الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
3-
التعقيد في رسالة الغفران:
ونحن نقف قليلًا عند رسالة مهمة لأبي العلاء، وهي رسالة الغفران التي تمتد إلى نحو مائتي صحيفة من القطع الكبير، وقد كتبها إلى علي بن منصور الحلبي المعروف بابن القارح ردًا على رسالة كتبها إليه، ويظهر أن أبا العلاء كان يعجب بابن القارح، وأنه كان ينفق وهواه في بعض الآراء، التي تتصل بالأديان والنحل، إذ امتلأت الرسالة بسخرية لاذعة من المعتقدات، حتى قال الذهبي: إن بها مزدكة واستخفافًا1، ولسنا نستطيع أن نزعم ما زعمه الذهبي من أن أبا العلاء كان مزدكيًا على مذهب مزدك، وأكبر الظن أن الذهبي لم يحقق هذه الكلمة حين أضافها إلى أبي العلاء، إنما أراد بها أن يصفه بالزندقة لما في رسالته من تهكم على بعض المعتقدات، ولما فيها أيضًا من دفاع واضح عن الشعراء الذين عرفوا بالزندقة، إذ يزعم أبو العلاء دائمًا أن الله غفر لهم، وسميت الرسالة باسم رسالة الغفران من أجل ذلك.
والرسالة تنقسم إلى قسمين عامين: قسم يعتبر مقدمة، وفيه نجد أبا العلاء يستطرد من وصفه لكلمات ابن القارح في رسالته إليه بأنها تشبه أشجار الجنة إلى وصف الجنة نفسها، وما بها من نعيم، في أثناء ذلك يعرض لندماء ابن القارح من علماء اللغة، ويتراءى له أن يجعله يتنزه في الجنة، قيلقي طائفة من شعراء الجاهلية، ثم يعن له أن يرجع به إلى يوم الموقف، فيرده إليه ليصف ما هنالك من أهوال، ويمر به على الصراط، حتى يصل إلى الجنة فيحاور رضوان محاروة
1 تعريف القدماء بأبي العلاء ص189.
طريفة، إذ يسأله: هل معك من جواز؟ فيقول: لا، فيقول رضوان: لا سبيل لك أن الدخول بغير جواز، ويرى ابن القارح إبراهيم بن محمد صلوات الله عليه، فيتشبث به وهو يدخل الجنة، فيجذبه معه، ويدخل ابن القارح الجنة، ويلتقي مرة أخرى بالشعراء ويحاورهم ويشترك معهم في مأدبة وغناء وقصف، ثم يركب بعض دواب الجنة، ويسير فيصل إلى مدائن غريبة، ويطلع فيرى طائفة من الجن، فيسألهم عن الأشعار التي تنسب في العربية إليهم، ثم يرخي من عنان دابته حتى يصل إلى أقصى الجنة، حيث يلتقي بالحطيئة والخنساء، وهي تنظر إلى أخيها صخر في الجحيم، وينظر كما تنظر الخنساء، فيجد إبليس وبشارًا، وبعض شعراء الجاهلية، ويحاورهم جميعًا ثم يعود، فيلتقي ببعض الحيات التي ظلمت في الدنيا، ثم كوفئت في الآخرة بدخول الفردوس، ويمر في جنة الرجاز، وأخيرًا يقبل على كأس من كؤوس الجنة، التي لا تنزف عقلًا.
وهذا هو القسم الأول من الرسالة، وهو يعطيها، لونًا مدرسيًا، إذ قصد فيه أبو العلاء -من خلال حوار ابن القارح مع الشعراء- أن يظهر علمه بأشعارهم، وما فيها من مسائل عويصة في لفظها ونحوها ووزنها، وينتقل من هذا القسم إلى القسم الثاني، وهو خاص بالرد على سؤال ابن القارح عن الزنادقة والزندقة، وتعرض في أثناء هذا القسم لكثير من النحل في عصره، ومن ثم كان هذا القسم في الرسالة ذا قيمة خاصة، على أن أهمية الرسالة إنما ترجع إلى القسم الأول منها، إذ قرنها الباحثون بسبه إلى "الكوميديا الإلهية" لدانتي1، محاولين النفوذ إلى بيان تأثره بها ومدى هذا التأثر، وهو تأثر تقوم عليه أدلة كثيرة، وبذلك لم يصنع أبو العلاء للعرب "كوميديا إلهية" فحسب، بل أثر بها أيضًا أثرًا عميقًا في الآداب العالمية، ولسنا نريد الآن أن نتحدث عن هذا الجانب في رسالته، إنما نريد أن نتحدث عنه صياغته فيها وطريقته في التعبير، ولعل من المهم أن نعرف أن أبا العلاء لم يجئ في هذه
1 انظر ترجمة أبي العلاء في دائرة المعارف الإسلامية.
