الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
أو يقبل بوجهه على من لا يجعله قبلته"، أو قوله: "هاجر يهجره، وأصر على صرمه، ومال إلى الملال، ولم يصل نار الوصال". وما نار الوصال هذه التي يريده أن يصلاها؟ إنها صورة غريبة، بل هي صورة شاذة نابية، ولكن قابوس لا يعني بما فيها من شذوذ، ونبو ما دامت تحقق ما يريد من جناس بين كلمة الوصال وكلمة أخرى، إلا فلتكن هذه الكلمة أي لفظة، ولتحو أي صورة، فإن ذلك لا يهم قابوس، ما دام يحقق له غاياته من جناساته.
وأكبر الظن أننا لا نبعد -بعد ذلك- إذا قلنا: إن صناعة قابوس كانت تقوم على التصنع، وما يطوى فيه من تعقيد وتعمل، إذ نراه يتعمل في حركات الكلمة، أو في حروفها ليحدث بعض جناسات بينها وبين غيرها، ثم هو لا يكتفي بذلك إذ نراه يعدل إلى تصعيب ممراته ليحدث جناساته اللفظية المقعدة، وكأنما كانت غاياته دائمًا هي التعصيب والتعقيد، وإنه ليركب إليهما طرقًا وعرة.
8-
ذيوع التصنع وانتشاره:
رأينا زخرف الجنتاس عند قابوس يتعقد تعقدًا شديدًا، ومن قبله رأينا الخوارزمي، وبديع الزمان يعقدان في فنهما ألوانًا من التعقيد، مما دفعنا إلى القول بأن عناصر من التصنع، أخذت تتسرب إلى آثار أصحاب مذهب التصنيع، وإن الإنسان ليخيل إليه، كأن كل شيء في الفن يريد أن يتعقد، ويتصعب، وليس هذا شيئًا غريبًا في تاريخ الحضارات، ولا في تاريخ الآداب في الأمم المختلفة، بل هو الشيء الطبيعي، إذ نرى الأمم حينما ترقى عقليا وحضاريًا تتحول من الأحوال الطبيعية في التعبير إلى أحوال جديدة، كلها تعقيد وتصعيب في الأداء والأسلوب، وقد حدث ذلك قديمًا عند اليوانان في القرنين الرابع، والخامس
للميلاد، إذ نرى شعراء الإسكندرية يحولون نماذجهم إلى مجاميع من التعقيدات، وكذلك كان الشأن عند العرب في أواخر القرن الرابع للهجرة، إذ نراهم ينالون قبل هذا التاريخ كل ما كانوا يصبون إليه من ترف عقلي وحضاري، حتى إذا بشموا رأيناهم يتحولون إلى تعقيدات مختلفة في حياتهم من جهة، وفي أدبهم من جهة أخرى، ولعل من أروع ما يصور ذلك الجانب في حياتهم ما يروى عن الوزير المهلبي، المتوفى عام 352هـ، من أنه كان "إذا أراد أكل شيء بملعقة كالأرز، واللبن وقف من جانبه الأيمن غلام معه نحو ثلاثين ملعقة زجاجًا مجرودًا، فيأخذ منه ملعقة يأكل بها من ذلك اللون لقمة واحدة، ثم يدفعها إلى غلام آخر قام في الجانب الأيسر، ثم يأخذ أخرى فيفعل بها فعل الأولى، حتى ينال الكفاية، لئلًا يعيد الملعقة إلى فيه دفعة ثانية"1، وحقًا إن الوزير المهلبي سبق ظهور مذهب التصنع في النثر بنحو نصف قرن، ولكنه على كل حال يرمز إلى لهذا الميل الجديد في الحضارة العربية، وأنها أخذت تتعقد على نحو تعقيد المهلبي لوسيلة طعامه، فإذا هو لا يأكل بمعلقة واحدة، وإنما يأكل بملاعق مختلفة!
وهذا التعقيد في الحضارة العربية أخذ يتسرب إلى الكتابة الفنية أول الأمر في شيء من الاستحياء، فإن الخوارزمي يفزع إلى مبالغاته، وتهويلاته كما يفزع إلى الإفراط في استخدام ألوان البديع، علة يشفي غلة من غلل التعقيد.
