الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
ما جعل المأمون يقول له، وقد قرأ كتبه في الإمامة:"قد كان بعض من نرتضي عقله، ونصدق خبره، خبرنا عن هذه الكتب بإحكام الصنعة، وكثرة الفائدة، فقلت له: قد تربي الصفة على العيان، فلما رأيتها رأيت العيان قد أربى على الصفة، فلما فليتها أربى الفلي على العيان كما أربى العيان على الصفة"1، ونحن مهما وصفنا من عقل الجاحظ، وما يشفع به كتابته من تلاوينه وتحاسينه، فإن ذلك لن يكون شيئا بجانب ما يحسه القارئ له حين يتصفح أعماله، ويقف على مدى استعانته بالعقل في تأليفها وصوغها، والحق أن هذا عمل أوسع من أن نحيط به في صفحات معدودة، وغاية ما يمكننا هو أن نجمل هذا الصنيع في أن الجاحظ كان يدمج إدماجا بديعا بين التلوين الصوتي، والتلوين العقلي في آثاره، فإذا هي تصور طرافة التفكير في أعلى صورة، كما تصور طرافة الصوت، وما ينساق مع هذه الطرافة من تكرار، وترداد كان يستعين بهما دائما على تدبيج أساليبه وتحبيرها، وإنهما ليتجليان دائما في كل ما يملى، ويكتب كما يتجلى جمال التفكير، وجمال التعبير.
1 البيان والتبيين 3/ 374.
8-
رسالة التربيع والتدوير:
ونحن نقف عند رسالة للجاحظ تجمع بين دفتيها محاسن التفكير الدقيق، والتعبير الأنيق، وهي رسالة أنشأها في هجاء أحمد بن عبد الوهاب أحد أصحاب محمد بن عبد الملك الزيات1، وقد وصفه بأنه من بجيلة، ومن أصحاب صالح بن علي، وسليمان بن وهب، وندماء جعفر الخياط2، وقال: إنه من الرافضة المشبهة3، ونعته بأنه "يعد أسماء الكتب ولا يفهم معانيها، ويحسد العلماء من غير أن يتعلق فيهم بسبب، وليس
1 أغاني "طبع الساسي" 21/ 32.
2 رسائل الجاحظ "طبع الساسي" ص 100.
3 رسائل الجاحظ ص142.
في يده من جميع الآداب إلا الانتحال لاسم الأدب1". وذكر أنه كان يخاشنه ويطاوله2، ومن أجل هذه المخاشنة والمطاولة، وما ركب فيه من الحسد ألف له هذه الرسالة يسأله فيها عن بعض معارف عصره المشكلة سواء في المنطق والفسلفة، أم في الكيمياء والصنعة، أم في الإنسان والحيوان، أم في تاريخ العرب وتاريخ غيرهم من الأمم، وهو ينهى هذه الأسئلة الكثيرة التي امتدت في خمسين صحيفة من القطع الكبير بقوله: "وقد سألتك، وإن كنت أعلم أنك لا تحسن من هذا قليلًا ولا كثيرًا، فإن أردت أن تعرف حق هذه المسائل وباطنها، وما فيها خرافة وما فيها محال، وما فيها صحيح وما فيها فاسد، فألزم نفسك قراءة كتبي ولزوم بابي3، وحقًا إن من يتصفح الرسالة يجد أن كثيرًا مما عرض له الجاحظ فيها ذكره في حويانه، ولعل في هذا ما يدل على أنها ألفت بعد كتاب الحيوان: أي في أوقات مرضه وعلته، ويشهد لذلك أننا نجده ينحي على أحمد بن عبد الوهاب باللائمة على ما يدعيه من علم بالحيوان، وأنه يعرف في الخفاش سبعين أعجوبة4، وأيضًا فقد تحدث فيها عن ابن الزيات الذي قدم له كتاب الحيوان بصيغة الماضي5، مما يدل على أن عهده كان قد انقضى حين كتابة هذه الرسالة، والمسألة لا تحتاج كل هذا الاستنتاج؛ لأن الرسالة مبنية على سنة الاستطراد التي عرفناها للجاحظ، والتي زعمنا أنها جاءت في الغالب نتيجة لعلته وعجزه عن ترتيب كتبه ورسائله التي ألفها حينئذ، وهو يستهلها على هذا النمط6:
"كان أحمد بن عبد الوهاب مفرط القصر، ويدعي أنه مفرد الطول، وكان مربعًا وتحسبه لسعة جفرته7 واستفاضة خاصرته مدورًا، وكان جعد الأطراف قصير الأصابع، وهو في ذلك يدعي السباطة والرشاقة، وأنه عتيق الوجه،
1 رسائل الجاحظ ص83.
