الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الأول: ما ذكره الزمخشري في الكشاف، قال: إذا احتاج رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى اجتماعكم عنده لأمر فدعاكم، فلا تتفرقوا عنه إلَّا بإذنه، ولا تقيسوا دعاءه إياكم على دعاء بعضكم بعضًا، ورجوعكم عن المجمع بغير إذن الداعي.
والوجه الثاني: هو ما ذكره ابن كثير في تفسيره قال: والقول الثاني في ذلك أن المعنى في: {لَا تَجْعَلُوا دُعَاءَ الرَّسُولِ بَيْنَكُمْ كَدُعَاءِ بَعْضِكُمْ بَعْضًا} أي: لا تعتقدوا أن دعاءه على غيره كدعاء غيره، فإن دعاءه مستجاب، فاحذروا أن يدعو عليكم، فتهلكوا. حكاه ابن أبي حاتم، عن ابن عباس، والحسن البصري، وعطية العوفي. واللَّه أعلم. انتهى كلام ابن كثير.
قال مقيده عفا الله عنه وغفر له: هذا الوجه الأخير يأباه ظاهر القرآن؛ لأن قوله تعالى: {كَدُعَاءِ بَعْضِكُمْ بَعْضًا} يدل على خلافه، ولو أراد دعاء بعضهم على بعض لقال: لا تجعلوا دعاء الرسول عليكم كدعاء بعضكم على بعض، فدعاء بعضهم بعضًا، ودعاء بعضهم على بعض متغايران كما لا يخفى. والظاهر أن قوله:(لا تجعلوا) مِنْ جعل التي بمعنى اعتقد، كما ذكرنا عن ابن كثير آنفًا.
•
قوله تعالى: {فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (63)}
.
الضمير في قوله: (عن أمره) راجع إلى الرسول، أو إلى الله، والمعنى واحد؛ لأن الأمر من الله والرسول مبلغ عنه، والعرب تقول: خالف أمره وخالف عن أمره. وقال بعضهم: (يخالفون) مضمن معنى يصدون، أي: يصدون عن أمره.
وهذه الآية الكريمة قد استدل بها الأصوليون على أن الأمر المجرد عن القرائن يقتضي الوجوب؛ لأنه جلَّ وعلا توعد المخالفين عن أمره بالفتنة، أو العذاب الأليم وحذرهم من مخالفة الأمر. وكل ذلك يقتضي أن الأمر للوجوب ما لم يصرف عنه صارف؛ لأن غير الواجب لا يستوجب تركه الوعيد الشديد والتحذير.
وهذا المعنى الذي دلت عليه هذه الآية الكريمة من اقتضاء الأمر المطلق الوجوب دلت عليه آيات أخر من كتاب الله، كقوله تعالى:{وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ ارْكَعُوا لَا يَرْكَعُونَ (48)} فإن قوله: (اركعوا) أمر مطلق، وذمه تعالى للذين لم يمتثلوه بقوله:(لا يركعون) يدل على أن امتثاله واجب. وكقوله تعالى لإِبليس: {مَا مَنَعَكَ أَلَّا تَسْجُدَ إِذْ أَمَرْتُكَ} فإنكاره تعالى على إبليس موبخًا له بقوله: ما منعك ألا تسجد إذ أمرتك، يدل على أنه تارك واجبًا، وأن امتثال الأمر واجب، مع أن الأمر المذكور مطلق، وهو قوله تعالى:{اسْجُدُوا لِآدَمَ} وكقوله تعالى عن موسى: {أَفَعَصَيْتَ أَمْرِي (93)} فسمى مخالفة الأمر معصية، وأمره المذكور مطلق، وهو قوله:{اخْلُفْنِي فِي قَوْمِي وَأَصْلِحْ وَلَا تَتَّبِعْ سَبِيلَ الْمُفْسِدِينَ (142)} وكقوله تعالى: {لَا يَعْصُونَ اللَّهَ مَا أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ (6)} وإطلاق اسم المعصية على مخالفة الأمر يدل على أن مخالفه عاص، ولا يكون عاصيًا إلَّا بترك واجب، أو ارتكاب محرم. وكقوله تعالى:{وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلَا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْرًا أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ} فإنه يدل على أن أمر الله، وأمر رسوله مانع من الاختيار، موجب للامتثال، وذلك يدل على اقتضائه الوجوب كما ترى. وأشار إلى أن مخالفته معصية بقوله بعده:{وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ ضَلَّ ضَلَالًا مُبِينًا (36)} .
