الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
كذا، فهو بمنزلة قولك: أحدث وأوجد، من غير نظر إلى وجه الاشتقاق، فكأنه قيل: وأوجد كل شيء فقدره في إيجاده، لم يوجده متفاوتًا، وقيل: فجعل له غاية ومنتهى، ومعناه: فقدره للبقاء إلى أمد معلوم. انتهى كلام صاحب الكشاف. وبعضه له اتجاه. والعلم عند الله تعالى.
•
.
ذكر جلَّ وعلا في هذه الآية الكريمة أن الآلهة التي يعبدها المشركون من دونه متصفة بستة أشياء، كل واحد منها برهان قاطع أن عبادتها مع الله لا وجه لها بحال، بل هي ظلم متناه، وجهل عظيم، وشرك يخلد به صاحبه في نار جهنم. وهذا بعد أن أثنى على نفسه جل وعلا بالأمور الخمسة المذكورة في الآية التي قبلها التي هي براهين قاطعة على أن المتصف بها هو المعبود وحده.
والأمور الستة التي هي من صفات المعبودات من دون الله:
الأول منها: أنها لا تخلق شيئًا، أي: لا تقدر على خلق شيء.
والثاني منها: أنها مخلوقة كلها، أي: خلقها خالق كل شيء.
والثالث: أنها لا تملك لأنفسها ضرًا ولا نفعًا.
الرابع والخامس والسادس: أنها لا تملك موتًا، ولا حياة، ولا نشورًا، أي: بعثا بعد الموت.
وهذه الأمور الستة المذكورة في هذه الآية الكريمة جاءت مبينة في مواضع أخر من كتاب الله تعالى.
أما الأول منها: وهو كون الآلهة المعبودة من دون الله لا تخلق شيئًا، فقد جاء مبينًا في آيات كثيرة، كقوله تعالى:{إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ لَنْ يَخْلُقُوا ذُبَابًا وَلَوِ اجْتَمَعُوا لَهُ} الآية. وقوله تعالى: {وَالَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ لَا يَخْلُقُونَ شَيْئًا وَهُمْ يُخْلَقُونَ (20) أَمْوَاتٌ غَيْرُ أَحْيَاءٍ وَمَا يَشْعُرُونَ أَيَّانَ يُبْعَثُونَ (21)} وقوله تعالى في سورة فاطر: {قُلْ أَرَأَيْتُمْ شُرَكَاءَكُمُ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَرُونِي مَاذَا خَلَقُوا مِنَ الْأَرْضِ أَمْ لَهُمْ شِرْكٌ فِي السَّمَاوَاتِ أَمْ آتَيْنَاهُمْ كِتَابًا فَهُمْ عَلَى بَيِّنَتٍ مِنْهُ بَلْ إِنْ يَعِدُ الظَّالِمُونَ بَعْضُهُمْ بَعْضًا إِلَّا غُرُورًا (40)} وقوله تعالى في سورة لقمان: {هَذَا خَلْقُ اللَّهِ فَأَرُونِي مَاذَا خَلَقَ الَّذِينَ مِنْ دُونِهِ بَلِ الظَّالِمُونَ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ (11)} وقوله تعالى في الأحقاف: {قُلْ أَرَأَيْتُمْ مَا تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَرُونِي مَاذَا خَلَقُوا مِنَ الْأَرْضِ أَمْ لَهُمْ شِرْكٌ فِي السَّمَاوَاتِ ائْتُونِي بِكِتَابٍ مِنْ قَبْلِ هَذَا أَوْ أَثَارَةٍ مِنْ عِلْمٍ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (4)} وقوله تعالى: {مَا أَشْهَدْتُهُمْ خَلْقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَلَا خَلْقَ أَنْفُسِهِمْ وَمَا كُنْتُ مُتَّخِذَ الْمُضِلِّينَ عَضُدًا (51)} .
وقد بين تعالى في آيات من كتابه الفرق بين من يخلق، ومن لا يخلق؛ لأن من يخلق هو المعبود، ومن لا يخلق لا تصح عبادته، كقوله تعالى:{يَاأَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ} الآية. أي: وأما من لم يخلقكم، فليس برب، ولا بمعبود لكم كما لا يخفى. وقوله تعالى:{أَفَمَنْ يَخْلُقُ كَمَنْ لَا يَخْلُقُ أَفَلَا تَذَكَّرُونَ (17)} وقوله تعالى: {أَمْ جَعَلُوا لِلَّهِ شُرَكَاءَ خَلَقُوا كَخَلْقِهِ فَتَشَابَهَ الْخَلْقُ عَلَيْهِمْ قُلِ اللَّهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ وَهُوَ الْوَاحِدُ الْقَهَّارُ (16)} أي: ومن كان كذلك فهو المعبود وحده جلَّ وعلا، وقوله تعالى:{أَيُشْرِكُونَ مَا لَا يَخْلُقُ شَيْئًا وَهُمْ يُخْلَقُونَ (191)} .
