الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
باب الوديعة
والأصل فيها الكتاب والسنة والإجماع والمعنى: أما الكتاب فقوله تعالى: {إن الله يأمركم أن تؤدوا الأمانات إلى أهلها} [النساء: 58]، وقوله تعالى:{فإن أمن بعضكم بعضاً فليؤد الذي اؤتمن أمانته} [البقرة: 283].
وأما السنة فقول النبي صلى الله عليه وسلم: «أدِّ الأمانةَ إلى من ائتمنكَ، ولا تَخُنْ منْ خَانَكْ» (1). رواه أبو داود والترمذي. وقال: حديث حسن.
وأما الإجماع فأجمع المسملون في الجملة على جواز الإيداع والاستيداع.
وأما المعنى؛ فلأن بالناس حاجة إليها؛ لأنهم يتعذر عليهم حفظ جميع أموالهم بأنفسهم.
قال المصنف رحمه الله: (وهي أمانة. لا ضمان عليه فيها. إلا أن يتعدى).
أما كون الوديعة أمانة؛ فلأن الله تعالى سماها أمانة.
وأما كون المودَع لا ضمان عليه فيها إذا لم يتعد؛ فلأن الضمان ينافي الأمانة، وقد روى عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده أن النبي صلى الله عليه وسلم قال:«منْ أَودعَ وَديعةً فلا ضَمانَ عليه» (2) رواه ابن ماجة.
ولأنه قول جماعة من الصحابة منهم: أبو بكر وعلي رضي الله عنهما.
ولأن المستودَع إنما يحفظها لصاحبها، فلو ضُمِنَت لامتنع الناس من قبول الودائع وذلك مضر؛ لما فيه من مسيس الحاجة إليها.
وأما كونه عليه الضمان إذا تعدى؛ فلأن التعدي يوجب الضمان حيث وجد، وقد وجد هنا.
قال: (وإن تلفت من بين ماله لم يضمن في أصح الروايتين).
أما كون المودَع لا يضمن ما ذُكر على الصحيح من المذهب؛ فلما ذكر قبل.
(1) أخرجه أبو داود في سننه (3535) 3: 290 كتاب البيوع، باب في الرجل يأخذ حقه من تحت يده.
وأخرجه الترمذي في جامعه (1264) 3: 564 كتاب البيوع.
(2)
أخرجه ابن ماجة في سننه (2401) 2: 802 كتاب الصدقات، باب الوديعة.
وأما كونه يضمن على روايةٍ، فلما روي «أن أنساً كانت عنده وديعة فذهبت. فرفع الأمر إلى عمر. فقال: هل ذهب معها شيء؟ قال: لا. فقال: اغرمها» (1).
قال المصنف في المغني: قال القاضي: الأولى أصح؛ لما ذكر قبل. وحديث عمر محمولٌ على التفريط.
قال: (ويلزم حفظها في حرز مثلها. فإن عيّن صاحبها حرزاً، فجعلها في دونه: ضمن. وإن أحرزها بمثله، أو فوقه: لم يضمن. وقيل: يضمن إلا أن يفعله لحاجة).
أما كون المودَع يلزمه حفظ الوديعة في حرز مثلها؛ فلأن الله تعالى أمر بأدائها، ولا يمكن (2) ذلك إلا بالحفظ.
ولأن فائدة الوديعة الحفظ وحرز المثل معتبرٌ في مواضع. فكذلك هاهنا.
وأما كونه يضمن إذا عيّن صاحبها حرزاً، فجعلها المودَع في دونه؛ فلأنه خالفه في حفظ ماله.
وأما كونه لا يضمن إذا أحرزها بمثل الحرز أو فوقه على المذهب؛ فلأن تنصيصه على الحرز يقتضي الحفظ فيه، وفيما يقوم مقامه، كمن اكترى أرضاً لزرع الحنطة فإن له زرعها بها وبما هو مثلها في الضرر.
وأما كونه يضمن إذا فعل ذلك لغير حاجةٍ في وجهٍ، فلأنه خالف المالك.