واعلم أن اللغة تدل على اقتضاء الأمر المطلق الوجوب، بدليل أن السيد لو قال لعبده: إسقني ماء مثلًا، ولم يمتثل العبد أمر سيده فعاقبه السيد فليس للعبد أن يقول: عقابك لي ظلم، لأن صيغة الأمر في قولك: اسقني ماء لم توجب عليَّ الامتثال، فقد عاقبتني على ترك ما لا يلزمني. بل يفهم من نفس الصيغة أن الامتثال يلزمه، وأن العقاب على عدم الامتثال واقع موقعه.
والفتنة في قوله: {أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ} قيل: هي القتل، وهو مروي عن ابن عباس، وقيل: الزلازل والأهوال، وهو مروي عن عطاء. وقيل: السلطان الجائر، وهو مروي عن جعفر بن محمد. قال بعضهم: هي الطبع على القلوب بسبب شؤم مخالفة أمر الله ورسوله صلى الله عليه وسلم . وقال بعض العلماء: فتنة: محنة في الدنيا، أو يصيبهم عذاب أليم في الآخرة.
قال مقيده عفا الله عنه وغفر له: قد دل استقراء القرآن العظيم أن الفتنة فيه أطلقت على أربعة معان:
الأول: أن يراد بها الإحراق بالنار كقوله تعالى: {يَوْمَ هُمْ عَلَى النَّارِ يُفْتَنُونَ (13)} وقوله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ فَتَنُوا الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ} الآية، أي: أحرقهم بنار الأخدود، على القول بذلك.
الثاني وهو أشهرها: إطلاق الفتنة على الاختبار، كقوله تعالى:{وَنَبْلُوكُمْ بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ فِتْنَةً} الآية. وقوله تعالى: {وَأَلَّوِ اسْتَقَامُوا عَلَى الطَّرِيقَةِ لأَسْقَيْنَاهُمْ مَاءً غَدَقًا (16) لِنَفْتِنَهُمْ فِيهِ} .
والثالث: إطلاق الفتنة على نتيجة الاختيار إن كانت سيئة كقوله تعالى: {وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لَا تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ لِلَّهِ} وفي الأنفال:
{وَيَكُونَ الدِّينُ كُلُّهُ لِلَّهِ} فقوله: {حَتَّى لَا تَكُونَ فِتْنَةٌ} أي: حتى لا يبقى شرك، على أصح التفسيرين، ويدل على صحته قوله بعده:{وَيَكُونَ الدِّينُ لِلَّهِ} لأن الدين لا يكون كله للَّه حتى لا يبقى شرك كما ترى، ويوضح ذلك قوله صلى الله عليه وسلم:"أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا لا إله إلَّا الله" كما لا يخفى.
والرابع: إطلاق الفتن على الحجة في قوله تعالى: {ثُمَّ لَمْ تَكُنْ فِتْنَتُهُمْ إِلَّا أَنْ قَالُوا وَاللَّهِ رَبِّنَا مَا كُنَّا مُشْرِكِينَ (23)} أي: لم تكن حجتهم، كما قال له بعض أهل العلم.
والأظهر عندي: أن الفتنة في قوله هنا: {أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ} أنه من النوع الثالث من الأنواع المذكورة.
وأن معناه: أن يفتنهم الله، أي: يزيدهم ضلالًا بسبب مخالفتهم عن أمره، وأمر وسوله صلى الله عليه وسلم.
وهذا المعنى تدل عليه آيات كثيرة من كتاب الله تعالى، كقوله جلَّ وعلا:{كَلَّا بَلْ رَانَ عَلَى قُلُوبِهِمْ مَا كَانُوا يَكْسِبُونَ (14)} وقوله تعالى: {فَلَمَّا زَاغُوا أَزَاغَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ} وقوله تعالى: {فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ فَزَادَهُمُ اللَّهُ مَرَضًا} الآية. وقوله تعالى: {وَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ فَزَادَتْهُمْ رِجْسًا إِلَى رِجْسِهِمْ} الآية. والآيات بمثل ذلك كثيرة. والعلم عند الله تعالى.
• قوله قعالى: {قَدْ يَعْلَمُ مَا أَنْتُمْ عَلَيْهِ} .
