الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
باب المحرمات في النكاح
قال المصنف رحمه الله تعالى: (وهن ضربان: محرمات على الأبد. وهن أربعة أقسام: أحدها: المحرمات بالنسب).
أما كون المحرمات ضربين؛ فلأن منهن من يحرم في كل حال وذلك هو المراد بالمحرمات على الأبد، ومن يحرم في حال ويحل في حال. وذلك هو المراد بقوله بعدُ: الضرب الثاني: المحرمات إلى أمد.
وأما كون المحرمات على الأبد أربعة أقسام؛ فلأن منهن من يحرم بالنسب، ومن يحرم بالرضاع، ومن يحرم بالمصاهرة، ومن يحرم بالملاعنة. وسيأتي تفصيل ذلك في مواضعه إن شاء الله تعالى.
وأما كون أحد الأقسام الأربعة: المحرمات بالنسب؛ فظاهر.
والأصل في تحريمهن الكتاب والسنة والإجماع: أما الكتاب؛ فقوله تعالى: {حرمت عليكم أمهاتكم
…
الآية} [النساء: 23].
وأما السنة؛ فما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: «إن الرَّضاعةَ تحرِّمُ ما تحرِّمُ الولادة» (1).
وأما الإجماع فأجمعت الأمة على تحريم ما نص الله على تحريمه.
قال: (وهن سبع: الأمهات. وهن: الوالدة والجدات من قبل الأب والأم وإن علون، والبنات من حلال أو حرام وبنات الأولاد وإن سفلوا، والأخوات من
(1) أخرجه البخاري في صحيحه (2938) 3: 1131 أبواب الخمس، باب ما جاء في بيوت أزواج النبي صلى الله عليه وسلم.
وأخرجه مسلم في صحيحه (1444) 2: 1068 كتاب الرضاع، باب يحرم من الرضاعة ما يحرم من الولادة.
الجهات الثلاث، وبنات الأخ، وبنات الأخت وأولادهم وإن سفلوا، والعمات، والخالات وإن علون. ولا تحرم بناتهن).
أما كون المحرمات بالنسب سبعاً؛ فلأنهن الأمهات، والبنات، والأخوات، وبنات الأخ، وبنات الأخت، والعمات، والخالات.
وأما كون الأمهات من المحرمات بالنسب فلقوله تعالى: {حرمت عليكم أمهاتكم} [النساء: 23]. ويدخل في ذلك الوالدة؛ لأن اسم الأم (1) حقيقة فيها، والجدات أم الأم وأم الأب وإن علت درجتهن؛ لأن الاسم يصح أن يتناولهن. وقد جاء:«أن أبا هريرة ذكر هاجر أم إسماعيل فقال: تلكَ أمُّكمْ يا بني ماءِ السماء» (2). وفي الدعاء: «اللهم! صلّ على أبينا آدم وأمّنا حواء» .
وأما كون البنات منهن؛ فلأن الله تعالى قال: {وبناتُكم} [النساء: 23]. ويدخل في ذلك القريبة والبعيدة، وبنت الابن وإن نزلت الدرجة؛ لأن كل امرأة بنت آدم كما أن كل رجل ابن آدم. قال الله تعالى:{يا بني آدم} [الأعراف: 26].
ولا فرق بين كون البنت من حلال أو حرام لأن قوله تعالى: {وبناتُكم} [النساء: 23] يشملها.
ولأن البنت من الحرام ابنة مخلوقة من مائه. أشبهت البنت من الحلال.
ولأن المخلوق من مائه حقيقة لا يختلف بالحل والحرمة. ويدل عليه «قول النبي صلى الله عليه وسلم في امرأة هلال بن أمية: انظروه -يعني ولدها- فإن جاءتْ به على صفةِ كذا فهو لشريك بن سَحْماء» (3). يعني الزاني.
ولأن البنت مخلوقة من مائه. أشبهت المخلوقة من وطء الشبهة.
فإن قيل: البنت من الحرام لا يجري التوارث بينها وبين الزاني، ولا تعتق عليه إذا ملكها، ولا يلزمه نفقتها. فلا تحرم؛ كالأجانب.
(1) زيادة يقتضيها السياق.
(2)
أخرجه البخاري في صحيحه (3179) 3: 1225 كتاب أحاديث الأنبياء، باب قول الله تعالى:{واتخذ الله إبراهيم خليلا} .
وأخرجه مسلم في صحيحه (2371) 4: 1840 كتاب الفضائل، باب من فضائل إبراهيم الخليل صلى الله عليه وسلم.
(3)
أخرجه البخاري في صحيحه (4468) 4: 1771 كتاب تفسير القرآن، باب: قوله عز وجل {والذي يرمون أزواجهم} .
