الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
والذبل بالفتح شيء كالعاج، وهو ظهر السلحفاة البحرية، يتخذ منه السوار، ومنه قول جرير يصف امرأة:
ترى العبس الحولي جونا بكوعها
…
لها مسكًا من غير عاج ولا ذبل
قاله الجوهري في صحاحه. والمسك بفتحتين: جمع مسكة.
وقال بعض أهل اللغة: المسك أسورة من عاج أو قرون أو ذبل. ومقتضي كلامهم أنها لا تكون من الذهب، ولا الفضة. وقد قدمنا في سورة التوبة في الكلام على قوله تعالى:{وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ} الآية، في مبحث زكاة الحلي المباح من حديث عمرو بن شعيب، عن أبيه، عن جده، عند أبي داود والنسائي أن امرأة أتت رسول الله صلى الله عليه وسلم ومعها ابنتها، وفي يد ابنتها مسكتان غليظتان من ذهب. . . الحديث. وهو دليل على أن المسكة تكون من الذهب، كما تكون من العاج، والقرون، والذبل. وهذا هو الأظهر خلافًا لكلام كثير من اللغويين في قولهم: إن المسك لا يكون من الذهب، والفضة، والقلادة معروفة. واللَّه تعالى أعلم.
•
قوله تعالى: {وَتُوبُوا إِلَى اللَّهِ جَمِيعًا أَيُّهَ الْمُؤْمِنُونَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (31)}
.
لما أمر الله تعالى بهذه الآداب المذكورة في الآيات المتقدمة، وكان التقصير في امتثال تلك الأوامر قد يحصل علَّم خلقه ما يتداركون به ما وقع منهم من التقصير في امتثال الأمر، واجتناب النهي، وبين لهم أن ذلك إنما يكون بالتوبة، وهي الرجوع عن الذنب والإِنابة إلى الله بالاستغفار منه، وهي ثلاثة أركان:
الأول: الإِقلاع عن الذنب إن كان متلبسًا به.
والثاني: الندم على ما وقع منه من المعصية.
والثالث: النية ألا يعود إلى الذنب أبدًا.
والأمر في قوله في هذه الآية: {وَتُوبُوا إِلَى اللَّهِ جَمِيعًا} الظاهر أنه للوجوب، وهو كذلك، فالتوبة واجبة على كل مكلف، من كل ذنب اقترفه، وتأخيرها لا يجوز فتجب منه التوبة أيضًا.
وقوله: {لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (31)} قد قدمنا مرارًا أن أشهر معاني لعل في القرآن اثنان:
الأول: أنها على بابها من الترجي، أي. توبوا إلى الله، رجاء أن تفلحوا، وعلى هذا فالرجاء بالنسبة إلى العبد، أمَّا الله جلَّ وعلا فهو عالم بكل شيء، فلا يجوز في حقه إطلاق الرجاء. وعلى هذا فقوله تعالى لموسى وهارون في مخاطبة فرعون:{فَقُولَا لَهُ قَوْلًا لَيِّنًا لَعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشَى (44)} وهو جلَّ وعلا عالم بما سبق في الأزل من أنه لا يتذكر ولا يخشى. معناه: فقولا قولًا لينًا رجاء منكما بحسب عدم علمكما بالغيب أن يتذكر أو يخشى.
والثاني: هو ما قاله بعض أهل العلم بالتفسير من أن كل لعل في القرآن للتعليل إلَّا التي في سورة الشعراء، وهي في قوله تعالى:{وَتَتَّخِذُونَ مَصَانِعَ لَعَلَّكُمْ تَخْلُدُونَ (129)} قالوا: فهي بمعنى كأنكم، وقد قدمنا أن إطلاق لعل للتعليل معلوم في العربية، ومنه قول الشاعر:
فقلتم لنا: كفوا الحروب لعلنا
…
نكف ووثقتم لنا كل موثق
أي: كفوا الحروب، لأجل أن نكف كما تقدم.
وعلى هذا القول فالمعنى: وتوبوا إلى الله جميعًا أيها المؤمنون، لأجل أن تفلحوا، أي: تنالوا الفلاح.