بين جلَّ وعلا في هذه الآية الكريمة أنه يعلم ما عليه خلقه، أي: من الطاعة والمعصية وغير ذلك.
وهذا المعنى الذي دلت عليه هذه الآية مع أنه معلوم بالضرورة
من الدين جاء مبينًا في آيات كثيرة، كقوله تعالى:{وَمَا تَكُونُ فِي شَأْنٍ وَمَا تَتْلُو مِنْهُ مِنْ قُرْآنٍ وَلَا تَعْمَلُونَ مِنْ عَمَلٍ إِلَّا كُنَّا عَلَيْكُمْ شُهُودًا إِذْ تُفِيضُونَ فِيهِ وَمَا يَعْزُبُ عَنْ رَبِّكَ مِنْ مِثْقَالِ ذَرَّةٍ فِي الْأَرْضِ وَلَا فِي السَّمَاءِ وَلَا أَصْغَرَ مِنْ ذَلِكَ وَلَا أَكْبَرَ إِلَّا فِي كِتَابٍ مُبِينٍ (61)} وقوله تعالى: {أَلَا إِنَّهُمْ يَثْنُونَ صُدُورَهُمْ لِيَسْتَخْفُوا مِنْهُ أَلَا حِينَ يَسْتَغْشُونَ ثِيَابَهُمْ يَعْلَمُ مَا يُسِرُّونَ وَمَا يُعْلِنُونَ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ (5)} وقوله تعالى: {أَفَمَنْ هُوَ قَائِمٌ عَلَى كُلِّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ} أي: هو شهيد على عباده بما هم فاعلون من خير وشر. وقوله تعالى: {وَتَوَكَّلْ عَلَى الْعَزِيزِ الرَّحِيمِ (217) الَّذِي يَرَاكَ حِينَ تَقُومُ (218) وَتَقَلُّبَكَ فِي السَّاجِدِينَ (219) إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (220)} وقوله تعالى: {سَوَاءٌ مِنْكُمْ مَنْ أَسَرَّ الْقَوْلَ وَمَنْ جَهَرَ بِهِ وَمَنْ هُوَ مُسْتَخْفٍ بِاللَّيْلِ وَسَارِبٌ بِالنَّهَارِ (10)} وقوله تعالى: {وَأَسِرُّوا قَوْلَكُمْ أَوِ اجْهَرُوا بِهِ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ (13)} وقوله تعالى: {وَعِنْدَهُ مَفَاتِحُ الْغَيْبِ لَا يَعْلَمُهَا إِلَّا هُوَ وَيَعْلَمُ مَا فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَمَا تَسْقُطُ مِنْ وَرَقَةٍ إِلَّا يَعْلَمُهَا وَلَا حَبَّةٍ فِي ظُلُمَاتِ الْأَرْضِ وَلَا رَطْبٍ وَلَا يَابِسٍ إِلَّا فِي كِتَابٍ مُبِينٍ (59)} وقوله تعالى: {وَمَا مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ إِلَّا عَلَى اللَّهِ رِزْقُهَا وَيَعْلَمُ مُسْتَقَرَّهَا وَمُسْتَوْدَعَهَا كُلٌّ فِي كِتَابٍ مُبِينٍ (6)} وقوله تعالى: {أَلَا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ (14)} إلى غير ذلك من الآيات.
وفي هذه الآيات وما في معناها أحسن وعد للمطيعين، وأشد وعيد للعصاة المجرمين، ولفظة قد في قوله تعالى في هذه الآية الكريمة:{قَدْ يَعْلَمُ مَا أَنْتُمْ عَلَيْهِ} للتحقيق، وإتيان قد للتحقيق مع المضارع كثير جدًّا في القرآن العظيم، كقوله تعالى:{قَدْ يَعْلَمُ اللَّهُ الَّذِينَ يَتَسَلَّلُونَ مِنْكُمْ لِوَاذًا فَلْيَحْذَرِ} وقوله تعالى: {قَدْ يَعْلَمُ اللَّهُ الْمُعَوِّقِينَ مِنْكُمْ} الآية. وقوله تعالى: {قَدْ نَعْلَمُ إِنَّهُ لَيَحْزُنُكَ الَّذِي يَقُولُونَ} الآية. وقوله تعالى: {قَدْ نَرَى تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِي السَّمَاءِ} الآية.