قيل: تَخَلُّفُ بعض الأحكام لا يوجب الحل. بدليل ما لو كانت ابنته رقيقة أو مخالفة لدينه.
وأما كون الأخوات من الجهات الثلاث أي من الأبوين أو الأب أو الأم: منهن؛ فلأن الله تعالى قال: {وأخواتُكم} [النساء: 23].
وأما كون بنات الأخ وبنات الأخت منهن؛ فلأن الله تعالى قال: {وبناتُ الأخ وبناتُ الأخت} [النساء: 23]. ويدخل في ذلك أولادهم وإن سفلوا؛ لأن بنت بنت الأخ أو بنت بنت الأخت: بنت أخ وبنت أخت.
وأما كون العمات والخالات منهن؛ فلأن الله تعالى قال: {وعماتُكم وخالاتُكم} [النساء: 23]. ويدخل في ذلك العمة والخالة قريبة كانت أو بعيدة لما ذكر.
ولأنه قد تقدم أن كل جدة أم فكل أخت لها خالة.
وأما كون بناتهن لا يحرمن؛ فلأن الله تعالى أباحهن لنبيه بقوله: {وبناتِ عمك وبناتِ عماتك وبناتِ خالك وبناتِ خالاتك} [الأحزاب: 50]. وحكم الأمّة حكمه ما لم يدل دليل على تخصيصه.
ولأنهن لم يدخلن في التحريم فيدخلن في عموم قوله: {وأحل لكم ما وراء ذلكم} [النساء: 24].
قال: (القسم الثاني: المحرمات بالرضاع. ويحرم به ما يحرم بالنسب سواء).
أما كون القسم الثاني المحرمات بالرضاع؛ فلأنه يلي المحرمات بالنسب وهي القسم الأول.
وأما كونهن يحرمن بالرضاع؛ فلأن الله تعالى قال: {وأمهاتُكم اللاتي أرضعنكم وأخواتُكم من الرضاعة} [النساء: 23].
وأما كونه يحرم به ما يحرم من النسب سواء؛ فلأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «يحرمُ من الرَّضاع ما يحرمُ من النَّسَب» (1) متفق عليه.
وفي روايةِ مسلم: «الرّضاع يُحرّم ما تحرّم الولادة» (2).
(1) أخرجه البخاري في صحيحه (2502) 2: 935 كتاب الشهادات، باب الشهادة على الأنساب.
وأخرجه مسلم في صحيحه (1447) 2: 1071 كتاب الرضاع، باب تحريم ابنة الأخ من الرضاعة.
(2)
أخرجه البخاري في صحيحه (2503) 2: 936 الموضع السابق.
وأخرجه مسلم في صحيحه (1444) 2: 1068 كتاب الرضاع، باب يحرم من الرضاعة ما يحرم من الولادة.
و «قال النبي صلى الله عليه وسلم في درة بنت أبي سلمة: إنها لو لم تكن رَبيبتي في حجْرِي ما حلتْ لي. إنها ابنةُ أخي من الرضاعةِ. أرضعتني وأباها ثُوَيْبةُ» (1) متفق عليهن.
قال: (القسم الثالث: المحرمات بالمصاهرة).
أما كون القسم الثالث: المحرمات بالمصاهرة؛ فلأنه يلي الثاني.
وأما كونهن يحرمن؛ فلأن الله تعالى قال: {وأمهاتُ نسائكم} [النساء: 23]، وقال:{ولا تنكحوا ما نكح آباؤكم} [النساء: 22] وقال: {وحلائلُ أبنائكم} [النساء: 23].
فإن قيل: ما المُصَاهَرة؟
قيل: هي مصدر صَاهَرَ. يقال: صاهرَ الرجلُ يصاهرُ مصَاهَرة.
فإن قيل: ما المراد بالمحرمات بالمصاهرة؟
قيل: المحرمات على الأبد من أهل المرأة والرجل؛ لأن أهل الرجل أصهار عند بعض العرب؛ كما أن أهل المرأة أصهار.
قال الجوهري: الأصهار أهل بيت المرأة. عن الخليل. قال: ومن العرب من يجعل الصِّهْرَ من الأحْمَاء والأخْتان جميعاً.
قال: (وهن أربع: أمهات نسائه، وحلائل آبائه فيحرمن بمجرد العقد دون بناتهن، والربائب. وهن: بنات نسائه اللاتي دخل بهن دون اللاتي لم يدخل بهن. فإن متن قبل الدخول فهل تحرم بناتهن؟ على روايتين).
أما كون المحرمات بالمصاهرة أربعاً؛ فلأنهن أمهات نسائه، وحلائل آبائه، وأبنائه، والربائب.