وأما كونه لا يضمن إذا فعل ذلك لحاجة، مثل: أن يخاف عليها سيلاً، أو حريقاً، أو نحو ذلك؛ فلأنه حينئذ لا يُعد مفرّطاً، بل يُعدُّ تَرْك ذلك تفريطاً.
قال: (وإن نهاه عن إخراجها فأخرجها لغشيانِ شيء الغالب منه التوى: لم يضمن. وإن تركها فتلفت ضمن. وإن أخرجها لغير خوف ضمن).
أما كون المودَع لا يضمن فيما إذا أخرج الوديعة لغشيان شيء الغالب منه التوى. وهو التلف؛ فلما تقدم من أن المخرج لذلك لا يُعد مفرّطاً.
(1) أخرجه عبدالرزاق في مصنفه (14799) 8: 182 كتاب البيوع، باب الوديعة.
وأخرجه البيهقي في السنن الكبرى 6: 290 كتاب الوديعة، باب لا ضمان على مؤتمن.
(2)
في هـ: يتمكن.
وأما كونه يضمن فيما إذا تركها فتلفت؛ فلأن تارك الإخراج مع غشيان ما ذكر يُعد مفرّطاً.
ولأن (1) الحال لما تغيرت كان حفظها نقلها. فإذا تركها فقد ضيعها.
وذكر المصنف في المغني وجهاً آخر: لا ضمان عليه؛ لأنه ممتثل لقول صاحبها.
وأما كونه يضمن فيما إذا أخرجها لغير خوف؛ فلأنه خالف المالك ونهيه لغير مصلحة.
قال: (وإن قال: لا تخرجها وإن خفت عليها. فأخرجها عند الخوف، أو تركها: لم يضمن).
أما كون المودَع لا يضمن إذا أخرجها عند الخوف؛ فلما ذكر من أن حفظها نقلها.
وأما كونه لا يضمن إذا تركها؛ فلأنه تركها بإذنه الصريح. بخلاف التي قبلها.
قال: (ولو أودعه بهيمةً، فلم يَعْلفها حتى ماتت: ضمن. إلا أن ينهاه المالك عن علفها).
أما كون المودَع يضمن مع عدم النهي؛ فلأن العلف من كمال الحفظ، بل هو الحفظ بعينه؛ لأن العرف يقتضي أن من أودع بهيمة فإن الاعتماد عليه في علفها. فصار مأموراً بالعلف من حيث العرف.
وأما كونه لا يضمن مع النهي عن العلف؛ فلأن المالك قد أذن له في السبب المهلك. أشبه ما لو أذن له في قتل عبده.
قال: (وإن (2) قال: اترك الوديعة في جيبك. فتركها في كُمّه: ضمن. وإن قال: اتركها في كمّك. فتركها في جيبه: لم يضمن. وإن تركها في يده احتمل وجهين).
أما كون المودَع يضمن فيما إذا قال: اترك الوديعة في جيبك. فتركها في كمّه؛ فلأن الجيب أحرز وأبعد (3) من البَطِّ.
(1) في هـ: وأن.
(2)
في هـ: فإن.
(3)
في هـ: لأنه أبعد.
وأما كونه لا يضمن إذا قال: اتركها في كمّك فتركها في جيبه؛ فلما تقدم من أن الجيب أحرز من الكُمّ.
وأما كونه يضمن إذا تركها في يده على وجهٍ؛ فلأن اليد يتطرق إليها الفتح بالنسيان والنوم.
وأما كونه لا يضمن على وجهٍ؛ فلأن اليد أحرز؛ لأن الكُمّ يتطرّق إليه البط.
قال: (وإن دفع الوديعة إلى من يحفظ ماله، كزوجته، وعبده: لم يضمن. وإن دفعها إلى أجنبي، أو حاكم: ضمن. وليس للمالك مطالبة الأجنبي. وقال القاضي: له ذلك).
أما كون المودَع لا يضمن فيما إذا دفع الوديعة إلى من يحفظ ماله، كزوجته وعبده؛ فلأنه مستودَع. فله أن يحفظ الوديعة بنفسه، وبمن جرت العادة أن يحفظ ماله.
