الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
باب صلاة أهل الأعذار
قال المصنف رحمه الله: (ويصلي المريض كما قال النبي صلى الله عليه وسلم لعمران بن حصين: «صل قائماً. فإن لم تستطع فقاعداً. فإن لم تستطع فعلى جنب» (1). فإن صلى على ظهره ورجلاه إلى القبلة صحت صلاته على أحد الوجهين. ويومئ بالركوع والسجود. ويجعل سجوده أخفض من ركوعه. فإن عجز عنه أومأ بطرفه. ولا تسقط الصلاة).
أما كون المريض يصلي قائماً إذا استطاع ذلك، وقاعداً إذا لم يستطع، وعلى جنب إذا لم يستطع الصلاة قاعداً؛ فلما ذكر المصنف رحمه الله من قول النبي صلى الله عليه وسلم لعمران بن حصين
…
الحديث. رواه البخاري.
ولما روى أنس قال: «سقط رسول الله صلى الله عليه وسلم من فرس فخُدش أو فجُحش شقه الأيمن. فدخلنا عليه نعوده. فحضرت الصلاة. فصلى قاعداً وصلينا خلفه قعوداً» (2) رواه البخاري.
فإن قيل: ما المرض الذي يبيح الصلاة قاعداً أو على جنب؟
(1) أخرجه البخاري في صحيحه (1066) 1: 376 أبواب تقصير الصلاة، باب إذا لم يطق قاعداً صلى على جنب.
وأخرجه أبو داود في سننه (952) 1: 250 كتاب الصلاة، باب في صلاة القاعد.
وأخرجه الترمذي في جامعه (372) 2: 208 أبواب الصلاة، باب ما جاء أن صلاة القاعد على النصف من صلاة القائم.
وأخرجه ابن ماجة في سننه (1223) 1: 386 كتاب إقامة الصلاة، باب ما جاء في صلاة المريض.
وأخرجه أحمد في مسنده (19730) 4: 426.
(2)
أخرجه البخاري في صحيحه (1063) 1: 375 أبواب تقصير الصلاة، باب صلاة القاعد.
قيل: هو الذي يزيد المريض أو يبطئ برؤه؛ لأن في إيجاب الصلاة قائماً أو قاعداً مع أحدهما مشقة وحرجاً وهو منتف بقوله تعالى: {وما جعل عليكم في الدين من حرج} [الحج: 78].
فعلى هذا لو صلى قاعداً مع القدرة على القيام الذي لا يزيد في مرضه ولا يبطئ برؤه، أو على جنب مع أن القعود كذلك لم تصح صلاته لأنه ترك الركن مع القدرة عليه أشبه من ليس بمريض أصلاً.
وأما كون من صلى على ظهره ورجلاه إلى القبلة مع القدرة على الصلاة على جنب تصح صلاته في وجه؛ فلأنه يروى: «فإن لم تستطع فقاعداً. فإن لم تستطع فعلى ظهر» (1).
ولأنه نوع استقبال أشبه ما إذا صلى على جنب.
وأما كونها لا تصح في وجه؛ فلأن في بعض الروايات: «فإن لم تستطع فصل مستلقياً» (2).
وأما كون المريض يومئ بالركوع والسجود إذا عجز عنها؛ فلأن ذلك بعض الواجب عليه فيدخل في قوله: «إذا أمرتكم بأمر فأتوا منه ما استطعتم» (3).
وعن علي عن النبي صلى الله عليه وسلم: «فإن لم يستطع السجود أومأ» (4).
وأما كونه يجعل سجوده أخفض من ركوعه؛ فلأن تكملة الحديث المذكور: «وجعل السجود أخفض من الركوع» (5).
ولأن صلاة الصحيح كذلك.
(1) سيأتي تخريجه من حديث علي رضي الله عنه، وليس فيه:«فإن لم تستطع فعلى ظهر» .
(2)
عزاها ابن حجر في تلخيص الحبير إلى النسائي، ولم نجدها في السنن الكبرى والصغرى للنسائي. ر تخليص الحبير 1:407.
(3)
سبق تخريجه ص: 354.
(4)
أخرجه الدارقطني في سننه (1) 2: 42 كتاب الوتر، باب صلاة المريض ومن رعف في صلاته كيف يستخلف.
وأخرجه البيهقي في السنن الكبرى 2: 307 كتاب الصلاة، باب ما روي في كيفية الصلاة على الجنب
…
(5)
هو جزء من الحديث السابق.
وليتميز السجود من الركوع.
وأما كون من عجز عن الإيماء بالركوع والسجود برأسه يومئ بطرفه؛ فلأن تكملة الحديث المذكور: «فإن لم يستطع أومأ بطرفه» (1).
ولأنه قادر على الإيماء بذلك فلزمه الإتيان به كما لو قدر على الإيماء برأسه.
وأما كون الصلاة لا تسقط إذا بلغ الحالة المذكورة فلما ذكر في حديث علي.
ولأنه قادر على الإتيان بالصلاة على حسب حاله فلم تسقط عنه الصلاة كالقادر على الإيماء برأسه.
قال: (فإن قدر على القيام والقعود في أثنائها انتقل إليه وأتمها. ومن قدر على القيام (2) وعجز عن الركوع والسجود أومأ بالركوع قائماً والسجود قاعداً).
أما كون المصلي قاعداً لمرض ينتقل إلى القيام إذا قدر عليه [في أثناء صلاته؛ فلأن المبيح العجز وقد زال. وأما انتقال المصلي على جَنْبٍ إذا قدر عليه](3)؛ فلأن القعود مع الجَنْب كالقيام مع القعود.
وأما كونه يتم الصلاة في الحالين من غير ابتدائها؛ فلأن ما صلى كان العذر (4) موجوداً معه وما بقي قد أتى فيه بالواجب فيه.
وأما كون من قدر على القيام والقعود وعجز عن الركوع والسجود يومئ بالركوع قائماً والسجود قاعداً؛ فلأن الركوع ينتقل إليه من القيام، والسجود من القعود فتعين أن يومئ بكل واحد منهما من المكان الذي ينتقل منه إليه.
قال: (وإذا قال ثقاتٌ من العلماء بالطب للمريض إن صليت مستلقياً أمكن مداواتك فله ذلك).
أما كون المريض له أن يصلي مستلقياً إذا قيل له ذلك؛ فلأن في ذلك وسيلة عافيته وهي مطلوبة شرعاً.
(1) سبق تخريج حديث علي ولم أقف على هذه التكملة.
(2)
في ب: القيام والقعود.
(3)
ساقط من ب.
(4)
مثل السابق.
وأما قول المصنف رحمه الله: وإذا قال ثقات؛ فظاهره أنه يشترط في ذلك قول ثلاثة لأنه جمع وأقله ثلاثة. وليس بمراد لأن قول الاثنين كاف في ذلك. صرح بذلك المصنف رحمه الله وغيره. وهو صحيح لأن قول الاثنين كاف في كثير من المواضع فكذلك هاهنا.
وإنما اشترط المصنف رحمه الله الثقة في ذلك؛ لأنه أمر ديني فاشترط له ذلك كغيره.
قال: (ولا تجوز الصلاة في السفينة قاعداً لقادر على القيام).
أما كون الصلاة في السفينة لا تجوز قاعداً لقادر على القيام؛ فلأنه قادر على ركن الصلاة فلم يجز له تركه كما لو لم يكن في السفينة.
وأما كونها تجوز له إذا لم يقدر على القيام لقصر سقفها وما أشبه ذلك؛ فلأجل العذر. وكذا الخائف الذي لا يمكنه القيام لخوفه.
فإن قيل: لو قدر في السفينة على انتصاب يخرج به عن حد الراكع؟
قيل: يلزمه لأن حكمه حكم القيام فيكون واجباً. والخائف ملحق به.
قال: (وتجوز صلاة الفرض على الراحلة خشية التأذي بالوحل. وهل يجوز ذلك للمريض؟ على روايتين).
أما كون صلاة الفرض على الراحلة خشية التأذي بالوحل يجوز؛ فلأن يعلى ابن أمية روى عن النبي صلى الله عليه وسلم «أنه انتهى إلى مضيق ومعه أصحابه والسماء من فوقهم والبلة من أسفل منهم فصلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه على ظهور دوابهم يُومؤون. يجعلون السجود أخفض من الركوع» (1) رواه الأثرم والترمذي.