(1) أخرجه البخاري في صحيحه (4813) 5: 1961 كتاب النكاح، باب:{وأمهاتكم اللاتي أرضعنكم} .
وأخرجه مسلم في صحيحه (1449) 2: 1072 كتاب الرضاع، باب تحريم الربيبة وأخت المرأة.
وأما كون أمهات نسائه يحرمن؛ فلأن الله تعالى قال: {وأمهاتُ نسائكم} [النساء: 23].
وأما كون حلائل آبائه يحرمن؛ فلأن الله تعالى قال: {ولا تنكحوا ما نكح آباؤكم من النساء} [النساء: 22].
وأما كون حلائل أبنائه يحرمن؛ فلأن الله تعالى قال: {وحلائلُ أبنائكم} [النساء: 23].
وأما كون من ذكر يحرم بمجرد العقد؛ فلأن المحرم في أمهات نسائه كون المرأة أم أمرأته وفي حلائل آبائه وأبنائه كونها حليلة أبيه وابنه، وذلك موجود حين العقد.
وأما كون بنات أمهات نسائه وبنات حلائل آبائه وأبنائه لا يحرمن بذلك؛ فلأن المحرم ما ذكر، وهو مفقود فيهن. فيدخلن في عموم قوله:{وأُحِلّ لكم ما وراءَ ذلكم} [النساء: 24].
وأما كون الربائب يحرمن؛ فلأن الله تعالى قال: {وربائبُكم اللاتي في حُجوركم من نسائكمُ اللاتي دخلتم بهن} [النساء: 23].
وأما كونهن بنات نسائه اللاتي دخل بهن دون اللاتي لم يدخل بهن؛ فلأن الله تعالى قيد التحريم بذلك.
ولأن الله تعالى قال: {فإن لم تكونوا دخلتم بهن فلا جناح عليكم} [النساء: 23].
وروى عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده [أن النبي صلى الله عليه وسلم](1) قال: «من تزوجَ امرأةً فطلّقهَا قبلَ أن يَدخُلَ بها لا بأسَ أن يتزوجَ ربيبتهُ، ولا يحلُ له أن يتزوجَ بأمِّهَا» . رواه أبو حفص بإسناده.
فإن قيل: كما قيّد بالدخول فكذلك قيّد بكونها في الحجور.
قيل: القيد إذا خُرّج مخرج الغالب لم يُحتجّ بمفهومه. وهو هنا قد خُرّج مخرج الغالب. بخلاف قوله: {اللاتي دخلتم بهن} [النساء: 23].
(1) زيادة من الشرح الكبير 7: 475.
وأما كون بنات من مُتن قبل الدخول يحرمن على روايةٍ؛ فلأن الموت أقيم مقام الدخول في تكميل الصداق والعدة. فيقوم مقامه في التحريم.
وأما كونهن لا يحرمن على روايةٍ؛ فلأن الله تعالى شرط في التحريم نفس الدخول. فلو قام الموت مقامه؛ لكان الشرط أحد الأمرين.
ولأن بنتَ من مات بنتُ امرأة لم يدخل بها. فلم يحرم؛ لقوله: {فإن لم تكونوا دخلتم بهن فلا جناح عليكم} [النساء: 23]، ، ولما تقدم من حديث عمرو بن شعيب.
قال: (ويثبت تحريم المصاهرة بالوطء الحلال والحرام. فإن كانت الموطوءة ميتة أو صغيرة فعلى وجهين).
أما كون تحريم المصاهرة يثبت بالوطء الحلال والحرام؛ فلأن الله تعالى قال: {ولا تَنكحوا ما نَكح آباؤكم من النساء} [النساء: 22] يعمهما؛ لأن الوطء الحرام يسمى نكاحاً. قال الشاعر:
إذا زنيت فأجد نكاحًا
وفي الآية قرينة تصرفه إلى الوطء لا إلى العقد وهو قوله تعالى: {إنه كان فاحشةً ومقتاً وساء سبيلا} [النساء: 22]. وهذا التغليظ إنما يكون في الوطء.
وقد روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: «لا ينظرُ اللهُ إلى وجهِ رجلٍ نظرَ إلى فرج امرأةٍ وابنتِهَا» (1).
وعن وهب بن منبّه: «ملعونٌ من نظرَ إلى فرج امرأةٍ وابنتِهَا» . رواه الجوزجاني بإسناده.
ولأن ما تعلق بالوطء المباح تعلق بالمحظور؛ كوطء الحائض.
ولأن النكاح يفسده الوطء بالشبهة. فأفسده الوطء الحرام؛ كالإحرام.
وأما كونه يثبت بوطء الميتة على وجه؛ فلأن الوطء ينشر الحرمة المؤبدة. فلم يختص بالحياة؛ كالرضاع.
