الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
فصل [الماء النجس]
قال المصنف رحمه الله: (القسم الثالث: ماء نجس. وهو: ما تغير بمخالطة النجاسة. فإن لم يتغير وهو يسير فهل ينجس؟ على روايتين. وإن كان كثيرًا فهو طاهر. إلا أن تكون النجاسة بولاً أو عذرة مائعة ففيه روايتان: إحداهما لا ينجس، والأخرى: ينجس. إلا أن يكون مما لا يمكن نزحه لكثرته فلا ينجس).
أما كون القسم الثالث ماء نجسًا فلما تقدم في كون المياه ثلاثة أقسام.
وأما كون الماء النجس هو ما تغير بمخالطة النجاسة فلقوله صلى الله عليه وسلم: «الماء طهور لا ينجسه شيء إلا ما غلب على لونه وطعمه وريحه» (1).
وقد تقدم معنى الواو.
ولأن تغيره لظهور النجاسة فيه والحكم للظاهر.
وأما كون ما لم يتغير بمخالطة النجاسة إذا كان يسيرًا وهو ما دون القلتين ينجس على روايةٍ؛ فلأن قوله عليه السلام: «إذا بلغ الماء قلتين لم يحمل الخبث» (2) يدل بمفهومه على أن ما دون القلتين يحمل الخبث.
و«لأنه صلى الله عليه وسلم أمر بغسل الإناء من ولوغ الكلب» (3). والظاهر عدم تغيره.
وأما كونه لا ينجس على روايةٍ فلعموم قوله: «الماء طهور لا ينجسه شيء إلا ما غلب على لونه
…
الحديث» (4).
(1) سبق تخريجه ص: 102.
(2)
أخرجه ابن ماجة في سننه (517) 1: 172 كتاب الطهارة، باب مقدار الماء الذي لا ينجس.
وأخرجه أحمد في مسنده (4803) 2: 48.
(3)
سيأتي تخريجه من حديث أبي هريرة في باب إزالة النجاسة ص: 254.
(4)
سبق تخريجه ص: 102.
والأولى أصح؛ لأن الجمع بين الحديثين أولى. فيجب حمل قوله: «الماء طهور» على الكثير.
فإن قيل: فلِمَ يَنْجُس القليل إذا تغير إن لم يتناوله الحديث؟
قيل: بالقياس على الكثير بل بطريق الأولى لأنه إذا نجس الدافع عن نفسه فأولى أن ينجس غير الدافع.
ولأنه [إذا](1) نجس بمجرد الملاقاة وإن لم يتغير؛ فلأن ينجس بالتغير بطريق الأولى.
وأما كون الماء الكثير إذا كانت النجاسة المخالطة له غير بول آدمي أو عذرته: الماء يعد طاهرًا فلما تقدم من قوله عليه السلام: «إذا بلغ الماء قلتين لم يحمل خبثا» (2). ومن قوله عليه السلام: «الماء طهور لا ينجسه شيء
…
الحديث» (3).
وأما كونه لا ينجس إذا كانت النجاسة بول آدمي أو عذرته المائعة وكان الماء الكثير مما يمكن نزحه على روايةٍ فلعموم الحديثين المتقدمين.
وأما كونه ينجس على روايةٍ فلقوله صلى الله عليه وسلم: «لا يبولن أحدكم في الماء الدائم الذي لا يجري ثم يغتسل منه» (4) متفق عليه.
والأولى أصح؛ لأن خبر البول لا بد من تخصيصه فيخص بخبر القلتين (5).
ولأن البول كغيره من النجاسات في سائر الأحكام فكذلك في تنجيس الماء.
وأما كونه لا ينجس رواية واحدة إذا كان مما لا يمكن نزحه؛ فلأن نهي النبي صلى الله عليه وسلم ينصرف إلى ما كان بأرضه في عهده من (6) آبار المدينة.
ولأن نجاسه ذلك بما ذكر تؤدي إلى الحرج والمشقة. وذلك منتف شرعًا.
(1) زيادة يقتضيها السياق.
(2)
سبق تخريجه ص: 105.
(3)
سبق تخريجه ص: 102.
(4)
أخرجه البخاري في صحيحه (236) 1: 94 كتاب الوضوء باب البول في الماء الدائم.
وأخرجه مسلم في صحيحه (283) 1: 236 كتاب الطهارة باب النهي عن الاغتسال في الماء الراكد.
(5)
سبق ذكره وتخريجه ص: 105.
(6)
في ب في.
قال: (وإذا انضم إلى الماء النجس ماء طاهر كثير طهّره إن لم يبق فيه تغيّر).
أما كون ما ذكر يطهّر الماء النجس؛ فلأن الماء الطهور الكثير يدفع النجاسة عن نفسه فيدفعها عن غيره.
وأما قول المصنف رحمه الله: ماء طاهر المراد به الطهور لأن غير الطهور لا يدفع النجاسة عن نفسه؛ فلأن لا يدفعها عن غيره بطريق الأولى.
وقوله: كثير فيه تنبيه على أنه يشترط في تطهير ما ذكر بكثرة الماء المضموم؛ لأن اليسير لا يطهر لما يأتي.