والفلاح في اللغة العربية يطلق على معنيين:
الأول: الفوز بالمطلوب الأعظم، ومن هذا المعنى قول لبيد:
فاعقلي إن كنت لما تعقلي
…
وقد أفلح من كان عقل
أي: فاز بالمطلوب الأعظم من رزقه الله العقل.
المعنى الثاني: هو البقاء الدائم في النعيم والسرور، ومنه قول الأضبط بن قريع، وقيل: كعب بن زهير:
لكل هم من الهموم سعه
…
والمسا والصبح لا فلاح معه
يعني أنه لا بقاء لأحد في الدنيا مع تعاقب المساء والصباح عليه، وقول لبيد بن ربيعة أيضًا:
لو أن حيًا مدرك الفلاح
…
لناله ملاعب الرماح
يعني لو كان أحد يدرك البقاء، ولا يموت لناله ملاعب الرماح، وهو عمه عامر بن مالك بن جعفر المعروف بملاعب الأسنة. وقد قال فيه الشاعر يمدحه، ويذم أخاه الطفيل والد عامر بن الطفيل المشهور:
فررت وأسلمت ابن أمك عامرا
…
يلاعب أطراف الوشيج المزعزع
وبكل من المعنيين اللذين ذكرناهما في الفلاح فسر حديث الأذان والإِقامة: حيّ على الفلاح كما هو معروف.
ومن تاب إلى الله كما أمره الله نال الفلاح بمعنييه، فإنه يفوز بالمطلوب الأعظم وهو الجنة، ورضي الله تعالى، وكذلك ينال البقاء الأبدي في النعيم والسرور.
وما تضمنته هذه الآية الكريمة من أمره جلَّ وعلا لجميع
المسلمين بالتوبة مشيرًا إلى أنها تؤدي إلى فلاحهم في قوله: {لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (31)} أوضحه في غير هذا الموضع، وبين أن التوبة التي يمحو الله بها الذنوب، ويكفر بها السيئات أنها التوبة النصوح، وبين أنها يترتب عليها تكفير السيئات، ودخول الجنة، ولا سيما عند من يقول من أهل العلم: إن عسى من الله واجبة، وله وجه من النظر؛ لأنه عز وجل جواد كريم، رحيم غفور، فإذا أطمع عبده في شيء من فضله، فجوده وكرمه تعالي، وسعة رحمته يجعل ذلك الإِنسان الذي أطمعه ربه في ذلك الفضل يثق بأنه ما أطمعه فيه إلَّا ليتفضل به عليه.
ومن الآيات التي بينت هذا المعنى المذكور هنا قوله تعالى: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا تُوبُوا إِلَى اللَّهِ تَوْبَةً نَصُوحًا عَسَى رَبُّكُمْ أَنْ يُكَفِّرَ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَيُدْخِلَكُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ} فقوله في آية التحريم هذه: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا} كقوله في آية النور: {أَيُّهَ الْمُؤْمِنُونَ} وقوله في آية التحريم: {عَسَى رَبُّكُمْ أَنْ يُكَفِّرَ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَيُدْخِلَكُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ} كقوله في آية النور: {لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (31)} ؛ لأن من كفرت عنه سيئاته وأدخل الجنة، فقد نال الفلاح بمعنييه. وقوله في آية التحريم:{تُوبُوا إِلَى اللَّهِ تَوْبَةً نَصُوحًا} موضح لقوله في النور: {وَتُوبُوا إِلَى اللَّهِ جَمِيعًا} ونداؤه لهم بوصف الإِيمان في الآيتين فيه تهييج لهم، وحث على امتثال الأمر؛ لأن الاتصاف بصفة الإِيمان بمعناه الصحيح يقتضي المسارعة إلى امتثال أمر الله، واجتناب نهيه. والرجاء المفهوم من لفظة عسى في آية التحريم، هو المفهوم من لفظة لعل في آية النور كما لا يخفى.
تنبيهات
الأول: التوبة النصوح: هي التوبة الصادقة.