وأما كونها تجوز للمريض على روايةٍ؛ فلأن مشقة النزول في المرض أكثر من مشقة المطر.
(1) أخرجه الترمذي في جامعه (411) 2: 266 أبواب الصلاة، باب ما جاء في الصلاة على الدابة في الطين والمطر.
وأخرجه أحمد في مسنده (17609) 4: 174.
وأما كونها لا تجوز على روايةٍ؛ فـ «لأن ابن عمر رضي الله عنه كان يُنزل مرضاه» (1).
ولأن الصلاة على الأرض أمكنُ له بخلاف خاشي الوحل.
ولو خاف المريض بالنزول ضرراً غير محتمل كالانقطاع عن الرفقة ونحوه فله الصلاة عليها رواية واحدة؛ لأنه خائف على نفسه أشبه الخائف من عدو.
(1) أخرجه البيهقي في السنن الكبرى 2: 7 جماع أبواب استقبال القبلة، باب النزول للمكتوبة.
فصل في قصر الصلاة
قال المصنف رحمه الله: (ومن سافر سفراً مباحاً يبلغ ستة عشر فرسخاً فله قصر الرباعية خاصة إلى ركعتين. إذا فارق بيوت قريته أو خيام قومه. وهو أفضل من الإتمام. وإن أتم جاز).
أما كون المسافر له القصر في الجملة؛ فلقوله تعالى: {وإذا ضربتم في الأرض فليس عليكم جناح أن تقصروا من الصلاة إن خفتم أن يَفتنكم الذين كفروا} [النساء: 101].
فإن قيل: القصر جائز مع الأمن والخوف. والآية تدل على جوازه مع الخوف فقط؟
قيل: الجواب من وجهين:
أحدهما: أنه إنما علق القصر على الخوف لفظاً لأن غالب أسفار رسول الله صلى الله عليه وسلم كانت في الغزو فخرج مخرج الغالب لا مخرج الشرط. ومنه قوله تعالى: {وإن كنتم على سفر ولم تجدوا كاتباً فرهان مقبوضة} [البقرة: 283] علق الرهن على السفر وهو جائز في الحضر؛ لأن عدم وجدان الكاتب في السفر أغلب بخلاف الحضر.
وثانيهما: أن قوله تعالى: {فليس عليكم جناح أن تقصروا من الصلاة} [النساء: 101] كلام تام و {إن خفتم} [النساء: 101] كلام مبتدأ؛ لما روى أبو أيوب قال: «نزل: {فليس عليكم جناح أن تقصروا من الصلاة} [النساء: 101] هذا القدر. ثم بعد حَوْل سألوا رسول الله صلى الله عليه وسلم عن صلاة الخوف فنزل: {إن خفتم أن يفتنكم الذين كفروا} [النساء: 101]» (1).
(1) أخرجه ابن جرير الطبري بطوله في تفسيره عن أبي أيوب عن علي قال: «سأل قوم من التجار رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالوا: يا رسول الله! إنا نضرب في الأرض فكيف نصلي؟ فأنزل الله: {وإذا ضربتم في الأرض فليس عليكم جناح أن تقصروا من الصلاة} ثم انقطع الوحي. فلما كان بعد ذلك بحول غزا النبي صلى الله عليه وسلم فصلى الظهر، فقال المشركون: لقد أمكنكم محمد وأصحابه من ظهورهم هلا شددتم عليهم فقال قائل منهم: إن لهم أخرى مثلها في أثرها. فأنزل الله تبارك وتعالى بين الصلاتين: {إن خفتم أن يفتنكم الذين كفروا إن الكافرين كانوا لكم عدواً مبينا، وإذا كنت فيهم فأقمت لهم الصلاة فلتقم طائفة منهم معك -إلى قوله-: إن الله أعد للكافرين عذاباً مهينا} فنزلت صلاة الخوف» 9: 126.
ويؤيد جواز القصر في الأمن أن النبي صلى الله عليه وسلم قصر في الأمن، وأنه روي «أن يعلى بن أمية قال لعمر رضي الله عنه: ما بالنا نقصر وقد أمن الناس؟ فقال: سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: صدقة تصدق بها الله عليكم فاقبلوا صدقته» (1) رواه مسلم.
وأما كونه يشترط أن يكون سفره مباحاً؛ فلأن الترخص ثبت للمسافر إعانة له وتيسيراً. ولا يرد الشرع بذلك في حق من سفره معصية.
فإن قيل: لو كان سفره واجباً؟
قيل: هو كالمباح.
وإنما اقتصر المصنف رحمه الله على قوله: مباحاً؛ لأن الواجب يسمى مباحاً على قولٍ. أو لأنه إذا جاز في المباح ففي الواجب أولى.
والسفر الواجب: كالحج والجهاد ونحوهما.
ويُلحق بهذا النوع سفر الطاعة كزيارة الوالدين وذي القرابة من نسب أو رحم، وزيارة الإخوان في الله تعالى، والسفر لطلب العلم، وزيارة المساجد الثلاثة ونحو ذلك؛ لأن جميع ما ذُكر مطلوب شرعاً فجاز القصر فيه؛ لدخوله في عموم الآية.
وقياساً على السفر الواجب.
والسفر المباح: كالسفر للتجارة والكد على العيال فيه.
وسفر المعصية: كسفر الآبق وقاطع الطريق والهارب من دَينٍ عليه وهو موسر ونحو ذلك.
(1) أخرجه مسلم في صحيحه (686) 1: 479 كتاب صلاة المسافرين، باب صلاة المسافر وقصرها.
والسفر المكروه: كزيارة القبور والمشاهد. ملحق بسفر المعصية لأنه منهي عنه.
وأما كونه يشترط أن يكون مسافة ما يقصده لسفره يبلغ ستة عشر فرسخاً؛ فلما روى ابن عباس عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: «يا أهل مكة! لا تقصروا في أقل من أربعة برد من مكة إلى عسفان» (1) رواه الدارقطني.
فإن قيل: هذا الحديث في رواته إسماعيل بن عياش وهو ضعيف. قال أحمد ويحيى: ليس بشيء.
وقال الثوري: هو كذاب.
وقد روي أيضاً موقوفاً على ابن عباس.
قيل: أحمد مع تضعيفه احتج به وبنى مذهبه عليه. فدل ذلك على أنه صح من طريق أخرى.
وأما روايته موقوفاً على ابن عباس فالراوي يسند تارة ويطلق أخرى. فإطلاقه لا يعارض إسناده.
فإن قيل: ما الفرسخ؟
قيل: ثلاثة أميال. والميل ألفا خطوة بخطوة البعير، أو اثنا عشر ألف قدم. وذلك مسيرة يومين تقريباً.
وأما كونه يشترط أن تكون الصلاة رباعية؛ فلأن الصبح ركعتان فلو قصرت بقيت ركعة ولا نظير لذلك في الفرض، والمغرب وتر النهار فلو قصر منها ركعة لم تبق وتراً.
وأما كونه يشترط أن يفارق بيوت قريته إن كان في البنيان أو خيام قومه إن كان في الخيام؛ فلأن الله تعالى جوز القصر لمن ضرب في الأرض وقبل مفارقة ما ذكر لا يسمى ضارباً.
ولأن ذلك أحد طرفي السفر فلم يجز له القصر فيه كحالة (2) الانتهاء.
(1) أخرجه الدارقطني في سننه (1) 1: 387 كتاب الصلاة، باب قدر المسافة التي تقصر في مثلها صلاة وقدر المدة.
(2)
ساقط من ب.
وأما كون القصر أفضل من الإتمام؛ فلأن النبي صلى الله عليه وسلم داوم على القصر ولم ينقل عنه الإتمام.
وأما كون الإتمام يجوز فلما روت عائشة قالت: «يا رسول الله! بأبي أنت وأمي قصرتُ وأتممتُ وأفطرتُ وصمتُ قال: أحسنتِ» (2) رواه مسلم.