وقوله: إن لم يبق فيه تغيّر فيه تنبيه على أنه يشترط في تطهير ما ذكر زوال التغيّر؛ لأن التغيّر ينجس الكثير.
فإن قيل: ما صفة هذا الضم؟
قيل: أن يجري الماء الكثير من ساقية أو أن يصبه دلوًا فدلوًا.
ولا يعتبر صبه دفعة واحدة للمشقة.
قال: (وإن كان الماء النجس كثيرًا فزال تغيّره بنفسه أو بنزح بقي بعده كثير طهر).
أما كون الماء الكثير إذا زال تغيّره بنفسه يطهر؛ فلأن العلة في تنجيسه التغيّر. فإذا زال زال التنجيس ضرورة زوال الحكم عند زوال علته.
وأما كونه إذا زال تغيره بالنزح يطهر فلما ذكر.
وأما قول المصنف رحمه الله: بنزح بقي بعده كثير فبيان لاشتراط بقاء الماء كثيرًا بعد نزحه؛ لأن القليل الموجب لتنجيسه أمران: الملاقاة والتغير فإذا زال أحد السببين الذي هو التغير لا يلزم دفع التنجيس لبقاء سببه الآخر.
قال: (وإن كُوثر بماء يسير أو بغير الماء فأزال التغيّر لم يطهر، ويتخرج أن يطهر).
أما كون ما كُوثر بماء يسير لا يطهر على المذهب؛ فلأن ذلك لا يدفع الخبث عن نفسه؛ فلأن لا يدفع عن غيره بطريق الأولى.
وأما كون ما كُوثر بغير الماء كالتراب والخل لا يطهر على المذهب؛ فلأن الماء اليسير إذا لم يطهّر مع كونه مطهرًا في الجملة؛ فلأن لا يطهّر غيرَه بطريق الأولى.
قال ابن عقيل: التراب ونحوه لا يُطَهّر لأنه لا يزيل التغيّر وإنما يستره.
وأما كون ما كُوثر بماء يسير أو بطاهر يتخرج أن يطهر؛ فلأن علة التنجيس التغيّر وقد زال فوجب زوال التنجيس كما لو زال التغيّر بالمكاثرة.
قال: (والكثير ما بلغ قلتين، واليسير ما دونهما وهما خمسمائة رطل بالعراقي. وعنه أربعمائة. وهل ذلك تقريب أو تحديد؟ على وجهين).
أما كون الكثير ما بلغ قلتين. وهما تثنية قلة. وهي الجرّة. وسميت بذلك لأنها تُقَلُّ. أي تحمل. ومنه قوله تعالى: {حتى إذا أَقَلَّت سحابًا ثِقَالاً} [الأعراف: 57]. أي حملت.
واليسير ما دونهما؛ فلأن النبي صلى الله عليه وسلم فرّق بين القلتين وما دونهما حيث قال: «إذا بلغ الماء قلتين لم يحمل الخبث» (1). فوجب جعل ما لم يحمل الخبث كثيرا لدفعه الخبث وما دونه يسيرًا لعدم دفعه ذلك.
وأما كون القلتين خمسمائة رطلٍ بالعراقي على المذهب؛ فلأنه يروى عن ابن جريج أنه قال: «رأيت قِلال هَجَر وكانت القلة منها تسع قربتين أو قربتين وشيئًا» (2). فالاحتياط أن يُجْعل الشيء نصفًا. والقربة مائة بإجماع فتكون القلتان خمسمائة رطل بالعراقي. والرطل العراقي وزنه مائة درهم وثمانية وعشرون درهمًا فيكون القنطار بالرطل الدمشقي أحد وعشرين رطلاً وثلث رطل. فتكون القلتان على هذا مائة رطل وستة أرطال وثلثي رطل. كذا ذكر المصنف رحمه الله في المغني القديم وعزاه إلى أبي عبيد (3). وذكر في المغني الجديد أن الرطل العراقي مائة درهم وثمانية وعشرون درهمًا وأربعة أسباع درهم. فتكون القلتان على هذا مائة رطل وسبعة أرطال وأوقية وخمسة أسباع أوقية.
(1) سبق تخريجه ص: 105.
(2)
ذكره البيهقي في السنن الكبرى 1: 263 كتاب الطهارة، باب: قدر القلتين.
(3)
ر الأموال لأبي عبيد ص: 466.
وأما كونهما أربعمائة على روايةٍ فلما روي عن ابن جريج ويحيى بن عُقيل: أن القلة تأخذ قربتين. وقِربُ الحجاز كبار تسع كل قربة مائة رطل.
فعلى هذا تكون القلتان خمسة وثمانين وثلث رطل بالدمشقي على الأول. وعلى ما في المغني الجديد تكون القلتان خمسة وثمانين وثلث رطل وأربعة أسباع أوقية.
وأما كون ذلك تقريبًا على وجهٍ؛ فلأن الشيء إنما جعل نصفًا احتياطًا والغالب استعماله دون النصف.
وأما كونه تحديدًا على وجه؛ فلأن ما جعل احتياطًا يصير واجبًا كغسل جزء من الرأس مع الوجه.