وأما كونه لا يثبت على وجه؛ فلأنه ليس بسبب للبضعية.
(1) سيأتي تخريجه ص: 589.
ولأن التحريم يتعلق باستيفاء منفعة الوطء، والموت يبطل المنافع، والرضاع إنما حرم من أجل إنبات اللحم وهو حاصل من لبن الميتة.
وأما كونه يثبت بوطء الصغيرة على وجه؛ فلأنه وطءٌ لآدمية حرة في القُبُل. أشبه وطء الكبيرة.
وأما كونه لا يثبت به على وجه؛ فلأنه ليس بسبب للبضعية.
قال: (وإن باشر امرأة أو نظر إلى فرجها أو خلا بها لشهوة فعلى روايتين).
أما كون تحريم المصاهرة يثبت بمباشرة امرأة لشهوة كتقبيل ومس ونحوه على روايةٍ؛ فلأنه نوع استمتاع. فتعلق به تحريم المصاهرة؛ كالوطء في الفرج.
وأما كونه لا يثبت بها على روايةٍ؛ فلأنها مباشرة لا توجب الغسل. فلم يثبت التحريم؛ كالمباشرة لغير شهوة.
ولأن التحريم إما بنص أو إجماع أو قياس، والكل مفقود هنا.
فإن قيل: تقييد المصنف ما ذكر بالمرأة: مشعرٌ بأن من لا تكون امرأة كالمراهقة والطفلة ليست كذلك.
قيل: قال في المغني: الخلاف في اللمس والنظر فيمن بلغت سناً يمكن الاستمتاع منها كابنة تسع فما زاد. فأما الطفلة فلا يثبت فيها ذلك. ثم قال: وقد روي عن أحمد في بنت سبع إذا قبّلها حرمت عليه أمها. ثم قال: قال (1) القاضي: هذا عندي محمول على السن الذي توجد معه الشهوة.
فإن قيل: النظر إلى الفرج مقيد في كلام المصنف رحمه الله تعالى بالشهوة ومطلق في الحديث.
قيل: لا بد من تقييده بذلك؛ لأن المباشرة لغير شهوة لا يثبت بها التحريم. فالنظر بطريق الأولى.
وتقييد المصنف النظر بكونه إلى فرجها: مشعرٌ بأن النظر إلى سائر بدنها لشهوة لا يثبت به التحريم روايةً واحدة.
(1) زيادة يقتضيها السياق.
وقال في المغني: وأما النظر إلى سائر البدن فلا ينشر الحرمة. ثم قال: والصحيح خلاف ذلك فإن غير الفرج لا يقاس عليه لما بينهما من الفرق. ثم قال: ولا خلاف نعلمه في أن النظر إذا وقع من غير شهوة لا ينشر حرمة؛ لأن اللمس الذي هو أبلغ منه لا يؤثر إذا كان لغير شهوة فالنظر أولى.
وأما كون التحريم يثبت بالنظر إلى فرجها لشهوة على روايةٍ؛ فلما روى ابن عباس عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: «من نظرَ إلى فرجِ امرأةٍ: لم تحلَّ له أمُها وبنتُها» (1)، وفي لفظ:«لا ينظرُ اللهُ إلى رجلٍ نظرَ إلى فرجِ امرأةٍ وبنتها» (2).
وأما كونه لا يثبت به على روايةٍ؛ فلعموم قوله: {وأُحِلَّ لكم ما وراء ذلكم} [النساء: 24].
ولأنه نظر. فلم يوجب التحريم؛ كالنظر إلى الوجه.
والخبر ضعيف قاله الدارقطني. وقيل: هو موقوف على ابن مسعود. ثم يمكن حمله على الوطء بطريق الكتابة.
وأما كون التحريم يثبت بالخلوة لشهوة على روايةٍ؛ فلأنها تكمل الصداق. فنشرت الحرمة؛ كالوطء.
وأما كونه لا يثبت بها على روايةٍ؛ فلأن في ذلك مخالفة لقوله تعالى: {فإن لم تكونوا دخلتم بهن فلا جناح عليكم} [النساء: 23].
ولأنها غير منصوص على التحريم بها. فتحل من وجدت فيها؛ لعموم قوله تعالى: {وأحل لكم ما وراء ذلكم} [النساء: 24].
(1) أخرجه ابن أبي شيبة في مصنفه (16229) 3: 469 كتاب النكاح، الرجل يقع على أم امرأته أو ابنة امرأته ما حال امرأته؟ عن أبي هانئ.
(2)
أخرجه ابن أبي شيبة في مصنفه (16228) 3: 469 كتاب النكاح، الرجل يقع على أم امرأته أو ابنة امرأته ما حال امرأته؟
وأخرجه الدارقطني في سننه (92) 3: 268 كتاب النكاح، باب المهر.