وأما كونه يضمن (1) فيما إذا دفعها إلى أجنبي أو حاكم؛ فلأنه مودَع. فليس له أن يُودع من غير عذر.
وأما كون المالك ليس له مطالبة الأجنبي -والمراد به عند التلف- على قولِ غير القاضي؛ فلأن المودَع ضمن بنفس الدفع والإعراض عن الحفظ. فلا يجب الضمان على الثاني؛ لأن دفعاً واحداً لا يوجب ضمانين. بخلاف غاصب الغاصب؛ لأن الغاصب يده ضامنة فرُتِّب الضمان على الضمان.
وأما كونه له ذلك على قول القاضي؛ فلأنه قَبَضَ ما ليس له قبضه. أشبه المستودع (2) من الغاصب.
قال: (وإن أراد سفراً، أو خاف عليها عنده: ردّها إلى مالكها. فإن لم يجده حملها معه إن كان أحفظ لها، وإلا دفعها إلى الحاكم. فإن تعذر ذلك أودعها
(1) ساقط من هـ.
(2)
في هـ: المودع.
ثقة أو دفنها وأعلم بها ثقة يسكن تلك الدار. وإن دفنها ولم يعلم بها أحداً، أو أعلم بها من لا يسكن الدار: ضمنها).
أما كون المودَع يردّ الوديعة على مالكها إذا أراد سفراً أو خاف عليها؛ فلأن في ذلك تخليصاً له من دركها.
وأما كونه يحملها معه إذا لم يجده، وكان أحفظ لها؛ فلأن المقصود الحفظ، وهو موجود هنا وزيادة.
وأما كونه يدفعها إلى الحاكم إذا لم يكن حملها معه أحفظ لها (1)؛ فلأن في السفر بها غرراً؛ لأن ذلك بعرضيّة النهب وغيره.
وأما كونه يودعها ثقة عند تعذر ما تقدم؛ فـ «لأن النبي صلى الله عليه وسلم كان عنده ودائع فلما هاجر تركها عند أم أيمن» .
وأما كونه يدفنها (2) بالشروط المتقدم ذكرها؛ فلأن الحفظ يحصل به.
وأما كونه يضمن إذا دفنها ولم يُعلم بها أحداً؛ فلأنه قد يموت في سفره، وربما نسي مكانها، أو أصابه آفة من غرقٍ أو هدمٍ أو نحوهما.
وأما كونه يضمن إذا أعلم بها من لا يَسكن الدار؛ فلأنه لم يُودعها إياه. والحكم فيما (3) إذا أعلم بها ساكناً في تلك الدار وهو غير ثقة كالحكم فيما ذكر؛ لأن غير الثقة ربما خان فيها. ولم يصرح به المصنف رحمه الله اكتفاء بمفهوم قوله: وأعلم بها ثقة.
قال: (وإن تعدى فيها فركب الدابة لغير نفعها، ولبس الثوب، وأخرج الدراهم لينفقها ثم ردّها، أو جحدها ثم أقر بها، أو كسر ختم كيسها، أو خلطها بما لا تتميز منه: ضمنها. وإن خلطها بمتميز، أو ركب الدابة ليسقيها: لم يضمن).
أما كون المودع يضمن إذا تعدى؛ فلما تقدم أول الباب (4).
ولأن المتعدي شبيهٌ بالغاصب. فوجب أن يضمن بالقياس عليه.
(1) ساقط من هـ.
(2)
في هـ: وأن كونه يدفعها.
(3)
في هـ: فيها.
(4)
ص: خطأ! الإشارة المرجعية غير معرّفة ..
وأما قول المصنف رحمه الله: فركب الدابة؛ فتمثيل للتعدي، وذلك يحصل بأشياء:
- منها: ركوب الدابة، ولبس الثوب؛ لأنه تصرف في مال الغير بغير إذنه. وقيَّد الركوب بعدم نفع الدابة احترازاً من ركوبها لنفعها. وسيأتي بيانه.
