الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
5-
جمود النثر الأندلسي:
يذهب عصر ملوك الطوائف، وندخل منذ عام 484 للهجرة في عصر جديد هو عصر سلطان المغاربة، إذ فزع الأندلسيون في حروبهم مع المسيحيين إلى يوسف بن تاشفين، صاحب دولة المرابطين لينصرهم عليهم، فيذهب إليهم يرد عنهم كيد أعدائهم، ولكنه لا يتركهم، بل يدخلهم في حوزته، واستمرت الأندلس تابعة لدولته، حتى استولت عليها دولة الموحدين، وقد اشتهرت الدولة الأولى دولة المرابطين بالتعصب في مسائل الدين، وأصبح للفقهاء في عصرها شأن كبير، إذ كان لهم أثر واسع في دخول البلاد في هذا الحكم الجديد، وكان المرابطون لذلك يعتدون بهم، فهم عدتهم وعتادهم، ومن أجل ذلك سلموا لهم شئون الدولة، فاضطهدوا المتفلسفة، ورموهم بالزندقة وتعقبوهم في كل مكان. أما دولة الموحدين، فكان حكامها أوسع عقولًا وتفكيرًا، وقد اشتهر من بينهم أبو يعقوب يوسف بن عبد المؤمن "558-580هـ" بمحبة الفلسفة وأصحابها، وممن ظهر في عصر هذه الدولة ابن باجة، وابن رشد وابن طفيل، ونستمر حتى نلتقي في القرن السابع ببني هود، وكذلك ببني الأحمر أصحاب غرناطة.
واستطاعت الأندلس أن تتقدم في الحركة العقلية في أثناء تلك العصور،
ولكنها لم تستطع أن تتقدم في الحركة الأدبية، إذ استعلى الفقهاء أول الأمر في الحكومة، وأصبح الحكام يتخذون منهم كتابهم، فطبعوا النثر بطابعهم العلمي الجامد، وكانوا يسجعون في كتابتهم، ويحلون سجعهم بالتصنع لبعض المصطلحات العلمية، التي عرفوها في دراستهم، وهم من هذه الوجهة أقرب إلى ذوق أصحاب التصنع في المشرق من كتاب عصر ملوك الطوائف، ولعل مما يتصل بذلك أنهم تصنعوا في كتابتهم للبديع، وما يتصل به من طباق وجناس، وأخذوا يعممون السجع في الكتابة التاريخية، وخاصة تلك التي تتصل بالترجمة للأدباء، على نحو ما نجد في "الذخيرة" لابن بسام و"قلائد العقيان" و"مطمح الأنفس" لابن خاقان، وقد جنح لسان الدين بن الخطيب، إلى السجع في بعض جوانب من كتبه، وكذلك صنع المقري في "نفح الطيب" و"أزهار الرياض"، وكل هذه الأعمال يحس الإنسان فيها بضروب مختلفة من التلفيق، والتصنع واللف والدوران حول المعاني، والصور التي يجترها الأدباء اجترارًا، وقد سرت حينئذ ظاهرة مهمة، وهي التعبير بالأساليب المحفوظة، التي لا تفصح عن فكرة محدودة، وارجع إلى الذخيرة أو إلى مطمح الأنفس إلى قلائد العقيان، فسترى هناك مقدمات يقدم بها الأدباء لا تعبر عن معان واضحة، وإنما تعبر عن صور جامدة متبلورة، وهذا هو معنى ما نقوله من جمود النثر الأندلسي، وابحث ما شئت في هذه العصور، فلن تجد جديدًا ولا ما يشبه الجديد، إنما تجد أدبًا مكررًا معادًا، قد كررت أساليبه وأعيدت عباراته مئات المرات بل آلاف المرات، ولا جديد فيه إلا ما يتصنع له الكاتب من مصطلح علمي، أو لون بديعي، أو إشارة إلى مثل، أو استخدام لغريب، أو نحو ذلك مما كان يعد آية في هذه العصور على بلاغة الكاتب، ومهارتها الفنية، ونحن نقف قليلًا عند أهم كاتب ظهر في الأندلس لهذه العهود، ونقصد لسان الدين بن الخطيب لتنكشف لنا صورة الكتابة الفنية حينئذ انكشافًا تامًا.