وأخرجه البيهقي في السنن الكبرى 7: 170 كتاب النكاح، باب الزنا لا يحرم الحلال. كلهم رووه موقوفا على ابن مسعود.
قال: (وإن تلوط بغلام حرم على كل واحد منهما أمُّ الآخر وابنته، وعند أبي الخطاب هو كالوطء دون الفرج. وهو الصحيح).
أما كون كل واحد ممن ذُكر يحرم عليه أمُّ الآخر وابنته على المذهب؛ فلأن اللواط وطء في الفرج. فنشر الحرمة إلى من ذكر؛ كوطء المرأة.
وأما كون التلوط عند أبي الخطاب كالوطء دون الفرج؛ فلأنه لا يتعلق به أحكام وطء المرأة من الإحلال ونحوه. فكذا التحريم.
وأما كون قول أبي الخطاب هو الصحيح؛ فلأن من ذكر غير منصوص على تحريمهن. فيدخلن في عموم قوله تعالى: {وأُحِلَّ لكم ما وراء ذلكم} [النساء: 24]. ولا يصح قياسهن على النساء؛ لأن الوطء في المرأة يكون سبباً للبضعية، ويوجب المهر، ويلحق به النسب، وتصير المرأة به فراشاً، وتثبت أحكاماً لا يثبتها اللواط. فلا يجوز إلحاقه به؛ لعدم العلة وانقطاع الشبه. ولذلك لو أرضع الرجل طفلاً لم يثبت به أحكام التحريم. فهاهنا أولى.
قال: (القسم الرابع: الملاعنة تحرم على الملاعن على التأبيد؛ إلا أن يُكَذِّب نفسه فهل تحل؟ على روايتين).
أما كون القسم الرابع من المحرمات: الملاعنة؛ فلأنه يلي القسم الثالث.
وأما كون الملاعنة من المحرمات؛ فلما روى سهل بن سعد قال: «مضت السنةُ في المتلاعنين أن يفرّق بينهما لا يجتمعا أبداً» (1). رواه الجوزجاني بإسناده.
وروي مثل هذا عن عمر بن الخطاب.
وأما كونها تحرم على المتلاعن على التأبيد إذا لم يكذب نفسه؛ فلما ذكر من الحديث قبل.
وأما كونها تحرم عليه إذا أكذب نفسه على روايةٍ؛ فلعموم ما ذكر.
ولأنه تحريم لا يرتفع قبل الجلد والتكذيب. فلم يرتفع بالتكذيب؛ كالرضاع.
(1) أخرجه أبو داود في سننه (2250) 2: 274 كتاب الطلاق، باب في اللعان.
وأما كونها تحل على روايةٍ؛ فلأنه لما أكذب نفسه صارت شبيهة بحالها قبل الملاعنة وهي حينئذ حلال. فكذلك فيما يشبهه.
فصل [المحرمات إلى أمد]
قال المصنف رحمه الله تعالى: (الضرب الثاني: المحرمات إلى أمد. وهي نوعان: أحدهما: المحرمات لأجل الجمع. فيحرم الجمع بين الأختين، وبين المرأة وعمتها أو خالتها).
أما كون الضرب الثاني: المحرمات إلى أمد؛ فلأنه يلي الضرب الأول.
وأما كونهن نوعين؛ فلأن منهن من يحرم لأجل الجمع، ومنهن من يحرم لعارض يزول؛ كزوجة الغير. وسيأتي ذكره بعد إن شاء الله تعالى.
وأما كون الجمع بين الأختين يحرم؛ فلأن الله تعالى قال: {وأن تجمعوا بين الأختين} [النساء: 23]. ولا فرق بين الأختين من نسب أو رضاع. حرتين أو أمتين أو حرة وأمة. من أبوين كانتا أو من أب أو أم. قبل الدخول أو بعده؛ لعموم الآية.
وأما كون الجمع بين المرأة وعمتها وبينها وبين خالتها يحرم؛ فلما روى أبو هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لا يُجمعُ بين المرأةِ وعمتها، ولا بين المرأةِ وخالتها» (1). متفق عليه.
وفي روايةِ أبي داود: «لا تُنكح المرأةُ على عمتها، ولا العمةُ على بنتِ أخيها، ولا المرأةُ على خالتها، ولا الخالةُ على بنت أُختها. لا تُنكحُ الكبرى على الصغرى، ولا الصغرى على الكُبرى» (2).
ولأن العلة في الجمع بين الأختين إيقاع العداوة بين الأقارب، وإفضاؤه إلى قطيعة الرحم المحرم. وهو موجود فيما ذكر.
