الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
3-
النثر المصري:
إذا أخذنا نبحث عن وثائق الكتابة الأدبية في مصر في أثناء الفترة الأولى، ونقصد فترة الولاة من عمرو بن العاص إلى أحمد بن طولون، لم نكد نتبين شيئًا واضحًا، وليس معنى ذلك أنه لم يكن في مصر كتابة ولا كتاب، فالمقريزي يقول:"لما كانت مصر إمارة كان بها ديوان البريد، ويقال لمتوليه: صاحب البريد.. وهو الذي يطالع بأخبار مصر، كما كان لبعض أمراء مصر كتاب ينشئون عنهم الكتب والرسائل"1. وبجانب ديوان البريد الذي يشير إليه المقريزي كان بمصر ديوان للخراج، وكانوا يكتبون فيه أولًا باليونانية، ثم كتبوا فيه منذ عهد عبد الملك أو ابنه الوليد بالعربية، ومن يستعرض ما جاء في كتاب الوزراء والكتاب للجهيشاري، عن دواوين مصر وكتابها في العصر الأموي، وأوئل العصر العباسي يلاحظ أن الكتاب الرسميين، الذي يتصلون بديوان البريد، وديوان الخراج كانوا غالبًا من غير المصريين، فهو يروي أن عبد العزيز بن مروان والي مصر، كان يكتب له يناس بن خمايا من أهل الرها2، كما يروي أن سليمان بن عبد الملك، ولي رجلا من موالي معاوية الخراج بمصر3. هذا في العصر الأموي، أما في العصر العباسي، فيروي الجهشياري أن هارون الرشيد ولى على مصر عمر بن مهران كاتب الخيزران، فأخذ معه رجلًا استكتبه على الديوان4، وكذلك يروي أن الخصيب استكتب جابر بن داود جد البلاذري
1 خطط المقريزي طبع بولاق 2/ 226.
2 الوزراء والكتاب للجهشياري ص34.
3 نفس المصدر ص51.
4 الوزراء والكتاب ص217.
المؤرخ المشهور1، وهو فارسي الأصل، ولما ولي عبد الله بن طاهر مصر في عصر المأمون، اصطحب معه إسحاق بن أبي ربعي ليكون كاتبه، وفيه يقول بعض الشعراء2:
أرى كاتبًا جاه الكتابة بين
…
عليه وتأديب العراق منير
له حركات قد تشاهد أنه
…
عليم بتقسيط الخراج بصير
وقد سقنا ذلك لندل على أن مصر لم تستفد كثيرًا في عهد الولاة، من حيث النشاط الأدبي في باب الكتابة الرسمية، إذ كانت تستورد دواوينها من الخارج، ومن أجل ذلك لم يكن لها نشاط واضح في هذا الجانب، إلا ما رواه المقريزي من أنه كان لبعض أمرائها كتاب، ينشئون عنهم بعض الرسائل، ومن هؤلاء الكتاب عبد الله بن صالح، كاتب الليث بن سعد3، ولعل مما يتصل بذلك ما يقال: من أنه كان لعبد الحميد الكاتب عقب يسكنون مصر، منذ قتل في موقعة الزاب، وكانوا يكتبون لأمرائها4، على أنه ليس عندنا نصوص لهذه الطائفة من كتاب الأمراء، ولا للطائفة الأخرى من كتاب الولاة، ومن ثم كنا لا نبعد إذا قلنا: إن مصر لم تستولها صورة واضحة من الكتابة الفنية في عصر الولاة، غير أننا لا نصل إلى عصر ابن طولون، الذي استقل بها، وأسس فيها دولة كان لها شأن مهم في القرن الثالث للهجرة، حتى نجد مصر تبدأ عصرًا جديدًا في تاريخ النثر الأدبي، وذلك لسبب بسيط، وهو أن ابن طولون اتخذ لنفسه ديوان رسائل، وبذلك وجدت الوسيلة لنشوء حركة أدبية، تماثل ما نشأن في دمشق، وبغداد حول دواوين الرسائل، يقول صاحب صبح الأعشى:
"لم يكن لديوان الإنشاء بالديار المصرية في مدة نواب الخلفاء، صرف عناية تقاصرًا عن التشبه بديوان الخلافة، إذ كانت الخلافة يومئذ في غاية العز ورفعة السلطان، ونيابة مصر بل سائل النيابات مضمحلة في جانبها، والولايات الصادرة
1 الوزراء والكتاب ص256، والفهرست ص164.