2 نفس المصدر ص95.
3 نفس المصدر ص142.
4 نفس المصدر ص140.
5 نفس المصدر ص190.
6 ارجع إلى الرسالة بأكملها في نفس المصدر السابق، وفي طبعتها الأخيرة بتحقيق شارل بلات.
7 الجفرة: جوف الصدر.
أخمص1 البطن، معتدل القامة، تام العظم، وكان طويل الظهر، قصير عظم الفخذ، وهو مع قصر ساقه يدعي أنه طويل الباد2، رفيع العماد، عادي القامة، عظيم الهامة، قد أعطي البسيط في الجسم، والسعة في العلم، وكان كبير السن متقادم الميلاد، وهو يدعي أنه معتدل الشباب حديث الميلاد".
ونحن منذ هذه السطور الأولى للرسالة نحسن أننا بإزاء فن جديد في الهجاء يستعين فيه صاحبه بضروب من المفارقات، فأحمد بن عبد الوهاب مفرط القصر، ويدعي أنه مفرط الطول، وهو مربع وتحسبه لسعة جوف صدره واستفاضة خاصرته مدورًا، ثم هو جعد الأطراف قصير الأصابع، ومع ذلك يدعي السباطة والرشاقة، وأيضًا فإنه طويل الظهر قصير عظم الفخذ، ويدعي أنه طويل الباد رفيع العماد، عادي القامة عظيم الهامة، وفي هذا كله مناقضات ومفارقات مختلفة، ومن هذه المناقضات، والمفارقات يستمد الجاحظ هجاءه لأحمد بن عبد الوهاب، وقد استطاع أن ينفذ من ذلك إلى تشويهه تشويهًا ربما كان يتفوق فيه على أصحاب فن التصوير الساخر "الكاريكاتوري" في العصر الحديث، إذ نراهم يشوهون الأجسام بطرق مختلفة، عمادها بعض الحقائق المادية فيها، وإنهم ليتعلقون بهذه الحقائق: يكبرونها، ويستمدون منها ما يشاءون من هزل وسخرية، وكذلك كان الجاحظ في تلك الرسالة هجاء ساخرًا يعتمد على جسم أحمد بن عبد الوهاب، وما يسمه من قصر، وتبعج ليستخرج ما يريد من هزله، فهو تارة صاحب أصابع قصيرة جعدة كأصابع الحيوان، وتارة هو طويل الظهر "قصير عظم الفخذ، وهو لا يكتفي بتشويه جسمه، بل نراه يعمد أيضًا إلى تشويه عقله بواسطة ما يعرض من أسئلة يهزأ به فيها، كما يهزأ بتفكيره، وكل ما يتصل به، وهو يستعين على ذلك كله بفكرة الطول، والقصر والتربيع، والتدوير يستمد منهما كل ما يمكن من مفارقات ومناقضات، فتارة يدعي له الطويل في الباطن، وتارة ثانية يصفة بالقصر، وتارة ثالثة ينفيهما عنه، ويدعي له التربيع والتدوير، ساخرًا من جمسه وشكله.
1 أخمص: ضامر.
2 الباد: باطن الفخذ.
