الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
رَجُلًا وَلَلَبَسْنَا عَلَيْهِمْ مَا يَلْبِسُونَ (9)} وقد أمر الله نبيه صلى الله عليه وسلم أن يقول للكفار: إنه بشر، وإنه رسول. وذلك لأن البشرية لا تنافي الرسالة في قوله تعالى:{قُلْ سُبْحَانَ رَبِّي هَلْ كُنْتُ إِلَّا بَشَرًا رَسُولًا (93)} وقوله تعالى: {قُلْ إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُوحَى إِلَيَّ أَنَّمَا إِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ فَمَنْ كَانَ يَرْجُو لِقَاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلًا صَالِحًا وَلَا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَدًا (110)} وقوله تعالى: {قُلْ إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُوحَى إِلَيَّ أَنَّمَا إِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ فَاسْتَقِيمُوا إِلَيْهِ وَاسْتَغْفِرُوهُ} الآية.
وبين جلَّ وعلا أن الرسل قالوا مثل ذلك في قوله: {قَالَتْ لَهُمْ رُسُلُهُمْ إِنْ نَحْنُ إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَمُنُّ عَلَى مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ} الآية، وقال تعالى:{قُلْ لَوْ كَانَ فِي الْأَرْضِ مَلَائِكَةٌ يَمْشُونَ مُطْمَئِنِّينَ لَنَزَّلْنَا عَلَيْهِمْ مِنَ السَّمَاءِ مَلَكًا رَسُولًا (95)} .
وقوله تعالى: {وَيَمْشِي فِي الْأَسْوَاقِ} جمع سوق وهي مؤنثة، وقد تذكر. والعلم عند الله تعالى.
•
.
اعلم أولًا أن لولا في هذه الآية الكريمة حرف تحضيض على التحقيق. والتحضيض هو الطلب بحث، وشدة، وإليه أشار في الخلاصة بقوله:
وبهما التحضيض مز وهلا
…
ألَّا ألا وأولينها الفعلا
وبه تعلم أن المضارع في قوله: (فيكون معه نذيرًا) منصوب بأن مستترة وجوبًا؛ لأن الفاء في جواب الطلب المحض الذي هو التحضيض، كما أشار له في الخلاصة بقوله:
وبعد فا جواب نفي أو طلب
…
محضين أن وسترها حتم نصب
ونظير هذا من النصب بأن المستترة بعد الفاء التي هي جواب التحضيض قوله تعالى: {فَيَقُولَ رَبِّ لَوْلَا أَخَّرْتَنِي إِلَى أَجَلٍ قَرِيبٍ فَأَصَّدَّقَ وَأَكُنْ مِنَ الصَّالِحِينَ (10)} ؛ لأن قوله: (لولا أخرتني) طلب منه للتأخير بحث وشدة كما دل عليه حرف التحضيض الذي هو لولا، ونظيره من كلام العرب قول الشاعر:
لولا تعوجين يا سلمى على دنف
…
فتخمدي نار وجد كاد يفنيه
فقوله تعالى في الآية الكريمة: (فأصدقَ) بالنصب، وقول الشاعر: فتخمدي منصوب أيضًا بحذف النون؛ لأن الفاء في جواب الطلب المحض الذي هو التحضيض.
واعلم أن جزم الفعل المعطوف على الفعل المنصوب أعني قوله: {فَأَصَّدَّقَ وَأَكُنْ مِنَ الصَّالِحِينَ} إنما ساغ فيه الجزم؛ لأنه عطف على المحل؛ لأن الفاء لو حذفت مع قصد جواب التحضيض لجزم الفعل، وجواز الجزم المذكور عند الحذف المذكور هو الذي سوغ عطف المجزوم على المنصوب. وقد أشار إلى ذلك في الخلاصة بقوله:
وبعد غير النفي جزما اعتمد
…
إن تسقط الفا والجزاء قد قصد
وبما ذكرنا تعلم أن ما ذكره القرطبي وغيره، وأشار له الزمخشري من أن لولا في الآية للاستفهام، ليس بصحيح.
واعلم أن الكفار في هذه الآية الكريمة اقترحوا بحث وشدة عليه صلى الله عليه وسلم ثلاثة أمور:
الأول: أن ينزل إليه ملك، فيكون معه نذيرًا، أي: يشهد له بالصدق، ويعينه على التبليغ.
الثاني: أن يلقى إليه كنز، أي: ينزل عليه كنز من المال ينفق منه، ويستغني به عن المشي في الأسواق.
الثالث: أن تكون له جنة يأكل منها. والجنة في لغة العرب البستان. ومنه قول زهير:
كأن عيني في غربي مقتلة
…
من النواضح تسقي جنة سُحُقا
فقوله: تسقي جنة، أي: بستانًا، وقوله. سُحُقًا، يعني أن نخله طوال.