فإن قيل: الخلاف في التقريب والتحديد راجع إلى خمسمائة أو إلى أربعمائة أو إليهما.
قيل: ظاهر هنا رجوعه إليهما، وظاهر كلامه في المغني رجوعه إلى خمسمائة؛ لأنه قال فيه: اختلف أصحابنا هل القلتان خمسمائة رطل تحديدًا أو تقريبًا؟ فخص الخلاف بخمسائة. والأشبه ذلك إن قيل القربة مائة بإجماع لأنه لا ترديد في كون القلتين قربتين وإنما الترديد في الزائد عليهما. وإن قيل: القربة مائة تقريبًا حسن مجيء الخلاف في التقريب والتحديد في الروايتين المتقدم ذكرهما.
فإن قيل: ما الصحيح منهما؟
قيل: التقريب عند المصنف رحمه الله، والتحديد عن أبي الحسن الآمدي. وذكره المصنف في المغني.
إذا علم ذلك. ففائدة الخلاف لو نقصتا رطلاً أو نحوه فوقع فيها نجاسة فعلى القول بالتقريب هو طاهر؛ لأنه نقص يسير لا أثر له، وعلى القول بالتحديد هو نجس لأنه ما نقص عن قلتين.
قال: (وإذا شك في نجاسة الماء أو كان نجسًا فشك في طهارته بنى على اليقين).
أما كون من شك في نجاسة الماء بعد طهارته بنى على اليقين؛ فلأن طهارته متيقنة والمتيقن لا يزول بالشك.
ولأن اليقين راجح على ما يطرأ عليه من الشك.
وأما كون من شك في طهارة الماء بعد نجاسته بنى على اليقين فلما ذكر قبل.
قال: (وإن اشتبه الماء الطاهر بالنجس لم يتحر فيهما على الصحيح من المذهب ويتيمم. وهل يشترط إراقتهما أو خلطهما؟ على روايتين).
أما كون من اشتبه عليه الماء الطهور - وهو المراد بقول المصنف رحمه الله الطاهر - بالنجس لم يتحر فيهما فلما يأتي ذكره في صوره، وهي ثلاث صور:
إحداها: أن يكثر عدد النجس على عدد الطهور.
الثانية: أن يستويا.
الثالثة: أن يكثر عدد الطهور على النجس.
فالأولتان لا خلاف في المذهب أنه لا يتحرى فيهما.
أما كونهما لا خلاف فيهما؛ فلأن المصنف رحمه الله صرح في المغني بذلك فيجب حمل كلامه هاهنا على الصورة الثالثة ويكون من باب إطلاق اللفظ المتواطئ إذا أريد به بعض محاله وهذا مجاز سائغ.
وأما كونه لا يتحرى فيهما؛ فلأنه اشتبه عليه المباح بالمحظور في موضع لا تبيحه الضرورة فلم يجز التحري كما لو اشتبهت أخته بأجنبية.
وأما كونه لا يتحرى في الصورة الثالثة فلما ذكر في الصورتين.
قيل: وحكي عن أبي علي النجاد أنه يتحرى فيهما؛ لأنه إذا كثر عدد الطهور على النجس يغلب على الظن إصابة الطهور.
وإلى ذلك الوجه أشار المصنف رحمه الله بقوله: على الصحيح من المذهب.
والأول أصح لما تقدم.
وأما غلبة الظن إصابة الطهور فلا أثر له؛ كما لو اختلطت أخته بأجنبيات، والميتة بمذكيات.
وأما كونه يتيمم إذا لم يتحر في الصور الثلاث؛ فلأن ذلك شأن عادم الماء لدخوله تحت قوله تعالى: {فلم تجدوا ماء فتيمموا} [المائدة: 6].
وأما كون إراقتهما أو خلطهما يشترط على روايةٍ فليتحقق عدم الماء الطهور حسًا وشرعًا.
وأما كون ذلك لا يشترط على روايةٍ؛ فلأنه ممنوع من استعمالهما شرعًا، والممنوع منه شرعًا كالمعدوم حقيقة دليله الجريح.
قال: (وإن اشتبه طاهر بطهور توضأ من كل واحد منهما وصلى صلاة واحدة).
أما كون من اشتبه عليه طاهر بطهور يتوضأ من كل واحد منهما؛ فلأنه أمكنه تأدية فرضه بيقين فلزمه ذلك كما لو نسي صلاةً من خمس لا يَعلم عينها.
وأما كونه يصلي صلاة واحدة؛ فلأنه إذا توضأ من كل واحد ثم صلى صلاة واحدة علم أنه صلى متوضئًا بماء طهور قطعًا.
قال: (وإن اشتبهت الثياب الطاهرة بالنجسة صلى في كل ثوب صلاة بعدد النجس وزاد صلاة).
أما كون من ذكر يصلي في كل ثوب صلاة بعدد النجس؛ فلأنه لا يمكنه تأدية فرضه بيقين بدون ذلك فلزمه فعله لما تقدم.
وأما كونه يزيد صلاة؛ فلأنه إذا فعل ذلك علم أنه صلى في ثوب طاهر قطعًا.