وأما الأمر الثاني منها: وهو كون الآلهة المعبودة من دونه مخلوقة، فقد جاء مبينًا في آيات من كتاب الله، كآية النحل والأعراف، المذكورتين آنفًا.
أما آية النحل فهي قوله تعالى: {وَالَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ لَا يَخْلُقُونَ شَيْئًا وَهُمْ يُخْلَقُونَ (20)} فقوله: وهم يخلقون صريح في ذلك. وأما آية الأعراف فهي قوله تعالى: {أَيُشْرِكُونَ مَا لَا يَخْلُقُ شَيْئًا وَهُمْ يُخْلَقُونَ (191)} الآيات.
وأما الأمر الثالث منها: وهو كونهم لا يملكون لأنفسهم نفعًا ولا ضرًا، فقد جاء مبينًا أيضًا في مواضع من كتاب الله، كقوله تعالى:{قُلْ مَنْ رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ قُلِ اللَّهُ قُلْ أَفَاتَّخَذْتُمْ مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ لَا يَمْلِكُونَ لِأَنْفُسِهِمْ نَفْعًا وَلَا ضَرًّا} وكقوله تعالى: {أَيُشْرِكُونَ مَا لَا يَخْلُقُ شَيْئًا وَهُمْ يُخْلَقُونَ (191) وَلَا يَسْتَطِيعُونَ لَهُمْ نَصْرًا وَلَا أَنْفُسَهُمْ يَنْصُرُونَ (192)} ومن لا ينصر نفسه فهو لا يملك لها ضرًا ولا نفعًا، وقوله تعالى:{وَالَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ لَا يَسْتَطِيعُونَ نَصْرَكُمْ وَلَا أَنْفُسَهُمْ يَنْصُرُونَ (197)} وقوله تعالى: {وَإِنْ تَدْعُوهُمْ إِلَى الْهُدَى لَا يَتَّبِعُوكُمْ سَوَاءٌ عَلَيْكُمْ أَدَعَوْتُمُوهُمْ أَمْ أَنْتُمْ صَامِتُونَ (193) إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ عِبَادٌ أَمْثَالُكُمْ فَادْعُوهُمْ فَلْيَسْتَجِيبُوا لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (194) أَلَهُمْ أَرْجُلٌ يَمْشُونَ بِهَا أَمْ لَهُمْ أَيْدٍ يَبْطِشُونَ بِهَا أَمْ لَهُمْ أَعْيُنٌ يُبْصِرُونَ بِهَا أَمْ لَهُمْ آذَانٌ يَسْمَعُونَ بِهَا} الآية.
وفيها الدلالة الواضحة على أنهم لا يملكون في نفسهم شيئًا، وقوله تعالى:{وَإِنْ يَسْلُبْهُمُ الذُّبَابُ شَيْئًا لَا يَسْتَنْقِذُوهُ مِنْهُ} الآية، إلى غير ذلك من الآيات.
وأما الرابع والخامس والسادس من الأمور المذكورة: أعني
كونهم لا يملكون موتًا، ولا حياة، ولا نشورًا. فقد جاءت أيضًا في آيات من كتاب الله، كقوله تعالى:{اللَّهُ الَّذِي خَلَقَكُمْ ثُمَّ رَزَقَكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ هَلْ مِنْ شُرَكَائِكُمْ مَنْ يَفْعَلُ مِنْ ذَلِكُمْ مِنْ شَيْءٍ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ (40)} .
فقوله تعالى في هذه الآية الكريمة: {هَلْ مِنْ شُرَكَائِكُمْ مَنْ يَفْعَلُ مِنْ ذَلِكُمْ مِنْ شَيْءٍ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ (40)} ، يدل دلالة واضحة على أن شركاءهم ليس واحد منهم يقدر أن يفعل شيئًا من ذلك المذكور في الآية. ومنه الحياة المعبر عنها بخلقكم، والموت المعبر عنه بقوله. (ثم يميتكم)، والنشور المعبر عنه بقوله:(ثم يحييكم)، وبين أنهم لا يملكون نشورًا بقوله:{أَمِ اتَّخَذُوا آلِهَةً مِنَ الْأَرْضِ هُمْ يُنْشِرُونَ (21)} وبين أنهم لا يملكون حياة ولا نشورًا في قوله تعالى: {قُلْ هَلْ مِنْ شُرَكَائِكُمْ مَنْ يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ قُلِ اللَّهُ يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ} الآية. وبين أنه وحده الذي بيده الموت والحياة في آيات كثيرة، كقوله تعالى:{وَمَا كَانَ لِنَفْسٍ أَنْ تَمُوتَ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ كِتَابًا مُؤَجَّلًا} وقوله تعالى: {وَلَنْ يُؤَخِّرَ اللَّهُ نَفْسًا إِذَا جَاءَ أَجَلُهَا} الآية، وقوله تعالى:{إِنَّ أَجَلَ اللَّهِ إِذَا جَاءَ لَا يُؤَخَّرُ} الآية، وقوله تعالى:{كَيْفَ تَكْفُرُونَ بِاللَّهِ وَكُنْتُمْ أَمْوَاتًا فَأَحْيَاكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ} الآية، وقوله تعالى:{قَالُوا رَبَّنَا أَمَتَّنَا اثْنَتَيْنِ وَأَحْيَيْتَنَا اثْنَتَيْنِ} الآية، إلى غير ذلك من الآيات. وهذا الذي ذكرنا من بيان هذه الآيات بعضها لبعض معلوم بالضرورة من الدين.
