الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
7-
الصنعة في الكتابة الأموية:
رأينا الكتابة في العصر الأموي تعالج موضوعات علمية وتاريخية، كما تعالج رسائل سياسية واجتماعية ودينية، وليس بين أيدينا وثائق صحيحة تصور كيف كانوا يعالجون مسائل العلم والتاريخ، وحقا مر بنا أنه طبع لعبيد بين شرية كتاب في أخبار اليمن كما طبع لوهب بن منبه كتابه التيجان في ملوك حمير.
ولكن الكتابين جميعا مشكوك في صحة نسبتهما إليهما، وربما كان أصح منها وأونق ما احتفظ به الطبري في تاريخه الكبير. على أن من يرجع إلى ما رواه عن مؤرخي تلك الفترة يلاحظ أن الكتابة التاريخية كانت لا تزال في أول نشأتها، وأنها لم تتطور بالسرعة التي تطورت بها الرسائل السياسية والدينية.
ومن يقرأ ما أثر من رسائل سياسية لهذا العصر يستطيع أن يلاحظ في وضوح، أنها كانت تجري أول الأمر في الصورة التي كانت تجري فيها لعهد صدر الإسلام، فكاتبها أو ممليها لا يتأنق فيها، ولا يقصد إلى تفنن أو زخرف فني خاص، إنما يقصد إلى أداء غرضه في عبارة جزلة مصقولة يغلب عليها الإيجاز.
غير أننا لا نكاذ نتجاوز منتصف القرن الأول للهجرة، حتى تتكامل الرغبات للعناية بتلك الرسائل عناية توفر لها ضروبًا من التجويد والجمال الفني، وكأنما لم تعد الغاية أن تؤدي أغراضها فحسب، بل أضيف إلى ذلك غاية أخرى أن تروع القارئين، والسامعين بتحبيرها وتنميقها، وكأنها قطعة موسيقية أو لوحات تصويرية، ولم يقفوا بذلك عند ظاهرها، فقد أخذوا ينوعون في معانيها ويفرعون، ويطنبون صورا مختلفة من الإطناب، وسرعان ما نسمع أن عمرو بن نافع كتاب عبيد الله بن زياد، والي العراق "60-64هـ" كان يطيل في رسائله طولا شديدا1. وظاهرة الطول ظاهرة جديدة لم يكن يعرفها العرب في أدبهم إذ كانوا يوجزون قبل عصر عبيد الله بن زياد في شعرهم ونثرهم جميعا، أما منذ هذا العصر، فقد استمرت ظاهرة الإيجاز في الشعر، بينما حلت محلها ظاهرة معاكسة في النثر، وهي ظاهرة لا شك في أنها وليدة التطور العقلي الذي أصابه العرب، فإذا هم يستطيعون أن يبسطوا آراءهم السياسية، وأن يفضلوا في معانيها ضروبا مختلفة من التفصيل.
وإذا مضينا إلى عصر الحجاج، وأغفلنا النظر عن طول الرسائل السياسية، وما يطوى فيه من صنعة في بسط التعبير ومده، ونظرنا في الصياغة والأسلوب
1 تاريخ الطبري، القسم الثاني ص270.
لاحظنا أن بعض هذه الرسائل كان يعتمد على السجع، فكان الحجاج نفسه يسجع أحيانا كما كان يسجع بعض من يكاتبونه، ومن خير ما يصور ذلك رسالتان احتفظ بهما الجاحظ في بيانه، وهما يتبادلتان بينه، وبين قطري بن الفجاءة، وقد بنيتا على السجع الخالص1، وحقا نجد المختار الثقفي يسجع في رسائله2، ولكنه كان يبدوا شاذا بعض الشيء في هذا الاتجاه، أما في عصر الحجاج، فيظهر أن كثيرًا من الكتاب كان يبني كتابته عليه، ولعل مما يدل على ذلك أن نجد ابن الأشعث حين ثار على الحجاج، وأعد جيشا لحربه، يقول لكتابه ابن القرية:"إني أريد أن أكتب إلى الحجاج كتابا مسجعا أعرفه فيه سوء فعاله، وأبصره قبح سريرته"، ويصدع ابن القرية بأمره، ويرد عليه الحجاج برسالة مسجوعة أيضا3، وقد لا يسجع الكاتب، ولكنه لا يزال يفكر في طريقة يلفت بها القارئ والسامع، فقد حدثنا الرواة أن يزيد بن المهلب في أثناء بعض حروبه، فكر أن يكتب إلى الحجاج كتابًا، وكان يكتب له يحيى بن يعمر، وهو عربي، ومن أوائل من عنوا بوضع قواعد العربية4، فلما أمره يزيد بالكتابة إلى الحجاج، وأن يعلمه بما صنعوا في الحرب كتب إليه هذه الرسالة القصيرة5:
"إنا لقينا العدو، فمنحنا الله أكتافهم، فقتلنا طائفة وأسرنا طائفة، ولحقت طائفة برءوس الجبال وعرائر6 الأودية وأهضام7 الغيطان، وبتنا بعرعرة8 الجبل، وبات العدو بحضيضه".
