الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
بسم الله الرحمن الرحيم
•
قوله تعالى: {تَبَارَكَ الَّذِي نَزَّلَ الْفُرْقَانَ عَلَى عَبْدِهِ لِيَكُونَ لِلْعَالَمِينَ نَذِيرًا (1)}
.
ذكر جلَّ وعلا في هذه الآية الكريمة: أنه نزل الفرقان، وهو هذا القرآن العظيم على عبده، وهو محمد صلى الله عليه وسلم؛ لأجل أن يكون للعالمين نذيرًا، أي: منذرًا. وقد قدمنا مرارًا أن الإِندار هو الإِعلام المقترن بتهديد وتخويف، وأن كل إنذار إعلام، وليس كل إعلام إنذارًا كما أوضحناه في أول سورة الأعراف.
وهذه الآية الكريمة تدل على عموم رسالته صلى الله عليه وسلم للأسود والأحمر والجن والإنس لدخول الجميع في قوله تعالى: {لِلْعَالَمِينَ نَذِيرًا} .
وهذا المعنى الذي دلت عليه هذه الآية الكريمة جاء موضحًا في آيات أخر، كقوله تعالى:{قُلْ يَاأَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعًا} وقوله تعالى: {وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا كَافَّةً لِلنَّاسِ} الآية، أي أرسلناك للناس كافة؛ أي جميعًا، وقوله تعالى:{قُلْ أَيُّ شَيْءٍ أَكْبَرُ شَهَادَةً قُلِ اللَّهُ شَهِيدٌ بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ وَأُوحِيَ إِلَيَّ هَذَا الْقُرْآنُ لِأُنْذِرَكُمْ بِهِ وَمَنْ بَلَغَ} وقوله تعالى: {يَامَعْشَرَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ إِنِ اسْتَطَعْتُمْ أَنْ تَنْفُذُوا مِنْ أَقْطَارِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ فَانْفُذُوا لَا
تَنْفُذُونَ إِلَّا بِسُلْطَانٍ (33) فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (34)} وقوله تعالى: {وَإِذْ صَرَفْنَا إِلَيْكَ نَفَرًا مِنَ الْجِنِّ يَسْتَمِعُونَ الْقُرْآنَ فَلَمَّا حَضَرُوهُ قَالُوا أَنْصِتُوا فَلَمَّا قُضِيَ وَلَّوْا إِلَى قَوْمِهِمْ مُنْذِرِينَ (29) قَالُوا يَاقَوْمَنَا إِنَّا سَمِعْنَا كِتَابًا أُنْزِلَ مِنْ بَعْدِ مُوسَى مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ وَإِلَى طَرِيقٍ مُسْتَقِيمٍ (30) يَاقَوْمَنَا أَجِيبُوا دَاعِيَ اللَّهِ وَآمِنُوا بِهِ يَغْفِرْ لَكُمْ مِنْ ذُنُوبِكُمْ وَيُجِرْكُمْ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ (31) وَمَنْ لَا يُجِبْ دَاعِيَ اللَّهِ فَلَيْسَ بِمُعْجِزٍ فِي الْأَرْضِ} الآية.
وفي معنى قوله تعالى (تبارك) أقوال لأهل العلم. قال القرطبي: (تبارك) اختلف في معناه. فقال الفراء: هو في العربية بمعنى: تقدس وهما للعظمة، وقال الزجاج: تبارك: تفاعل من البركة قال: ومعنى البركة: الكثرة من كل ذي خير، وقيل: تبارك: تعالى، وقيل: تعالى عطاؤه، أي: زاد وكثر. وقيل المعنى: دام وثبت إنعامه. قال النحاس: وهذا أولاها في اللغة والاشتقاق من برك الشيء إذا ثبت، ومنه برك الجمل والطير على الماء، أي: دام وثبت. انتهى محل الغرض من كلام القرطبي.
وقال أبو حيان في البحر المحيط: قال ابن عباس: تبارك: لم يزل، ولا يزول. وقال الخليل: تمجد وقال الضحاك: تعظم. وحكى الأصمعي تباركت عليكم من قول عربي صعد رابية فقال ذلك لأصحابه، أي: تعاليت وارتفعت. ففي هذه الأقوال تكون صفة ذات. وقال ابن عباس أيضًا، والحسن، والنخعي: هو من البركة، وهو التزايد في الخير من قبله. فالمعنى: زاد خيره وعطاؤه وكثر. وعلى هذا يكون صفة فعل. انتهى محل الغرض من كلام أبي حيان.