الرسالة بصياغة جديدة غير الصياغة التي رأيناها آنفًا، ونراه يعني فيها بالتزام ما لا يلزم في قرائن سجعه، كما يعني اللفظ الغريب، وإنه ليعني عناية خاصة بالجناس، ولكن دائمًا في ثنايا ألفاظه الغريبة، بل المهجورة أحيانًا، وهو يحشد مع ذلك كثيرًا من الإشارات التاريخية، واستمع إليه يصف أنهار الجنة، فيقول:"إنها الراح الدائمة، لا الذميمة ولا الذائمة"، ويستطرد من ذلك إلى وصف الشعراء للخمر، ثم يقول1:
"كم على تلك الأنهار من آنية زبرجد محفور، وياقوت خلق على خلق الفور "الظباء" من أصفر، وأحمر وأزرق، يخال إن لمس أحرق، كما قال الصنوبري:
تخليه ساطعًا وهجه
…
فتأبى الدنو إلى وهجه
وفي تلك الأنهار أوزان على هيئة الطير السابحة، والغانية عن الماء السائحة، فمنها ما هو على صور الكراكي، وأخر تشاكل المكاكي، وعلى خلق طواويس وبط، فبعض في الجارية وبعض في الشط، ينبع من أفواهها شراب، كأنه من الرقة سراب، لوجرع جرعة منه الحكمي "أبو نواس" لحكم بأنه الفوز القدمي، وشهد له كل وصاف للخمر، من محدث في الزمن وعتيق في الأمر، أن أصناف الأشربة المنسوبة إلى الدار الفانية، كخمرعانة وأذرعات، وهي مظنة للنعات وغزة وبيت راس، والفلسطية ذوات الأحراس، وما جلب من بصرى في الوسوق، تبغى به المرابحة عند سوق، وما ذخره ابن بجرة بوج "الطائف"، واعتمد به أوقات الحج، قبل أن تحرم على الناس القهوات، وتحظر لخوف الله الشهوات، قال أبو ذؤيب:
ولو أن ما عند ابن بجرة عندها
…
من الخمر لم تبلل لهاتي بناطل2
وما اعتصر بصرخد، أو أرض شام، لكل ملك غير عبام "أحمق"،
1 رسالة الغفران "طبعة أمين هندية" ص11.
2 اللهاة: أقصى سقف الحلق. والناطل: الجرعة من الخمر.
وما تردد ذكره من كميت بابل وصريفين، واتخذ للأشراف المنيفين، وما عمل من أجناس المسكرات، مفوقات للشارب، وموكرات "مثقلات"، كالجعة والبتع والمزر، والسكركة ذات الوزر1، وما ولد من النخيل، لكريم يغترف أو بخيل، وما صنع في أيام آدم وشيث، إلى يوم المبعث من معجل أو مكيث....
ويعارض تلك المدامة أنهار من عسل مصفى، ما كسبته النحل الغادية إلى الأنوار، ولا هو في موم "شمع" متوار، ولكن قال له العزيز القادر كن فكان، وبكرمه أعطى الإمكان، واهًا لذلك عسلًا لم يكن بالنار مبسلًا، لو جعله الشارب المحرور غذاءه طول الأبد، ما قدر له عارض موم "الجدري" ولا لبس ثوب المحموم
…
فليت شعري عن النمر بن تولب العكلي، هو يقدر له أن يذوق ذلك الأري، فيعلم أن شهد الفانية إذا قيس إليه وجد يشاكه الشرى2، وهو لما وصف أم حصن، وما رزقته في الدعة والمن، ذكر حواري بسمن وعسلًا مصفى، فرحمه الخالق متوفى، فقد كان أسلم وروى حديثًا منفردًا، وحسبنا بن للكلم مسردًا، قال المسكين النمر:
ألم بصحبتي وهم هجوع
…
خيال طارق من أم حصن
لها من تشتهي عسلًا مصفى
…
إذا شاءت وحواري بسمن
وهو أدام الهل تمكينه يعرف حكاية خلف الأحمر مع أصاحبه في هذين البيتين، ومعناها أنه قال لهم: لو كان موضع أم حصن أم حفص ما كان يقول في البيت الثاني؟ فسكتوا، فقال حواري بلمص يعني الفالوذج".
وهنا نجد أبا العلاء يغير قافية البيت الأول من أم حصن إلى أم جزء، ويأتي بقافية في البيت الثاني على نسقها، ثم يستمر فيصنع ذلك بكلمات أخرى على سائر حروف المعجم عدا حرف الطاء، وما من شك في أن هذا التصنيع يدل على حال هي حال الاستطراد، وهي تعم في الرسالة كلها، وكان يريد
1 أنواع خمور.
2 الشرى: الحنظل، والأرى: العسل.