(1) أخرجه البخاري في صحيحه (4820) 5: 1965 كتاب النكاح، باب لا تنكح المرأة على عمتها.
وأخرجه مسلم في صحيحه (1408) 2: 1028 كتاب النكاح، باب تحريم الجمع بين المرأة وعمتها أو خالتها في النكاح.
(2)
أخرجه أبو داود في سننه (2065) 2: 224 كتاب النكاح، باب ما يكره أن يجمع بينهن من النساء.
فإن قيل: فما الجواب عن قوله تعالى: {وأُحِلَّ لكم ما وراء ذلكم} [النساء: 24]؟
قيل: هو مخصوص بما ذكر.
قال: (فإن تزوجهما في عقد واحد لم يصح، وإن تزوجهما في عقدين أو تزوج إحداهما في عدة الأخرى سواء كانت بائناً أو رجعية فنكاح الثانية باطل).
أما كون من تزوج من يحرم الجمع بينهما كما تقدم في عقد واحد لا يصح؛ فلأنه لا مزية لإحداهما على الأخرى.
وأما كون نكاح الثانية باطلاً إذا تزوج من ذكر في عقدين أو تزوج إحداهما في عدة الأخرى؛ فلأنه يحصل به الجمع وهو المحرم. فاختص البطلان به.
وأما كون البائن فيما ذكر والرجعية سواء؛ فلاشتراكهما في العدة.
قال: (وإن اشترى أخت امرأته أو عمتها أو خالتها: صح ولم يحل له وطؤها حتى يطلق امرأته وتنقضي عدتها).
أما كون من اشترى أخت امرأته وعمتها أو خالتها يصح؛ فلأن الشراء يراد لغير الوطء. بخلاف العقد. والمحرم الجمع في العقد أو الوطء. وليس الشراء واحداً منهما ولا لازماً له.
وأما كونه لا يحل له وطؤها حتى يطلق امرأته وتنقضي عدتها؛ فلأن بوطئها يحصل الجمع بين الأختين وبين المرأة وعمتها وخالتها في الوطء وذلك حرام؛ لأن الجمع في العقد حرام لما تقدم. وإنما حرم؛ لأنه وسيلة إلى الوطء. فلأن يحرم الجمع في الوطء بطريق الأولى.
قال: (وإن اشتراهن في عقد واحد صح. فإن وطئ إحداهما لم تحل له الأخرى حتى يحرم على نفسه الأولى بإخراج عن ملكه أو تزويج ويعلم أنها ليست بحامل. فإن عادت إلى ملكه لم يصب واحدة منهما حتى يحرم الأخرى. وعنه: ليس بحرام ولكن ينهى عنه).
أما كون من اشترى الأختين أو المرأة وعمتها أو المرأة وخالتها في عقد واحد يصح؛ فلما تقدم من أن الشراء يراد لغير الوطء. بخلاف العقد.
ولأنه إذا جاز شراء الأخت على أختها وشراء المرأة على عمتها وشراؤها على خالتها. فلأن يجوز شراؤهما في عقدٍ واحدٍ بطريق الأولى.
وأما كونه إذا وطئ إحداهما لا تحل له الأخرى حتى يحرم على نفسه الأولى بما تقدم ذكره؛ فلأن بوطئه لها يحصل الجمع المحرم.
وكلام المصنف مشعر بأمرين:
أحدهما: أنه إذا اشتراهن جملة واحدة فله وطء إحداهن؛ لأنه لا يحصل به الجمع. فلم يحرم؛ كما لو كانت في ملكه وحدها.
وذكر أبو الخطاب أنه لا يجوز؛ لأنه لا مزية لأحدهن على الأخرى.
وثانيهما: أن كل من حرم وطؤها لما تقدم ذكره تحل له إذا أخرج الأولى عن ملكه أو زوجها؛ لأن المحذور الذي هو الجمع يزول بذلك.
واشترط المصنف رحمه الله تعالى مع ذلك: أن يعلم أنها ليست حاملاً؛ لأنها إذا كانت حاملاً لم يجز وطء الأخرى؛ لأنه يكون جامعاً ماءه في رحم بنتين يحرم الجمع بينهما. أشبه ما لو تزوج إحداهما في عدة الأخرى.
ولقائل أن يقول: لا حاجة إلى هذا الشرط؛ لأن شرط الإباحة أحد أمرين: إما إخراج عن ملكه، وإما تزويج. وكلاهما لا يصح إلا بعد العلم بأن الموطوءة غير حامل.
ويمكن الجواب عنه بأن في البيع روايةِ أنه لا يجوز من غير استبراء. وعلى القول بالمنع فإن من صور الإخراج عن الملك: العتق، ولا يشترط فيه العلم بأنها ليست حاملاً.