ثم يأتي من بعده بديع الزمان، فيتقدم خطوات في هذه الطريق، فإذا هو يعقد بعض وسائل التصنيع، وخاصة وسيلة الجناس، وإنه ليلجأ إلى وسيلة جديدة غير مفهومة هي اللفظ الغريب، وهو لا يكتفي بذلك، بل نراه يعمد إلى ما سماه الخوارزمي شعبذة، إذ كان يحاول أن يكتب كتابًا يقرأ من آخره إلى أوله، أو كتابًا لا يوجد فيه حرف منفصل مثل الراء، أو كتابًا خاليًا من الألف واللام، أو خاليًا من الحروف العواطل، أو أول سطوره كله ميم وآخرها جيم، إلى غير ذلك من ألاعيب كان يسوقها ليدل على مهارته، ومع ذلك فقد كان
1 معجم الأدباء 13/ 103.
بديع الزمان من أصحاب مذهب التصنيع، إذ كان يعمد إلى هذه الجوانب في القلة، ولم يكن يعممها في آثاره، بل هي تظهر في حين إلى حين، دالة على أننا أصبحنا داخل مرحلة التحول إلى المذهب الجديد، مذهب التصنع والتعقيد.
ونحن لا نترك البديع إلى قابوس، حتى نجده يخطو خطوة جديدة نحو مذهب التصنع، إذ نراه يعمد إلى التعقيد في كل ما يكتب، وقد اختار زخرف الجناس ليحدث فيه كل ما يستطيعه من هذا التعقيد، وما يطوي فيه من تصعيب، كان التصعيب شيء يقصد لذاته، وهذا هو الذي دفعنا إلى أن نسلكه في أصحاب التصنع، إذ كان يعنى في فنه بالتعقيد عناية جعلت هذا الفن أشبه ما يكون بالتمارين الهندسية، وإنها لتمارين يجد فيها كل ما يريد من متعة بالفن، فالفن عنده ليس إلا التصعيب والتعقيد، وقد أخذ هذا الذوق ينتشر في الفن منذ قابوس ورسائله، بل نحن نغلو إذا نسبنا إلى قابوس ابتكاره، فقد كان شعورًا عامًا في الحضارة العربية نفسها والحياة الفنية معها، وآية ذلك أننا لا نكاد نعثر على مجموعة من رسائل كاتب في هذا العصر، حتى نجد بها شيات من هذا التصنع، وقد استمر ذلك دأب الكتاب، حتى نفذ من بينهم بديع الزمان إلى كثير من سمات المذهب، ثم جاء قابوس فأضاف سمات أخرى، كما أضاف غيرهما من الكتاب بعض شارات وشيات، ومن يرجع إلى اليتيمة يجد صناعة الألغاز تدخل في النثر الكتابي1، وهي ضرب من ضروب التعقيد؛ كما يجد أداءة الجناس التي أخذت تتعقد تخصص له بعض الكتب، تتحدث عن أنواعها وأجناسها2، وأيضًا فإنهم كانوا يكثرون من ترصيع رسائلهم بالشعر، والأمثال والغريب؛ وكل ذلك كان دليلًا على وشك جموج الحياة الفنية في النثر العربي، وأنه أصبح لا مفر من أن يصل إلى حال غريبة من التعقيد.
ونحن لا نترك القرن الرابع قرن بديع الزمان، وقابوس وأضرابهما إلى القرن الخامس، حتى نجد هذا المذهب يعم في جميع كتابات الأدباء، فقد أصبح
1 اليتيمة 4/ 353.
2 اليتيمة 4/ 396.
هو البدع الجديد الذي يسعى إليه الكتاب، كي يطرفوا قراءهم بما يستحدثون من عقده، وقد بدأ هذا السعي أبو العلاء المعري بدءًا عنيفًا في آثاره، إذ كان يفهم الفن على أنه عقد خالصة، ثم جاء من بعده الحريري والحصكفي، فأضافا إلى ورق اللعب في قصة هذه العقد أوراقًا، وأدخلًا في أشكالها الهندسية أشكالًا، وسنفسر ذلك في الفصل التالي تفسيرًا دقيقًا.