في هذا ما يجعلنا نفهم لماذا سميت الرسالة باسم رسالة التربيع والتدوير، فقد بناها الجاحظ على هذه الفكرة التي نؤمن بأنه استعارها من فكرة الأوساط اليونانية المعروفة في الأخلاق، لكن بعد أن حورها، وعدلها على هذا النحو، فإذا هي لا تثار في الأخلاق، وإنما تثار في الأجسام، وفي هجاء أحمد بن عبد الوهاب، وقد كان الجاحظ يعجب إعجابًا شديدًا بهذه الفكرة، وذكرها مرارًا في كتبه ورسائلة، بل ذكرها في هذه الرسالة نفسها، إذ يقول لابن عبد الوهاب:"اعلم أن الحسد اسم لما فضل عن المنافسة؛ كما أن الجبن اسم لما فضل عن التوقي، والبخل اسم لما قصر عن الاقتصاد، والسرف ما جاوز الجود، وأنت -جعلت فداك- لا تعرف هذا، ولو أدخلتك الكور1، ونفخت عليك إلى يوم ينفخ في الصور"، وما من ريب في أن الجاحظ عبر عن طرافة مدهشة، حين استطاع أن يستغل هذه النظرية اليونانية في تعبيره الفني هذا الاستغلال القيم، فإذا به يخرجها من دوائرها الفلسفية إلى دوائره هو الفنية، مستعينًا على ذلك بمجاميع من الأخطاء، وبما يمتاز به من مرونة في الجدل والحوار، والسفسطة وما يطوى في ذلك من ضروب تناقض وتقابل، واستمع إليه يعرض ابن عبد الوهاب على هذه الفكرة فيقول:
"وبعد فأنت -أبقاك الله- في يدك قياس لا ينكسر، وجواب لا ينقطع، ولك حد لا يفل، وغرب لا ينثني، وهو قياسك الذي إليه تنسب، ومذهبك الذي إليه تذهب: أن تقول: وما علي أن يراني الناس عريضًا، وأكون في حكمهم غليظًا، وأنا لك مع طول الباد راكبًا طو الظهر جالسًا، ولكن بينهم فيك -إذا قمت- اختلاف، وعليك لهم -إذا اضطجعت- مسائل، ومن غريب ما أعطيت، وبديع ما أوتيت أنا لم نر مقدودًا واسع الجفرة غيرك، ولا رشيقًا مستفيض الحاضرة سواك، فأنت المدير، وأنت البسيط، وأنت الطويل، وأنت المتقارب، فيا شعرًا جمع الأعاريض، ويا شخصًا جمع
1 الكور: مجمرة الحداد.
الاستدارة والطول! بل ما يهمك من أقاويلهم، ويتعاظمك من اختلافهم، والراسخون في العلم، والناطقون بالفهم يعلمون أن استفاضة عرضك قد أدخلت الضيم على ارتفاع سمكك، وأن ما ذهب منك عرضًا قد استغرق ما ذهب منك طولًا، ولئن اختلفوا في طولك لقد اتفقوا في عرضك، وإذ قد سلموا لك بالرغم شطرًا، ومنعوك بالظلم شطرًا، فقد حصلت ما سلموا، وأنت على دعواك فيما لم يسلموا! ولعمري إن العيون لتخطئ وإن الحواس لتكذب، وما الحكم القاطع إلا للذهن، وما الاستبانة الصحيحة إلا للعقل إذ كان زمامًا على الأعضاء، وعيارًا على الحواس.. ولم لم يكن فيك من العجب إلا أنك أول من تعبده الله بالصبر على خطأ الحس، وبالشكر على صواب الذهن، لقد كنت في طولك آية للسابلين، وفي عرضك مارًا للمضلين، وقد تظلم المربوع مثلي من الطويل مثل محمد، ومن القصير مثل أحمد
…
والمربوع -بحمد الله- اعتدلت أجزاوه في الحقيقة كما اعتدلت في المنظر، فقد استغنى بعز الحقيقة عن الاعتذار، وبحكم الظاهر عن الاعتلال! وقد سمعنا من يذم الطوال كما سمعنا من يزري على القصار، ولم نسمع أحدًا ذم المربوع ولا أزرى عليه، ولا وقف عنده ولا شك فيه
…
وبعد فما يحوجك إلى هذا، وما يدعوك إليه، وأشباهك من القصار كثيرًن ومن ينصرك منهم غير قليل، وقد رأيتك زمانًا تحتج بالنعمان بن المنذر وبضمرة.. وبرجال ناهيك بهم رجالًا، وبأعلام كفاك بهم أعلامًا، ورأيتك تقول: إن كان الفضل في النكاية وفي الشجة والصلابة، فصغار كل شيء أشد ضررًا وأدق مدخلًا، وأظهر قوة وجلدًا، كالحجارة أصلبها الحصى، وكالحيات أقتلها الأفعى، وقلت: إن كان الفضل في العدد فمنا يأجوج ومأجوج، ومنا الذر والفراش، ومن الدعاميص والبعوض والرمل، والتراب وقطر السحاب".