فإن قيل: ينفي إرادة العتق قوله: فإن عادت إلى ملكه إذ المعتقة لا تعود إلى ملك السيد.
قيل: يحمل قوله: فإن عادت على بعض الصور كالمبيعة والموهوبة ونحو ذلك.
وفي اشتراط المصنف الإخراج عن ملكه أو التزويج إشعار بأن الموطوءة لو حرمها سيدها أو حرم وطئها بسبب غير ذلك لم تحل له الأخرى. وهو صحيح. وقد صرح في المغني بأنه لو حرمها لم تبح له الأخرى لأن تحريمه إما لا يحرم أو يحرم
تحريماً ترفعه الكفارة. وكذلك لو رهنها لم تحل له الأخرى؛ لأن المنع من وطئها لحق المرتهن لا لتحريمها ولهذا يحل له بإذنه في وطئها.
ولأنه يقدر على فكها متى شاء واسترجاعها إليه.
فإن قيل: فلو كاتبها.
قيل: لا تحل له الأخرى؛ لأن الكتابة لا تزيل الملك قبل الأداء.
وأما كونه إذا عادت إلى ملكه لا يصيب واحدة منهما حتى يحرّم الأخرى؛ فلأن الثانية صارت فراشاً وقد رجعت إليه التي كانت فراشاً. فحرمت كل واحدة منهما بكون الأخرى فراشاً؛ كما لو انفردت به.
ولأنه مختلف في حرمته. فلا أقل من الكراهة.
قال: (وإن وطئ أمته ثم تزوج أختها لم يصح عند أبي بكر وظاهر كلام الإمام أحمد أنه يصح ولا يطؤها حتى يحرم الموطوءة. فإن عادت إلى ملكه لم يطأ واحدة منهما حتى يحرم الأخرى).
أما كون التزوج المذكور لا يصح عند أبي بكر؛ فلأن ذلك يُصَيِّر المتزوج بها فراشاً. فلم يجز؛ كالوطء.
ولأنه فعل في الأخت ما ينافي إباحة المفترشة. فلم يجز؛ كالوطء.
قال المصنف رحمه الله تعالى في المغني: قال القاضي: هو ظاهر كلام أحمد.
وأما كونه يصح على ظاهر الإمام أحمد؛ فلأنه سبب يستباح به الوطء. فجاز أن يرد على وطء الأخت ولا يبيح؛ كالشراء.
وأما كون ذلك ظاهر كلام الإمام أحمد فنقله المصنف في المغني عن أبي الخطاب. وقد تقدم قول القاضي أن الظاهر من كلامه عكسه.
وأما كون المتزوج لا يطأ المتزوج بها حتى يُحرم الموطوءة؛ فلئلا يكون جامعاً في الوطء.
فإن قيل: لا يلزم من الوطء الجمع لأنه بمجرد النكاح يجب أن تحرم المفترشة؛ لأن النكاح أقوى من الوطء بملك اليمين فإذا اجتمعا وجب التقديم للأقوى.
قيل: لا يسلم أن النكاح أقوى من ملك اليمين بل القول بالعكس أولى؛ لأنه لو اشترى زوجته انفسخ النكاح. وعلى تقدير التسليم فالسبق يعارضه، وملك اليمين سابق.
وأما كونه إذا عادت أمته إلى ملكه لا يطأ واحدة منهما حتى يحرم الأخرى؛ فلما تقدم ذكره في المسألة قبل.
قال: (ولا يحل للحر أن يجمع بين أكثر من أربع، ولا للعبد أن يتزوج أكثر من اثنتين. وإن طلق إحداهن لم يجز أن يتزوج أخرى حتى تنقضي عدتها).
أما كون الحر لا يحل له أن يجمع بين أكثر من أربع؛ فلأن الله تعالى قال: {فانكحوا ما طاب لكم من النساء مثنى وثلاث ورباع} [النساء: 3]. يعني اثنتين أو ثلاثاً أو أربعاً.
و«لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال لغيلان بن سلمة حين أسلم وتحته عشر نسوة: أَمسِكْ أربعًا وفارِقْ سائِرهُن» (1). رواه الترمذي.
وأما كون العبد لا يحل له أن يتزوج أكثر من اثنتين؛ فلأن الحكم بن قتيبة قال: «أجمع أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم على أن العبد لا ينكح إلا اثنتين» .
وروي «أن عمرُ سألَ الناس عن ذلك. فقال عبدالرحمن بن عوف: لا يتزوجُ إلا اثنتين» . رواه الإمام أحمد.
وهذا قول صحابي لشخص من الصحابة ولم ينكر أحد من الصحابة فكان إجماعاً.
