الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
وتلزيق، وما نصل إلى أواخر هذا العصر، حتى نحسن بأن الأساليب في النثر قد تجمدت وتبلورت، أم هي تريد أن تتجمد، وتتبلور إلا أن تصيبها رجفة شديدة تغير أوضاعها، ولكن مصر لم يتح لها شيء من ذلك، إنما أتيح لها ظلام مطبق، فقد فتحها العثمانيون واستقروا فيها بعد أن قوضوا الحكم المملوكي، وأدالوا منه، فاستولى على الكتابة الفنية جمود شديد؛ وأصبحنا لا نكاد نجد كاتبًا مهمًا، يمكن أن نقرنه حتى إلى كتاب المماليك.
7-
العصر العثماني، والعقم، والجمود:
كان من سوء حظ مصر، أن اشتبك المماليك في حروب مع الدولة العثمانية، وانتهى الأمر بدخول سليم الأول مصر فاتحًا عام 923هـ "1517م".
وبذلك أصبحت مصر جزءًا من الإمبراطورية العثمانية، ولم يعد لها نفوذ في سوريا وبلاد العرب؛ بل أصبحت ولاية من ولايات الإمبراطورية العثمانية، واستمر شأنها كذلك حتى غزاها نابليون عام 1798 للميلاد، وما من ريب في أن هذا الطور من حياة مصر، يعتبر أسوأ الأطوار التي مرت بها، فقد عمها ظلام كئيب وانتشر فيه جوخانق، إذ أصبحت ولاية عثمانية بسيطة؛ بعد أن كانت دولة كبيرة، ومن شأن مصر أنها لا تستطيع أن تتنفس، وتزدهر فيها الحضارة إلا إذا كانت أمة مستقلة ذات شأن في التاريخ والسياسة، أما إذا أصبحت مغلوبة على أمرها، فإن أداة العقل والفن فيها تتعطل:" وماذا تنتظر من شعب يفقد السيادة على جيرانه، بل على نفسه؟ لا شك أنه يكتئب، وينكمش منزويًا في جدر وطنه باكيًا نفسه وتاريخه، ولعل ذلك ما جعل المصريين يرثون المماليك رثاء حارًّا1، بل لقد رثوا وطنهم مرًا2، وحق لهم، فقد بطش بهم
1 بدائع الزهور لابن إياس 3/ 111.
2 نفس المصدر 3/ 128.
العثمانيون، وأخرجوهم من عز إلى ذل، لا من حيث السياسة فقط، بل أيضًا من حيث العلم والفن؛ إذ أخذ سليم الأول معه كثيرًا من العلماء والأدباء والمهندسين، وأصحاب الحرف وأدوات الترف1، ولماذا يبقى هؤلاء في مصر؟ لقد انتهى عصر المماليك، ولم تعد هناك حاجة ولا لصناعة، فليذهب أربابهما إلى القسطنطينية، وليذهب معهم العلماء ورجال الفكر، ولتذهب الكتب والمجلدات، التي تعتز بها مصر أيضًا، حتى تفقد مصر كل ما لها من سيادة عقلية، وفينة بجانب ما فقدته من سيادتها السياسية.
لم تعد مصر بلدًا عظيمًا، كما كان شأنها في عصر المماليك، إذ كانت بها الخلافة، وكانت لها السيادة على جيرانها، وكان لها في داخلها نشاط عقلي وفني واسع، أما في هذا العصر فقد أصبحت ولاية عثمانية، يقيم فيها وال تركي، وهذا الوالي له ديوان، ولكن اللغة الرسمية في هذا الديون هي التركية، التي يتخاطبون بها مع الباب العالي، ومعنى ذلك أن الدواوين التي كانت تخرج كبار الكتاب في العصور السابقة قد أغلقت أبوابها، فلم يعد هناك مجال، لأن يظهر مثل ابن الشخباء، أو القاضي الفاضل، أو محيي الدين بن عبد الظاهر.
واقرأ في الآثار الكتابية أثناء العصر العثماني، فستجد هذه الآثار أضعف، وأقل من أن تقرن إلى أي عصر من العصور السابقة، وبون بعيد جدًا بين كتاب مثل "بدائع الزهور" في التاريخ، وكتاب آخر مماثل له في عصر المماليك، فأنت لا تجد عند المقريزي، ولا ابن تغرين بردي ركاكة، ولا أخطاء ولا أخرى لغوية، كما لا تجد ألفاظًا تركية، أما عند ابن إياس، فإنك تجد ضعف التأليف عامة، فالأسلوب واه، والأخطاء النحوية كثيرة والألفاظ التركية منتشرة.
وإذا تركت هذا الجانب من الكتابة التاريخية إلى الكتابة الفنية، وجدتها تلفيقًا خالصًا من أساليب السابقين، وهو تلفيق لبس فيه جديد إلا التصنع الشديد لألوان البديع، ومصطلحات العلوم، وقد كانت هذه الأشياء توجد في عصر
1 ابن إياس 3/ 147.
المماليك فتقبل؛ لأن الأسلوب كان جزلا رصينًا فيستطيع القيام بها، أما في هذا العصر فالأسلوب واه ضعيف لا يكاد يقوم، ولعل ذلك ما جعل الشهاب الخفاجي، يقول في مقدمة كتابه "ريحانة الألباء":"إن الأدب في هذه الأعصار، قد هبت على رياضه ريح ذات إعصار، حتى أخلقت عرى المحامد، واسترخى في جريه عنان القصائد، وتقلصت أذيال الظلال، وخطب البلاء على منابر الأطلال، وعفا رسم الكرام، فعليه مني السلام"1، وامض في ريحانة الألباء، فستجد صاحبها يتصنع لمصطلحات النحو، كما يتصنع لألوان البديع، وما نزال في أساليب غثة، حتى نوفي على آخر الكتاب، فإذا صاحبه يؤلف مقامات كلها مأخوذة من مقامات الحريري بألفاظها، ومعانيها وأساليبها، ونحن لا نتلومه، كما تلوم هو سري الدين بن الصائغ "لمكاتبات معسولة الألفاظ مدنسة المعاني، جربت بينه وبين ابن نجيم، وأكثرها من رسالة ابن زيدون منحولة المباني"2، فإن هذه كانت طاقة العصر، إذ لم يعد هناك مجال للتجديد والابتكار، فالقوم يعيشون على التقليد، واجترار أعمال السابقين، فإن هم تركوا هذا الاجترار، والتقليد لم نكد نجد لهم شيئًا قيما يمكن أن نعنى به، فقد جمدت الكتابة الفنية بمصر جمودًا، بل قل لقد تحجرت تحجرًا، إذ أجدبت الحياة الفنية، وأصبحت مواتًا خالصًا، أو ما يشبه الموات، ولم يعد من الممكن أن تعود لها النضرة، أو تدب فيها الحركة، إلا إذا تضافرت جهود هائلة، تخرج من عالمها الكئيب المظلم إلى عالم جديد مشرق، فيه نور، وفيه حياة، وفيه بعث وأمل، وابتسام.
1 ريحانة الألباء طبع الآستانة ص4.
2 ريحانة الألباء ص281.