وعلى هذا النحو يسوق الجاحظ حديثه في الرسالة متلاعبًا بفكرة الطول والقصر، وما ينبغي أن يكون من التوسط بين الطرفين، وإنه ليتسع بالحوار والجدل في ذلك اتساعًا شديدًا، فإذا هو يقف تارة في جانب القصر يحتج له، وتارة يقف في جانب الاعتدال، وقد يقف في جانب الطول، يدلي في كل
جانب بالحجج والبراهين كأنه يناقش مسألة علمية دقيقة هذه المناقشة دائمًا إلى فكرة التربيع، والأخذ به لا يخرج مهجوه عن حدود الاعتدال إلى حدود التقصير أو التبذير، وكأني بالجاحظ أحال أحمد بن عبد الوهاب إلى مشكلة من مشاكل الاعتزال، أو قل إلى مشكلة من مشاكل الفلسفة، إذ نراه يحقق فيه مسألة التوسط بين الطرفين تحقيقًا دقيقًا، وهو تحقيق يطوي كل ما يريد من سخرية به، وتهكم عليه إذ يتناوله مرة بالطول ومرة بالعرض، وهو في أثناء تناوله يمده تارة، ويقصره تارة أخرى، وتارة ثالثة يبعجه في مناظر تستخرد منا الضجم على ما يصنع بصاحبه من تشويه، وانظر إليه يحتج لطرفي الطول والقصر، فيقول:
"وقلت: والناس وإن قالوا في الحسن: كأنه طاقة ريحان، وكأنه خوط1 بان، وكأنه قضيب خيزران، وكأنه غصن بان، وكأنه رمح رديني، وكأنه صفيحة يمانية، وكأنه سيف هندواني، وكأنها جان، وكأنها جدل عنان2، فقد قالوا: كانه المشتري3، وكأن وجهه دينار هرقلي، وما هو إلا البحر، وما هو إلا الغيث، وكأنه الشمس، وكأنها دارة القمر، وكأنها الزهرة، وكأنها درة، وكأنها غمامة، وكأنها مهاة، فقد تراهم وصفوا المستدير العريض بأكثر مما وصفوا به القضيف4 والطويل. وقلت: وجدنا الأفلاك وما فيها، والأرض وما عليها، على التدوير دون التطويل، وكذلك الورق والتمر والحب والثمر والشجر، وقلت: والرمح إن طال، فإن التدوير عليه أغلب؛ لأن التدوير قائم فيه موصولًا ومفصلًا؛ والطول لا يوجد فيه إلا موصولا، وكذلك الإنسان وجميع الحيوان، وقلت: ولا يوجد التربيع إلا في المصنوع دون المخلوق، وفيما كره على تركيبه دون ما خلي وسوم5 وطبيعته، وعلى أن كل مربع ففي جوفه مدور، فقد بان المدور بفضله، وشارك المطول في حصته، ومن العجب أنك تزعم أنك طويل في الحقيقة، ثم تحتج للاستدارة والعرض، فقد أضربت عما عند الله صفحًا، ولهجت بما عند الناس".
1 الحوط: الغصن الناعم. البان: شجر.
2 جدل عنان: أي مفتولة فتل العنان، وهو زمام الدابة كناية عن أنها مجدولة الخلق طويلة.
3 المشتري: كوكب.
4 القضيف: الضامر.
5 سوم: ترك.
أرأيت إلى هذا الاحتجاج؟ إنه من أهم سمات الجاحظ في كل ما يؤلف، ويكتب ويملي إذ نرى عقله دائمًا مشغوفًا بالأدلة يسوقها على ما يقوله في هذا النحو البديع من الجدل والبحث، ألا تراه يحاول أن يتتبع الشعراء والأدباء في نعتهم للأشياء بالحسن، والجمال ليرى هل ما يضيفون إليه هاتين الصفتين من باب القصار، أو هو من باب الطوال، أو هو منهما جميعًا؟ والجاحظ لا يكتفي بذلك في احتجاجه وجدله، إذ نراه يعمد إلى المغالطة عن طريق الرمح؛ لأنه أجزاء موصول بعضها ببعض، وإذن فالتدوير عليه أغلب! ليس الرمح طويلًا، وإن تراءى ذلك في الظاهر، إنما هو مدور، أما ما قد يبدو من طوله فغير صحيح؛ لأنه يخالف الحقيقة التي تطوى وراءه، وكذلك قصر أحمد بن عبد الوهاب غير صحيح؛ لأنه يخالف الطول الذي يطوى خلفه، وينبغي أن لا نحكم بالظاهر، بل ينبغي أن نحكم بالباطن، وما وراء الظاهر!
