الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
كتاب العارية
العارية: مشتقة من عار الشيء إذا ذهب وجاء. ومنه قيل للبطال: عيّار لتردده في بطالته. والعرب تقول: أعاره وعاره مثل: أطاعه وطاعه.
والأصل فيها الكتاب والسنة والإجماع والمعنى: أما الكتاب فقوله تعالى: {ويمنعون الماعون} [الماعون: 7]. روي عن ابن عباس وابن مسعود قالا: العواري. وفسرها ابن مسعود فقال: القدر والميزان والدلو.
وأما السنة فما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه (1) قال: «العَاريةُ مُؤَدَّاةٌ» (2).
وروى صفوان بن أمية «أن النبي صلى الله عليه وسلم استعارَ منهُ يومَ حنين أَدْرَاعاً. فقال: أَغصباً يا محمد! قال: بلْ عاريةٌ مَضمونَة» (3) رواه أبو داود.
وأما الإجماع فأجمع المسلمون في الجملة على جواز العارية.
وأما المعنى فهو أن العارية هبة المنافع أو إباحتها. فوجب أن تكون جائزة؛ كهبة الأعيان وإباحةِ أكلها.
قال المصنف رحمه الله: (وهي هبة منفعة. تجوز في كل المنافع إلا منافع البضع. ولا تجوز إعارة العبد المسلم لكافر. وتكره إعارة الأمة الشابة لرجل غير محرمها، واستعارة والديه للخدمة).
أما قول المصنف: وهي هبة منفعة؛ فهو بيان لمعنى العارية.
وقال صاحب المستوعب: هي إباحة منفعة. وقدّمه.
(1) ساقط من هـ.
(2)
أخرجه أبو داود في سننه (3565) 3: 296 كتاب البيوع، باب في تضمين العارية.
وأخرجه الترمذي في جامعه (2120) 4: 433 كتاب الوصايا، باب ما جاء لا وصية لوارث.
وأخرجه ابن ماجة في سننه (2399) 2: 802 كتاب الصدقات، باب العارية.
قال الترمذي: حديث حسن غريب. وقال البوصيري في الزوائد: إسناد حديث أنس صحيح. وعبدالرحمن هو بن يزيد بن جابر ثقة. وسعيد هو بن أبي سعيد المقبري.
(3)
أخرجه أبو داود في سننه (3562) 3: 296 كتاب البيوع، باب في تضمين العارية.
وأخرجه أحمد في مسنده (27674) 6: 465.
وأما كون العارية تجوز في كل المنافع ما خلا منافع البضع، وإعارة العبد المسلم لكافر؛ فـ «لأن النبي صلى الله عليه وسلم استعارَ من أبي طلحةَ فرساً فَركبهَا» (1)، و «من صفوان أَدْرَاعاً» (2)، و «سئل عن حق الإبل فقال: إعارةُ دَلوهَا فَحْلِها» (3). فيثبت ذلك في المنصوص، ويقاس عليه سائر المنافع.
وأما كونها لا تجوز في منافع البضع؛ فلأن الوطء لا يجوز إلا في عقد نكاح أو ملك يمين، وذلك غير حاصل.
وأما كون إعارة العبد المسلم لكافر لا تجوز؛ فلأنه لا تجوز إعارته له حذراً من استخدامه.
وأما كون إعارة الأمة الشابة لرجل غير محرمها تكره؛ فلأنه لا يؤمن عليها، ولا يجوز له الخلوة بها. وذكر المصنف في المغني أن ذلك لا يجوز لما ذكر.
وفي قوله: الشابة لرجل غير محرمها إشعار بأن إعارة الكبيرة لرجل غير محرم، وإعارة الشابة لامرأة، ومحرم لا تكره، وهو صحيح؛ لأنه يؤمن فيهما ما ذكر قبل.
وأما كون استعارة والدي الشخص للخدمة تكره (4)؛ فلأنه يكره استخدامهما، فكره استعارتهما لذلك. قال:(وللمعير الرجوع متى شاء ما لم يأذن في شَغله بشيء يستضر المستعير (5) برجوعه؛ مثل: أن يعيره سفينة لحمل متاعه فليس له الرجوع ما دامت في لجّة البحر. وإن أعاره أرضاً للدفن لم يرجع حتى يبلى الميت، وإن أعاره حائطاً
(1) أخرجه البخاري في صحيحه (2484) 2: 926 كتاب الهبة، باب من استعار من الناس الفرس.