وقوله تعالى في هذه الآية الكريمة: {وَلَا يَمْلِكُونَ لِأَنْفُسِهِمْ ضَرًّا وَلَا نَفْعًا} أظهر الأقوال فيه أن المعنى لا يملكون لأنفسهم دفع ضرر ولا جلب نفع. كما قاله القرطبي وغيره. وغاية ما في هذا التفسير
حذف مضاف دل المقام عليه، وهو كثير في القرآن وفي كلام العرب وقد أشار إليه في الخلاصة بقوله:
وما يلي المضاف يأتي خلفا
…
عنه في الأعراب إذا ما حذفا
وقيل: المعنى: لا يقدرون أن يضروا أنفسهم، أو ينفعوها بشيء. والأول هو الأظهر. أي: وإذا عجزوا عن دفع ضر عن أنفسهم وجلب نفع لها فهم عن الموت والحياة والنشورة أعجز؛ لأن ذلك لا يقدر عليه إلَّا الله جلَّ وعلا.
وقوله تعالى في هذه الآية الكريمة: (ولا نشورًا)، اعلم أن النشور يطلق في العربية إطلاقين:
الأول: أن يكون مصدر نشر الثلاثي المتعدي، تقول: نشر الله الميت ينشره نشرًا ونشورًا.
والثاني: أن يكون مصدر نشر الميت ينشر نشورًا، لازمًا، والميت فاعل نشر.
والحاصل: أن في المادة ثلاثة لغات: الأولى: أنشره، رباعيًا بالهمزة، ينشره بضم الياء إنشارًا. ومنه قوله تعالى:{ثُمَّ إِذَا شَاءَ أَنْشَرَهُ (22)} وقوله تعالى: {وَانْظُرْ إِلَى الْعِظَامِ كَيْفَ نُنْشِزُهَا} بضم النون وبالراء المهملة في قراءة نافع، وابن كثير، وأبي عمرو. وهو مضارع أنشره.
والثانية: نشر الله الميت ينشره بصيغة الثلاثي المتعدي، والمصدر في هذه اللغة النشر والنشور، ومنه قوله هنا:(ولا نشورًا) أي: لا يملكون أن ينشروا أحدًا بفتح الياء، وضم الشين.
والثالثة: نشر الميت بصيغة الثلاثي اللازم. ومعنى أنشره،
ونشره متعديًا: أحياه بعد الموت. ومعنى نشر الميت لازمًا: حيي الميت وعاش بعد موته. وإطلاق النشر والنشور على الإِحياء بعد الموت، وإطلاق النشور على الحياة بعد الموت معروف في كلام العوب. ومن إطلاقهم نشر الميت لازمًا، فهو ناشر، أي: عاش بعد الموت قول الأعشى:
لو أسندت ميتًا إلى نحرها
…
عاش ولم لينقل إلى قابر
حتى يقول الناس مما رأوا
…
يا عجبًا للميت الناشر
ومن إطلاق النشور بمعنى الإِحياء بعد الموت، مصدر الثلاثي المتعدى. قوله هنا:(ولا نشورًا) أي: بعثا بعد الموت. ومن إطلاقهم النشور بمعنى الحياة بعد الموت مصدر الثلاثي اللازم قول الآخر:
إذا قبلتها كرعت بفيها
…
كروع العسجدية في الغدير
فيأخذني العناق وبرد فيها
…
بموت في عظامي أو فتور
فنحيا تارة ونموت أخرى
…
ونخلط ما نموت بالنشور
فقد جعل الغيبوبة من شدة اللذة موتًا، والإِفاقة منها نشورًا، أي حياة بعد الموت.
وقوله تعالى في هذه الآية الكريمة: {وَاتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ آلِهَةً} حذف فيه أحد المفعولين، أي: اتخذوا من دونه أصنامًا آلهة، كقوله تعالى:{وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ لِأَبِيهِ آزَرَ أَتَتَّخِذُ أَصْنَامًا آلِهَةً} الآية.
والآلهة جمع إله، فهو فعال مجموع على أفعلة؛ لأن الألف التي بعد الهمزة مبدلة من همزة ساكنة هي فاء الكلمة كما قال في الخلاصة:
ومدا ابدل ثاني الهمزين من
…
كلمة إن يسكن كآثر وائتمن