قال: (فإن أحرم في الحضر ثم سافر أو في السفر ثم أقام، أو ذكر صلاة حضر في سفر أو صلاة سفر في حضر، أو ائتم بمقيم أو بمن يشك فيه، أو أحرم بصلاة يلزمه إتمامها ففسدت وأعادها، أو لم ينو القصر لزمه أن يتم. وقال أبو بكر: لا يحتاج القصر والجمع إلى نية).
أما كون من أحرم في الحضر ثم سافر أو في السفر ثم أقام يلزمه أن يتم؛ فلأنها عبادة اجتمع لها حكم الحضر والسفر فغلب حكم الإتمام كالمسح.
ولأن المبتدئ بالصلاة في الحضر لم ينو القصر بل نوى الإتمام فهو متعين بحكم النية.
وتُتصور المسألة فيما إذا كان في سفينة واقفة فتجري أو جارية فتقف.
وأما كون من ذكر صلاة حضر في سفر يلزمه أن يتم؛ فلأنها وجبت أربعاً وتعين عليه فعلها أربعاً فلم يجز النقصان من عددها مع القدرة كما لو لم يسافر.
وأما كون من ذكر صلاة سفر في حضر يلزمه أن يتم؛ فلأن القصر إنما جاز لمشقة السفر فإذا ذكر في الحضر زالت المشقة فيلزمه أن يتم لزوال المقتضي للقصر.
(1) أخرجه البخاري في صحيحه (1051) 1: 372 أبواب تقصير الصلاة، باب من لم يتطوع في السفر دبر الصلاة وقبلها.
وأخرجه مسلم في صحيحه (689) 1: 480 كتاب صلاة المسافرين، باب صلاة المسافر وقصرها.
(2)
أخرجه النسائي في سننه (1456) 3: 122 كتاب تقصير الصلاة في السفر، باب المقام الذي يقصر بمثله الصلاة. ولم أره في مسلم.
وأما كون من ائتم بمقيم يلزمه أن يتم؛ فلقوله عليه السلام: «إنما جعل الإمام ليؤتم به
…
الحديث» (1).
وقال ابن عباس: «إن صلينا معكم صلينا أربعاً. وإن صلينا في بيوتنا صلينا ركعتين. ذلك من سنة أبي القاسم صلى الله عليه وسلم (2» ) (3).
وأما كون من ائتم بمن يشك في إقامته وسفره يلزمه أن يتم؛ فلأنه شك في سبب الرخصة. والأصل الإتمام فلزمه.
وأما كون من أحرم بصلاة يلزمه إتمامها ففسدت مثل أن يقتدي بمقيم فيحدث يلزمه أن يتم؛ فلأنه لزمه الإتمام بالشروع في الأولى لائتمامه بمقيم فإذا فسدت وجب عليه قضاء مثل ما وجب عليه.
وأما كون من لم ينو القصر يلزمه أن يتم على المذهب؛ فلأن الإتمام هو الأصل فلا ينصرف إلى القصر إلا بنية. بيان أن الإتمام هو الأصل قوله تعالى: {فليس عليكم جناح أن تقصروا من الصلاة} [النساء: 101].
ولأن القصر لو كان هو الأصل لما جاز الإتمام.
ولأن القصر حال من أحوال الصلاة فافتقر إلى نية كالإمامة.
وأما كون القصر والجمع لا يحتاج إلى نية على قول أبي بكر؛ فلأنه مخير قبل الدخول في الصلاة فكذلك بعده عملاً بالاستصحاب.
(1) سبق تخريجه ص: 395.
(2)
زيادة من ج.
(3)
أخرجه مسلم في صحيحه (688) 1: 479 كتاب صلاة المسافرين، باب صلاة المسافر وقصرها. بلفظ: عن موسى بن سلمة الهذلي قال: سألت ابن عباس: «كيف أصلي إذا كنت بمكة إذا لم أصل مع الإمام؟ فقال: ركعتين. سنة أبي القاسم صلى الله عليه وسلم» .
وأخرجه أحمد في مسنده (1862) 1: 216. بلفظ: عن موسى بن سلمة قال: «كنا مع ابن عباس بمكة فقلت: إنا إذا كنا معكم صلينا أربعًا. وإن رجعنا إلى رحالنا صلينا ركعتين. قال: تلك سنة أبي القاسم صلى الله عليه وسلم».
قال: (ومن له طريقان بعيد وقريب فسلك البعيد. أو ذكر صلاة سفر في آخر فله القصر).
أما كون من له طريقان بعيد وقريب فسلك البعيد (1) له القصر؛ فلأن المسافة بعيدة.
وقال بعض أصحابنا: إن سلك البعيد لغرض صحيح كأمنه وسلامته (2) أو سهولته أو كثرة مائه له القصر؛ لأن ذلك مطلوب والمسافة طويلة فكان له القصر كما لو لم يكن له إلا طريق واحد.
وإن سلكه لا لغرض صحيح ففيه وجهان:
أحدهما: له ذلك كسلوكه طريقاً له فيه غرض صحيح.
والثاني: ليس له ذلك؛ لأنه ليس له إرب صحيح في التزام زيادة المسافة. أشبه ما لو مشى يمنة ويسرة حتى بلغ المسافة المعتبرة.
وأما كون من ذكر صلاة سفر في آخر له القصر؛ فلأنها وجبت في السفر وقضيت فيه. أشبه ما لو صلاها في وقتها.
قال: (وإذا نوى الإقامة في بلد (3) أكثر من إحدى وعشرين صلاة أتم وإلا قصر. وإن أقام لقضاء حاجة أو حبس أو لم ينو الإقامة قصر أبداً).
أما كون من نوى الإقامة في بلد أكثر من إحدى وعشرين صلاة يتم؛ فلأن القصر إنما جاز للمسافر عملاً بظاهر الآية. فمتى نوى (4) الإقامة خرج عن كونه مسافراً فيجب الإتمام. ترك العمل به فيما عدا من نوى إقامة إحدى وعشرين صلاة [فما دون ذلك لما يأتي فيبقى فيما عداه على مقتضاه.
(1) زيادة يقتضيها السياق.
(2)
زيادة من ج.
(3)
في ب: البلد.
(4)
ساقط من ب.
وأما جواز القصر لمن نوى إقامة إحدى وعشرين صلاة] (1) يقصر؛ فـ «لأن النبي صلى الله عليه وسلم قدم مكة لصبح رابعة فأقام الرابع والخامس والسادس والسابع وصلى الفجر بالأبطح يوم الثامن وكان يقصر الصلاة» (2).
وعن الإمام أحمد يتم إذا نوى إقامة أكثر من أربعة أيام؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «يقيم المهاجر بمكة بعد قضاء نسكه ثلاثاً» (3) رواه أبو داود.
فإذا أقام أكثر من أربعة فقد زاد على حد القِلّة فيتم.
قال ابن عقيل: هذه الرواية هي المذهب.
قال غيره: والأولى هي المشهورة. وهو اختيار الخرقي.
فإن قيل: لم قال المصنف فإذا نوى الإقامة في بلد؟
(1) مثل السابق.
(2)
قال الحافظ ابن حجر: لم أر هذا في رواية مصرحة بذلك، وإنما هذا مأخوذ من الاستقراء: ففي الصحيحين عن جابر «قدمنا صبح رابعة» ، وفي الصحيحين:«أن الوقفة كانت الجمعة» ، وإذا كان الرابع يوم الأحد، كان التاسع يوم الجمعة بلا شك، فثبت أن الخروج كان يوم الخميس، وأما القصر فرواه أنس قال:«خرجنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم من المدينة إلى مكة، يصلي ركعتين ركعتين، حتى رجعنا إلى المدينة» متفق عليه. ر تلخيص الحبير 2: 93 - 94.
قلت: أما حديث جابر فقد أخرجه البخاري في صحيحه (1035) 1: 368 كتاب تقصير الصلاة، باب: كم أقام النبي صلى الله عليه وسلم في حجته؟ .
وأخرجه مسلم في صحيحه (1240) كتاب الحج، باب: جواز العمرة في أشهر الحج.
وأما حديث أنس فقد أخرجه البخاري في صحيحه (1031) 1: 367 كتاب تقصير الصلاة، باب: ما جاء في التقصير
…
وأخرجه مسلم في صحيحه (693) 1: 481 كتاب صلاة المسافرين، باب: صلاة المسافرين وقصرها.