لسان الدين بن الخطيب:
هو، أبو عبد الله محمد بن عبد الله بن سعيد الغرناطي، ولد عام 713 للهجرة، وهو من بيت عرف قديما ببني الوزير، وحديثًا ببني الخطيب1، وهو بيت اشتهر بالعلم والفقه والأدب والطب، وقد روى صاحب نفح الطيب لأبيه شعرًا منه قوله2:
الطب والشعر والكتابه
…
سماتنا في بني النجابه
وقد نسج لسان الدين على منوال أبيه، فكان "نفيس العدوتين، ورئيس الدولتين، بالإطلاع على العلوم العقلية، والإمتاع بالفهوم النقلية"3، وقد ذكره ابن خلدون، وهو معاصر له فقال:"قرأ وتأدب على مشيخة غرناطة، واختص بصحبة الحكيم المشهور يحيى بن هذيل، وأخذ عنه العلوم الفلسفية، وبرز في الطب، وانتحل الأدب، وأخذ عن أشياخه، وامتلأ حوض السلطان من نظمه ونثره مع انتقاء الجيد منه، ونبغ في الشعر والترسل بحيث لا يجارى فيهما، وامتدح السطان أبا الحجاج من ملوك بني الأحمر لعصره، وملأ الدنيا بمدائحه، وانتشرت في الآفاق، فرقاه السلطان إلى خدمته، وأثبته في ديوان الكتابة ببابه مرءوسًا بأبي الحسن بن الجياب شيخ العدوتين في النظم، والنثر وسائر العلوم الأدبية"4، فلما توفي ابن الجياب ورث رتبته من بعده5، وثم توفي أبو الحجاج فازدادت منزلته عند ابنه أبي عبد الله إلى أن نشبت ثورة أبعدت السلطان، عن عرشه، وقبض فيها على ابن الخطيب وصودرت أملاكه، ولكنه تخلص من ذلك بشفاعة السلطان أبي سالم المريني، صاحب المغرب ولحق بسيده أبي عبد الله هناك وصحبه في غربته، ولما رجع أبو عبد الله أخيرًا إلى عرشه في غرناطة، استدعاه وألقى إليه بمقاليد الملك والسياسة "وانفرد بالحل
1 نفح الطيب 3/ 3.
2 نفس المصدر 3/ 7.
3 نفح الطيب 3/ 334.
4 تاريخ ابن خلدون 7/ 332.
5 نفس المصدر 7/ 333.
والعقد، وانصرفت إليه الوجوه، وعلقت عليه الآمال، وغشي بابه الخاصة والكافة، وغصت به بطانة السلطان وحاشيته، فتوافقوا على السعاية فيه"1، وأحس لسان الدين بذلك، ففر إلى أبي فارس المريني وكان قد ملك تلمسان فأكرمه2، إلا أن رجال حاشيته سرعان ما أوغروا صدره عليه، إذ اتهموه بالزندقة، فألقى به في غياهب السجون ودس إليه من قتله عام 776، وبذلك انتهت حياته هذه النهاية الدامية.
وقد كان لسان الدين أبرع كاتب أخرجته الأندلس في عصورها الأخيرة، حتى قيل: إنه كاتب الأرض إلى يوم العرض، وخصص له المقري مجلدين من نفح الطيب عرض فيهما عرضًا واسعًا لأساتذته، وحياته السياسية والأدبية.
وإذا كان السان الدين لم ينجح في حياته السياسية، فقد نحج نجاحًا عظيما في حياته الأدبية، وهي حياة كانت منوعة، إذ لم يقف كتابته عند الرسائل الديوانية أو الشخصية، بل كتب كتبًا كبيرة في التاريخ والتصوف، والموسيقى والفقه والطب، وقد نهج لسان الدين في هذه الكتب نهج السجع، وإن كان لا يلتزمه دائمًا على نحو ما نعرف في كتابه "الإحاطة في أخبار غرناطة"، وهو مطبوع فإنه قلما يسجع فيه، ومن يرجع إلى رسائله يجدها تمتاز بالإطناب المسرف، وما يطوى في هذا الإطناب عادة من لف ودوران يجعلنا نذكر أصحاب التصنع في لمشرق، وإنه ليتسع بإطنابه حتى يفقد قارئه نشاطه؛ لأن منظر المعاني ينبسط أمام بصره انبساطًا يخرجها من حيز التنوع إلى حيز الاستمرار والإملال، وتنبه لذلك بعض السابقين فقال:"هو كاتب مترسل بليغ لولا ما في إنشائه من الإكثار، الذي لا يخلو من عثار، والإطناب، الذي يفضي إلى الاجتناب، والإسهاب، الذي يقد الإهاب"3، وليست ظاهرة الإطناب هي كل ما اقترضه في سجعه برسائله من أصحاب التصنع من المشارقة، بل تقترن بها ظاهرة أخرى معروفة لديهم، وهي ظاهرة التصنع لمصطلحات العلوم
1 تاريخ ابن خلدون 7/ 335.