وإذا فليس بين أيدينا حقيقة يمكن أن نطمئن إليها، وكل آرائنا التي نكونها عن بعض الأشياء، وأنها طويلة أو قصيرة قابلة للنقض في رأي الجاحظ، كي يرضى ابن عبد الوهاب، ويمده بأسباب من الوقل للاحتجاج على طوله المستتر وراء قصره، وهذا هو معنى أنه يلهج بما عند الناس ويترك ما عند الله، وما من ريب في أن الجاحظ وصل إلى هذا كله عن طريق المغالطة، التي يسوقها في الرمح إذ يقول: إنه يبدو طويلًا، وهو في حقيقة الأمر قصير، أو هو كما يقول الجاحظ مدور، وذلك لسبب بسيط، وهو أنه يتألف من مدورات! وعلى هذا النحو ينتهي الجاحظ إلى أن كل مربع فهو في جوفه مدور، وأوضح أنه يعتمد في ذلك كله على السفسطة، وهو ينفذ منها إلى عرض صاحبه على فكرة القبح والحسن، فإذا هو يصفه بالقبح تارة، وما يلبث أن يصفه بالحسن تارة أخرى، وجاء في ذلك بطرف لا تحصى على شاكلة قوله:
"ولو لم يكن لك إلا أنا لا نستطيع أن نقول في الجملة، وعند الوصف والمدحة: هو أحسن من القمر، وأضوأ من الشمس وأبهى من الغيث، وأنا لا نستطيع أن نقول في التفاريق: كأنه عنقه إبريق فضة، وكأن قدمه لسان حية، وكأن عينه
ماوية1، وكأن بطنه قبطية2، وكأن لسانه ورقة، وكأن أنفه حد سيف، وكأن حاجبة خط بقلم، وكأنه لونه الذهب، وكأن عوارضه البرد، وكأنه فاه خاتم؛ وكأن جبينه هلال ولهو أطهر من الماء، وأرق طباعًا من الهواء، ولهو أمضى من السيل، وأهدى من النجم، لكان في ذلك البرهان النير، والدليل البين، وكيف لا يكون كذلك وأنت الغاية في كل فضل، والنهاية في كل شكل، وأما قول الشاعر:
يزيدك وجهه حسنًا
…
إذا ما زدته نظرًا
وقول الدمشقيين: "ما تأملنا قط تأليف مسجدنا، وتركيب محرابنا وقبة مصلانا إلا أثار لنا التأمل، واستخرج لنا التفرس غرائب حسن لم نعرفها، وعجائب صنعة لم نقف عليها، وما ندري أجوهر مقطعاته أكرم في الجواهر، أم تنضيد أجزائه في تنضيدات الأجزاء". فإن ذلك معنى مسروق مني في وصفك، ومأخوذ من كتبي في مدحك.. ومن يطمع في عيبك، بل من يطمع في قدرك، وكيف وقد أصبحت وما على ظهرها خود3 إلا وهي تتعثَّر باسمك، ولا قينة إلا وهي تغني بمدحك، ولا فتاة إلا وهي تشكو تباريح حبك، ولا محجوبة إلا وهي تثقب الخروق لممرك، ولا عجوز إلا وهي تدعو لك، ولا غيور إلا وقد شقى بك، فكم من كبد حرى منضجة ومصدوعة مفرثة4، وكم من حشا خافق وقلب هائم، وكم من عين ساهرة وأخرى جاهدة، وأخرى باكية، وكم من عبرى مولهة، وفتاة معذبة -قد أقرح قلبها الحزن، وأجهد عينها الكمد- قد استبدلت بالحلى العطلة، وبالأنس الوحشة، وبالتكحيل المرة5 فأصحبت والهة مبهوته، وهائمة مجهودة بعد طرف ناصع، وسن ضاحك، وشكل ساحر، وبعد أن كانت نارًا تتوقد، وشعلة تتوهج
…
وما ندري في أي الحالين أجمل، وفي أي المنزلتين أنت أكمل: إذا فرقنانك أو إذا جمعناك، وإذا ذركرنا كلك، أو إذا تأملنا بعضك، فأما
1 ماوية: مرآة.