(3)
أخرجه البخاري في صحيحه (3718) 3: 1431 كتاب فضائل الصحابة، باب إقامة المهاجر بمكة بعد قضاء نسكه. بلفظ:«ثلاث للمهاجر بعد الصدر» .
وأخرجه مسلم في صحيحه (1352) 2: 985 كتاب الحج، باب جواز الإقامة بمكة للمهاجر
…
واللفظ له.
وأخرجه أبو داود في سننه (2022) 2: 213 كتاب المناسك، باب الإقامة بمكة. بلفظ:«للمهاجرين إقامة بعد الصدر ثلاثاً» .
وأخرجه الترمذي في جامعه (949) 3: 284 كتاب الحج، باب ما جاء أن يمكث المهاجر بمكة بعد الصدر ثلاثاً.
وأخرجه النسائي في سننه (1455) 3: 122 كتاب تقصير الصلاة في السفر، باب المقام الذي يقصر بمثله الصلاة. كلهم عن العلاء الحضرمي.
قيل: لأنه إذا نوى الإقامة بموضع تتعذر فيه الإقامة كالبرية ففيه وجهان:
أحدهما: يقصر لأنه لا يمكنه الوفاء بهذه النية فلغت وبقي حكم السفر الأول مستداماً.
والثاني: لا يقصر لأنه نوى الإقامة فيكون مقيماً.
وأما كون من أقام لقضاء حاجة أو حبس أو لم ينو الإقامة يقصر أبداً؛ فـ «لأن النبي صلى الله عليه وسلم أقام في بعض أسفاره تسع عشرة ليلة يصلي ركعتين» (1) رواه البخاري.
و«أقام ابن عمر بأذربيجان ستة أشهر يصلي ركعتين وقد حال الثلج بينه وبين الدخول» (2).
و«أقام أنس بالشام سنتين يقصر» (3) رواهما الأثرم.
قال أنس: «أقام أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم برامهرمز سبعة أشهر يقصرون الصلاة» (4).
قال: (والملاح الذي معه أهله وليس له نية الإقامة ببلد ليس له الترخص).
أما كون من ذكر ليس له الترخص؛ فلأنه ليس طاعناً عن منزله أشبه المقيم ببلد.
ولأنه لو جاز له القصر لقصر أبداً.
ولأنه صار السفر عادة له فلا يجد مشقة. والترخص إنما جاز للمشقة.
وأما ما يشترط لذلك فأمران:
(1) أخرجه البخاري في صحيحه (4047) 4: 1564 كتاب المغازي، باب مقام النبي صلى الله عليه وسلم بمكة زمن الفتح.
(2)
أخرجه أحمد في مسنده (5552) 2: 83 عن ثمامة بن شراحيل قال: «خرجت إلى ابن عمر فقلنا: ما صلاة المسافر؟ فقال: ركعتين ركعتين إلا صلاة المغرب ثلاثاً قلت: أرأيت إن كنا بذي المجاز قال: وما ذو المجاز؟ قلت: مكاناً نجتمع فيه ونبيع فيه ونمكث عشرين ليلة أو خمس عشرة ليلة قال: يا أيها الرجل كنت بأذربيجان لا أدري قال: أربعة أشهر أو شهرين فرأيتهم يصلونها ركعتين ركعتين ورأيت نبي الله صلى الله عليه وسلم نصب عيني يصلهما ركعتين ركعتين ثم نزع هذه الآية {لقد كان لكم في رسول الله أسوة حسنة
…
} حتى فرغ من الآية.
وأخرجه البيهقي في السنن الكبرى 3: 152 كتاب الصلاة، باب من قال: يقصر أبداً ما لم يجمع مكثاً.
(3)
أخرجه البيهقي في السنن الكبرى 3: 152 كتاب الصلاة، باب من قال: يقصر أبداً ما لم يجمع مكثاً، ولفظه:«أن أنساً أقام بالشام مع عبدالملك بن مروان شهرين يصلي صلاة المسافر» .
(4)
أخرجه البيهقي في السنن الكبرى 3: 152 كتاب الصلاة، باب من قال: يقصر أبداً ما لم يجمع مكثاً.
أحدهما: أن يكون معه أهله.
وثانيهما: أن لا ينوي الإقامة ببلد.
فإن اختل شرط منهما كان له الترخص لأن عدم جوازه لشبَهِه بالمقيم. وعند انتفاء شرطٍ مما ذكر يخرج عن الشبه فيجب أن يدخل في عموم الأدلة المجوزة للقصر (1) السالمة عن معارضة الشبه بالمقيم.
وقال القاضي: لا يشترط أن يكون مع الملاح أهله؛ لأن بعدم نيته الإقامة ببلد يشبه المقيم.
وليس بجيد لأن الشبه لا يحصل حقيقة إلا بمجموع الأمرين.
فإن قيل: المكاري والفيج -وهو الساعي- ما حكمهما؟
قيل: قال القاضي: هما كالملاح لمشاركتهما له في المعنى.
وقال المصنف رحمه الله في الكافي: إباحة القصر لهما أظهر لدخولهما في عموم النص.
وامتناع قياسهما على الملاح؛ لأنهما لا يمكنهما استصحاب الأهل، ومصالح المنزل في السفر، وزيادة المشقة.
(1) في ب: الرخص.
فصل في الجمع
قال المصنف رحمه الله: (ويجوز الجمع بين الظهر والعصر، والعشاءين في وقت إحداهما لثلاثة أمور: السفر الطويل، والمرض الذي يلحقه بترك الجمع فيه مشقة وضعف، والمطر الذي يبل الثياب. إلا أن جمع المطر يختص العشاءين في أصح الوجهين).
أما كون الجمع في السفر الطويل يجوز؛ فلما روى معاذ بن جبل قال: «خرجنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في غزوة تبوك. فكان يصلي الظهر والعصر جميعاً، والمغرب والعشاء جميعاً. قلت: ما أراد بذلك؟ قال: أن لا يحرج أمته» (1) رواه مسلم وأبو داود والأثرم.
وكلام المصنف رحمه الله مشعر بأنه لا يجوز في غير الطويل. وهو صحيح لأنه تأخير للعبادة عن وقتها فاختص بالطويل كالفطر.
ولأن دليل الجمع فعل النبي صلى الله عليه وسلم والفعل لا صيغة له وإنما هو قضيةٌ في عين فلا يجوز الجمع إلا في مثل الحال التي جمع فيها رسول الله صلى الله عليه وسلم ولم ينقل أنه جمع في سفر قصير.
(1) أخرجه مسلم في صحيحه (706) 1: 490 كتاب صلاة المسافرين، باب الجمع بين الصلاتين في الحضر.
وأخرجه أبو داود في سننه (1206) 2: 4 كتاب الصلاة، باب الجمع بين الصلاتين.
(2)
أخرجه أبو داود في سننه (1220) 2: 7، الموضع السابق.
وأخرجه الترمذي في جامعه (553) 2: 438 أبواب الصلاة، باب ما جاء في الجمع بين الصلاتين.
وأما كونه يجوز للمرض؛ فلما روى ابن عباس «أن النبي صلى الله عليه وسلم جمع بين الظهر والعصر والمغرب والعشاء من غير خوف [ولا مطر» . وفي لفظ: «من غير خوف ولا سفر» (1) رواهما مسلم.
ولا عذر بعدهما سوى المرض.
و«لأن النبي صلى الله عليه وسلم أمر سهلة وحمنة بنت جحش لما كانتا مستحاضتين بتأخير الظهر وتعجيل العصر وبجمع بينهما بغسل واحد» (2). فجَوّز لهما الجمع لأجل الاستحاضة. وهي نوع مرض.
والمرض المجوز هو الذي ذكر المصنف رحمه الله لأن دفع المشقة مطلوب.
وأما كونه يجوز للمطر بين المغرب والعشاء؛ [لأن أبا سلمة قال: «من السنة إذا كان يوم مطير أن يجمع بين المغرب والعشاء» (3) رواه الأثرم](4). وذلك ينصرف إلى سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم.
و«كان ابن عمر يجمع بين المغرب والعشاء» (5).