2 أزهار الرياض "طبع لجنة التأليف" 1/ 193.
3 نفح الطيب 3/ 335.
وخاصة العلوم اللغوية، وحقًا إن ابن الخطيب لا يكثر منها، ولكنها موجودة -على كل حال- في نثره ورسائله، ونحن ننقل إلى القارئ صدر رسالة كتب بها عن سلطانه إلى خليفة الموحدين بالأندلس، وهي رسالة طويلة تقع في نحو عشرين صحيفة من القطع الكبير، وهو يستهلها على هذا النمط1:
"الخلافة التي ارتفع عن عقائد فضلها الأصيل القواعد الخلاف، واستقلت مباني فخرها الشائع، وعزها الذائع، على ما أسسه الأخلاف، ووجب لحقها الجازم وفرضها اللازم، الاعتراف، ووسعت الآملين لها الجوانب الرحيبة والأكناف، فامتزاجنا بعلائها المنيف، وولائها الشريف، كما امتزج الماء والسلاف، وثناؤنا على مجدها الكريم، وفضلها العميم، كما تأرجت الرياض الأفواف، لما زارها الغمام الوكاف، ودعاؤنا بطول بقائها، واتصال علائها، يسمو به إلى قرع أبواب السموات العلا الاستشراف، وحرصنا على توفية حقوقها العظيمة وفواضلها العميمة، لا تحصره الحدود، ولا تدركه الأوصاف، وإن عذر في التقصير عن نيل ذلك المرام الكبير، الحق والإنصاف".
واستمر لسان الدين في هذه المقدمة طويلًا، ونحن نكتفي بهذه القطعة منها؛ لأننا نستطيع أن نتبين فيها الصفات لبعض مصطلحات العلوم، إذ تصنع لألفاظ القواعد، والمباني والجزم والحدود، وليس ذلك كل ما تميزه في هذه القطعة، فهناك جانب لعله أهم، وأدخل في باب التصنع، وذلك أنه بنى سجعاته في هذه القطعة كلها على الفاء، ولكن تأمل في القطعة، فإنك تراه استخرج من كل سجعة سجعتين داخليتين، وما من شك في أن هذا ضرب جديد من التصعيب، وصل إليه لسان الدين؛ لأنه يريد أن يثبت تفوقه في عصره، فإذا هو لا يسجع سجعًا بسيطًا على طريقة الكتاب الأندلسيين من قبله، وإنما يسجع هذا السجع المركب إن صح هذا التعبير، واستمر معه في الرسالة فستراه يصف حصار
1 انظر الرسالة بأكملها في صبح الأعشى 6/ 536، وما بعدها.
سلطانه لقرطبة على هذا النحو:
"ثم تأهبنا لغزو أم القرى الكافرة، وخزائن المزاين الوافرة، وربة الشهرة السافرة والأنباء المسافرة، قرطبة، وما أدراك ما هيه، ذات الأرجاء الحلية الكاسية، والأطواد الراسخة، والمباني المباهية، والزهراء الزاهية، والمحاسن غير المتناهية، حيث هالة بدر السماء، قد استدارت من السور المشيد البناء ونهر المجرة، من نهرها الفياض، المسلول حسامه من غمود الغياض، قد لصق بها جارًا، وذلك الدولاب، المعتدل الانقلاب، قد استقام مدارًا، ورجع الحنين اشتياقًا إلى الحبيب الأول وادكارًا، حيث الطود كالتاج، يزدان بلجين العذب المجاج، فيزرى بتاج كسرى ودارا، حيث قسي الجسور المديرة، كأنها عوج المطي الغريرة، تعبر النهر قطارًا، حيث آثار العامري المجاهد، تعبق بين تلك المعاهد شذى معطارًا، حيث كرائم السحائب، تزور عرائس الرياض الحبائب، فتحمل لها من الدر نثار، حيث شمول الشمال تدار على الأدواح، بالغدو والرواح، فترى الغصون سكارى، وما هي بسكارى، حيث أيدي الافتتاح، تفتض من شقائق البطاح، أبكارًا، حيث ثغور الأقاح الباسم، تقبلها بالسحر زوار النواسم، فتخفق قلوب النجوم الغيارى، حيث المصلى العتيق قد رحب مجالًا وطال منارًا، وأزرى ببلاط الوليد احتقارًا، حيث الظهور المثارة بسلاح الفلاح تجب عن مثل أسنمة المهارى، والطبون كأنها -لتدميث الغمائم- بطون العذارى".