- ومنها: إخراج الدراهم من وعائها لينفقها؛ لأنه تصرف أيضاً في مال المالك بغير إذنه.
- ومنها: جحود الوديعة؛ لأنه خرج به عن حيز الأمانة، لأن الجحود ضدها.
- ومنها: كسر ختمها؛ لأنه يزيل عنها أحد أسباب حفظها، وهو مأمور بتحصيله (1).
- ومنها: خلطها بما لا تتميز منه؛ لأنه يتعذر بذلك ردّها بعينها إلى صاحبها، وهو مأمور به.
وأما كونه لا يضمن إذا خلطها بمتميز كسُودٍ وضعها في بِيض، ومُقَطَّعَةٍ في صحاحٍ؛ فلأن ذلك ليس بخيانةٍ (2). أشبه ما لو وضع فوق الوديعة ثوباً، أو مع الدراهم دنانير.
وأما كونه لا يضمن إذا ركب الدابة ليسقيها؛ فلأن ذلك لنفعها. بل لو ترك سقيها حتى ماتت ضمنها.
قال: (وإن أخذ درهماً، ثم رده. فضاع الكل: ضمنه وحده. وعنه: يضمن الجميع. وإن رد بدله متميزاً فكذلك. وإن كان غير متميز ضمن الجميع. ويحتمل أن لا يضمن غيره).
أما كون المودَع يضمن الدرهم وحده إذا أخذه ثم رده ثم ضاع الكل على المذهب؛ فلأن الضمان تعلق بالأخذ فلم يضمن غيرَ ما أخذه.
وأما كونه يضمن الجميع على روايةٍ؛ فلأنه جنى على الوديعة بأخذ بعضها. فصارت مضمونة، كجملتها. وشرط هذا الخلاف: أن تكون الدراهم غير
(1) في هـ: بتحليصه.
(2)
في هـ: بجناية.
مصرورة ولا مختومة، فلو كانت مختومة أو مصرورة في خرقة أو شبهها فكسرَ الختم أو فتحَ الصرّة ضمن الكل بلا خلاف؛ لأنه هتك الحرز بفعل تعدَّى به.
وأما كون حكم ما ردّ بدله متميزاً كحكم الدرهم؛ فلما ذكر.
وأما كونه يضمن الجميع إذا ردّ غير متميزٍ على المذهب؛ فلأنه خلط الوديعة بماله. أشبه ما تقدم.
وأما كونه يحتمل أن لا يضمن غيره؛ فلأن التعدي في الحقيقة إنما وقع فيه. أشبه ما لو ردّه بعينه.
قال: (وإن أودعه صبيٌّ وديعةً ضمنها. ولم يبرأ إلا بالتسليم إلى وليّه).
أما كون المودَع يضمن ما أودعه الصبي؛ فلأن القبض ممن لا إذن له. أشبه القبض من المجنون.
وأما كونه لا يبرأ إلا بالتسليم إلى وليّه؛ فلأن الوديعة صارت مضمونة في يده. فلم يبرأ إلا بما ذكر، كما لو كان له دين في ذمته.
قال: (وإن أودع الصبيَّ وديعةً. فتلفت بتفريطه: لم يضمن. وإن أتلفها لم يضمن. وقال القاضي: يضمن).
أما كون الصبي لا يضمن الوديعة إذا تلفت بتفريطه؛ فلأن مالك الوديعة فرّط في تسليمها إليه.
وأما كونه لا يضمنها إذا أتلفها (1) على قولِ غير القاضي؛ فلما ذكر قبل.
وأما كونه يضمنها على قول القاضي؛ فلأن ما ضُمن بالإتلاف قبل الإيداع ضُمن به بعده. والصبي لو أتلف شيئاً من غير الوديعة ضمن. فكذلك يضمن الوديعة إذا أتلفها.
قال: (وإن أودع عبداً وديعة. فأتلفها: ضمنها في رقبته).
أما كون العبد يضمن الوديعة إذا أتلفها؛ فلأن العبد مكلف يصح استحفاظه، وبهذا يحصل الفرق بينه وبين الصبي.