قال مقيده عفا الله عنه وغفر له: الأظهر في معنى تبارك حسب اللغة التي نزل بها القرآن أنه تفاعل من البركة، كما جزم به ابن جرير
الطبري. وعليه فمعنى تبارك: تكاثرت البركات والخيرات من قبله، وذلك يستلزم عظمته وتقدسه عن كل ما لا يليق بكماله وجلاله؛ لأن من تأتي من قِبَله البركات والخيرات ويدر الأرزاق على الناس هو وحده المتفرد بالعظمة، واستحقاق إخلاص العبادة له. والذي لا تأتي من قبله بركة ولا خير، ولا رزق، كالأصنام، وسائر المعبودات من دون الله لا يصح أن يعبد، وعبادته كفر مخلد في نار جهنم، وقد أشار تعالى إلى هذا في قوله:{إِنَّ الَّذِينَ تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ لَا يَمْلِكُونَ لَكُمْ رِزْقًا فَابْتَغُوا عِنْدَ اللَّهِ الرِّزْقَ وَاعْبُدُوهُ وَاشْكُرُوا لَهُ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (17)} وقوله تعالى: {وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لَا يَمْلِكُ لَهُمْ رِزْقًا مِنَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ شَيْئًا وَلَا يَسْتَطِيعُونَ (73)} وقوله تعالى: {وَهُوَ يُطْعِمُ وَلَا يُطْعَمُ} وقوله تعالى: {مَا أُرِيدُ مِنْهُمْ مِنْ رِزْقٍ وَمَا أُرِيدُ أَنْ يُطْعِمُونِ (57) إِنَّ اللَّهَ هُوَ الرَّزَّاقُ ذُو الْقُوَّةِ الْمَتِينُ (58)} وقوله تعالى: {هُوَ الَّذِي يُرِيكُمْ آيَاتِهِ وَيُنَزِّلُ لَكُمْ مِنَ السَّمَاءِ رِزْقًا وَمَا يَتَذَكَّرُ إِلَّا مَنْ يُنِيبُ (13) فَادْعُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ (14)} الآية.
تنبيه
اعلم أن قوله: (تبارك) فعل جامد لا يتصرف، فلا يأتي منه مضارع، ولا مصدر، ولا اسم فاعل، ولا غير ذلك، وهو مما يختص به الله تعالى، فلا يقال لغيره:(تبارك) خلافًا لما تقدم عن الأصمعي، وإسناده (تبارك) إلى قوله:{الَّذِي نَزَّلَ الْفُرْقَانَ} يدل على أن إنزاله الفرقان على عبده من أعظم البركات والخيرات والنعم التي أنعم بها على خلقه، كما أوضحناه في أول سورة الكهف في الكلام على قوله تعالى:{الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَى عَبْدِهِ الْكِتَابَ. . .} الآية. وذكرنا الآيات الدالة على ذلك. وإطلاق
العرب (تبارك) مسندًا إلى الله تعالى معروف في كلامهم، ومنه قول الطرماح:
تبارك لا معط لشيء منعته
…
وليس لما أعطيت يا رب مانع
وقول الآخر:
فليست عشيات الحمى برواجع
…
لنا أبدًا ما أورق السلم النضر
ولا عائد ذاك الزمان الذي مضى
…
تباركت ما تقدر يقع ولك الشكر
وقد قدمنا الشاهد الأخير في سورة الأنبياء في الكلام على قوله تعالى: {فَظَنَّ أَنْ لَنْ نَقْدِرَ عَلَيْهِ} .
وقوله: {الْفُرْقَانَ} يعني هذا القرآن العظيم، وهو مصدر زيدت فيه الألف والنون كالكفران والطغيان والرجحان، وهذا المصدر أريد به اسم الفاعل؛ لأن معنى كونه فرقانًا أنه فارق بين الحق والباطل، وبين الرشد والغي. وقال بعض أهل العلم: المصدر الذي هو الفرقان بمعنى اسم المفعول؛ لأنه نزل مفرقًا، ولم ينزل جملة.
واستدل أهل هذا القول بقوله تعالى: {وَقُرْآنًا فَرَقْنَاهُ لِتَقْرَأَهُ عَلَى النَّاسِ عَلَى مُكْثٍ} الآية، وقوله:{وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْلَا نُزِّلَ عَلَيْهِ الْقُرْآنُ جُمْلَةً وَاحِدَةً كَذَلِكَ لِنُثَبِّتَ بِهِ فُؤَادَكَ وَرَتَّلْنَاهُ تَرْتِيلًا (32)} .
وقوله في هذه الآية الكريمة: {نَزَّلَ} بالتضعيف يدل على كثرة نزوله أنجمًا منجمًا. قال بعض أهل العلم: ويدل على ذلك قوله في أول سورة آل عمران: {نَزَّلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ وَأَنْزَلَ التَّوْرَاةَ وَالْإِنْجِيلَ (3)} الآية. قالوا: عبر في نزول القرآن بنزل بالتضعيف؛ لكثرة نزوله. وأما التوراة والإِنجيل فقد عبر في نزولهما بأنزل التي لا تدل على تكثير؛ لأنهما نزلا جملة في وقت واحد.