وأخرجه مسلم في صحيحه (2307) 4: 1803 كتاب الفضائل، باب في شجاعة النبي عليه السلام وتقدمه للحرب.
(2)
سبق ذكره ص: خطأ! الإشارة المرجعية غير معرّفة ..
(3)
أخرجه مسلم في صحيحه (988) 2: 685 كتاب الزكاة، باب إثم مانع الزكاة.
وأخرجه النسائي في سننه (2454) 5: 27 كتاب الزكاة، باب مانع زكاة البقر.
(4)
زيادة يقتضيها السياق.
(5)
ساقط من هـ.
ليضع عليه أطراف خشبه لم يرجع ما دام عليه، فإن سقط عنه لهدم أو غيره لم يملك رده).
أما كون المعير (1) له الرجوع متى شاء مع عدم إذنه في الشَّغل بشيء يستضر المستعير بالرجوع كما مثل المصنف رحمه الله؛ فلأن المنافع المستقبلة لم تحصل في يده، فلا يملكها بالإعارة؛ كما لو لم تحصل العين في يده.
وأما كونه ليس له (2) ذلك مع الإذن في الشَّغل المذكور؛ فلأنه قلب لموضوع العارية. إذ موضوعها ارتفاق المستعير بالعين، وحصول النفع له، وضرره ينافي ذلك.
وأما كونه لا يرجع في السفينة ما دامت في لُجَّة البحر؛ فلأن الرجوع قبل ذلك يستضر به، فلم يملك الرجوع لفقد شرطه.
وأما كونه لا يرجع إذا أعاره أرضاً للدفن حتى يبلى الميت؛ فلأن في الرجوع هتكَ حرمة الميت بالنبش فلم يُمَكّن منه؛ كما لو كان ضرراً على الحي.
وأما كونه لا يرجع في الحائط المعار لوضع أطراف خشبه ما دام عليه؛ فلأن هذا يراد للبقاء.
ولأن في الرجوع ضرراً على المستعير.
وأما كونه لا يملك رده إذا سقط عنه لهدمٍ أو غيره؛ فلأن الإذن (3) يتناول الحائط الأول (4) فلا يتعدى إلى غيره.
(1) في أ: المستعير.
(2)
ساقط من هـ.
(3)
مثل السابق.
(4)
مثل السابق.
قال: (وإن أعاره أرضاً للزرع لم يرجع إلى الحصاد. إلا أن يكون مما يُحصد قصيلاً فيحصده).
أما كونه لا يرجع إلى الحصاد إذا كان الزرع مما لا يُحصد قصيلاً؛ فلأن فيه ضرراً على المستعير.
وأما كونه يحصده إذا كان مما يحصد قصيلاً؛ فلأنه أمكن الرجوع من غير ضرر.
قال: (وإن أعارها للغراس والبناء، وشرط عليه القلع في وقتٍ، أو عند رجوعه، ثم رجع: لزمه القلع. ولا يلزمه تسوية الأرض إلا بشرط. وإن لم يشرط عليه القلع لم يلزمه إلا أن يضمن له المعير النقص. فإن قلع فعليه تسوية الأرض. وإن أبى القلع فللمعير أخذه بقيمته. فإن أبى ذلك بِيعا لهما. فإن أبيا البيع ترك بحاله).
أما كون المستعير يلزمه القلع مع الشرط؛ فلقوله عليه السلام: «المؤمنون عند شروطهم» (1).
ولأنه رضي بالتزام الضرر الداخل عليه بالقلع.
وأما كونه لا يلزمه تسوية الأرض أي الحفر الحاصلة فيها بالقلع مع عدم الشرط؛ فلأنه رضي بعدم التسوية حيث لم يشرطها.
وأما كونه يلزمه ذلك مع الشرط؛ فلما تقدم في القلع.
وأما كونه لا يلزمه القلع إلا عند عدم ضمان النقص؛ فلأن فيه ضرراً على المستعير.
وأما كونه يلزمه القلع عند ضمان النقص؛ فلأنه رجوعٌ من غير إضرار.
(1) أخرجه أبو داود في سننه (3594) 3: 304 كتاب الأقضية، باب في الصلح.
وأخرجه الترمذي في جامعه (1352) 3: 634 كتاب الأحكام، باب ما ذكر عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في الصلح بين الناس.