وحاصلها: أن يأتي بأركانها الثلاثة على الوجه الصحيح، بأن يقلع عن الذنب إن كان متلبسًا به، ويندم على ما صدر منه من مخالفة أمر ربه جلَّ وعلا، وينوي نية جازمة ألا يعود إلى معصية الله أبدًا.
وأظهر أقوال أهل العلم أنه إن تاب توبة نصوحًا وكفر الله عنه سيئاته بتلك التوبة النصوح، ثم عاد إلى الذنب بعد ذلك أن توبته الأولى الواقعة على الوجه المطلوب، لا يبطلها الرجوع إلى الذنب، بل تجب عليه التوبة من جديد لذنبه الجديد، خلافًا لمن قال: إن عوده للذنب نقض لتوبته الأولى.
الثاني: اعلم أنه لا خلاف بين أهل العلم في أنه لا تصح توبة من ذنب إلَّا بالندم على فعل الذنب، والإِقلاع عنه إن كان متلبسًا به كما قدمنا أنهما من أركان التوبة، وكل واحد منهما فيه إشكال معروف.
وإيضاحه في الأول الذي هو الندم، أن الندم ليس فعلًا، وإنما هو انفعال، ولا خلاف بين أهل العلم في أن الله لا يكلف أحدًا إلَّا بفعل يقع باختيار المكلف، ولا يكلف أحدًا بشيء إلَّا شيئًا هو في طاقته كما قال تعالى:{لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا} وقال تعالى: {فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ} .
وإذا علمت ذلك فاعلم أن الندم انفعال ليس داخلًا تحت قدرة العبد، فليس بفعل أصلًا، وليس في وسع المكلف فعله،
والتكليف لا يقع بغير الفعل، ولا بما لا يطلق كما بينا. قال في مراقي السعود:
ولا يكلف بغير الفعل
…
باعث الأنبيا ورب الفضل
وقال أيضًا:
والعلم والوسع على المعروف
…
شرط يعم كل ذي تكليف
واعلم أن كلام الأصوليين في مسألة التكليف بما لا يطاق، واختلافهم في ذلك إنما هو بالنسبة إلى الجواز العقلي، والمعنى هل يجيزه العقل أو يمنعه.
أما وقوعه بالفعل فهم مجمعون على منعه كما دلت عليه آيات القرآن، والأحاديث النبوية وبعض الأصوليين يعبر عن هذه المسألة بالتكليف بالمحال هل يجوز عقلًا أو لا؟ أما وقوع التكليف بالمحال عقلًا، أو عادة، فكلهم مجمعون على منعه إن كانت الاستحالة لغير علم الله تعالى بعدم وقوعه أزلًا. ومثال المستحيل عقلًا أن يكلف بالجمع بين الضدين كالبياض، والسواد، أو النقيضين كالعدم والوجود. والمستحيل عادة كتكليف المقعد بالمشي، وتكليف الإِنسان بالطيران ونحو ذلك. فمثل هذا لا يقع التكليف به إجماعًا.
وأما المستحيل لأجل علم الله في الأزل بأنه لا يقع فهو جائز عقلًا، ولا خلاف في التكليف به، فإيمان أبي لهب مثلًا كان الله عالمًا في الأزل بأنه لا يقع كما قال الله تعالى عنه:{سَيَصْلَى نَارًا ذَاتَ لَهَبٍ (3)} فوقوعه محال عقلًا؛ لعلم الله في الأزل بأنه لا يوجد؛ لأنه لو وجد لاستحال العلم بعدمه جهلًا، وذلك مستحيل في حقه تعالى. ولكن هذا المستحيل للعلم بعدم وقوعه جائز عقلًا، إذ لا يمنع العقل
إيمان أبي لهب، ولو كان مستحيلًا لما كلفه الله بالإِيمان على لسان نبيه صلى الله عليه وسلم ، فالإِمكان عام، والدعوة عامة، والتوفيق خاص.
وإيضاح مسألة الحكم العقلي أنه عند جمهور النظار ثلاثة أقسام:
الأول: الواجب عقلًا.
الثاني: المستحيل عقلًا.
الثالث: الجائز عقلًا.