(1) في هـ: أتفلها.
وقال صاحب النهاية فيها: قال القاضي: فيه وجهان كوديعة الصبي. ثم قال: والصحيح الفرق، وذَكَر ما تقدم.
وأما كون الضمان في رقبته؛ فلأن إتلافه من جنايته، ولو جنى كان الضمان في رقبته. فكذلك إذا أتلف (1).
(1) في هـ: تلف.
فصل [المودَع أمين]
قال المصنف رحمه الله: (والمودع أمين. والقول قوله فيما يدعيه من رَدٍّ، وتلفٍ، وإذنٍ في دفعها إلى إنسان، وما يدعى عليه من جنايةٍ وتفريط).
أما كون المودع أميناً؛ فلأن الله تعالى سمى الوديعة أمانة بقوله: {إن الله يأمركم أن تؤدوا الأمانات إلى أهلها} [النساء: 58]، وقوله:{فليؤد الذي اؤتمن أمانته} [البقرة: 283].
وقال عليه السلام: «أدِّ الأمانةَ إلى من ائتمنك» (1).
ولأنه لا منفعة له في قبضها.
وأما كون القول قوله فيما ذكر؛ فلأن ذلك شأن الأمين.
قال: (فإن قال: لم تودعني، ثم أقر بها، أو ثبتت ببينة فادعى الرد أو التلف: لم يُقبل وإن أقام به بينة. ويحتمل أن تقبل بينته. وإن قال: ما لك عندي شيء قبل قوله في الرد والتلف).
أما كون المودَع المذكور لا يقبل قوله إذا ادعى الرد والتلف بعد قوله: لم تودعني؛ فلأنه خرج بالإنكار عن الأمانة.
وأما كونه لا تقبل بينته بذلك على المذهب؛ فلأنه مكذبٌ لها.
وأما كونه يحتمل أن تقبل فلعدم (2) التهمة. والكذبُ الصادر منه لا يمنع من إظهار الحق، كالمرأة إذا ادعت القذف على زوجها فأنكر. فأقامت البينة بقذفه. فأراد الزوج إقامة البينة على زناها.
(1) سبق تخريجه ص: خطأ! الإشارة المرجعية غير معرّفة ..
(2)
في هـ: فلعموم.
وأما كونه يقبل قوله في الرد والتلف إذا قال: ما لك عندي شيء؛ فلأن قوله أولاً لا يناقض قوله ثانياً؛ لأن من أخذ وديعة فتلفت أو ردّها يصح أن يقول: ما لك عندي شيء، لأنه صادق.
قال: (وإن مات المودَع فادعى وارثُه الردَّ: لم يُقبل إلا ببينة. وإن تلفت عنده قبل إمكان ردّها لم يضمنها، وبعده يضمنها في أحد الوجهين).
أما كون وارث المودَع لا تُقبل دعواه في الرد إذا لم تكن بينة؛ فلأن دعوى الرد من المودَع إنما تقبل لكونه أمين المودِع، وهذا مفقود في وارثه؛ لأن المالك لم يأتمنه (1).
وأما كونه تقبل دعواه إذا كان له بينة؛ فلأن البينة تُظهر صدق دعواه.
وأما كونه لا يضمنها إذا تلفت عنده قبل إمكان ردها؛ فلأنه معذورٌ. قال الله تعالى: {لا يكلف الله نفساً إلا وسعها} [البقرة: 286].
وأما كونه يضمنها بعد الإمكان في وجهٍ، فلأن مال الغير صار في يده من غير أن يودعه إياه. فوجب ضمانه إذا لم يردّه مع إمكانه، كما لو أطارت الريح ثوب رجلٍ إلى سطحٍ آخر، وأمكنه ردّه. فلم يفعل.
وأما كونه لا يضمنها في وجهٍ؛ فكما لو تلفت قبل (2) الإمكان.
ولأن يده نائبةٌ عن موروثه، ولو تلفت عند موروثه مع إمكان الرد لم يضمن. فكذلك هذا.