ولما قرأ الحجاج الرسالة أعجب بها إعجابا شديدا، وأرسل إلى يحيى يطلبه على البريد، فما جاءه سأله: من أين لك هذه الفصاحة؟ وهي فصاحة
1 البيان والتبيين 2/ 310.
2 انظر الطبري في سنة 66هـ.
3 الأخبار الطوال الدينوري "طبع ليدن" ص323.
4 أخبار النحويين البصريين للسيرافي "طبعة كرنكو" ص22.
5 البيان والتبيين 1/ 377.
6 عرائر الأودية: أسافلها.
7 أهضام الغيطان: مداخلها.
8 عرعرة الجبل: أعلاه.
كانت تعتمد على اللفظ الغريب، ونحن لا نثني على الإغراب في الألفاظ، ولكنا نستدل من هذه الرسالة الموجزة على أن الكتاب في عصر الحجاج، كانوا لايزالون يفكرون في صنعة أساليبهم، فتارة يعمدون فيها إلى السجع، وتارة يعمدون فيها إلى الإغراب اللفظي، فالكاتب لا يفكر في أداء معانيه فحسب، بل يفكر في تنميقها، وتزيينها بضروب من الحلية، كل حسب ذوقه، وكان يحيى بن يعمر لغويا، وكان ذوقه ذوق لغويين، فعمد إلى ألفاظ غير مألوفة كي يروع الحجاج، ويملك عليه لبه، ونفذ فعلا إلى ما أراده، إذ كان لحجاج يمل أحيانا إلى التفاصح بالغريب، على نحو ما مر بنا في خطبته بالكوفة اليت بدأها بأرجاز تزخر باللفظ الحوشي.
ولم يكن الحجاج يعمد إلى السجع في كتبه وسائله دائما، بل لعل ذلك إنما كان في القلة وفي الحين بعد الحين، أما الكثرة فتخلو من السجع. وليس معنى هذا أنه كان يتخلص من محاولة التأنق والتنميق، فقد كان يسعى إلى تحقيق ذلك دائما، وكان يتخذ إليه الإغراب في اللفظ حينا، وحينا يتخذ ما سبق أن لاحظناه في خطابته من الصور والاستعارات الطريفة، ومن خير ما يصور ذلك عنده ما رواه الجاحظ في خاتمة بيانه من أنه كتب إلى عبد الملك بهذه الرسالة1:
"أما بعد فإنا نخبر أمير المؤمنين أنه لم يصب أرضنا وابل2 منذ كتبت أخبره عن سقيا الله إيانا، إلا ما بل وجه الأرض من الطش، والرش والرذاذ3، حتى دقعت4 الأرض واقشعرت5 واغبرت6، وثارت في نواحيها أعاصير تذرو7 دقائق الأرض من ترابها، وأمسك الفلاحون بأيديهم من شدة الأرض واعتزازها8، وامتناعها، وأرضنا أرض سريع تغيرها، وشيك تنكرها، سيئ ظن
1 البيان والتبيين 4/ 99.
2 وابل: مطر شديد.
3 الطش: المطر القليل: ونحوه الرش والرذاذ.
4 دقعت الأرض: أصبحت لا نبات فيها.
5 اقشعرت: تقبضت من الجدب.
6 اغبرت: من الغبار.
7 تذرو: تسفي وتحمل.
8 اعتزازها: امتناعها، أو لعله من العزاز، وهي الأرض الصلبة.
أهلها عند قحوط المطر، حتى أرسل الله بالقبول1 يوم الجمعة، فأثارت زبرجا2 متقطعا متمصرا3، ثم أعقبته الشمال4 يوم السبت، فطحطحت5 عنه جهامه6. وألفت متقطعة، وجمعت متمصره، حتى انتضد7، فاستوى، وطما وطحا8، وكان9 جونا10 مرثعنا11 قريبا رواعده، ثم عادت عوائده بوابل منهمل منسجل12، يردف13 بعضه بعضًا، كلما أردف شؤبوت أردفته شآبيب14 بشدة وقعة في العراض15. وكتبت إلى أمير المؤمنين، وهي ترمي بمثل قطع القطن، قد ملأ اليباب16، وسد الشعاب17، وسقى منها كل ساق، فالحمد لله أنزل غيثه، ونشر رحمته من بعدها قنطوا18، وهو الولي الحميد. والسلام".