2 النجوم الزاهرة 2/ 193.
3 الوزراء والكتاب ص54.
4 نفس المصدر ص82.
عن النواب في نياياتهم متصاغرة متضائلة بالنسبة إلى ما يصدر من أبواب الخلافة من الولايات، فلذلك لم يقع مما كتب منها ما تتوافر الدواعي على نقله، وتنصرف الهمم لتدوينه، مع تطاول الأيام وتوالي الليالي
…
ولما أخذ أحمد بن طولون في تدبير الملك، وإقامة السلطنة بالديار المصرية، وشمخ بها سلطانه، وارتفع بها شأنه، أخذ في ترتيب ديوان الإنشاء "ديون الرسائل" لما يحتاج إليه في المكاتبات والولايات، فاستكتب ابن عبد كان، فأقام منار ديوان الإنشاء ورفع مقداره"1، ولم يكتف ابن طولون بابن عبد كان، فقد جاء بجماعة من كتاب العراق تعاونه مثل أبي عبد الله الواسطي2، ويعقوب بن إسحاق3، وأحمد بن أيمن، وكان يكتب في حداثته للعباس بن خالد البرمكي4، وضم إلى هؤلاء الكتاب آخرين من كتاب مصر، وعلى رأسهم الحسن بن محمد بن أبي المهاجر، وإخوته علي وأبو القاسم وأبو عيسى، وكلهم من عقب عبد الحميد الكاتب5. وبذلك كله نهض ابن طولون بديوان الرسائل في مصر نهضة عظيمة، وهي نهضة جعلت بعض كتاب العراق، يهاجر إلى مصر طلبًا للتوظف في هذا الديوان، على نحو ما يحدثنا ياقوت عن إسحاق بن نصير6 الكاتب البغدادي، فقد قدم على ابن عبد كان رئيس الديوان، والتمس منه التصرف ولم يزل معه إلا أن توفي، فاستخلفه مكانه خمارويه، وأجرى عليه أربعمائة دينار في الشهر، ثم رفعها إلى ألف دينار7، ويذهب عصر الطولونيين، وتدخل مصر مرة أخرى في عصرة الولاة، فيضعف بها ديوان الإنشاء، ويستمر على ضعفه في عصر الإخشيديين، إذ لا نجد لمصر -على عهدهم- كاتبا مشهورًا يمكن أن نقرنه إلى ابن عبد، كان الذي كان يباهي به ابن طولون كُتَّاب بغداد
1 صبح الأعشى "طبع دار الكتب" 11/ 28.
2 المكافأة لأحمد بن يوسف طبعة "وزارة التربية والتعليم" ص20.
3 المكافأة ص56.
4 نفس المصدر ص91، 167.
5 الوزراء والكتاب ص82.
6 هكذا في ياقوت، وفي صبح الأعشى، وحسن المحاضرة والنجوم الزاهرة: نصر.
7 انظر معجم الأدباء 6/ 85.
والعراق، ونحن نقف عند هذا الكاتب وقفة قصيرة، لنطلع على ما كانت تخرجه مصر في عهده من نماذج الكتابة الفنية.