وأما كونه عليه تسوية الأرض إذا قلع وليس مشروطاً عليه قلع الغرس؛ فلأن
القلع باختياره. لو امتنع منه لم يجبر عليه. فلزمه التسوية؛ كالمشتري لما فيه شفعة إذا أخذ غرسه (1).
ونقل المصنف في المغني عن القاضي: لا يلزمه تسوية الحُفَر؛ لأنه لما أعاره مع علمه بأن له قلع غرسه كان ذلك رضاً منه بما يحصل بالقلع من التخريب (2)، فلم تلزمه التسوية كما لو شرط القلع. ولم يحك عن الأصحاب غيره. وحكى في الكافي الوجهين معاً.
وأما كون المعير له أخذ ذلك بقيمته إذا أبى المستعير القلع؛ فلأن غرسه حصل في ملك غيره. أشبه الشفيع مع المشتري.
وأما كون الغرس والأرض يباعان لهما إذا أبيا ما ذكر؛ فلأن ذلك طريق إلى تحصيل مالية كل واحدٍ منهما.
ولا بد أن يلحظ في قوله: بِيعا لهما أن البيع يكون بالاتفاق لقوله بعد: فإن أبيا البيع ترك بحاله.
فعلى هذا إذا بيعا دفع إلى كل واحدٍ منهما حصته. وطريقه أن يقال: كم قيمة الأرض غير مغروسة؟ فيقال: عشرة. ويقال: كم تساوي مغروسة؟ فيقال: خمسة عشر. فيكون للمعير ثلثا الثَّمَن، وللمستعير ثلثه.
وأما كون ذلك يترك بحاله إذا أبيا البيع؛ فلأن جائز التصرف لا يجبر على بيع ملكه إلا في دَين. قال: (وللمعير التصرف في أرضه على وجه لا يضر بالشجر. وللمستعير الدخول للسقي والإصلاح وأخذ الثمرة. ولم يذكر أصحابنا عليه أجرة من حين
(1) في ج: كالشفيع إذا أخذ غرسه.
(2)
في هـ: التحريث.
الرجوع، وذكروا عليه أجرة في الزرع وهذا مثله فيخرج فيهما. وفي سائر المسائل وجهان).
أما كون المعير والمستعير لكل واحدٍ منهما التصرف بما تقدم ذكره؛ فلأن لكل واحدٍ حاجة إلى ذلك مع عدم ضرر صاحبه.
ولأن الملك يقتضي أن يملك المعير التصرف في ملكه مطلقاً. خولف فيما يضر المستعير للضرر فيبقى فيما عداه على مقتضاه. وإذنه للمستعير في الغرس والزرع إذن له فيما هو من ضروراته، والدخول للسقي والإصلاح وأخذ الثمرة من ضرورات ذلك، فملكه لشمول الإذن له عرفاً.
وأما كون المستعير لا أجرة عليه في الشجر من حين الرجوع؛ فلأن بقاء ذلك بحكم العارية. فوجب كونه بغير أجرة؛ كالخشب على الحائط.
وأما كونه عليه أجرة في الزرع؛ فلأن المعير لما رجع اقتضى رجوعه أن المستعير لا يملك الانتفاع بالعارية. ضرورة بطلان الإذن المبيح لذلك بالرجوع. لكن الانتفاع لو مُنع منه إلى حصاد الزرع لأدى إلى ضرر المستعير. فوجب بقاؤه بأجرة؛ لما فيه من الجمع بين الحقين.
وأما كون مسألة الغرس مثل مسألة الزرع فيما ذكر؛ فلاستوائهما في الرجوع الموجب لما ذكر.
فعلى هذا يخرج فيهما وفي كل موضع يشبههما وجهان وجههما (1) ما تقدم.
قال: (وإن غرس أو بنى بعد الرجوع أو بعد الوقت فهو غاصب يأتي حكمه).
أما كون من ذكر غاصباً؛ فلأنه تصرف بغير إذن المالك، وذلك شأن الغاصب.
وأما كون الغاصب يأتي حكمه؛ فلأنه يأتي في باب الغصب (2).
(1) في هـ: ووجههما.
(2)
ر ص: خطأ! الإشارة المرجعية غير معرّفة ..
قال: (وإن حمل السيل بَذراً إلى أرض فنبت فيها فهو لصاحبه يبقى إلى الحصاد بأجرة مثله. وقال القاضي: لا أجرة له. ويحتمل أن لصاحب الأرض أخذه بقيمته).
