الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
7-
الحصكفي وتعقيده:
وإذا كنا قد القينا في القرن الخامس بالحريري، فإننا نلتقي في القرن السادس بالحصكفي، وهو يحيى بن سلامة خطيب ميافارقين "نشأ بحصن "كسيفا"، وقدم بغداد، واشتغل بالأدب على الخطيب، أبي زكريا البريزي، وأتقنه حتى مهر فيه
…
ثم رحل عن بغداد راجعًا إلى بلاده، ونزل ميافارقين واستوطنها، وتولى بها الخطابة
…
وكان يتشيع، وهو في شعره ظاهر، وتوفي سنة 551هـ، وكانت ولادته في حدود سنة ستين وأربعمائة"1، وتلمذة الحصكفي للتبريزي، تجعلنا نلاحظ أنه اتصل بمدرسة أبي العلاء، فقد كان التبريزي تلميذًا لأبي العلاء، وعنه لقف الأدب الحصكفي، ومعنى ذلك أنه تلميذ غير مباشر لأبي العلاء، ولذلك لم يكن غريبًا أن يتأثر به في كل ما كتب، فهو يستن بسننه، إذ يعني بتعقيد آثاره، وهو تعقيد كان يعتبر الدليل الأول في تلك العصور على مهارة الكاتب، وبلاغته.
ومن يقرأ ما كتبه العماد الأصبهاني عنه في الخريدة، يجده يشيد به وبطريقته الفنية إشادة عظيمة، إذ يقول في مقدمة ترجمته:"علامة الزمان في علمه، ومعري العصر في نثره ونظمه، بل فضل المعري بفضله وفهمه، وبذ الحريري برقة طبعه، وقوة سجعه، وجودة شعره، وغزارة أدبه، وانفراده، بأسلوبه في الشعر ومذهبه. له الترصيع البديع، والتجنيس النفيس، والتطبيق والتحقيق، واللفظ الجزل الدقيق، والمعنى السهل العميق، والتقسيم المستقيم، والفضل السائر المقيم، والمذهب المذهب، والقول المهذب، والفهم الشهم، والفكر البكر، والقافية الشافية، كأنها العافية، والمعيشة الصافية، والروي الروي، والزند الوري والخاطر الجري، الجامع في الوزن، بين در الحزن ودر المزن، تود الشعرى لو أنها شعار شعره، والنثرة أنها نثار نثره، والزهرة أنها كوكب سمائه، والمشتري أنه مشتري ثنائه، غنيت الغانيات عن قلائدهن بفرائده، وأحبت الخصور أن توشح عوض مناطقها بدر منطقه، وحسدت عيون الغواني عيون معانيه، غبطت أحداق الحسان أحداث محاسنه، وحدائق قوافيه ما فارق ميافارقين، بل كان منزله محط رحال المسترشدين"2، وفي دار الكتب قطعة مخطوطة من نثر الحصكفي وشعره، ومن ينظر فيها يحس العلاقة الوثيقة بينه، وبين أبي العلاء، ويهمنا هنا أن نعرض لنثره وهو ينساق جملة في جريقة أبي العلاء، وحتى ما عند أبي العلاء من تشاؤم نجده عند الحصكفي، وقد أهل له تشيعه، كما أهلت له
1 وفيات الأعيان 20/ 237 ونظر معجم الأدباء 20/ 18.
2 الخريدة: "قسم شعراء الشام، طبع المجمع العلمي العربي بدمشق" 2/ 472.
وظيفة الخطابة، وما تجر إليه من وعظ ديني، ومع ذلك فله شعر في الخمر، وربما صنعه من باب التقليد، ومن شعره الطريف قصيدة كتب به إلى كمال الدين الشهرزوري بالموصل، بدأها بقوله:
أداروا الهوى صرفا فغادرهم صرعى
…
فلما صحوا من سكرهم شربوا الدمعا
وأول رسالة تلقانا من مجموعة الحصكفي، المخطوطة رسالة سماها الكدرية أرسلها إلى أصدقائه بآمد، وقد كتبها على لسان قطاتين تتناجيان، وفيها إغراب أبي العلاء وبعد إشارته، وله رسالة طويلة كتبها على لسان قصار، وصياد لمداعبة بعض أصدقائه، ويقول العماد: إنها "مقامة مصنوعة مجنسة"1. ولعل أهم ما يلاحظ في كتابة الحصكفي أنها مليئة بالجناس، وهو لا يكتفي بالجناس الطبيعي، بل يجنح إلى الجناس الصناعي الملفق الذي تستخدم فيه الصور المعقدة، واستمع إليه في إحدى رسائله2:
"النفس بعقود التذرع حالية، ولقعود التعذر حايلة، ومن الودائع المعجزة مالية، وإلى الدواعي المزعجة مايلة، وفي بحار الحمدراسية، وإلى رحاب المدح سارية، تجمح إلى مواصلة القمر، وتحجم عن مصاولة القرم، لتكف بأظفار الأمل، وتفك من أظفار الألم، فهل كامل يعني، ومالك يعين، ومقتصد يدني ومتصدق يدين، فالرغبة إلى الشهب، من الغربة في الشبه، رغبة من قصد بالإلهام، مواقع السحاب إلهام".
