الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
بسم الله الرحمن الرحيم
[مقدمة المصنف]
وعليه نتوكل وبه نستعين.
الحمد لله العظيم سلطانه، العميم إحسانه، الظاهر امتنانه، الباهر برهانه. أحمده حمد من تساوى في الإخلاص إسراره وإعلانه، وأصلي على نبيه المصطفى الذي تمهدت بشرعه قواعد الدين وأركانه، وعلى آله وأصحابه الذين هم أنصار الهدى وأعوانه.
أما بعد.
فإن أجل العلوم خطرًا، وأحلاها أثرًا، وأرجحها فضيلة، وأنجحها وسيلة، وأسعدها جدًا، وأجدها سعدًا، وأشرفها موضعًا، وألطفها موقعًا: علمُ الشرع الشريف ومعرفة أحكامه، والاطلاع على سر حلاله وحرامه. فمن طلب أن يَبْرُز في إظهاره، ويشتغل فهمه في إيراده وإصداره، ليكون على ذلك واقفًا، وبتفسير غوامضه وحل مشكلاته عارفًا، وبما أوتيه منه عاملاً: تعينت مساعدته على مَطالبه ومَغازيه ومُعاضدته على تذكار لفظه ومعانيه.
ولما رأيت همم المشتغلين بمذهب الإمام المبجل، أحمد بن محمد بن حنبل رضي الله عنه متوفرة على حفظ الكتاب المسمى بـ «المقنع» تأليف الشيخ الإمام، العالم العلامة، شيخ الإسلام موفق الدين أبي محمد عبدالله المقدسي: أحببت أن أشرحه، وأبين مراده وأوضحه، وأذكر دليل كل حكم وأصححه.
فنسأل الله أن يسلمنا من الزلل، وأن يجعل علمنا مقرونًا بالعمل.
قال الشيخ الإمام العالم المصنف رحمه الله:
(الحمد لله المحمود على كل حال، الدائم الباقي بلا زوال، الموجِد خلقه على غير مثال، العالمِ بعدد القطر وأمواج البحر وذرات الرمال، لا يعزب عنه مثقال ذرة في الأرض ولا في السماء ولا تحت أطباق الجبال، عالمِ الغيب والشهادة الكبير المتعال، وصلى الله على سيدنا محمد المصطفى وآله خير آل، صلاة دائمة بالغدو والآصال).
أما الحمد فهو ضد الذم. وهو أعم من الشكر؛ لأنه يكون لمبتدئ النعمة ولغيره، والشكر لمبتدئ النعمة فقط.
وقيل: هما سواء.
وأما المحمود على كل حال فمعناه أنه سبحانه محمود في حالتي الشدة والرخاء.
وأما الدائم الباقي بلا زوال فصفات لله سبحانه وتعالى. ومعانيهما ظاهرة.
وأما الموجد خلقه على غير مثال فبيان لكمال قدرته؛ لأن صانعًا ما إذا أوجد شيئًا ما لابُدّ له من مثال. ما خلا الله تعالى. فإنه لكمال قدرته يوجد الأشياء على غير مثال.
وأما العالم بعدد القطر وأمواج البحر وذرات الرمال فبيان لإحاطة علمه بكل شيء. قال الله تعالى: {لا يعزب عنه مثقال ذرة في الأرض ولا في السماء ولا أصغر من ذلك ولا أكبر إلا في كتاب مبين} [سبأ: 3].
وأما عالم الغيب والشهادة فمعناه أنه سبحانه يعلم ما غاب عن العيون مما لم يعاين ولم يشاهد.
وقيل: هما السر والعلانية.
وأما الكبير فهو: العظمة.
وأما المتعال فهو: المنزّه عن صفات المخلوقين.
وأما الصلاة على سيدنا محمد فطلب للرحمة من الله لمحمد صلى الله عليه وسلم.
وأما المصطفى فهو: الخالص من الخلق.