وواضح أن هذه الرسالة ليست مسجوعة، ولكنها مع ذلك قد أحكمت صنعتها، سواء من حيث اختيار ألفاظها، والذهاب بها مذهب الغريب المقبول، أو من حيث دقتها في تصوير الجذب ثم نزول الغيث، وهو تصوير لا شك قد فكر فيه الحجاج طويلا، قبل أن يحكمه ويضبط التشبيهات، والاستعارات التي تمثله. وكأن شاعر يجمع أشتات خياله، ليؤلف هذه اللوحة البديعة.
ولم تبلغ صنعة الرسائل هذا المبلغ من الإتقان عند الحجاج وحده، فقد كان يشركه في ذلك معاصروه من الولاة والقواد وكتابهما، بل من الخلفاء
1 القبول: الريح الشرقية.
2 الزبرج: السحاب الرقيق الخفيف.
3 متمصرا: متقطعًا.
4 الشمال: الريح الشمالية.
5 طحطحت: فرقت وبددت.
6 الجهام: السحاب لا ماء فيه.
7 انتضد: تراكمت طبقاته بعضها فوق بعض.
8 طما: امتلأ وزخر، وطحا: انبسط وملأ الجو.
9 كان هنا بمعنى صار.
10 الجون: الأسود.
11 مرثعنا: مسترسلا سائلا.
12 منسجل: منصب.
13 يردف: يتبع.
14 الشآبيب: جمع شؤبوب، وهو الدفعة من المطر.
15 العراض: جمع عرض بضم العين، وهو الناحية.
16 اليباب: الخالي الذي لا شيء فيه.
17 الشعاب: المسالك والسبل.
18 قنطوا: يئسوا.
أنفسهم، فقد روى الجاحظ في بيانه رسالتين متبادلتين بين عبد الملك بن مروان، وعمرو بن سعيد بن العاص حين ثار عليه، وليستا مسجوعتين، ولكن أثر الصنعة والتأنق باد عليهما1، ومعنى ذلك كله أن الكتاب أصبحوا منذ هذه الحقبة من العصر يتفننون في رسائلهم، ويحاولون جاهدين أن تلمع عليها آثاره من الجمال الفني.
وإذا مضينا إلى أوائل القرن الثاني للهجرة، وإلى عصر هشام بن عبد الملك "104-124هـ"، وجدنا على رأس ديوانه مولى له يسمى سالما2 ينهض بكتابة هذه الرسائل السياسية نهضة واسعة، وكان يعرف اليونانية، وترجم منها بعض رسائل لأرسطاطاليس3، وعده صاحب الفهرست أحد البلغاء العشرة الأوَل في تاريخ العرب وأدبهم4، ويقول: إن له رسائل تبلغ نحو مائة ورقة5، غير أن هذه الرسائل لم تصلنا، ولولا أن الطبري احتفظ لنا برسالة كتبها عن هشام إلى خالد القسري6 لم نكد نعرف شيئا واضحا عن فنه وبيانه، ومن يرجع إليها يلاحظ أنه عني بأسلوبه عناية تشبه عناية الوعاظ من أمثال الحسن البصري بأسلوبهم، وما كانوا يوفرون له من الازدواج والترادف الصوتي، وكان يتكئ على الحال اتكاء شديدًا في صياغته.
وليس تحت أيدينا من النصوص ما نستطيع به أن نحكم على مدى التأثير اليوناني في كتابه سالم، وإن كان يظن أن هذا التأثير كان عميقًا، وقد تخرج عليه عبد الحميد أنه كتاب العصر وأشهرهم، وسنعرض له عما قليل، على أنه ينبغي أن نلاحظ هنا شيئا مهما، وهو أن التأثير الأجنبي في الكتابة العربية الفنية لم يدخل أول الأمر عن طريق الفهرس، وكاتبهم ابن المقفع، مما جعل بعض المستشرقين يزعم أنهم هم الذين أعاروا العرب هذا الفن النثري، بل لقد دخل كما نرى الآن عن طريق سالم الذي كان يحذق اليونانية، ولعل في ذلك ما يدل
1 البيان والتبيين 4/ 87.
2 الوزراء والكتاب للجهشياري ص62.
3 الفهرست ص171.
4 الفهرست ص182.
5 الفهرست ص171.
6 الطبري، القسم الثاني ص 1642.
على ما نذهب إليه من أن الكتابة الرسمية الفنية عند العرب لم تأتهم من الخارج، فقد نشأت في حجورهم بحكم حياتهم الإسلامية والسياسية الجديدة ومشاكلها المختلفة، فالأجانب لم يبتكروها لهم، بل كل ما هنالك أنهم أسهموا معهم فيها، وتأخر هذا الإسهام إلى أن أظهر سالم وأشباهه.