2 قبطية: ثياب كذانت تصنع بمصر من نسيج الكتان الرفيع.
3 الحود: الشابة الجميلة.
4 مفرثة: مشقوقة.
5 المره: عدم التكحيل وتقرح الجفون.
كفك فهي التي لم تخلف إلا للتقبيل والتوقيع، وهي التي يحسن بحسنها كل ما اتصل بها، ويختال بها كل ما صار فيها، وكما أصبحنا وما ندري آلكأس في يدك أحسن، أم القلم، أم الرمح الذي تحمله، أم المخصرة، أم العنان الذي تمسكه، أم السوط الذي تعلقه؟ وكما أصحبنا وما ندري أي الأمور المتصلة برأسك أحسن، وأيها أجمل وأشكل، آللمة، أم خط اللحية، أم الإكليل، أم العصابة، أم التاج، أم العمامة، أم القناع، أم القلنسوة؟ فأما قدمك فهي التي يعلم الجاهل كما يعلم العامل، ويعلم البعيد الأقصى كما يعلم القريب الأدنى، أنها لم تخلق إلا لمنبر ثغر عظيم أو ركاب طرف كريم، وأما فوك فهو الذي لا ندري أي الذي تتفوه به أحسن، وأي الذي يبدو منه أجمل، آلحديث، أم الشعر، أم الاحتجاج، أم الأمر والنهي، أم التعليم والوصف؟.. وقد علمنا أن القمر هو الذي يضرب به الأمثال، ويشبه به أهل الجمال، وهو مع ذلك يبدو ضئيلًا نضوًا، ومعوجًا شختا1، وأنت أبدًا قمر بدر فخم غمر، ثم هو مع ذلك يحترق في السرار2، ويتشاءم به في المحاق، ويكون نحسًا كما يكون سعدًا، ويكون نفعًا، كما يكون ضرًا
…
وأنت دائم اليمن ظاهر السعادة، ثابت الكمال، شائع النفع، تكسو من أعراه، وتكن من أشحبه، وعلى أنه قد محق حسنه المحاق، وشأنه الكلف3، وليس بذي توقد ولا اشتعال، ولا خالص البياض، ولا بمتلألئ، ويعلوه القيم، ويكسوه ظل الأرض، ثم لا يعتريه ذلك إلا عند كماله، وليلة فخره واحتفاله، وكثيرًا ما يعتريه الصغار من بخار البحار، وأنت ظاهر التمام، دائم الكمال، سليم الجوهر، كريم العنصر، ناري التوقد، هوائي الذهن، دري اللون، روحاني البدن، وعلى أن ضياءه مستعار من الشمس وضياءك عارية عند جميع الخلق
…
فكم بين المعير والمستعير، والمتبين والمتحير، وبين العالم ومن لا حسن فيه، لا زالت الأرض بك مشرقة، والدنيا معمورة،
1 شختا: ضامرًا، نضوا: مهزولا.
2 السرار: الليالي التي يختفي فيها القمر فلا يرى.
3 الكلف: ما يعتري القمر من حمرة الخسوف. والمحاق: آخر الشهر أو ثلاث ليال من آخره.
ومجالس الخير مأهولة ونسيم الهواء طيبًا، وتراب الأرض عبقًا".