وأما كون المطر المجوز هو الذي يبل الثياب؛ فلأن المشقة بذلك تحصل.
(1) أخرجهما مسلم في صحيحه (705) 1: 489 - 490 كتاب صلاة المسافرين، باب الجمع بين الصلاتين في الحضر.
(2)
أخرجه أبو داود في سننه (295) 1: 79 كتاب الطهارة، باب من قال: تجمع بين الصلاتين وتغتسل لهما غسلاً: عن عائشة «أن سهلة بنت سهيل استحيضت فأتت النبي صلى الله عليه وسلم فأمرها أن تغتسل عند كل صلاة فلما جهدها ذلك أمرها أن تجمع بين الظهر والعصر بغسل والمغرب والعشاء بغسل وتغتسل للصبح» .
وفي (287) 1: 76 كتاب الطهارة، باب من قال: إذا أقبلت الحيضة تدع الصلاة، من حديث حمنة بنت جحش بلفظ: «
…
وإن قويت على أن تؤخري الظهر وتعجلي العصر فتغتسلين وتجمعين بين الصلاتين الظهر والعصر وتؤخرين المغرب وتعجلين العشاء ثم تغتسلين وتجمعين بين الصلاتين فافعلي
…
».
(3)
أخرجه أحمد في مسنده (5800) 2: 103.
(4)
ساقط من ب.
(5)
أخرجه مالك في الموطأ (5) 1: 137 كتاب قصر الصلاة في السفر، باب الجمع بين الصلاتين في الحضر والسفر، ولفظه: عن نافع «أن عبدالله بن عمر كان إذا جمع الأمراء بين المغرب والعشاء في المطر جمع معهم» .
وأخرجه البيهقي في السنن الكبرى 3: 167 كتاب الصلاة، باب الجمع في المطر بين الصلاتين. نحوه.
وأما كون الجمع بين الظهر والعصر لا تجوز في وجهٍ؛ فلأن دليل الجواز في المغرب والعشاء ما تقدم من قول أبي سلمة وفعل ابن عمر ولا دلالة لهما على الظهر والعصر.
وأما كونه يجوز في وجه؛ فلأن المطر عذر جَوّز الجمعَ بين العشائين فجوزه بين الظهر والعصر كالسفر والمرض.
وأما كون الأول أصح فلاختصاص العشائين بما تقدم. وعدم صحة قياس الظهر والعصر عليهما من حيث أنهما يفعلان في الظلمة بخلاف الظهر والعصر.
قال: (وهل يجوز لأجل الوحل، والريح الشديدة الباردة، أو لمن يصلي في بيته، أو في مسجدٍ طريقه تحت ساباط؟ على وجهين).
أما كون الجمع لأجل الوحل والريح المذكورة يجوز على وجهٍ؛ فلأنهما عذر في ترك الجمعة والجماعة أشبه المطر.
وأما كونه لا يجوز على وجهٍ؛ فلأن مشقتهما دون مشقة المطر فلا يصح قياسهما عليه.
وأما كونه يجوز لمن يصلي في بيته أو في مسجد طريقه تحت ساباط على وجهٍ؛ فلأن العذر إذا وجد استوى فيه حال وجود المشقة وعدمها كالسفر.
ولأن الحاجة العامة إذا وجدت أُثبت الحكم في حق من ليست له حاجة كالسَّلَم، وإباحة اقتناء الكلب للصيد.
ولأنه قد روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه جمع في مطر ولم يكن بين حجرة عائشة وبين المسجد شيء.
وأما كونه لا يجوز على وجهٍ؛ فلأن الجمع لأجل المشقة فيجب اختصاصه بمن يلحقه.
قال: (ويفعل الأرفق به من تأخير الأولى إلى وقت الثانية وتقديم الثانية إليها).
أما كون الجامع بين الصلاتين يفعل الأرفق به من تقديم أو تأخير فـ «لأن النبي صلى الله عليه وسلم كان يقدم إذا ارتحل بعد دخول الوقت، ويؤخر إذا ارتحل قبله» (1) طلباً للأرفق.
(1) كما في حديث معاذ بن جبل، وقد سبق ذكره ص:512.
فإن قيل ما المراد بقوله: ويفعل.
قيل: المراد أن ذلك أفضل؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم كان يفعل الأفضل. وليس مراده بذلك أن فعل الأرفق متعين؛ لأن ذلك ينافي الجمع؛ لأن المطلوب به الرفق وفي تعيين ذلك ضده.
فإن قيل: فإن استويا عنده؟
قيل: الأفضل في المرض التأخير وفي المطر التقديم لأن السلف الذين كانوا يجمعون للمطر إنما كانوا يجمعون في وقت الأولى.
ولأن التأخير إلى وقت الثانية يفضي إلى لزوم المشقة والخروج في الظلمة ولا يحصل مقصود الرخصة. وربما زال عذر المطر. بخلاف المرض فإن الغالب بقاؤه ولا حاجة له إلى الخروج.
قال: (وللجمع في وقت الأولى ثلاثة شروط: نية الجمع عند إحرامها، ويحتمل أن تجزئه النية قبل سلامها. وأن لا يفرق بينهما إلا بقدر الإقامة والوضوء، فإن صلى السنة بينهما بطل الجمع في إحدى الروايتين. وأن يكون العذر موجوداً عند افتتاح الصلاتين وسلام الأولى).
أما كون نية الجمع من شروطه؛ فلأن الجمع عمل فيدخل في عموم قوله صلى الله عليه وسلم: «لا عمل إلا بنية» (1).
ولأن ذلك حال من أحوال الصلاة فاعتبر فيه النية كالإمامة والقصر.
وأما كونها تشترط عند الإحرام على المذهب؛ فلأن كل عبادة اشترطت فيها النية اشترطت في أولها كنية الصلاة.
وأما كونها يحتمل أن تجزئ قبل سلام الأولى؛ فلأن موضع الجمع حين الفراغ من الأولى والشروع في الثانية فإذا لم تتأخر عنه جاز.
(1) أخرجه البيهقي في السنن الكبرى 1: 41 كتاب الطهارة، باب الاستياك بالأصابع. عن أنس، ولفظه:«لا عمل لمن لا نية له» .
وأما كونه يشترط أن لا يفرق بينهما فرقة طويلة؛ فلأن معنى الجمع المتابعة أو المقارنة فإذا فرق بينهما بذلك لم يحصل ذلك.
وإنما لم يشترط أن لا يفرق بينهما فرقة يسيرة لأن اليسير معفو عنه.
والمفارقة الطويلة واليسيرة معتبرة بالعرف. وقدّره الأصحاب بالإقامة والوضوء.
قال المصنف في المغني: الصحيح أنه غير مقدر بما ذكر لأن ما لم يرد الشرع بتقديره يجب الرجوع فيه إلى العرف كالحِرز والقبض.
وأما كون من صلى السنة بينهما يبطل بها الجمع في روايةٍ؛ فلأنه فرق بينهما بالصلاة فبطل بها الجمع كما لو صلى بينهما فرضاً.
وأما كونه لا يبطل بها في روايةٍ؛ فلأن السنة تابعة للصلاة فلم يقع الفعل بالأجنبي أشبه الوضوء والإقامة.
وأما كونه يشترط أن يكون العذر موجوداً عند افتتاح الصلاتين وسلام الأولى؛ فلأن افتتاح الأولى موضع النية وفراغها وافتتاح الثانية موضع الجمع فوجب وجود العذر في هذه المواضع.
قال: (وإن جمع في وقت الثانية كفاه نية الجمع في وقت الأولى ما لم يضق عن فعلها. واستمرار العذر إلى دخول وقت الثانية منهما (1) ولا يشترط غير ذلك).
أما كون نية الجمع في وقت الأولى ما لم يضق عن فعلها. واستمرار العذر إلى دخول وقت الثانية. ولا يشترط غير ذلك:
أما كون نية الجمع في وقت الأولى ما لم يضق عن فعلها يشترط إذا جمع في وقت الثانية؛ فلأنه متى أخرها عن ذلك بغير نية صارت قضاء.
وأما كون استمرار العذر إلى دخول وقت الثانية [فلأن المبيح العذر. فإذا لم يستمر وجب أن لا يباح الجمع لزوال المقتضي للإباحة.