ابن عبد كان:
هو، أحمد بن محمد بن مودود1، وقد نال شهرة واسعة في عصره وبعد عصره، ولكن كتاب التراجم لم يهتموا به، وأغلب الظن أن ابن طولون اصطحبه معه من بغداد، فاسمه يدل على أنه فارسي، إذ الألف والنون تأتي في الفارسية القديمة للنسبة، بينما تأتي الكاف للتصغير، وإذًا فعبد كان تقابل في العربية عبيدي، وقد أحضره ابن طولون إلى مصر وبقي به حتى وفاته، ويظهر أنه توفي بعد سيده، إذ تتفق المصادر القديمة، على أن إسحاق بن نصير تولى ديوان الرسائل من بعده لخمارويه بن أحمد بن طولون2، وعرف ابن عبد كان بجودة أدبه وفنه، قال صاحب الفهرست:"كان بليغًا مترسلًا فصيحًا، وله ديوان رسائل كبير"3، ويقول ياقوت:"كان بليغًا أبو جعفر محمد بن عبد الله بن عبد كان على المكاتبات، والرسائل منذ أيام أحمد بن طولون، ومكاتباته وأجوبته موجودة"4، وقد أشاد به صاحب صبح الأعشى في غير موضع من كتابه، ومما قال فيه: إن أهل بغداد كانوا يحسدون أهل مصر على طبطب المحرر وابن عبد كان، ويقولون:"بمصر كاتب ومحرر ليس لأمير المؤمنين بمدينة السلام مثلهما"5. ومر بنا في غير هذا الموضع أن الصاحب بن عباد، سأل رجلًا من أهل الشام: رسائل من تقرأ عندكم؟ فقال: رسائل ابن عبد كان، قالي: ومن؟ قال: رسائل الصابي، وفي اقتران ابن عبد كان، وهو من كتاب القرن الثالث، بالصابي، وهو من كتاب القرن الرابع قرن
1 صبح الأعشى 1/ 95.
2 صبح الأعشى 1/ 95 والنجوم الزاهرة 7/ 336 وحسن المحاضرة للسيوطي "طبع مطبعة الموسوعات" 2/ 146.
3 الفهرست لابن النديم ص197.
4 معجم الأدباء 6/ 85.
5 صبح الأعشى 3/ 17.
التصنيع ما يجعلنا نقف -من بعض الوجوه- على مبلغ مكانته الأدبية، على أن للمسألة وجهًا آخر، وهو أن الناس في النصف الثاني من القرن الرابع، كانوا يعتدون بابن عبد كان، ورسائله مع أننا نعرف أنهم لم يكونوا لغير السجع والبديع في تلك العصور، وفي ذلك ما يجعلنا نحسن شيئًا من الصلة بين آثار ابن عبد كان، وآثار أصحاب التصنيع من أمثال الصابي، والمسألة لا تحتاج كل هذا الاستنتاج، فإن من يرجع إلى رسالته، التي كتبها عن ابن طولون إلى ابنه العباس، وكان قد شغب عليه بالإسكندرية أثناء رحلة له بالشام، وهي الرسالة التي احتفظت له به المصادر القديمة، يجده فيها يعني بالسجع عناية شديدة، وحقًا قد يتخفف منه، ولكنه يلتزمه في أكثر جوانب الرسالة، مما يجعلنا نؤمن بأنه كان يعتمد عليه اعتمادًا دقيقًا في صنع رسائله، وانظر إليه كيف يستهل تلك الرسالة1:
"من أحمد بن طولون، مولى أمير المؤمنين إلى الظالم لنفسه، العاصي لربه، الملم بذنبه، المفسد لكسبه، العادي لطوره، الجاهل لقدره، الناكص على عقبه، المركوس في فتنته، المبخوس من حظ دنيا وآخرته، سلام على كل منيب ومستجيب، نائب من قريب، قبل الأخذ بالكظم، وحلول الفوت والندم.. أما بعد فإن مثلك مثل البقرة تثير المدية بقرنيها، والنحلة يكون حتفها في جناحيها، وسلتعم هبلتك الهوابل -أيها الأحمق الجاهل، الذي ثنى على الغي عطفه، واغتر بضجاج المواكب خلفه- أي مورد هلكة بإذن الله، توردت إذ على الله عز وجل تمردت وشردت، فإن تبارك وتعالى قد ضرب لك في كتابه مثلًا:{قَرْيَةً كَانَتْ آَمِنَةً مُطْمَئِنَّةً يَأْتِيهَا رِزْقُهَا رَغَدًا مِنْ كُلِّ مَكَانٍ فَكَفَرَتْ بِأَنْعُمِ اللَّهِ فَأَذَاقَهَا اللَّهُ لِبَاسَ الْجُوعِ وَالْخَوْفِ بِمَا كَانُوا يَصْنَعُونَ} ، وإنا كنا نقربك إلينا، وننسبك إلى بيوتنا، طمعًا في إنابتك، وتأميلًا لفيئك، فلما طال في الغي انهماكك، وفي غمرة الجهل ارتباكك، ولم نر الموعظة تلين
1 صبح الأعشى 7/ 5.