وأما الآل فهم: كل تقي من أمة محمد صلى الله عليه وسلم.
وقيل: هم أهله فقط.
وأما الصلاة الدائمة فهي: المتصلة التي لا تنقطع.
وأما الغدو والآصال فهما: البكرة والعشي.
قال المصنف رحمه الله: (أما بعد. فهذا كتاب في الفقه على مذهب الإمام أبي عبدالله أحمد بن محمد بن حنبل الشيباني رضي الله عنه، اجتهدت في جمعه وترتيبه، وإيجازه وتقريبه، وسطًا بين القصير والطويل، وجامعًا لأكثر الأحكام عريَّة عن الدليل والتعليل، ليكثر علمه، ويقل حجمه، ويسهل حفظه وفهمه، ويكون مقنعًا لحافظيه، نافعًا للناظر فيه. والله سبحانه المسئول أن يبلغنا أملنا، ويصلح قولنا وعملنا، ويجعل سعينا مقربًا إليه ونافعًا لديه برحمته).
أما قول المصنف رحمه الله: أما بعد فمعناه أما بعد حمد لله. فلما حذف المضاف إليه بنى بعد على الضم.
وأما قوله: فهذا كتاب فهو إشارة إلى الكتاب المؤلف المسمى بـ «المقنع» .
فإن قيل: كيف جازت الإشارة إليه قبل تأليفه؟
قيل: عن ذلك جوابان:
أحدهما: أن الإشارة كانت إلى كتاب مصورٍ في الذهن؛ لأن من عزم على تأليف كتاب صوّره في ذهنه.
وثانيهما: أنه يحتمل أن المصنف رحمه الله عمل الخطبة بعد فراغه من تأليف الكتاب المذكور.
وأما قوله: في الفقه فبيان لاختصاص الكتاب المؤلف بالمسائل الشرعية.
والفقه في اللغة: الفهم.
وفي الشرع: هو عبارة عن العلم أو الظن بجملة كثيرة من الأحكام الشرعية الفرعية بالنظر والاستدلال.
وشرح ذلك كله مستوفًى في شرحي من أصول الفقه.
وأما قوله: على مذهب أبي عبدالله أحمد بن محمد بن حنبل الشيباني فبيان لأن الفقه المذكور في الكتاب المشار إليه منسوب إلى الإمام المذكور.
والمذهب الطريق. يقال: ذهب مذهبًا حقًا وذَهابًا وذهوبًا. وجمعه: مذاهب.
وأما قوله: اجتهدت في جمعه وترتيبه وإيجازه وتقريبه. فمعناه: أنه بالغ في ذلك وحرص عليه طاقته.
ولقد أجاد فيما صنع، وأحسن فيما جمع، ورتب فأسجع، وأوجز فأقنع، وقرب فأبدع، فجعل الله نصيبه من ثمرات الجنة أحسن ما أينع.
وأما قوله: وسطًا بين القصير والطويل فيحتمل أنه منصوب لجمعه أي اجتهدت في جمعه وسطًا. ويحتمل أنه منصوب بفعل مقدر تقديره وجعلته.
وأما قوله: وجامعًا لأكثر الأحكام فمعطوف على وسطًا.
وأما قوله: عرية عن الدليل والتعليل فمعناه أن المذكور في الكتاب الأحكام دون دلائلها وتعاليلها.
وأما قوله: ليكثر علمه ويقل حجمه ويسهل حفظه وفهمه ويكون مقنعًا لحافظيه نافعًا للناظر فيه. فمعناه أن العلل الحاملة على جمعه وجعله وسطًا وجامعًا: كثرة علمه وقلة حجمه وسهولة حفظه وفهمه وكونه مقنعًا لمن يحفظه نافعًا لمن ينظر فيه.
وأما قوله: والله سبحانه المسئول أن يبلغنا
…
إلى آخره: فدعاء نسأل الله إجابته وأن يفعل ذلك بنا أيضًا، ويعقبنا سلامته.