أما كون ما نبت لصاحب البذر لا لصاحب الأرض؛ فلأنه نماء ملكه.
وأما كونه مبقى إلى الحصاد؛ فلأنه حصل في ملك غيره بغير تعدٍّ منه، وفي قلعه إتلافٌ له فلم يجب عليه كما لو أذن له فيه، وكما لو حصل فصيله في ملك غيره فلم يمكن إخراجه إلا بذبحه أو قلع الباب فإنه لا يجبر على ذبحه.
وأما كون صاحب الأرض له أجرة المثل عليه على المذهب؛ فلأنه انتفع بملك غيره بغير إذنه. فوجب عليه أجرة المثل؛ كالغاصب، وكما لو انقضت مدة المستأجر وله في الأرض زرعٌ لم يفرّط في زرعه.
وأما كونه لا أجرة له على قول القاضي؛ فلأنه حصل بغير تفريطه.
وأما كونه يحتمل أن لصاحب الأرض أخذه بقيمته؛ فلأنه حصل زرع غيره في ملكه فكان له ذلك؛ كما لو غصب ملكه وزرع.
قال: (وإن حمل غرس رجل فنبت في أرض غيره فهل يكون كغَرْس الشفيع أو كغَرْس الغاصب؟ على وجهين).
أما كون ما ذكر كغَرْس الشفيع على وجهٍ؛ فلأنه ساواه في عدم التعدي.
وأما كونه كغرس الغاصب على وجهٍ؛ فلأنه ساواه في عدم الإذن. وحكم غرس الشفيع أنّ قلعه مجاناً غيرُ مستحقٍ. بخلاف غرس الغاصب.
وقول المصنف: كغرس الشفيع فيه نظر؛ لأنه يوهم أن الغرس ملك الشفيع. كما أن قوله: كغرس الغاصب كذلك، وليس الغرس ملك الشفيع بل الشفيع إذا أخذ (1) بالشفعة وكان المشتري قد غرس لا يملك الشفيع قلع الغرس من غير ضمان النقص، والعبارة الصحيحة أن يقال: كغرس المشتري لما فيه شفعة.
(1) ساقط من هـ.
قال المصنف رحمه الله: (وحكم المستعير في استيفاء المنفعة حكم المستأجر. والعارية مضمونة بقيمتها يوم التلف وإن شرط نفي ضمانها. وكل ما كان أمانة لا يصير مضموناً بشرطه، وما كان مضموناً لا ينتفي ضمانه بشرطه. وعن الإمام أحمد أنه ذكر له ذلك فقال: «المسلمون على شروطهم» (1)، فيدل على نفي الضمان بشرطه).
أما كون حكم المستعير حكم المستأجر في استيفاء المنفعة؛ فلأن المنافع صارت مملوكة له فكان حكمه حكم المستأجر لاشتراكهما في ذلك.
وأما كون العارية مضمونة مع عدم شرط نفي الضمان؛ فلما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: «بل عاريةٌ مضمونة» (2)، ويروى عنه عليه السلام أنه قال:«على اليد ما أخذت حتى تؤدي» (3) رواه أبو داود.
ولأنه أخذ ملك غيره لمنفعة نفسه منفرداً بها من غير استحقاق ولا إذن في الإتلاف. فكان مضموناً؛ كالغصب والمقبوض على وجه السوم.
وأما كونها مضمونة مع شرط نفي الضمان على المذهب؛ فلما تقدم من الحديثين.
ولأن كل عقد اقتضى الضمان أو عدمه لم يغيره (4) الشرط؛ كالبيع والوديعة والهبة والشركة والمضاربة.
وأما كونها لا تكون مضمونة على روايةٍ؛ فلما ذكر الإمام أحمد من الحديث.
ولأن الضمان حقُّ المعير. فإذا شرط نفيه كان راضياً بإسقاط حقه، وإذا رضي بإسقاط حقه وجب أن يسقط؛ كما لو أذن له في إتلاف ماله.
(1) سبق تخريجه ص: خطأ! الإشارة المرجعية غير معرّفة ..
(2)
سبق تخريجه ص: خطأ! الإشارة المرجعية غير معرّفة ..
(3)
أخرجه أبو داود في البيوع، باب في تضمين العارية 3: 296/ 3561. والترمذي في البيوع، باب ما جاء في أن العارية مؤداة 3: 492/ 1266. وابن ماجة في الصدقات، باب العارية 2: 802/ 2400.