وبرهان حصر الحكم العقلي في الثلاثة المذكورة أن الشيء من حيث هو شيء، لا يخلو من واحدة من ثلاث حالات: إما أن يكون العقل يقبل وجوده، ولا يقبل عدمه بحال، وإما أن يكون يقبل عدمه ولا يقبل وجوده بحال، وإما أن يكون يقبل وجوده وعدمه معًا. فإن كان العقل يقبل وجوده، دون عدمه فهو الواجب عقلًا، وذلك كوجود الله تعالى متصفًا بصفات الكمال والجلال، فإن العقل السليم لو عرض عليه وجود خالق هذه المخلوقات لقبله، ولو عرض عليه عدمه، وأنها خلقت بلا خالق، لم يقبله، فهو واجب عقلًا. وأما إن كان يقبل عدمه، دون وجوده، فهو المستحيل عقلًا، كشريك للَّه سبحانه وتعالى عن ذلك علوًا كبيرًا، فلو عرض على العقل السليم عدم شريك للَّه في ملكه، وعبادته، لقبله، ولو عرض عليه وجوده لم يقبله بحال، كما قال تعالى:{لَوْ كَانَ فِيهِمَا آلِهَةٌ إِلَّا اللَّهُ لَفَسَدَتَا} وقال: {إِذًا لَذَهَبَ كُلُّ إِلَهٍ بِمَا خَلَقَ وَلَعَلَا بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ سُبْحَانَ اللَّهِ عَمَّا يَصِفُونَ (91)} فهو مستحيل عقلًا. وأما إن كان العقل يقبل وجوده وعدمه معًا، فهو الجائز العقلي، ويقال له: الجائز الذاتي، وذلك كإيمان أبي لهب، فإنه لو عرض وجوده على العقل السليم لقبله،
ولو عرض عليه عدمه بدل وجوده لقبله أيضًا، كما لا يخفى، فهو جائز عقلًا جوازًا ذاتيًا، ولا خلاف في التكليف بهذا النوع الذي هو الجائز العقلي الذاتي.
وقالت جماعات من أهل الأهواء: إن الحكم العقلي: قسمان فقط، وهما الواجب عقلًا، والمستحيل عقلًا. قالوا: والجائز عقلًا لا وجود له أصلًا. وزعموا أن دليل الحصر في الواجب والمستحيل أن الأمر إما أن يكون الله عالمًا في أزله بأنه سيوجد فهو واجب الوجود؛ لاستحالة عدم وجوده مع سبق العلم الأزلي بوجوده، كإيمان أبي بكر فهو واجب عندهم عقلًا، لعلم الله بأنه سيقع، إذ لو لم يقع لكان علمه جهلًا سبحانه وتعالى عن ذلك علوًا كبيرًا، وذلك محال. وإما أن يكون الله عالمًا في أزله بأنه لا يوجد، كإيمان أبي لهب، فهو مستحيل عقلًا، إذ لو وجد لانقلب العلمُ جهلًا، سبحانه وتعالى عن ذلك علوًا كبيرًا. وهذا القول لا يخفى بطلانه، ولا يخفى أن إيمان أبي لهب، وأبي بكر كلاهما يجيز العقل وجوده وعدمه، فكلاهما جائز إلَّا أن الله تعالى شاء وجود أحد هذين الجائزين، فأوجده وشاء عدم الآخر فلم يوجده.
والحاصل: أن المستحيل لغير علم الله السابق بعدم وجوده؛ لأنه مستحيل استحالة ذاتية، كالجمع بين النقيضين، لا يقع التكليف به إجماعًا، وكذلك المستحيل عادة كما لا يخفى.
أما الجائز الذاتي فالتكليف به جائز، وواقع إجماعًا، كإيمان أبي لهب فإنه جائز عقلًا، وإن استحال من جهة علم الله بعد وقوعه، وهم يسمون هذا الجائز الذاتي مستحيلًا عرضيًا، ونحن ننزه صفة علم الله عن أن نقول: إن الاستحالة بسببها عرضية.
