الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الكلام على قوله تعالى: {وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ إِبْرَاهِيمَ إِنَّهُ كَانَ صِدِّيقًا نَبِيًّا (41) إِذْ قَالَ لِأَبِيهِ يَاأَبَتِ لِمَ تَعْبُدُ مَا لَا يَسْمَعُ وَلَا يُبْصِرُ وَلَا يُغْنِي عَنْكَ شَيْئًا (42)} الآية.
•
إلى قوله تعالى: {وَفَدَيْنَاهُ بِذِبْحٍ عَظِيمٍ (107)} .
اعلم أولًا أن العلماء اختلفوا في هذا الغلام الذي أمر إبراهيم في المنام بذبحه، ومعلوم أن رؤيا الأنبياء وحي، ثم لما باشر عمل ذبحه امتثالًا للأمر فداه الله بذبح عظيم، هل هو إسماعيل أو إسحاق؟ وقد وعدنا في سورة الحجر بأنا نوضح ذلك بالقرآن في سورة الصافات، وهذا وقت إنجار الوعد.
اعلم وفقني الله وإياك أن القرآن العظيم قد دل في موضعين على أن الذبيح هو إسماعيل، لا إسحاق: أحدهما: في الصافات، والثانى: في هود.
أما دلالة آيات الصافات على ذلك فهي واضحة جدًّا من سياق الآيات، وإيضاح ذلك أنه تعالى قال عن نبيه إبراهيم:{وَقَالَ إِنِّي ذَاهِبٌ إِلَى رَبِّي سَيَهْدِينِ (99) رَبِّ هَبْ لِي مِنَ الصَّالِحِينَ (100) فَبَشَّرْنَاهُ بِغُلَامٍ حَلِيمٍ (101) فَلَمَّا بَلَغَ مَعَهُ السَّعْيَ قَالَ يَابُنَيَّ إِنِّي أَرَى فِي الْمَنَامِ أَنِّي أَذْبَحُكَ فَانْظُرْ مَاذَا تَرَى قَالَ يَاأَبَتِ افْعَلْ مَا تُؤْمَرُ سَتَجِدُنِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ مِنَ الصَّابِرِينَ (102) فَلَمَّا أَسْلَمَا وَتَلَّهُ لِلْجَبِينِ (103) وَنَادَيْنَاهُ أَنْ يَاإِبْرَاهِيمُ (104) قَدْ صَدَّقْتَ الرُّؤْيَا إِنَّا كَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ (105) إِنَّ هَذَا لَهُوَ الْبَلَاءُ الْمُبِينُ (106) وَفَدَيْنَاهُ بِذِبْحٍ عَظِيمٍ (107) وَتَرَكْنَا عَلَيْهِ فِي الْآخِرِينَ (108) سَلَامٌ عَلَى إِبْرَاهِيمَ (109) كَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ (110)} قال بعد ذلك عاطفًا على البشارة الأولى: {وَبَشَّرْنَاهُ بِإِسْحَاقَ نَبِيًّا مِنَ الصَّالِحِينَ (112)} ، فدل ذلك على أن
البشارة الأولى شيء غير المبشر به في الثانية؛ لأنه لا يجوز حمل كتاب الله على أن معناه: فبشرناه بإسحاق، ثم بعد انتهاء قصة ذبحه يقول أيضًا: وبشرناه بإسحاق، فهو تكرار لا فائدة فيه ينزه عنه كلام الله. وهو واضح في أن الغلام المبشر به أولًا الذي فدي بالذبح العظيم هو إسماعيل، وأن البشارة بإسحق نص الله عليها مستقلة بعد ذلك.
وقد أوضحنا في سورة النحل في الكلام على قوله تعالى: {مَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً} الآية. أن المقرر في الأصول أن النص من كتاب الله وسنَّة رسوله صلى الله عليه وسلم إذا احتمل التأسيس والتأكيد معًا وجب حمله على التأسيس، ولا يجوز حمله على التأكيد إلَّا لدليل يجب الرجوع إليه.
ومعلوم في اللغة العربية أن العطف يقتضي المغايرة، فآية الصافات هذه دليل واضح للمنصف على أن الذبيح إسماعيل لا إسحاق، ويستأنس لهذا بأن المواضع التي ذكر فيها إسحاق يقينًا عبر عنه في كلها بالعلم لا الحلم، وهذا الغلام الذبيح وصفه بالحلم لا العلم.
وأما الموضع الثاني الدال على ذلك الذي ذكرنا أنه في سورة هود فهو قوله تعالى: {وَامْرَأَتُهُ قَائِمَةٌ فَضَحِكَتْ فَبَشَّرْنَاهَا بِإِسْحَاقَ وَمِنْ وَرَاءِ إِسْحَاقَ يَعْقُوبَ (71)} ؛ لأن رسل الله من الملائكة بشرتها بإسحاق، وأن إسحاق يلد يعقوب، فكيف يعقل أن يؤمر إبراهيم بذبحه، وهو صغير، وهو عنده علم يقين بأنه يعيش حتى يلد يعقوب.
فهذه الآية أيضًا دليل واضح على ما ذكرنا، فلا ينبغي للمنصف
الخلاف في ذلك بعد دلالة هذه الأدلة القرآنية على ذلك. والعلم عند الله تعالى.
تنبيه
اعلم أن قصة الذبيح هذه تؤيد أحد القولين المشهورين عند أهل الأصول في حكمة التكليف، هل هي للامتثال فقط، أو هي مترددة بين الامتثال والابتلاء؛ لأنه بين في هذه الآية الكريمة أن حكمة تكليفه لإبراهيم بذبحه ولده ليست هي امتثاله ذلك بالفعل؛ لأنه لم يرد ذبحه كونًا وقدرًا، وإنما حكمة تكليفه بذلك مجرد الابتلاء والاختبار، هل يصمم على امتثال ذلك أو لا؟ كما صرح بذلك قوله تعالى:{إِنَّ هَذَا لَهُوَ الْبَلَاءُ الْمُبِينُ (106) وَفَدَيْنَاهُ بِذِبْحٍ عَظِيمٍ (107)} فتبين بهذا أن التحقيق أن حكمة التكليف مترددة بين الامتثال، والابتلاء. وإلى الخلاف المذكور أشار في مراقي السعود بقوله:
للامتثال كلف الرقيب
…
فموجب تمكنا مصيب
أو بينه والابتلا ترددا
…
شرط تمكن عليه انفقدا
وقد أشار بقوله: فموجب تمكنًا مصيب. وقوله: شرط تمكن عليه انفقدا. إلى أن شرط التمكن من الفعل في التكليف مبني على الخلاف المذكور، فمن قال: إن الحكمة في التكليف هي الامتثال فقط اشترط في التكليف التمكن من الفعل؛ لأنه لا امتثال إلَّا مع التمكن من الفعل، ومن قال: إن الحكمة مترددة بين الامتثال والابتلاء لم يشترط التمكن من الفعل؛ لأن حكمة الابتلاء تتحقق مع عدم التمكن من الفعل كما لا يخفى.
ومن الفروع المبنية على هذا الخلاف أن تعلم المرأة بالعادة المطردة أنها تحيض بعد الظهر غدًا من نهار رمضان، ثم حصل لها