من جديد إلى تصنيع أستاذه.