كبدك، ولا التذكير يقيم أودك، لم تكن لهذه النسبة أهلًا، ولا لإضافتك إلينا موضعًا ومحلًا.. واعلم أن البلاء -بإذن الله- قد أظلك، والمكروه -إن شاء الله - قد أحاط بك، والعساكر -بحمد الله- قد أتتك كالسيل في الليل، تؤذنك بحرب وويل، فإنا نقسم، ونرجو أن لا نجور ونظلم، أن لا نثني عنك عنانًا، ولا نؤثر على شأنك شأنًا، فلا تتوقل ذروة جبل، ولا تلج بطن واد إلا تبعناك بحول الله وقوته فيهما، وطلبناك حيث أممت منهما، منفقين فيك كل ما خطير، ومستصغرين بسببك كل خطب جليل، حتى تستمر من طعم العيش ما استحليت، وتستدفع من البلايا ما استدعيت، حين لا دافع بحول الله عنك، ولا مزحزح لنا عن ساحتك، وتعرف من قدر الرخاء ما جهلت، وتود أنك هبلت، ولم تكن بالمعصية عجلت، ولا رأي من أضلك من غواتك قبلت، فحينئذ يتفرى لك الليل عن صبحه، ويسفر لك الحق عن محضه، فتنظر بعينين لا غشاوة عليهما، وتسمع بأذنين لا وقر فيهما، وتعلم أنك كنت متمسكًا بحبائل غرور، متماديًا في مقابح أمور، من عقوق لا ينام طالبه، وبغي لا ينجو هاربه، وغدر لا ينتعش صريعه، وكفران لا يودى قتيله، وتقف على سوء رويتك، وعظم جريرتك، في تركك قبول الأمان إذ هو لك مبذول، وأنت عليه محمول، وإن السيف عنك مغمود، وباب التوبة إليك مفتوح، وتتلهف والتلهف غير نافعك، إلا أن تكون أجبت إليه مسرعًا، وانقدت إليه منتصحًا".
وأنت ترى ابن عبد كان في هذه القطعة، يعني بموازنة عباراته موازنة تخرج به إلى السجع، فإن تركه فإلى الازدواج، وهذا يدل على أنه كانت تتأصل عنده رغبة في إحكام عباراته، وتنسيقها تنسيقًا بديعًا، وهو تنسيق كان يعتمد دائمًا على الملاءمات الصوتية، وكأنما كان أساس الكابة الفنية في رأي ابن عبد كان، هو الموسيقي وإحسانها، وقد طبعت هذه الموسيقى أسلوبه بطابع خاص من الترادف، حتى يلاحم بين أصواته من جهة، وحتى يحدث ما يريد من سجع وازدواج من جهة أخرى، وليس ذلك كل ما يميز صناعة ابن عبد كان، فهناك