والحق أن الجاحظ بلغ من سخريته بابن عبد الوهاب ما لم يبلغه كاتب، ولا شتعر في اللغة العربية من سخريته بشخص من الأشخاص، والطريف أنه يصل إلى ذلك لا عن طريق السب، والشتم، والقذف، وإنما عن طريق ما يسوقه من تهكم وسخرية لاذعة بصاحبه، فإذا هو يحتكم معه إلى نظرية الأوساط اليونانية يستمد منها متناقضاته، كما يحتكم إلى قبحه، وما يضفيه عليه من هذا الحسن الحادث، ليستخرج كل ما يمكن من مفارقات فيه، وإنه يستعين على ذلك بضروب من الجدل والاحتجاج والحوار، كما يستعين عليه بضروب من السفسطة، والمغالظة، والمقابلة بين الحقائق بعضها وبعض، أو المقابلة بينه وبين أشياء أخرى على نحو ما يصنع به في هذه القطعة من المقابلة بينه، وبين القمر هذه المقابلة الساخرة الطريفة، التي يبعث فيها به ما شاء له هواه، وهو عبث يستخرجه من التناقض بين قبحه الحقيقي، وحسنه الذي ادعاه له، كما يستخرجه من قصره، وما ادعاه له من طول وتربيع، ومعنى ذلك أن الجاحظ بنى رسالته على فن المفارقة، هذا الفن الذي رشحت له نظرية الأوساط اليونانية عنده، وقد أخذ يضم إلى ذلك ضميمات أخرى من أسئلته الكثيرة، حتى تتم له سخريته من صاحبه، وغن هذه الأسئلة لتشغل الجزء الأكبر من رسالته، وانظر إليه يقول:
"يا قعيد الفلك كيف أمسيت؟ ويا قوة الهيولا كيف أصبحت؟ حدثني كيف رأيت الطوفان، ومتى كان سيل العرم، ومذ كم مات عوج؟ ومتى تبلبلت الألسن؟ وما حبس غراب نوح؟ وكم لبثتم في السفينة؟ ومذ كم ظهرت الجبال ونضب الماء عن النجف؟ وأي هذه الأودية أقدم: أنهر بلخ أم النيل أم الفرات أم دجلة أم جيحان أم سيحان؟.. وخبرني عن هرمس أهو إدريس؟ وعن أرميا أهو الخضر؟ وعن يحيى بن زكريا أهو إيليا؟ وعن ذي القرنين أهو الإسكندر؟.. وخبرني عن قحطان ألعابر هو أم لإسماعيل؟ وعن قضاعة ألمعد بن عدنان أم لملك من حمير؟ وما القول في هاروت وماروت؟ وما عداوة بين الديك والغراب؟.. وخبرني عن بحار نيطس، وعن قبيس وعن الأصم وعن
المظلم وعن جبل الماس وعن قاف، وأين كنت عام الجحاف؟ وأين كان ملك الأزد من ملك الأشكان؟ وأين كانا من ملك بني ساسان؟ وأين كان أبرويز من أنوشروان؟ وخبرني عن الفراعنة أهم من نسل العمالقة؟ وعن العمالقة أهم من قوم عاد؟
…
وخبرني كيف كان أصل الماء في ابتدائه في أول ما أفرغ في إنائه، أكان بحرًا أجاجًا استحال عذبًا زلالا، أم كان زلالا عذبا استحال بحرًا؟
…
وكيف طمع -جعلت فداك- الدهري في مسألة البيضة والدجاجة مع تقادم ميلادك، ومرور الأشياء على بدنك وكيف كان بدء أمر البد في الهند، وعبادة الأصنام في الأمم؟ وخبرني عن عنقاء مغرب، وما أبوها وما أمها؟ وهل خلقت وحدها، أم من ذكر وأنثى؟ ولم جعلوها عقيما وجعلوها أنثى؟
…
وفيك أمران غريبان وشاهدان بديعان: جواز الكون والفساد عليك، وتعاور النقصان والزيادة إياك، جوهرك فلكي وتركيبك أرضي، ففيك طول البقاء، ومعك دليل الفناء، فأنت علة للمتضاد وسبب للمتنافي، جعلت فداك قد شاهدت الإنس مذ خلقوا، ورأيت لجن قبل أن يحتجوا
…
وشهدت العلل وهي تولد، والأسباب وهي تصنع
…