قال الترمذي: حديث حسن صحيح.
(4)
في هـ: يغير.
والأول أصح؛ لما تقدم. والحديث المراد به غيرُ ذلك. جمعاً بينه وبين ما تقدم من الحديثين.
والفرق بين شرط نفي الضمان وبين الإذن في الإتلاف: أن الإتلاف فعل يصح الإذن فيه، ويسقط حكمه. إذ لا ينعقد سبباً للضمان مع كونه مأذوناً في عكسه. أما إسقاط الضمان فهو نفي للحكم مع وجود سببه وليس ذلك إلى المالك. ولا يملك الإذن فيه.
وأما كون العارية مضمونة بقيمتها؛ فلأن القيمة بدلٌ عنها في الإتلاف .. فوجبت عند تلفها؛ كالإتلاف.
وأما كون الضمان حيث وجب معتبراً بيوم التلف؛ فلأنه حينئذ تحقق فوات العارية. فوجب اعتبار الضمان به.
وأما كون كل ما كان أمانة لا يصير مضموناً بشرطه، وما كان مضموناً لا ينتفي ضمانه بشرطه؛ فلأن العقد إذا اقتضى شيئاً فشرط غيره يكون شرطاً لشيء ينافي مقتضى العقد فلم يصح؛ كما لو شرط في المبيع أن لا يبيعه.
قال: (وإن تلفت أجزاؤها بالاستعمال كخمل المنشفة فعلى وجهين).
أما كون الأجزاء المذكورة تُضمن على وجهٍ؛ فلأن التالف أجزاءٌ مضمونة لو تلفت العين قبل تلفها. فوجب أن تضمن بالاستعمال؛ كسائر الأجزاء.
وأما كونها لا تضمن على وجهٍ؛ فلأن الإذن في الاستعمال تضمن الإذن في الإتلاف، وما أذن في إتلافه لا يضمن؛ كالمنافع. وفارق ما إذا تلفت العين من حيث إنه لا يمكن تمييزها من العين.
ولأنه إنما أذن فيها على وجه الانتفاع، فإذا تلفت قبل ذلك فقد فاتت على غير الوجه الذي أذن فيه. فضمنها؛ كما لو أجّر العين المستعارة.
قال: (وليس للمستعير أن يعير، فإن فعل فتلف عند الثاني فله تضمين أيِّهما شاء. ويستقر الضمان على الثاني).
أما كون المستعير ليس له أن يعير؛ فلأن الانتفاع بالعارية مستفاد بالإذن لا بطريق المعاوضة. وهو يختلف باختلاف فاعله. فقد يرضى الشخص بانتفاع شخص دون آخر. وعلل المصنف ذلك في المغني بأن العارية: إباحة المنفعة. فلا يجوز أن يبيحها؛ كإباحة الطعام. وهذا صحيح على قول من يقول: العارية إباحة المنفعة، أما من يقول: هي هبة المنفعة فلا يصح ذلك وينبغي حينئذ أن يقال: المنفعة وإن كانت مملوكة للمستعير إلا أن الرقبة باقية على ملك المعير. ويلزم من استيفاء المنفعة السلطة على الرقبة. فوجب أن لا يملك ذلك إلا بإذن من المعير.
فإن قيل: هذا المعنى بعينه موجود في العين المستأجرة، وإجارتها جائزة.
قيل: الغرض من الإجارة غالباً الأجرة، وذلك لا يختلف. بخلاف العارية فإن الغرض فيها: نفع المستعير، وذلك يختلف بالنسبة إلى من ينتفع.
ولأن الإجارة من باب المعاوضة فهي أبلغ من العارية. ولا يلزم من الجواز في الإجارة الجواز في العارية؛ لقصورها عنها. ويمكن أن يقال: مقتضى الدليل أن لا تجوز في الإجارة؛ لما ذكر، لكن المستأجر قد يستغني عن العين. فلو لم تجز الإجارة لأدى إلى فوات ماله وما قابله، وهذا مفقود في المستعير. فوجب بقاؤه على المنع، عملاً بمقتضى الدليل، السالم عن المعارض.
وأما كون مالك العارية له تضمين من شاء من المستعير أوّلاً والمستعير ثانياً إذا أعار (1) الأول العارية لآخر؛ فلأن كل واحدٍ منهما متعدٍّ.
فإن قيل: إذا لم يعلم المستعير الثاني الحال لا يوصف بالتعدي.