فعلى هذا لو كان مريضا فبرئ، أو مسافراً فقدم، أو انقطع المطر قبل دخول وقت الثانية] (2) لم يجز له الجمع لزوال المجوز له.
(1) ساقط من ب.
(2)
ساقط من ب.
وأما كون غير ذلك لا يشترط والمراد ما تقدم اشتراطه إذا جمع في الأولى من نية الجمع حال افتتاح الصلاة أو قبل الفراغ منها ووجود العذر حال افتتاحهما وفراغ الأولى وعدم التفريق بينهما؛ فلأن الثانية واقعة في وقتها فهي بكل حال أداء. والأولى معها كصلاة فائتة.
وقال بعض أصحابنا: لا يفرق بينهما؛ لأنه إذا فرق بينهما لم يكن مستعملاً للرخصة. والأولى إنما تفعل وقت الثانية على وجه الرخصة.
فصل في صلاة الخوف
قال المصنف رحمه الله: (قال الإمام أبو عبدالله رضي الله عنه: صح عن النبي صلى الله عليه وسلم صلاة الخوف من خمسة أوجه أو ستة كل ذلك جائز لمن فعله. فمن ذلك:
إذا كان العدو في جهة القبلة صف الإمام المسلمين خلفه صفين فصلى بهم جميعاً إلى أن يسجد فيسجد معه الصف الذي يليه، ويحرس الآخر حتى يقوم الإمام إلى الثانية فيسجد ويلحقه. فإذا سجد في الثانية سجد معه الصف الذي حرس وحرس الآخر حتى يجلس في التشهد فيسجد ويلحقه فيتشهد ويسلم بهم).
أما كون صلاة الخوف تصح في الجملة؛ فبالكتاب والسنة: أما الكتاب فقوله تعالى: {وإذا كنت فيهم فأقمت لهم الصلاة
…
الآية} [النساء: 102].
وأما السنة فثبت «أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يصلي صلاة الخوف» (1). وما ثبت في حقه ثبت في حقنا ما لم يقم دليل على اختصاصه به. بدليل قوله تعالى: {فاتبعوه} [الأنعام: 155].
ولأن الصحابة رضوان الله عليهم كانوا يحتجون بأفعال رسول الله صلى الله عليه وسلم. وكان يُسأل عن المسألة فيجيب بأني أفعلها. ولو اختص بأفعاله لم يكن كذلك.
ولأن الصحابة رضي الله عنهم أجمعوا على صلاة الخوف. ففعلها علي ليلة الهرير (2). وصلاها أبو موسى الأشعري (3).
(1) سوف تأتي أحاديث صلاة الخوف عن جابر وخوات بن جبير وغيرهما.
(2)
أخرجه البيهقي في السنن الكبرى 3: 252 كتاب صلاة الخوف، باب الدليل على ثبوت صلاة الخوف وأنها لم تنسخ. بلفظ:«عن جعفر بن محمد عن أبيه أن علياً رضي الله عنه صلى المغرب صلاة الخوف ليلة الهرير» .
(3)
أخرجه ابن أبي شيبة في مصنفه (8290) 2: 217 كتاب الصلوات، في صلاة الخوف كم هي.
وأخرجه البيهقي في السنن الكبرى 3: 252 كتاب صلاة الخوف، باب الدليل على ثبوت صلاة الخوف وأنها لم تنسخ.
وصلاها حذيفة وسعيد بن العاص، وكان سعيد أميراً على الجيش بطبرستان (1).
وأما كون كل وجه من الوجوه الخمسة الآتي ذكرها جائزاً لمن فعله؛ فلما ذكره المصنف رحمه الله قبل.
وأما ما يشترط لصحة الوجه المذكور فظاهر كلام المصنف رحمه الله أن يكون العدو في جهة القبلة لا غير لأنه لم يذكر غيره. واشترط أبو الخطاب مع ذلك شرطين
(1) أخرجه أبو داود في سننه (1246) 2: 16 كتاب الصلاة، باب من قال: يصلي بكل طائفة ركعة ولا يقضون. بلفظ: عن ثعلبة بن زهدم قال: «كنا مع سعيد بن العاص بطبرستان فقام فقال: أيكم صلى مع رسول الله صلى الله عليه وسلم صلاة الخوف؟ فقال حذيفة: أنا، فصلى بهؤلاء ركعة وبهؤلاء ركعة ولم يقضوا» .
وأخرجه النسائي في سننه (1130) 3: 168 كتاب صلاة الخوف. بنحوه.
وأخرجه ابن أبي شيبة في مصنفه (8273) 2: 215 كتاب الصلوات، في صلاة الخوف كم هي.
وأخرجه البيهقي في السنن الكبرى 3: 252 كتاب صلاة الخوف، باب الدليل على ثبوت صلاة الخوف وأنها لم تنسخ. عن سليم بن عبيد السلولي. بنحوه.
(2)
أخرجه مسلم في صحيحه (840) 1: 574 كتاب صلاة المسافرين، باب صلاة الخوف.
آخرين. وهو: أن لا يخافوا كميناً لهم. وأن يكون في المسلمين كثرة بحيث يحرس بعضهم ويصلي بعض؛ لأن المقصود لا يحصل بدونهما.
قال: (الوجه الثاني: إذا كان العدو في غير جهة القبلة جعل طائفة حذاء العدو وطائفة تصلي معه ركعة. فإذا قاموا إلى الثانية ثبت قائماً وأتمت لأنفسها أخرى وسلمت ومضت إلى العدو وجاءت الأخرى فصلت معه الركعة الثانية. فإذا جلس للتشهد أتمت لأنفسها أخرى وتشهدت وسلم بهم).
أما كون الوجه الثاني من الوجوه المذكورة؛ فلما روى صالح بن خوات عمن صلى مع النبي صلى الله عليه وسلم صلاة الخوف يوم ذات الرقاع: «أن طائفة صلت معه وطائفة وِجاه العدو [فصلى بالتي معه ركعة ثم ثبت قائماً ثم أتموا لأنفسهم ثم انصرفوا وصفوا وجاه العدو] (1) وجاءت الطائفة الأخرى فصلى بهم الركعة التي بقيت من صلاته. ثم ثبت جالساً فأتموا لأنفسهم. ثم سلم بهم» (2) متفق عليه.
والذي صلى مع رسول الله صلى الله عليه وسلم سهل بن أبي حثمة.
وأما ما يشترط لهذا الوجه فأمور:
أحدها: أن يكون العدو في غير جهة القبلة لأن صلاة رسول الله صلى الله عليه وسلم في ذات الرقاع كانت كذلك.
ولأنه حينئذ يحتاج إلى التفريق لأنهم إذا كانوا في جهة القبلة وعلم أنهم لا يتجاسرون أن يميلوا عليهم ميلة واحدة أمكن استقبالهم فلا حاجة إلى التفريق.
وقال المصنف رحمه الله في المغني: أن الأثرم قال: قلت لأحمد: حديث سهل نستعمله مستقبلين كانوا أو مستدبرين؟ قال: نعم. هو أنكى للعدو.
(1) ساقط من ب.
(2)
أخرجه البخاري في صحيحه (3900) 4: 1513 كتاب المغازي، باب غزوة ذات الرقاع.
وأخرجه مسلم في صحيحه (842) 1: 575 كتاب صلاة المسافرين، باب صلاة الخوف.
فعلى هذا لا يشترط أن يكون العدو في غير جهة القبلة؛ [لأن العدو قد يكون في جهة القبلة](1) على وجهٍ لا يمكنه أن يصلي بهم صلاة عسفان لاستتارهم أو لخوف من كمين. فالمنع من هذه الصلاة يفضي إلى تفويتها.
وثانيها: أن يكون العدو مباح القتال كقطاع الطريق، ومن بغى على الإمام، ومن قصد دم إنسان، ونحو ذلك؛ لأن قتال محرم القتال معصية لا يبيح قصر الصلاة فكذلك لا يبيح قصر أركانها وتغيير صفاتها.