فإذا علمت هذا فاعلم أن علماء الأصول وجميع أهل العلم مجمعون على وقوع التكليف بالجائز العقلي الذاتي، كإيمان أبي لهب، وإن كان وقوعه مستحيلًا؛ لعلم الله بأنه لا يقع.
أما المستحيل عقلًا لذاته كالجمع بين النقيضين، والمستحيل عادة كمشي المقعد، وطيران الإِنسان بغير آلة، فلا خلاف بين أهل العلم في منع وقوع التكليف بكل منهما، كما قال تعالى:{لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا} وقال تعالى: {فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ} وقال صلى الله عليه وسلم : "إذا أمرتكم بشيء فأتوا منه ما استطعتم".
وإما المستحيل العقلي: فقالت جماعة من أهل الأصول: يجوز التكليف بالمستحيل الذاتي عادة وعقلًا، وبالمستحيل عادة. وقال بعضهم: لا يجوز عقلًا مع إجماعهم على أنه لا يصح وقوعه بالفعل.
وحجة من يمنعه عقلًا أنه عبث لا فائدة فيه؛ لأن المكلف به لا يمكن أن يقدر عليه بحال، فتكليفه بما هو عاجز عنه عجزًا محققًا عبث لا فائدة فيه، قالوا: فهو مستحيل؛ لأن الله حكيم خبير.
وحجة من قال بجوازه أن فائدته امتحان المكلف، هل يتأسف على عدم القدرة، ويظهر أنه لو كان قادرًا لامتثل، والامتحان سبب من أسباب التكليف، كما كلف الله إبراهيم بذبح ولده، وهو عالم أنه لا يذبحه، وبين أن حكمة هذا التكليف هي ابتلاء إبراهيم، أي: اختباره، هل يمتثل؟، فلما شرع في الامتثال فداه الله بذبح عظيم، كما قال تعالى عنه:{فَلَمَّا أَسْلَمَا وَتَلَّهُ لِلْجَبِينِ (103) وَنَادَيْنَاهُ أَنْ يَاإِبْرَاهِيمُ (104) قَدْ صَدَّقْتَ الرُّؤْيَا إِنَّا كَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ (105) إِنَّ هَذَا لَهُوَ الْبَلَاءُ الْمُبِينُ (106) وَفَدَيْنَاهُ بِذِبْحٍ عَظِيمٍ (107)} .
وقد أشار صاحب مراقي السعود إلى مسألة التكليف بالمحال وأقوال الأصوليين فيها، وهي اختلافهم في جواز ذلك عقلًا، مع إجماعهم على منعه إن كانت الاستحالة لغير علم الله بعدم الوقوع كالاستحالة الذاتية بقوله:
وجوز التكليف بالمحال
…
في الكل من ثلاثة الأحوال
وقيل بالمنع لما قد امتنع
…
لغير علم الله أن ليس يقع
وليس واقعًا إذا استحالا
…
لغير علم ربنا تعالى
وقوله: وجوز التكليف يعني الجواز العقلي.
وقوله: وقيل بالمنع، أي: عقلًا. ومراده بالثلاثة الأحوال: ما استحال عقلًا وعادة، كالجمع بين النقيضين، وما استحال عادة، كمشي المقعد، وطيران الإِنسان، وإبصار الأعمى، وما استحال لعلم الله بعدم وقوعه.
وإذا عرفت كلام أهل الأصول في هذه المسألة، فاعلم أن التوبة تجب كتابًا وسنَّة وإجماعًا من كل ذنب اقترفه الإِنسان فورًا، وأن الندم ركن من أركانها، وركن الواجب واجب، والندم ليس بفعل، وليس في استطاعة المكلف؛ لأنه انفعال، لا فعل، والانفعالات ليست بالاختيار، فما وجه التكليف بالندم، وهو غير فعل للمكلف، ولا مقدور عليه؟
والجواب عن هذا الإِشكال: هو أن المراد بالتكليف بالندم التكليف بأسبابه التي يوجد بها، وهي في طوق المكلف، فلو راجع صاحب المعصية نفسه مراجعة صحيحة، ولم يحابها في معصية الله لعلم أن لذة المعاصي كلذة الشراب الحلو الذي فيه السم القاتل،
والشراب الذي فيه السم القاتل لا يستلذه عاقل؛ لما يتبع لذته من عظيم الضرر، وحلاوة المعاصي فيها ما هو أشد من السم القاتل، وهو ما تستلزمه معصية الله جل وعلا من سخطه على العاصي، وتعذيبه له أشد العذاب، وعقابه على المعاصي قد يأتيه في الدنيا فيهلكه، وينغص عليه لذة الحياة. ولا شك أن من جعل أسباب الندم على المعصية وسيلة إلى الندم، أنه يتوصل إلى حصول الندم على المعصية، بسبب استعماله الأسباب التي يحصل بها.
