الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
3-
التصنيع ودواوين الإمارات الفارسية:
إذا تركنا عصر المقتدر طلع علينا عصر جديد هو عصر الإمارات، التي تقسمت فيما بينهما إيران وخراسان، ونقصد إمارة السامانيين، الذين امتد نفوذهم في خراسان، وما روءا النهر من سنة 261هـ إلى سنة 389هـ، ثم إمارة البويهيين الذين بسطوا نفوذهم على الولايات الجنوبية الغربية من إيران، كما بسطوه على العراق، وبغداد نفسها إذ كانت الخليفة ألعوبة في أيديهم، وقد استمر سلطانهم من سنة 321هـ إ لى سنة 447هـ. وبجانب هاتين الإمارتين الكبيرتين كانت توجد إمارتان صغيرتان: إحداهما في خوارزم، والثانية في طبرستان، وجرجان حيث أسرة الزياريين، ثم تظهر الدولة الغزنوية في أواخر القرن الرابع، فتستولي على ما كان بيد السامانيين، والغزنويون يرجعون إلى أصل تركي بينما يرجع السامانيون، والبويهيون والزياريون إلى أصول فارسية، وأسس الغزنويون لهم أول الأمر إمارة في أفغانستان، ثم توسعوا فاستولوا على إمارة السامانيين.
وقد هيأت هذه الإمارات، والدول المختلفة لحركة أدبية وعقلية واسعة، بحيث يمكن أن يعد هذا العصر -على الرغم مما كان فيه من انقسام الدولة العباسية على هذا النحو- أحفل العصور العربية بالنشاط الأدبي، والعلمي، والفلسفي.
ويكفي أنه ظهر في هذا العصر أشهر فلاسفة الإسلام، وعلمائه من مثل ابن
سينا الذي خدم في بلاط السامانيين، والبيروني الذي خدم أولًا في بلاط ملوك خوارزم، ثم خدم في بلاط ملوك الدولة الغزنوية.
على أن الجانب العقلي لا يهمنا، إنما يهمنا الجانتب الأدبي، وما لقي الأدب حينئذ من تشجيع ورواج، والغريب أن الحياة الأدبية ازدهرت في هذا العصر ازدهارًا لم تعرف في أي عصر سابق، إذ كان كل حاكم في إمارة من هذه الإمارات السابقة، يختار في حاشيته جماعة من الأدباء الممتازين لينافس بهم حكام الإمارات، والدول الأخرى، وبذلك ظهر في كل مركز من مراكز هذه الإمارات حركة أدبية، أو قل سوقًا أدبية، وساعد على ذلك أن هؤلاء الحكام استوزروا كبار الأدباء في أقاليمهم، ومن ثَمَّ أصبحنا نسمع في كل إمارة باسم أديب بل باسم أدباء ممتازين يلون شئونها، ويشرفون على مرافقها، فعند السامانيين نجد العميد والد ابن العميد الكاتب المشهور، كما نجد الإسكافي الكاتب المعروف، ونجد أيضا أسرة بني ميكال النيسابورية، وقد ولي كثير منها دواوين السامانيين، وعند البويهيين نجد ابن العميد كما نجد الصاحب بن عباد، وهما أهم كتاب العصر، وفي الدولة الزيارية نجد أميرًا من أمرائها يشتهر بالكتابة، وهو قابوس بن وشمكير، ولم يقف هذا الامتياز للأدباء، وصلتهم بالحكام عند أصحاب الإمارات الكبيرة، فقد كان بعض حكام البلدان الصغيرة يتخذون كتابًا مشهورين، مثل البستي كاتب أمير مدينة بست في أفغاسنتان، ثم كاتب الدولة الغرنوية، وإن الإنسان ليخل إليه أم كل حاكم في مدينة، أو مقاطعة بإيران لم يعد يشغله إلا أن يجمع حوله بطانة من الكتاب تعيش في بلاطه، ويكفي للدلالة على اعتداد الحكام بالكتاب أن نجدهم في بغداد يستخدمون على ديوان الرسائل كاتبًا صابئًا ليس من المسلمين، هو أبو إسحاق الصابي لما عرف من بلاغته، ومهارته البيانية، وما يدل على ما كان للكتابة الجيدة في هذا العصر من شأن حتى في السياسة نفسها، ما رواه صاحب اليتيمة من أن ابن العميد "كتب رسالة إلى ابن بلكا عند استعصائه على ركن الدولة وخروجه عليه، فلما قرأه ابن بلكا رجع وأناب، وقال: لقد ناب كتاب
ابن العميد عن الكتاب في عرك أديمي واستطلاحي، وردي إلى طاعة صاحبه"1.