وثالثها: أن يكون العدو لا يؤمن هجومه لقوله تعالى: {ودَّ الذين كفروا لو تغفلون عن أسلحتكم وأمتعتكم فيميلون عليكم ميلة واحدة} [النساء: 102]. أومأ إلى أن المجوز لهذه الصلاة خوف الميل على المسلمين.
ولأنه إذا أمن هجومهم لم تدْع الحاجة إلى التفريق فلم يجز.
ورابعها: كثرة المصلين لأنهم إذا كانوا قليلين بحيث يكون الذي وجاه العدو أقل من نصف العدو يباح لهم الفرار وحينئذ يتطرق إمكان الأذى إلى المصلين فلم يحصل من الصلاة الحكمة المطلوبة منها فلم يجز لذلك.
وخامسها: أن تكون الطائفة ثلاثة فأكثر لأن الله تعالى ذكر الطائفة وأعاد إليها الضمير على سبيل الجمع في قوله تعالى: {وليأخذوا أسلحتهم} [النساء: 102]. وأقل الجمع ثلاثة.
وقال القاضي: يكره أن يصلي بأقل من ثلاثة.
وظاهر هذا عدم اشتراط الثلاثة.
ولفظ الطائفة قد يطلق ويراد به الواحد كما في قوله تعالى: {فلولا نفر من كل فرقةٍ منهم طائفة} [التوبة: 122]؛ لأن الإنذار يحصل بواحد.
قال: (فإن كانت الصلاة مغرباً صلى بالأولى ركعتين وبالثانية ركعة. وإن كانت رباعية غير مقصورة صلى بكل طائفة ركعتين وأتمت الأولى بالحمد لله في كل ركعة
(1) ساقط من ب.
والأخرى تتم بالحمد لله وسورة. وهل تفارقه الأولى في التشهد الأول أو في الثالثة؟ على وجهين).
أما كون مصلي المغرب يصلي بالطائفة الأولى ركعتين وبالثانية ركعة؛ فلأنه إذا لم يكن بد من تفضيل إحدى الطائفتين فالسابقة أولى.
ولأنه ينجبر ما فات الثانية بأنها تفعل جميع الصلاة في حكم الإتمام والأولى تفارقه فتأتي ببعض الصلاة في حكم الانفراد.
وهذا الذي ذكره المصنف رحمه الله هو الأولى.
ولو صلى بالأولى ركعة وبالثانية ركعتين جاز؛ لأن علياً فعله ليلة الهرير (1).
ولأنه لم يزد على انتظارين ورد الشارع بهما.
وأما كون مصلي الرباعية غير المقصورة يصلي بكل طائفة ركعتين؛ فلأن في ذلك تسوية بين الطائفتين.
والمراد بذلك الأولوية كما تقدم في المغرب (2). فلو صلى بالأولى ركعة وبالثانية ثلاثاً أو بالعكس صح لما تقدم من أنه لم يزد على انتظارين ورد الشارع بهما.
وفي صلاة الإمام بكل طائفة ركعتين إشعار بأمرين:
أحدهما: جواز صلاة الخوف للمقيم. وهو صحيح صرح به المصنف رحمه الله في المغني، وصاحب النهاية فيها.
ووجهه عموم قوله تعالى: {وإذا كنت فيهم
…
الآية} [النساء: 102].
وثانيهما: أن للمسافر أن يتم فيصلي بكل طائفة ركعتين.
وأما كون الأولى تُتِم بالحمد لله في كل ركعة بلا سورة؛ فلأن ما أدركت مع الإمام أول صلاتها وصلاته فإذاً المقضي آخرها والآخر لا يزاد فيه على الحمد لله.
وأما كون الأخرى تتم بالحمد لله وسورة فهو مبني على أن ما يقضيه المسبوق أول صلاته. والأول يقرأ فيه الحمد وسورة.
(1) سبق تخريجه ص: 518.
(2)
في ب: المغرم.
وأما كون الأولى تفارقه في التشهد الأول على وجهٍ؛ فلأنه حينئذ يمكنه الانتظار وهو جالس فيحصل للطائفة الثانية جميع الركعة التي شرعت فيها.
وأما كونها تفارقه حين يقوم إلى الثانية على وجهٍ؛ فلأن الانتظار في القيام أولى لكثرة ثواب القيام واستحباب تقصير التشهد.
وهذه المفارقة المختلف فيها تشمل من صلى مع الإمام المغرب والرباعية.
قال: (وإن فرقهم أربعاً فصلى بكل طائفة ركعة صحت (1) صلاة الأُولَيين وبطلت صلاة الإمام والأُخْريين إن علمتا بطلان صلاته).
أما كون صلاة الأُوليين تصح؛ فلأنها لم يُزَد فيها على انتظارين ورد الشرع بهما.
وأما كون صلاة الإمام تبطل؛ فلأنه زاد انتظاراً ثالثاً لم يرد الشرع به فوجب أن تبطل صلاته. أشبه ما لو فعله في غير الخوف. وسواء كان ذلك لحاجة أو لغير حاجة لأن الترخص إنما يصار فيه إلى ما ورد الشرع به.
وأما كون صلاة الأُخْريين تبطل إذا علمتا بطلان صلاة الإمام فإنهما اقتديا (2) بمن صلاته باطلة مع علمهما بذلك أشبه ما لو صليا خلف محدث يعلمان (3) حدثه.
قال: (الوجه الثالث: أن يصلي بطائفة ركعة ثم تمضي إلى العدو. وتأتي الأخرى فيصلي بها ركعة ويسلم وحده وتمضي هي. ثم تأتي الأولى فتتم صلاتها).
أما كون الوجه الثالث من الوجوه المذكورة؛ فلما روى عبدالله بن عمر قال: «صلى رسول الله صلى الله عليه وسلم صلاة الخوف في بعض أيامه: فقامت طائفة معه وطائفة بإزاء العدو وصلى بالذين معه ركعة. ثم ذهبوا وجاء الآخرون. فصلى بهم ركعة. ثم قضت الطائفتان ركعة ركعة» (4) متفق عليه.
(1) ساقط من ب.
(2)
مثل السابق.
(3)
مثل السابق.
(4)
أخرجه البخاري في صحيحه (3904) 4: 1514 كتاب المغازي، باب غزوة ذات الرقاع.
وأخرجه مسلم في صحيحه (839) 1: 574 كتاب صلاة المسافرين، باب صلاة الخوف. واللفظ له.
قال: (الوجه الرابع: أن يصلي بكل طائفة صلاة ويسلم بها).
أما كون الوجه الرابع من الوجوه المذكورة؛ فلما روى أبو بكرة قال: «صلى بنا رسول الله صلى الله عليه وسلم في خوفٍ؛ الظهر: فصف بعضهم خلفه، وبعضهم بإزاء العدو. فصلى ركعتين ثم سلم. فانطلق الذين صلوا فوقفوا موقف أصحابهم. ثم جاء أولئك فصلوا خلفه فصلى بهم ركعتين ثم سلم بهم. فكان لرسول الله صلى الله عليه وسلم أربع ولأصحابه ركعتان ركعتان» (1). رواه أبو داود.
قال: (الوجه الخامس: أن يصلي الرباعية المقصورة تامة. ويصلي معه كل طائفة ركعتين ولا تقضي شيئاً فتكون له تامة ولهم مقصورة).
أما كون الوجه الخامس من الوجوه المذكورة؛ فلما روى جابر قال: «أقبلنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى إذا كنا بذات الرقاع فنودي بالصلاة. فصلى رسول الله صلى الله عليه وسلم بطائفة ركعتين. ثم تأخروا وصلى بالطائفة الأخرى ركعتين. فكانت لرسول الله صلى الله عليه وسلم أربع ركعات وللقوم ركعتان» (2) متفق عليه.
وأما كون الوجه السادس من الوجوه الجائزة ولم يذكره المصنف رحمه الله وهو مذكور في الحديث الآتي ذكره؛ فلما روى ابن عباس قال: «صلى النبي صلى الله عليه وسلم بذي قَرَد صلاة الخوف والمشركون بينه وبين القبلة: فصف صفاً خلفه وصفاً موازي العدو فصلى بهم ركعة. ثم ذهب هؤلاء إلى مصاف هؤلاء ورجع هؤلاء إلى مصاف هؤلاء. فصلى بهم ركعة. ثم سلم بهم. فكانت لرسول الله صلى الله عليه وسلم ركعتان ركعتان وكانت لهم ركعة ركعة» (3) رواه الأثرم.