فالحاصل: أنه مكلف بالأسباب المستوجبة للندم، وأنه إن استعملها حصل له الندم، وبهذا الاعتبار كان مكلفًا بالندم، مع أنه انفعال لا فعل.
ومن أمثلة استعمال الأسباب المؤدية إلى الندم على المعصية، قول الشاعر وهو الحسين بن مطير:
فلا تقرب الأمر الحرام فإنه
…
حلاوته تفنى ويبقى مريرها
ونقل عن سفيان الثوري رحمه الله أنه كان كثيرًا ما يتمثل بقود الشاعر:
تفنى اللذاذة ممن نال صفوتها
…
من الحرام ويبقى الإِثم والعار
تبقى عواقب سوء في مغبتها
…
لا خير في لذة من بعدها النار
وأما الإِشكال الذي في الإِقلاع عن الذنب، فحاصله: أن من تاب من الذنب الذي هو متلبس به، مع بقاء فساد ذلك الذنب، أي: أثره السيِّئ هل تكون توبته صحيحة، نظرًا إلى أنه فعل في توبته كل ما يستطيعه وإن كان الإِقلاع عن الذنب لم يتحقق؛ للعجز عن إزالة فساده في ذلك الوقت، أو لا تكون توبته صحيحة، لأن الإِقلاع عن الذنب الذي هو ركن التوبة لم يتحقق؟
ومن أمثلة هذا: من كان على بدعة من البدع السيئة المخالفة للشرع المستوجبة للعذاب، إذا بث بدعته، وانتشرت في أقطار الدنيا، ثم تاب من ارتكاب تلك البدعة، فندم على ذلك، ونوى ألا يعود إليه أبدًا، مع أن إقلاعه عن بدعته لا قدرة له عليه، لانتشارها في أقطار الدنيا، ولأن من سنَّ سنَّة سيئة فعليه وزرها ووزر من عمل بها إلى يوم القيامة، ففساد بدعته باق.
ومن أمثلته: من غصب أرضًا، ثم سكن في وسطها، ثم تاب من ذلك الغصب نادمًا عليه، ناويًا ألا يعود إليه، وخرج من الأرض المغصوبة بسرعة، وسلك أقرب طريق للخروج منها، فهل تكون توبته صحيحة في وقت سيره في الأرض المغصوبة قبل خروجه منها؛ لأنه فعل في توبته كل ما يقدر عليه، أو لا تكون توبته صحيحة؛ لأن إقلاعه عن الغصب لم يتم ما دام موجودًا في الأرض المغصوبة، ولو كان يسير فيها، ليخرج منها؟
ومن أمثلته: من رمى مسلمًا بسهم، ثم تاب فندم على ذلك، ونوى ألا يعود قبل إصابة السهم للإِنسان الذي رماه به بأن حصلت التوبة والسهم في الهواء في طريقه إلى المرمى، هل تكون توبته صحيحة، لأنه فعل ما يقدر عليه، أو لا تكون صحيحة، لأن إقلاعه عن الذنب، لم يتحقق وقت التوبة، لأن سهمه في طريقه إلى إصابة مسلم؟
فجمهور أهل الأصول على أن توبته في كل الأمثلة صحيحة؛ لأن التوبة واجبة عليه، وقد فعل من هذا الواجب كل ما يقدر عليه، وما لا قدرة له عليه معذور فيه؛ لقوله تعالى:{لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا} إلى آخر الأدلة التي قدمناها قريبًا.