وهذه القصة تدل على قيمة الكتب المحبرة في القرن الرابع، وأنها كانت تقوم مقام الجيوش في الظفر بالأعداء، ولذلك اهتم كل أمير بوزرائه وكتابه، واهتم الوزراء والكتاب أنفسهم بصناعة كتبهم وتحبيرها، وإدخال كل ما يمكن من ضروب التصنيع، والتجميل عليها، وقد كانت حياتهم تؤهل لذلك، إذ كانت تقوم على التصنيع والتنميق، يقول بعض الشعراء في هجاء كتاب الدولة السامانية2:
أكتاب ديوان الرسائل ما لكم
…
تجملتم بل متم بالتجمل
وكذلك كان كتاب الدول البويهية يتأنقون ويتصنعون في حياتهم، وكان الصاحب بن عباد خاصة يعجب بالخز، ويأمر بالاستكثار منه على خدمه وغلمانه، فكانوا يبدون في الخزوز الفاخرة الملونة3، وغير كتاب السامانيين والبويهيين كانوا يتأنقون تأنقهم، ولا غرابة فهم يعيشون في قصور هؤلاء الحكام، والأمراء معيشة مترفة تقوم على التصنيع والتنميق، ولذلك كان طبيعيًا أن يسقط هذا الجانب الذي يتصل بحياتهم إلى أدبهم وفنهم، بحيث أصبح التصنيع أساسيًا في كل ما تنتجه هذه القصور، ومن يعيشون فيها من هؤلاء الكتاب والأدباء.
ومهما يكن، فإن الإمارات الفارسية هيأت لنهضة أدبية واسعة، وقد اقترنت هذه النهضة بمذهب التصنيع، ولعل من الطريف أن نذكر هنا أن كل إمارة من هذه الإمارات، اشتهرت بمراكز مختلفة للنهضة الأدبية، ففي الإمارة السامانية نجد نيسابور التي أخرجت الثعالبي، كما نجد بخارى العاصمة التي "كانت مثابة المجد، وكعبة الملك، ومجمع أفراد الزمان ومطلع نجوم أدباء الأرض، وموسم فضلاء العصر"4. وفي الإمارة البويهية نجد همذان التي أخرجت بديع الزمان،
1 اليتيمة "طبعة الصاوي" 3/ 147.
2 اليتيمة 4/ 74.
3 اليتيمة 3/ 171.
4 اليتيمة 4/ 95.
وأصبهان التي أخرجت الصاحب بن عباد، والتي يقول فيها صاحب اليتيمة:
"لم تزل أصبهان مخصوصة من بين البلدان بإخرادج فضلاء الأدباء، وفحولة الكتاب والشعراء"1، كما نجد الري دار عضد الدولة البويهي، ومستقر ابن العميد.
وأخرجت خوارزم لهذا العصر أبا بكر الخورزمي الكاتب المشهور، كما أخرجت طبرستان قابوس بن وشمكير، ولعل من الطريف أن الثعالبي في اليتيمة لم يبن كلامه على أدباء هذه العصر حسب الإمارات، بل بناه حسب المدن والبلدان، على أن هذا لا يجعلنا ننسى ما كان من تشجيع الأمراء، والحكام للحركات الأدبية في هذه المراكز، وخاصة بني بويه، إذ كان كثير منهم أدباء، وقد فتح لهم الثعالبي في يتيمته فصولًا لاستعراض هذا الجانب فيهم2.
والحق أن أمراء الدول الإيرانية عامة شجعوا -بكل وسيلة تمكنهم- الأدباء والكتاب، ومن الظواهر المهمة التي اقترنت بهاذا العصر أننا نجد الأدباء ينتقلون من بلاط إلى بلاط يرفعون كتبهم، ومؤلفاتهم إلى الملوك والأمراء، على نحو ما لاحظ براون في كتابه "تاريخ الفرس الأدبي"، إذ ذكر في الثعالبي ألف كتاب "لطائف المعارف" للصاحب بن عباد "والمبهج" و"التمثل والمحاضرة" لشمس المعالي قابوس بن وشمكير، و"سحر البلاغة" و"فقه اللغة" للأمير أبي الفضل الميكالي، و"النهاية في الكناية" و"نثر النظم" و"اللطائف والظرائف" لمأمون بن مأمون أمير خوارزم3.
وهؤلاء الأمراء والملوك لم يكرموا فقط من كانوا يرحلون إليهم، بل كانوا يكرمون أيضًا أبناء أقاليمهم من فقهاء، وشعراء وأدباء، ولغويين وفلاسفة، ولذلك كنت تجد حول قصر طائفة من الشعراء والأدباء والعلماء، ولعل مما يدل على مدى حرص هؤلاء الأمراء على العلماء، والأدباء ما رواه براون عن السلطان محمود الغزنوي، من أنه علم أن في بلاط ملك خوارزم طائفة من العلماء، والفلاسفة مثل ابن سينا، والبيروني وأبي سهل المسيحي، وأبي الخير الحسن بن الخمار وأبي نصر بن العراق، فكتب إليه أن يبعثهم حتى يشرفوا بحضرته، ويفيد هو من ثقافتهم ومهارتهم،
1 اليتيمة 3/ 267.
2 اليتيمة 2/ 195 وما بعدها.
3 E. C. Browne، A Litreary History of pcrsia، 1928 vol ll، p. 101.