(1) أخرجه أبو داود في سننه (1248) 2: 17 كتاب صلاة السفر، باب من قال: يصلي بكل طائفة ركعتين.
وأخرجه النسائي في سننه (1551) 3: 178 كتاب صلاة الخوف.
(2)
أخرجه البخاري في صحيحه (3906) 4: 1515 كتاب المغازي، باب غزوة ذات الرقاع.
وأخرجه مسلم في صحيحه (843) 1: 576 كتاب صلاة المسافرين، باب صلاة الخوف.
(3)
أخرجه النسائي في سننه (1533) 3: 169 كتاب صلاة الخوف، باب رفع الإمام يديه عند مسألة أمساك المطر.
وأخرجه أحمد في مسنده (3364) 1: 357.
قال المصنف رحمه الله في الكافي: كلام أحمد يقتضي أن يكون هذا من الوجوه الجائزة إلا أن أصحابه قالوا: لا تأثير للخوف في عدد الركعات فدل على أن هذا ليس بمذهبٍ له.
قال: (ويستحب أن يحمل معه في الصلاة من السلاح ما يدفع به عن نفسه ولا يثقله كالسيف والسكين. ويحتمل أن يجب ذلك).
أما كون حمل ما ذكر يستحب؛ فلقوله تعالى: {وليأخذوا أسلحتهم} [النساء: 102].
فإن قيل: الأمر للوجوب فلِمَ لَمْ يجب؟
قيل: لأن حمل السلاح يراد لحراسةٍ أو قتال والمصلي لا يتصف بواحدة منهما.
ولأنه لو كان واجباً في الصلاة لكان تركه قادحاً في صحتها وهو خلاف الإجماع.
وأما كونه يحتمل أن يجب ذلك؛ فلظاهر الأمر.
فصل [في الصلاة إذا اشتد الخوف]
قال المصنف رحمه الله: (وإذا اشتد الخوف صلوا رجالاً وركباناً إلى القبلة وغيرها. يومئون إيماء على قدر الطاقة. فإن أمكنهم افتتاح الصلاة إلى القبلة فهل يلزمهم ذلك؟ على روايتين).
أما كون من اشتد خوفه والمعنيّ (1) بالاشتداد: أن يتواصل الطعن والكرّ والفرّ. ولم يمكن تفريق القوم فرقتين كل طائفة مساوية لنصف العدو، ولا صلاة عسفان يصلون رجالاً وركباناً إلى القبلة وغيرها؛ فلقوله تعالى:{فإن خفتم فرجالاً أو رُكْباناً} [البقرة: 239].
قال ابن عمر في تفسيرها: «مستقبلي القبلة وغير مستقبليها» (2).
قال نافع: لا أراه قال ذلك إلا عن النبي صلى الله عليه وسلم (3).
وأما كونهم يُومئون إيماء؛ فلأنهم يجوز لهم الصلاة ركباناً ومِنْ ضرورته الإيماء.
ولأنهم لو تمموا الركوع والسجود في المعارك لكانوا هدفاً لأسلحة الكفار. معرّضين أنفسهم للهلاك.
فإن قيل: لم عفي عن أفعالهم من الكرّ والفرّ مع كثرتها؟
قيل: لأنه موضع ضرورة.
(1) ساقط من ب.
(2)
أخرجه البخاري في صحيحه (4261) 4: 1649 كتاب تفسير القرآن، باب: {فإن خفتم فرجالاً أو ركباناً
…
}.
(3)
ذكر ذلك عن نافع الإمام مالك كما في الموطأ 1: 165 كتاب صلاة الخوف، باب صلاة الخوف.
ولأن ذلك لو كان مبطلاً لجاز لهم إخلاء الوقت عن الصلاة لعدم إمكان صلاة خالية عن ذلك. ولا يجوز ذلك لأنهم مكلفون تصح طهارتهم فلم يجز لهم إخلاء الوقت عن فعلها كالمريض.
وقد روي عن الإمام أحمد: أنه يجوز تأخير الصلاة حال التحام الحرب حتى تضع أوزارها «لأن النبي صلى الله عليه وسلم أخرها يوم الخندق» (1).
وقد أجيب عن ذلك بوجوه:
أحدها: أنه كان قبل نزول آية صلاة الخوف.
الثاني: أن يكون أخرها نسياناً.
الثالث: أنه لم ينقل أنهم كانوا في حال المسايفة.
وأما كونهم يلزمهم افتتاح الصلاة إلى القبلة ففيه روايتان مضى توجيههما في استقبال القبلة.
والصحيح أنه لا يجب؛ لأنا إذا أسقطنا القيام وجوزنا العمل الكثير؛ فلأن يجوز ترك (2) استقبال القبلة في بعض الصلاة بطريق الأولى.
قال: (ومن هرب من عدو هرباً مباحاً أو من سيل أو سبع ونحوه فله أن يصلي كذلك. وهل لطالب العدو الخائف فواته الصلاة كذلك؟ على روايتين).
أما كون من هرب ممن ذُكر ونحوه له أن يصلي صلاة الخوف؛ فلأن المجوز لها في الخوف، خوف فوات النفس وهو موجود هاهنا.
وأما كون طالب العدو الخائف فواته له الصلاة كذلك على روايةٍ؛ فلما روى عبدالله بن أنيس قال: «بعثني رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى خالد بن سفيان الهذلي وكان نحو
(1) أخرجه الترمذي في جامعه (179) 1: 337 أبواب الصلاة، باب ما جاء في الرجل تفوته الصلوات بأيتهن يبدأ.
وأخرجه النسائي في سننه (622) 1: 297 كتاب الصلاة، باب كيف يقضي الفائت من الصلاة.
وأخرجه أحمد في سننه (11214) 3: 25.
وأخرجه الدارمي في سننه (1527) 1: 256 كتاب الصلاة، باب الحبس عن الصلاة.
(2)
ساقط من ب.
عُرَنَة. قال: اذهب فاقتله. فرأيته وحضرتني الصلاة. فقلت: إني لأخاف أن يكون بيني وبينه ما يؤخر الصلاة فانطلقت أمشي وأنا أصلي أومئ إيماء نحوه. فلما دنوت منه قال لي: من أنت؟ قلت: رجل من العرب بلغني أنك تجمع لهذا الرجل فجئتك لذلك. فقال: إني (1) لفي ذلك. فمشيت معه حتى إذا أمكنني علوته بسيفي حتى (2) برد» (3) رواه أبو داود.
وظاهر حاله أنه أخبر النبي صلى الله عليه وسلم ولم ينكره.
وأما كونه ليس له ذلك على روايةٍ؛ فلأن صلاة الخوف مشروطة بالخوف وهذا غير خائف.
قال: (ومن أمن في الصلاة أتم صلاة آمن. ومن ابتدأها آمناً فخاف أتم صلاة الخائف. ومن صلى صلاة الخوف لسوادٍ ظنه عدواً فبان أنه ليس بعدو أو بينه وبينه ما يمنعه فعليه الإعادة).
أما كون من أمن في أثناء صلاته يتم صلاة آمن، ومن خاف في أثنائها يتم صلاة خائف؛ فلأن المجوز لصلاة الخوف، الخوف فيُفعل عند وجوده دون عدمه.
ولأنها صلاة لعذر فجاز أن يكون بعضها صلاة خائف والبعض صلاة آمن كما لو صلى قائماً ثم عجز أو عاجزاً ثم قدر.
وأما كون من صلى صلاة الخوف لسوادٍ ظنه عدواً فبان أنه ليس بعدو أو بينه وبينه ما يمنعه عليه الإعادة؛ فلأنه ترك بعض واجبات الصلاة ظناً منه سقوطها وكان عليه الإعادة كما لو صلى يظن أنه متطهر فبان محدثاً أو نجساً.
(1) ساقط من ب.
(2)
مثل السابق.
(3)
أخرجه أبو داود في سننه (1249) 2: 18 كتاب صلاة السفر، باب صلاة الطالب.
وأخرجه أحمد في مسنده (15617) ط إحياء التراث، بأطول من هذا.