الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
•
قوله تعالى: {تَبَارَكَ الَّذِي جَعَلَ فِي السَّمَاءِ بُرُوجًا وَجَعَلَ فِيهَا سِرَاجًا وَقَمَرًا مُنِيرًا (61)}
.
قد قدمنا كلام أهل العلم في معنى تبارك في أول هذه السورة الكريمة.
والبروج في اللغة: القصور العالية، ومنه قوله تعالى:{وَلَوْ كُنْتُمْ فِي بُرُوجٍ مُشَيَّدَةٍ} .
واختلف العلماء في المراد بالبروج في الآية، فقال بعضهم: هي الكواكب العظام. قال ابن كثير: وهو قول مجاهد، وسعيد بن جبير، وأبي صالح، والحسن، وقتادة، ثم قال: وقيل: هي قصور في السماء للحرس. ويروى هذا عن علي، وابن عباس، ومحمد بن كعب، وإبراهيم النخعي، وسليمان بن مهران الأعمش، وهو رواية عن أبي صالح أيضًا. والقول الأول أظهر، اللَّهم إلَّا أن تكون الكواكب العظام هي قصور للحرس فيجتمع القولان، كما قال تعالى:{وَلَقَدْ زَيَّنَّا السَّمَاءَ الدُّنْيَا بِمَصَابِيحَ} اهـ. محل الغرض من كلام ابن كثير.
وقال الزمخشري في الكشاف: البروج منازل الكواكب السبعة السيارة: الحمل، والثور، والجوزاء، والسرطان، والأسد، والسنبلة، والميزان، والعقرب، والقوس، والجدي، والدلو، والحوت، سميت بالبروج التي هي القصور العالية؛ لأنها لهذه الكواكب كالمنازل لسكانها. واشتقاق البرج من التبرج لظهوره. اهـ منه.
وما ذكره جلَّ وعلا هنا من أنه جعل في السماء بروجًا وجعل فيها سراجًا، وهو الشمس، وقمرًا منيرًا، بينه في غير هذا الموضع
كقوله تعالى: {وَلَقَدْ جَعَلْنَا فِي السَّمَاءِ بُرُوجًا وَزَيَّنَّاهَا لِلنَّاظِرِينَ (16)} وقوله تعالى: {وَالسَّمَاءِ ذَاتِ الْبُرُوجِ (1)} وقوله تعالى {وَجَعَلْنَا سِرَاجًا وَهَّاجًا (13)} وقوله تعالى: {أَلَمْ تَرَوْا كَيْفَ خَلَقَ اللَّهُ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ طِبَاقًا (15) وَجَعَلَ الْقَمَرَ فِيهِنَّ نُورًا وَجَعَلَ الشَّمْسَ سِرَاجًا} .
وقرأ هذا الحرف عامة السبعة غير حمزة والكسائي: وجعل فيها سراجًا بكسر السين وفتح الراء بعدها ألف على الإِفراد، وقرأه حمزة والكسائي: سرجًا بضم السين والراء جمع سراج، فعلى قراءة الجمهور بإفراد السراج، فالمراد به الشمس، بدليل قوله تعالى:{وَجَعَلَ الشَّمْسَ سِرَاجًا (16)} وعلى قراءة حمزة والكسائي بالجمع. فالمراد بالسرج الشمس، والكواكب العظام.
وقد قدمنا في سورة الحجر أن ظاهر القرآن أن القمر في السماء المبنية، لا السماء التي هي مطلق ما علاك؛ لأن الله بين في سورة الحجر أن السماء التي جعل فيها البروج هي المحفوظة، والمحفوظة هي المبنية في قوله تعالى:{وَالسَّمَاءَ بَنَيْنَاهَا بِأَيْدٍ وَإِنَّا لَمُوسِعُونَ (47)} وقوله: {وَبَنَيْنَا فَوْقَكُمْ سَبْعًا شِدَادًا (12)} وليست مطلق ما علاك، والبيان المذكور في سورة الحجر في قوله تعالى:{وَلَقَدْ جَعَلْنَا فِي السَّمَاءِ بُرُوجًا وَزَيَّنَّاهَا لِلنَّاظِرِينَ (16) وَحَفِظْنَاهَا} الآية. فآية الحجر هذه دالة على أن ذات البروج هي المبنية المحفوظة، لا مطلق ما علاك.
وإذا علمت ذلك فاعلم أنه جلَّ وعلا في آية الفرقان هذه، بين أن القمر في السماء التي جعل فيها البروج؛ لأنه قال هنا:{تَبَارَكَ الَّذِي جَعَلَ فِي السَّمَاءِ بُرُوجًا وَجَعَلَ فِيهَا سِرَاجًا وَقَمَرًا مُنِيرًا (61)} وذلك دليل على أنها ليست مطلق ما علاك. وهذا الظاهر لا ينبغي للمسلم العدول عنه إلَّا بدليل يجب الرجوع إليه مما جاء به محمد صلى الله عليه وسلم .
فإن قيل: يوجد في كلام بعض السلف أن القمر في فضاء بعيد من السماء، وأن علم الهيئة دل على ذلك، وأن الأرصاد الحديثة بينت ذلك.
قلنا: ترك النظر في علم الهيئة عمل بهدى القرآن العظيم؛ لأن الصحابة رضي الله عنهم لما تاقت نفوسهم إلى تعلم هيئة القمر منه صلى الله عليه وسلم ، وقالوا له: يا نبي الله: ما بال الهلال يبدو دقيقًا، ثم لم يزل يكبر حتى يستدير بدرًا؟ نزل القرآن بالجواب بما فيه فائدة للبشر وترك ما لا فائدة فيه، وذلك في قوله تعالى:{يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْأَهِلَّةِ قُلْ هِيَ مَوَاقِيتُ لِلنَّاسِ وَالْحَجِّ} وهذا الباب الذي أرشد القرآن العظيم إلى سده لما فتحه الكفرة كانت نتيجة فتحه الكفر والإِلحاد وتكذيب الله ورسوله من غير فائدة دنيوية. والذي أرشد الله إليه في كتابه هو النظر في غرائب صنعه، وعجائبه في السماوات والأرض؛ ليستدل بذلك على كمال قدرته تعالى، واستحقاقه للعبادة وحده. وهذا المقصد الأساسي لم يحصل للناظرين في الهيئة من الكفار.
وعلى كل حال فلا يجوز لأحد ترك ظاهر القرآن العظيم إلَّا لدليل مقنع يجب الرجوع إليه، كما هو معلوم في محله.
ولا شك أن الذين يحاولون الصعود إلى القمر بآلاتهم ويزعمون أنهم نزلوا على سطحه سينتهي أمرهم إلى ظهور حقارتهم، وضعفهم، وعجزهم، وذلهم أمام قدرة خالق السماوات والأرض جلَّ وعلا.
وقد قدمنا في سورة الحجر أن ذلك يدل عليه قوله تعالى: {أَمْ لَهُمْ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا فَلْيَرْتَقُوا فِي الْأَسْبَابِ (10) جُنْدٌ مَا هُنَالِكَ مَهْزُومٌ مِنَ الْأَحْزَابِ (11)} .