بها أن يدل على مقدرته في رواية الشعر الغريب، وما يتصل به من أصحابه، وإنه ليقف عند كثير من صعوباته، وكما كان يعني بالوقوف عند الشعر الغريب، كان هو نفسه يلتزم الإغراب في كثير من ألفاظ رسالته على عادته في كل ما يكتب، وهو يضيف إلى ذلك حقًا زخرف السجع، كما يضيف زخرف البديع، وخاصة زخرف الجناس، ولكن الإنسان يحس كأن هذه الزخارف، تأتي عنده تابعة للفظ الغريب فهو الأساس، أو هو الخيط الذي تنسج عليه هذه الزخارف، أو هذا الوشي، وما يطوي فيه من تنميق، وقد عبر هو عن ذلك خير تعبير إذ يقول في إحدى رسائله:"قد كان فيمن مضى قوم جعلوا الرسائل، كالوسائل، تزينوا بالسجع، تزين المحول بالرجع، ما رقوا في درجته، ولا وضعوا قدمًا على محجته، لكنهم يعاينوا، فما تباينوا، وتناضلوا، فلم يتفاضلوا، ولو طمعوا في الوصول، إلى مثل هذه الفصول، لاختاروا الرتب "الشدة" على الرتب، ورضوا اعتساف السبيل، وارتعاء الوبيل"1، فانظر أين يضع أبو العلاء سا بقيه من أصحاب مذهب التصنيع! هو يعترف لهم بالسجع، فذلك شيء لا يستطيع أن يدفعه، ولكنه يدعي عليهم بعد ذلك أنهم قصروا عن معرفة طرقه الصحيحة؛ لأنهم لم يرقوا في درجة مذهبه، ولا وضوعوا قدمًا على محجته، وحقًا ما يقوله أبو العلاء، من أنهم لو طلب إليهم أن يكتبوا على نسق كتابته، لاختاروا عليها شظف العيش، واعتساف السبيل وارتعاء الوبيل؛ لأنهم كانوا يفهمون الفن في صورة أخرى تباين الصورة، التي علقت بنفس أبي العلاء.
إن الفن كان عندهم زخرفًا وتصنيعًا، أما عند أبي العلاء، فقد تقدم الزمن وتطور الفن، وأصبح الفنان يأبى أن يخرج نثره في زخرف، وزينة فقط، بل لا بد أن يخرجه في كلف وعقد، ولا بد له أن يبلغ من ذلك كل مبلغ ممكن، ومن اجل ذلك كان طبيعيًا أن يلوم أبو العلاء الكتاب الذين سبقوه في فن الكتابة؛ لأنهم لم يكونوا من مذهبه ولا من ذوقه، لم يكونوا يعقدون فهم على هذا النحو الذي
1 رسائل أبي العلاء ص6، والوبيل: المرعى الوخيم.
تبدو فيه الآثار الفنية، وكأنها متون صعبة يراد بها إلى إظهار المهارة اللغوية، وإنها لمهارة يبث أبو العلاء بين طياتها كثيرًا من الأمثال والإشارات التاريخية والأدبية، حتى ليضطر أثناء ذلك إلى كثير من الاستطراد في كتاباته، بل لقد اضطر إلى شيء أهم من ذلك لم نتعوده من قبل، وهو شرحه لكثير من آثاره النثرية، وما من شك في أنه عمد إلى هذا الشرح؛ لأنه يعرف أن آثاره لا تفهم إلا مع التفسير البين لكثرة ما يحشد فيها من ألفاظ عويصة.
ومهما يكن، فإن اللغة هي أهم الجوانب التي استمد منها أبو العلاء أكثر عقده في صناعة نثره، وقد أضاف إليها عقدًا أخرى اتصل بها من كثرة الأمثال والإشارات التاريخية، والاستشهاد بالشعر الغريب خاصة، وإذا نظرت بعد ذلك في سجعه برسالة الغفران، وجدته يلتزم في أكثر جوانبه أن تكون نهاية السجعة لا حرفًا بل حرفين أو أكثر، كما يلتزم -غالبًا- الجناس في عباراته، ولكنا نحن إزاء استخدامه لهذا اللون من ألوان البديع، أنه فارق بعض ألوانه البهيجة التي كنا نعرفها عند أصحاب مذهب التصنيع، وما ذلك إلا؛ لأن أبا العلاء يعتمد في جناسه كثيرًا على الإغراب في الألفاظ، ومن ثم كنا نشعر إزاء كثير من جناساته، أنها جناسات لغوية أكثر منها فنية، فهي إلى اللغة والإغراب اللغوي أقرب منها إلى الفن الخالص، والحق أنا أبا العلاء عمد في فنه إلى التعقيد من حيث هو، ولذلك إذا ذهبنا إلى أنه زعيم مذهب التصنع لعصره، لم نكن مبالغين، ولا مغالين.