قال: (وإن ادعى الوديعة اثنان. فأقرّ بها لأحدهما: فهي له مع يمينه. ويحلف المودَع أيضاً. وإن أقر بها لهما فهي لهما، ويحلف لكل واحدٍ منهما. فإن قال: لا أعرف صاحبها حلف أنه لا يعلم، ويقرع بينهما فمن قرع صاحبه حلف وأخذها).
أما كون الوديعة للمُقَرِّ له وحده؛ فلأن إقراره له بيّن أن يده نائبة عن يد المدعي. واليدُ دليل الملك.
(1) في هـ: يثمنه.
(2)
في هـ: بعد.
وأما كون ذلك مع يمينه؛ فلاحتمال أن لا تكون له. ولهذا لو ادعى شخص داراً في يد آخر وطلب يمينه لزمته. فكذلك هاهنا.
وأما كون المودَع يحلف أيضاً؛ فلأن من لزمه الدفع إذا أقرّ، لزمه اليمين إذا أنكر.
وأما كونها لهما إذا أقرّ بها لهما، وكونه يحلف لكل واحدٍ منهما؛ فلما ذكر قبل.
وأما كونه يحلف أنه لا يعلم إذا قال: لا أعرف صاحبها؛ فلأنه يحتمل كذبه.
ولأن كل موضعٍ يُقضى فيه مع الإقرار تجب اليمين فيه مع الإنكار، وهاهنا لو أقرّ بها لهما أو لأحدهما قضي عليه.
وفي قول المصنف رحمه الله: حلف أنه لا يعلم؛ إشعارٌ بأن اليمين واحدة لا ثنتان نظراً إلى تعدد المدعي. وصرح به في المغني. ووجهه أن المدعى أمر واحد وهو العلم بعين المالك وبهذا فارق ما إذا أنكرهما من حيث إن كل واحدٍ منهما يدعي أنها له فهما دعوتان.
وأما كونه يقرع بينهما؛ فلأنهما تساويا في الحق فيما ليس بأيديهما. فوجب أن يقرع بينهما، كالعبدين إذا أعتقهما المريض فلم يخرج من الثلث إلا أحدهما، وكما لو أراد السفر بإحدى نسائه.
وأما كون من قرع يحلف؛ فلأنه يحتمل أنها ليست له.
وأما كونه يأخذ الوديعة إذا قرع (1) وحلف؛ فلأن ذلك فائدةَ القرعة.
قال: (وإن أودعه اثنان مكيلاً أو موزوناً (2). فطلب أحدهما نصيبه: سلمه إليه).
أما كون المودَع يُسَلم نصيب الطالب إليه؛ فلأنه حق مشترك. يمكن تمييز أحدهما من الآخر من غير حيف محقق ولا موهوم فغيبة أحد الشريكين لا يمنع تمييز نصيب الحاضر. دليله الدين المشترك.
فإن قيل: في الدين يدفع مال نفسه، وهاهنا يأخذ عين مال غيره.
قيل: بل هنا يأخذ عين ماله؛ لأن القسمة في المثلي إقرار لا بيع.
(1) في هـ: أقرع.
(2)
في هـ: موزناً.
وأما قول المصنف رحمه الله: مكيلاً أو موزوناً؛ فإشعارٌ بأن ذلك إنما يجوز في المثلي. وصرح به صاحب النهاية فيها؛ لأن قسمة غير ذلك بيعٌ، وليس للمودَع أن يبيع على المودِع.
ولأن قسمة ذلك لا يؤمن فيها الحيف؛ لأنه يفتقر إلى التقويم وذلك ظنٌ وتخمين.
قال: (وإن غصبت الوديعة فهل للمودَع المطالبة بها؟ على وجهين).
أما كون المودَع ليس له مطالبة الغاصب بالوديعة على وجهٍ؛ فلأنه ليس وكيلاً للمالك.
وأما كونه له مطالبته بها على وجهٍ؛ فلأن له حق اليد والحفظ. أشبه المستأجر والمرتهن. وهذا قول أبي الخطاب.