وأنت ترى لسان الدين في هذه القطعة، يلتزم لازمة السجع المركب التي لاحظناها في القطعة السابقة، وقد ظهرت هنا عليه آثار التكلف بأوسع مما ظهرت في القطعة السالفة؛ لأنه كان هناك بادئًا للرسالة، أما هنا فقد طال به النفس، فظهرت علامات التعب عليه، وكلمة التعب لا تكفي، فإن ما أداه في هذه القطعة لا تنهض به هذه الكلمة، وإنما تنهض به كلمة أخرى كالتصعيب أو التعقيد، والحق أن لسان الدين كان يسعى حثيثًا في أعماله إلى التمسك بأهداب مذهب التصنع، الذي شاعر في المشرق، وقد ذهب يقترح على الكتاب هذا
السجع المركب ليدل على مبلغ تفننه وجودة ترسله، وإنه ليضيف إلى ذلك تكلفًا واسعًا، لألوان البديع وزخارفه، وخاصة السجع والجناس:
وكانت يشغف -كما نرى في هذه القطعة- بالجناس الناقص، ولكن لا تظن أن هذا هو منهج لسان الدين الدائم، فقد كان الكاتب الأندلسي يتنقل بين المفاهيم المختلفة للمشارقة، ومن أجل ذلك كنت ترى عند لسان الدين رسائل كهذه الرسالة تندمج في ذوق أصحاب التصنع، وما تلبث أن ترى له رسائل أخرى تندمج في ذوق أصحاب التصنيع، وقد ينفر من الذوقين جميعًا، كما نرى في كتابه "الإحاطة"، وإذا فابن الخطيب لا يرتبط بمذهب معين من مذاهب المشرق، بل هو يتنقل بين هذه المذاهب، وإن كان أقرب مذهب إلى ذوقه وذوق عصره هو مذهب أصحاب التصنع، ولكن ذلك لا يمنع أن نجد عنده نماذج يحاكي بها أصحاب الصنعة والتصنيع، وهذا شيء لا يختص بلسان الدين ولا بنماذجه، بل هو عام في الأندلس لعصره وقبل عصره، فدائمًا نجد الكاتب الواحد تتوزعه مذاهب المشرق المختلفة، وغاية ما في الأمر أن الأندلسيين، كان يغلب عليهم في العصر الأموي ذوق أصحاب الصنعة، بينما كان يغلب عليهم في عصر ملوك الطوائف ذوق أصحاب التصنيع، أما بعد ذلك فقد غلب عليهم ذوق أصحاب التصنع، ومع ذلك فقد درسنا ابن شيهد، فوجدناه يتوزعه المذهبان الأولان، بينما كان ابن زيدون في عصر ساد فيه ذوق التصنيع، ومع ذلك، فقد رأيناه في بعض رسائله، ينحو نحو أصحاب التصنع من بعض الوجوه، وهذا لسان الدين ذوقه وذوق عصره تصنع، واندمج في التصنع، ومع ذلك فله رسائل تخلو من هذا التصنع، بل قد تخلو من التصنع والتصنيع جميعًا، وهذا نفسه هو ما نريد أن نصل إليه، وهو أن الكتاب في الأندلس، كانوا يخلطون في محاكاة المذاهب المشرقية ونماذجها، فلم يتقيد أحد منهم بمذهب معين من جهة، ولم يدرسوا مذاهب المشرق دراسة علمية منظمة من جهة أخرى، بحيث تتيح لهم هذه الدراسة أن يبتكروا مذهبًا أو يستحدثوا اتجاهًا، فقد كانوا جميعًا يعيشون في إطار المذاهب المشرقية معيشة، تجلعنا نزعم أن أصول هذه المذاهب، كانت أثبت وأروع في تاريخ النثر العربي من أن يصيبها الأقاليم المختلفة بتبديل، أو تغيير.