خبرني ما السحر، وما الطلسم؟ وما صداقة ما بين الخنفساء والعقرب؟ ولم ملح الحمض؟ ولم طوقت الحمامة؟ وما بدال السواد يصبغ، ولا ينصبغ والبياض ينصبغ، ولا يصبغ؟ وخبرني ما جرى بيك، وبين هرمس في طبيعة الفلك وعن سماعك من أفلاطون، وما دار في ذلك بينك وبين أرسطاطاليس.. وخبرني أني كان إقليدس من فيثاغورس؟ وأين تلامذته من تلامذته؟ ومن صاحب الشطرنج؟ ومن صاحب كليلة ودمنة؟ ولولا أنك -جعلت فداك- مسئول في كل زمان، والغاية في كل دهر لما أفردتك بهذا الكتاب، ولما أطمعت نفسي في الجواب، ولكنك قد كنت أذنت في مثلها لهرمس، ثم لأفلاطون ثم لأرسطاطاليس ثم أجبت معبدًا الجهني، وغيلان الدمشقي وعمرو بن عبيد، وواصل بن عطاء وإبراهيم بن سيار "النظام"، وعلي بن خالد الأسواري، فتربية كفك والناشئ تحت جناحك أحق بذلك وأولى، وقد كان يجب أن تكون على ذلك أحرص وبه وأعنى.. وزعم بعض تلاميذك أنك تعلم لم كان الفرس لا طحال لها، ولم صار البعير لا مرارة له، ولم كانت السمكة لا رئة لها
…
ولم قيل: أعق من ضب
وأبر من هرة، وهما جميعًا يأكلان أولادهما، ولم عال الذئب أولاد الضبع إذا قتلت أو ماتت؟ ولم نامت الأرنب مفتوحة العينين؟ ولم أكل الذئب صاحبه إذا رأى به دمًا؟.. ولم زعمت أن عمر نوح أطول الأعمار مع قولك: إن جميع الأنبياء قد حذرت من الدجال، وأن الدجال إنسان؟! ".
ويحاول الجاحظ بهذه الأسئلة، وأمثالها أن يقمع مراء أحمد بن عبد الوهاب ويظهر جهله وتمويهه، وهو يخرجها هذا الإخراج الفكه الذي احتال عليه بمناقضاته، وخاصة بما كان من تربيع ابن عبد الوهاب وتدويره، وقبحه وجماله، وما من ريب في أنه بلغ من ذلك كل ما كان يريد من سخرية بصاحبه، ونحن لا نبعد إذا جعلنا الجاحظ إمام الهجائين في العصر العباسي، إذ استطاع أن يلعب لعبًا واسعًا بما كان من قصر مهجوه وضيق عقله، والطريف أنه أخرج ذلك كله مخرج الجدل والحوار، ومسح عليه بالسفسطة والمغالطة، وهذا اللسان الذي فتقته الفلسفة، وهذا البيان الذي شحذته الثقافة، وهو يعرض ذلك كله عرض محدث لبق، ما يزال يخرج من باب إلى باب ومن فكرة إلى فكرة، وهي طريقة عامة في كتابات الجاحظ بعد مرضه، إذ تبدو في شكل إملاءات ومحاضرات، وهي لذلك تتصف بالتكرار والترداد، والاستطراد كما تتصف بالسمات الأخرى، التي تميزه من تقطيع صوتي بديع، وتلوين عقلي طريف، وهو ينزلق إلى ذلك كله في الرسالة التي بين أيدينا -عن طريق فكرة الأوساط فإذا زاد الجسم طولًا، أو نقص قصرًا، أو اتسع عرضًا، أصابته مساوئ الإفراط والتفريط، واستطاع الجاحظ أن يمثل بصاحبه، وأن يشوهه ما استطاع من تمثيل وتشويه، ونراه يعرض ذلك كله في معارض بيانية ممتازة تجعلنا نؤمن بأنه تفوق في صنعته على جميع كتاب عصره، إذ كان يؤصلها على التلوين العقلي من طرف، والتلوين الصوتي من طرف آخر، فإذا أساليبه تنهض بهذه الثروة العقلية الباهرة، تلك الموسيقى الرصينة الرائعة، والحق أن الجاحظ استطاع أن يدمج إدماجًا حسنًا بين ثقافته، وأسلوبه، وأن يخرج من ذلك إلى هذه الصنعة الجاحظية البديعة التي تقوم على التجانس بين اللفظ الموسيقي الرشيق، والمعنى العقلي الدقيق، تجانسًا يمتع العقل والفكر، كما يمتع الحس والشعور.