ولم تكن الرسائل السياسية وحدها هي التي يطرد لها النمو والازدهار، بل شاركتها في ذلك الرسائل الاجتماعية أو الشخصية، لسبب بسيط، وهو أن من كانوا يكتبونها كانوا يعيشون في تلك الحقب التي أخذ البلغاء يهتمون فيها بتنميق أساليبهم، وإبداعها ضروبا من البيان والفصاحة، ونسوق مثلا لها رسالة عبد الله بن معاوية بن عبد الله بن جعفر إلى رجل من إخوانه1:
"أما بعد فقد عاقني الشك في أمرك عن عزيمة الرأي فيك، ابتدأتني بلطف عن غير خبرة، ثم أعقبتني جفاء عن غير ذنب، فأطعمني أولك في إخائك، وأبأسني آخرك من وفائك، فلا أنا في اليوم مجمع لك اطراحًا، ولا أنا في غد وانتظاره منك على ثقة، فسبحان من لو شاء كشف بإيضاح الرأي في أمرك عن عزيمة فيك، فأقمنا على ائتلاف، أو افترقنا على اختلاف، والسلام".
والرسالة على قصرها يتضح فيها جهد كتابها في تحبيرها، فقد بناها على الطباق والمقابلة بين المعاني والألفاظ، والتوازن بين العبارات والكلمات الفصيحة ذات المخارج الحسنة، وكان شرعا بينا وخطيبا لسنا، فأضفى من لسنه وبيانه على رسالته.
وإذا تركنا الرسائل الاجتماعية الشخصية، والسياسية الرسمية إلى الرسائل الدينية والجدلية، وجدنا أصحابها هم أنفسهم أرباب البيان والبلاغة من الخطباء المفوهين أمثال الحسن البصري، وغيلان الدمشقي.
وكانت هذه الرسائل تستخدم الأسلوب المزدوج الذي أخذ بأطراف من التصوير والطباق، والذي سبق أن لاحظناه في خطابة الحسن البصري
1 البيان والتبيين 2/ 84-85، وزهر الآداب 1/ 78.
وأضرابه، ونسوق مثالين منه، أما أولهما فما كتب به الحسن إلى عمر بن عبد العزيز في صفة الإمام العادل، وهو يطرد على هذه الشاكلة1:
"اعلم يا أمير المؤمنين أن الله جعل الإمام العادل قوام كل مائل، وقصد كل جائر، وصلاح كل فاسد، وقوة كل ضعيف، ونصفه كل مظلوم، ومفزع كل ملهوف، والإمام العدل يا أمير المؤمنين كالراعي الشفيق على إبله، الرفيق بها، الذي يرتاد لها أطيب المراعي، ويذودها عن مراتع الهلكة ويحميها من السباع، ويكنفها من أذى الحر والقر2. والإمام العدل يا أمير المؤمنين كالأب الحاني على ولده، يسعى لهم صغارًا ويعلمهم كبارًا، يكتسب لهم في حياته، ويدخر لهم بعد مماته، والإمام العدل يا أمير المؤمنين كالأم الشفيقة البرة بولدها، حملته كراها، ووضعته كراها، وربته طفلا، تسهر بسهره، وتسكن بسكونه، ترضعه تارة، وتفطمه أخرى، وتفرح بعافيته، وتغتم بشكايته
…
".
وتحمل هذه القطعة من الرسالة كل الخصائص التي سبق أن تحدثنا عنها في خطابة الحسن، ففيها الازدواج والترادف الصوتي والتكرار، وفيها التقابل والطباق والتشبيهات، وغير ذلك من حلي بيانية، وقد مضى الحسن يقتبس فيها من آي الذكر الحكيم ما يصور به فكره ويوشي به تعبيره، أما المثال الثاني فنسوقه من رسائل غيلان الدمشقي، إذ يقول3:
"إن التراجع في المواعظ يوشك أن يذهب يومها، ويأتي يوم الصاخة4، كل الخلق يومئذ مصيخ5، يستمع ما يقال له ويقضى عليه "وخشعت الأصوات للرحمن، فلا تسمع إلا همسا"، فاصمت اليوم عما يصمتك يومئذ، وتعلم ذلك حتى تعلمه، وابتغه حتى تجده، وبادر قبل أن تفجأك دعوة
1 العقد الفريد 1/ 34.
2 القر: البرد.
3 عيون الأخبار 2/ 245.
4 يوم الصاخة: يوم القيامة.
5 مصيخ: مرهف أذنه وسمعه.