وهذه الأمور الثلاثة المذكورة في هذه الآية الكريمة التي اقترحها الكفار وطلبوها بشدة وحث تعنتًا منهم وعنادًا، جاءت مبينة في غير هذا الموضع، فبين جلَّ وعلا في سورة هود اقتراحهم لنزول الكنز، ومجيء الملك معه، وأن ذلك العناد والتعنت قد يضيق به صدره صلى الله عليه وسلم ، وذلك في قوله تعالى:{فَلَعَلَّكَ تَارِكٌ بَعْضَ مَا يُوحَى إِلَيْكَ وَضَائِقٌ بِهِ صَدْرُكَ أَنْ يَقُولُوا لَوْلَا أُنْزِلَ عَلَيْهِ كَنْزٌ أَوْ جَاءَ مَعَهُ مَلَكٌ إِنَّمَا أَنْتَ نَذِيرٌ} وبين جلَّ وعلا في سورة بني إسرائيل اقتراحهم الجنة، وأوضح أنهم يعنون بها بستانًا من نخيل وعنب، وذلك في قوله تعالى:{وَقَالُوا لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى تَفْجُرَ لَنَا مِنَ الْأَرْضِ يَنْبُوعًا (90) أَوْ تَكُونَ لَكَ جَنَّةٌ مِنْ نَخِيلٍ وَعِنَبٍ فَتُفَجِّرَ الْأَنْهَارَ خِلَالَهَا تَفْجِيرًا (91)} واقتراحهم هذا شبيه بقول فرعون في موسى: {فَلَوْلَا أُلْقِيَ عَلَيْهِ أَسْوِرَةٌ مِنْ ذَهَبٍ أَوْ جَاءَ مَعَهُ الْمَلَائِكَةُ مُقْتَرِنِينَ (53)} تشابهت قلوبهم فتشابهت أقوالهم.
وقد قدمنا في الكلام على آية سورة بني إسرائيل هذه الآيات الدالة على كثرة اقتراح الكفار، وشدة تعنتهم وعنادهم، وأن الله
لو فعل لهم كل ما اقترحوا لما آمنوا، كما قال تعالى:{وَلَوْ نَزَّلْنَا عَلَيْكَ كِتَابًا فِي قِرْطَاسٍ فَلَمَسُوهُ بِأَيْدِيهِمْ لَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ هَذَا إِلَّا سِحْرٌ مُبِينٌ (7)} وقال تعالى: {وَلَوْ فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَابًا مِنَ السَّمَاءِ فَظَلُّوا فِيهِ يَعْرُجُونَ (14) لَقَالُوا إِنَّمَا سُكِّرَتْ أَبْصَارُنَا بَلْ نَحْنُ قَوْمٌ مَسْحُورُونَ} وقال تعالى: {وَلَوْ أَنَّنَا نَزَّلْنَا إِلَيْهِمُ الْمَلَائِكَةَ وَكَلَّمَهُمُ الْمَوْتَى وَحَشَرْنَا عَلَيْهِمْ كُلَّ شَيْءٍ قُبُلًا مَا كَانُوا لِيُؤْمِنُوا إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ} الآية، وقال تعالى:{إِنَّ الَّذِينَ حَقَّتْ عَلَيْهِمْ كَلِمَتُ رَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ (96) وَلَوْ جَاءَتْهُمْ كُلُّ آيَةٍ} الآية. إلى غير ذلك من الآيات كما تقدم.
وقال الزمخشري في تفسير آية الفرقان هذه: يأكل الطعام كما نأكل، ويتردد في الأسواق كما نتردد. يعنون أنه كان يجب أن يكون ملكًا مستغنيًا عن الأكل والتعيش، ثم نزلوا عن اقتراحهم أن يكون ملكًا إلى اقتراح أن يكون إنسانًا معه ملك، حتى يتساعدا في الإِنذار والتخويف، ثم نزلوا أيضًا فقالوا إن لم يكن مرفودًا بذلك، فليكن مرفودًا بكنز يلقى إليه من السماء، يستظهر به، ولا يحتاج إلى تحصيل المعاش، ثم نزلوا فاقتنعوا بأن يكون له بستان يأكل منه، ويرتزق كالدهاقين، أو يأكلون هم من ذلك البستان، فينتفعون به في دنياهم، ومعاشهم. انتهى منه. وكل تلك الاقتراحات لشدة تعنتهم، وعنادهم.
وقرأ هذا الحرف عامة السبعة غير حمزة والكسائي: يأكل منها بالمثناة التحتية، وقرأ حمزة والكسائي: جنة نأكل منها بالنون، وهذه القراءة هي مراد الزمخشري بقوله: أو يأكلون هم من ذلك البستان.