قيل: إن علم فالعلة ما ذكر، وإن لم يعلم فيجب عليه الضمان لحصول التلف في يده.
(1) في هـ: عار.
وأما كونه يستقر الضمان على الثاني؛ فلأن التلف حصل في يده.
قال: (وعلى المستعير مؤونة رد العارية. فإن ردّ الدابة إلى اصطبلِ المالك أو غلامهِ لم يبرأ من الضمان إلا أن يردها إلى من جرت عادته بجريان ذلك على يده؛ كالسَائسِ ونحوه).
أما كون مؤونة رد العارية على المستعير؛ فلأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «العارية مُؤَدّاة» (1)، وقال:«على اليد ما أخذت حتى ترده» (2). وإذا كانت واجبة الرد وجب أن تكون مؤونة الرد على من يجب عليه الرد.
وأما كونه لا يبرأ من الضمان إذا ردّ الدابة إلى اصطبل المالك؛ فلأنه لم يردها إلى المالك، ولا إلى وكيله. أشبه ما لو ردّها إلى أجنبي.
وأما كونه لا يبرأ إذا ردها إلى غلامه الذي لم تجر عادته بجريان ذلك على يده؛ فلأنه لم يقبضها مأذون له في القبض قولاً ولا عُرفاً. أشبه ما لو ردّها إلى الاصطبل.
وأما كونه يبرأ إذا ردّها إلى من جرت عادته بما تقدم ذكره؛ كالسائسِ ونحوه؛ فلأن العرف قائمٌ مقام صريح الإذن.
(1) سبق تخريجه ص: خطأ! الإشارة المرجعية غير معرّفة ..
(2)
سبق تخريجه ص: خطأ! الإشارة المرجعية غير معرّفة ..
فصل [إذا اختلف المعير والمستعير]
قال المصنف رحمه الله: (إذا اختلفا فقال: أجرتك، قال: بل أعرتني عقيب العقد. فالقول قول الراكب. وإن كان بعد مضي مدة لها أجرة فالقول قول المالك فيما مضى من المدة دون ما بقي منها. وهل يستحق أجرة المثل أو المدعى إن زاد عليها؟ على وجهين).
أما كون القول قول الراكب مع الاختلاف عقيب العقد؛ فلأن المالك يدعي عقداً ينكره الراكب. فكان القول قوله؛ كسائر من أنكر.
وأما كون القول قول المالك فيما مضى مع الاختلاف بعد مضي مدةٍ لها أجرة؛ فلأن قابض العين ادعى الإذن في الانتفاع بغير عوض، والمالك ينكره، [والقول قول المنكر](1).
وأما كونه لا يقبل قوله فيما بقي؛ فلأنه يدعي عقداً الأصل عدمه، وشغلَ ذمة غيره، والأصل براءتها.
وأما كونه يستحق فيما يقبل قوله فيه أجرة المثل على وجهٍ؛ فلأنهما لو اتفقا على الإجارة واختلفا في قدر الأجرة وجب أجرة المثل فمع الاختلاف في الأصل بطريق الأولى.
وأما كونه يستحق المدعى إن زاد على أجرة المثل على وجهٍ؛ فلأن المالك قُبل قوله في الإجارة. فوجب أن يقبل في المدعى بالقياس عليها.
(1) زيادة من أ.
قال: (وإن قال: أعرتك، قال: بل أجرتني والبهيمة تالفة: فالقول قول المالك. وإن قال: أعرتني أو أجرتني، قال: بل غصبتني: فالقول قول المالك. وقيل: قول الغاصب).
أما كون القول قول المالك إذا ادعى العارية وادعى مَنِ العين في يده الإجارة والبهيمة تالفة؛ فلأنهما اختلفا في صفة القبض. والأصل فيما يقبضه الإنسان من مال غيره الضمان؛ لقوله عليه السلام: «على اليد ما أخذت حتى ترده» (1).
وأما كون القول قول المالك فيما إذا قال مَنِ العين في يده: أعرتني أو أجرتني، فقال المالك: بل غصبتني على المذهب؛ فلما ذكر.
وأما كون القول قول الغاصب على قولٍ؛ فلأن المالك يدعي عليه عوضاً، الأصل براءة ذمته منه.
ولأن الظاهر مِنَ اليد أنها بحق. فكان القول قول صاحب اليد.
(1) سبق تخريجه ص: خطأ! الإشارة المرجعية غير معرّفة ..