أرأيت إلى هذه العبارات، التي تتتابع في إحدى رسائل الحصكفي على هذا النحو، فإذا كل كلمة في السجعة الأولى تعود في السجعة الثانية، ولكن مع شيء من القلب، والعكس في هيئتها وصورتها، فإذا "عقود" في السجعة الأولى تصبح "قعود" في السجعة الثانية، وإذا "التذرع" تصبح "التعذر"، و"حالية" تصبح "حايلة"، وهكذا السجعات التالية تشتق كل كلمة في العبارة التالية من
1 الخريدة "قسم شعراء الشام" 2/ 515.
2 انظر رسائل الحصكفي "نسخة مخطوطة بدار الكتب" ورقة 19، وانظر الخريدة "قسم شعراء الشام" 2/ 497.
كلمة في العبارة السابقة، وهذه هي مهارة الحصكفي، التي أشاد بها العماد الأصبهاني، فهو يستطيع أن يعقد كتابته على هذا النحو، فإذا هي تتحول إلى لعب، وهي لعب كانت تستهوي الأدباء في عصر الحصكفي استهواء شديدًا، ولعل ذلك ما جعله يكثر من الجناسات على اختلاف ألوانها في كتبه، كقوله من رسالة أخرى1:
"فآنس أجمالًا تزم، وأحمالا تضم، وأحوالا تهول، وأهوالا تحول، وأوجالا تصول، وأصوالا تجول، وسمع تنادر القطان بمفارقة الأوطان، وتثويب الداع، بوشك الوداع، وللحداة زجل، وعلى القوم عجل، وقد بنيت القباب، وحثت الركاب، وفي الخدور أشباه البدور، وتحت الأكلة، أمثال الأهلة، وأيدي النوى لاعبة، وغربانه ناعبة، والحي قد طرق، والصواع قد سرق، وضمن مؤذن العير، لمن جاء به حمل بعير؛ يا له من عامري، يئس من عام ري".
وأنت ترى في هذه القطعة ضروب الجناس المختلفة من ناقص، ومعكوس ومقطوع، وموصول، وكل ذلك كان يأتي به الحصكفي ليثبت تفوقه، ومهارته، وأنه يستطيع أن يستخرد كل ما يمكن من عقد التصنع وصعوباته، وكان الناس من حوله يعجبون بهذا التصنع إعجابًا شديدًا، ويظهر أنه كان يتأثر بالحريري كما كان يتأثر بالمعري، إذ نراه يقلده في صنع رسالة سينية2 كسينيته، التي مرت بنا، وأيضًا فإنه صنع رسالة ألفها من الحروف المهملة3 على نحو ما أشرنا إليه عند الحريري في خطبته، التي ألفها من حروف غير منقوطة، وليس ذلك كل ما نلاحظ عند الحصكفي من تأثر بالحريري، فإن في رسالته رسالة فقهية4، قلد فيها المقامة الفقهية عند الحريري، وهي التي تسمى المقامة الطبية، وبجانب ذلك نجده يؤلف مقامة كبيرة، وقد افتخر بأنه ذكر فيها مائة وأربعين كلمة غريبة5، وما من ريب في أن ذلك كله يدل على مدى ما كان يحاوله الحصكفي من تعقيد في رسائله وآثاره، هو تعقيد دفعه إلى أن يجمع كل هذه الظروف في أعماله، حتى يقع من معاصريه موقعًا بديعًا.
1 رسائل الحصكفي ورقة 21، والخريدة "قسم شعراء الشام" 2/ 498.
2 رسائل الحصكفي ورقة 65.
3 رسائل الحصكفي ورقة 73.
4 نفس المصدر ورقة 50.
5 نفس المصدر ورقة 107، وما بعدها.