وأما كون الحر أو العبد إذا طلق إحدى من تقدم ذكرهن لا يجوز أن يتزوج أخرى حتى تنقضي عدتها: أما مع الطلاق الرجعي فظاهر لأن الرجعية زوجة فلو جاز له تزويج أخرى لكان الحر جامعاً بين خمس والعبد جامعاً بين ثلاث. وأما مع الطلاق البائن؛ فلأن بعض أحكام النكاح باق. فمنعَ الحر من تزوج خامسة والعبد من تزوج ثالثة؛ كما لو كان الطلاق رجعياً.
(1) سيأتي تخريجه ص: 647.
فصل [المحرمات لعارض]
قال المصنف رحمه الله تعالى: (النوع الثاني: محرمات لعارض يزول. فيحرم عليه نكاح زوجة غيره والمعتدة منه والمستبرئة منه).
أما كون النوع الثاني: محرمات لعارض؛ فلأنه يلي المحرمات لأجل الجمع وهو الأول.
وأما كون المحرمات هنا لعارض يزول؛ فلأن زوجة غيره والمعتدة من غيره والمستبرأة من غيره إنما حرمن عليه لأجل ذلك الغير، وذلك يزول بطلاق ذلك الغير وانقضاء العدة ومدة الاستبراء.
وأما كون نكاح زوجة غيره يحرم عليه؛ فلأن الله تعالى قال: {والمحصناتُ من النساء إلا ما ملكت أيمانكم كتابَ الله عليكم} [النساء: 24].
وأما كون نكاح المعتدة من غيره يحرم عليه؛ فلأن الله تعالى قال: {ولا تعزموا عُقْدَةَ النكاح حتى يبلغَ الكتابُ أجله} [البقرة: 235].
وأما كون نكاح المستبرأة من غيره يحرم عليه؛ فلأنها في معنى المعتدة منه.
ولأن إباحة نكاح الثلاثة يفضي إلى اختلاط المياه واشتباه الأنساب، وذلك محذور مطلوب العدم.
قال: (وتحرم الزانية حتى تتوب وتنقضي عدتها، ومطلقته ثلاثاً حتى تنكح زوجاً غيره، والمحرمة حتى تحل).
أما كون الزانية تحرم حتى تتوب؛ فلأن الله تعالى قال: {والزانية لا ينكحها إلا زان أو مشرك} [النور: 3].
ولأنه لا يؤمن أن يلحق به ولداً من غيره. فحرمت؛ كالمعتدة.
وأما كونها تحرم قبل أن تنقضي عدتها: أما على الزاني؛ فلأن ولدها لا يلحق به. فيفضي نكاحه لها إلى اشتباه من لا يلحق نسبه بأحد ممن يلحق نسبه به. وأما على غير الزاني؛ فلأنها معتدة من غيره.
وأما كون مطلقته ثلاثاً تحرم حتى تنكح زوجاً غيره؛ فلأن الله تعالى قال: {فإن طلقها فلا تحل له من بعد حتى تنكح زوجاً غيره} [البقرة: 230]. والمراد بالنكاح هنا الوطء؛ «لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال لامرأة رفاعة لما أرادت أن ترجع إليه بعد أن طلقها ثلاثًا وتزوجت بعده عبدالرحمن بن الزَّبير: لا. حتى تَذوقِي عُسَيْلَتَه» (1).
فإن قيل: مفهوم كلام المصنف هنا أن مطلقته ثلاثاً تحل له إذا نكحت زوجاً غيره؛ لأنه جعل ذلك غاية لتحريمها. وليس كذلك؛ لأن حلها يقف على طلاق الزوج الثاني، وعلى انقضاء العدة منه.
قيل: الجواب عنه من وجهين:
أحدهما: أن تحريمها بكونها مطلقة ثلاثاً يزول بذلك لكن عقيب ذلك التحريم تحريم آخر وهو كونها زوجة غيره ما لم يطلقها فإذا طلقها تكون معتدة من غيره وكلاهما محرم لما تقدم، وكذلك تحرم عليه بذلك وإن كانت مطلقته دون الثلاث.
وثانيهما: أنه قد تقدم أنه محرم عليه نكاح زوجة غيره والمعتدة من غيره. فاكتفى بذلك عن التصريح به هنا.
فإن قيل: هلا اكتفى بذلك في الزانية لأنه لم يقتصر على قوله: حتى تتوب بل قال: وتنقضي عدتها؟
قيل: عدة الزانية مختلف فيها فجيء بالتصريح بها للتأكيد. بخلاف عدة النكاح فإنها متفق عليها فلا حاجة إلى التأكيد فيها.
(1) أخرجه البخاري في صحيحه (2496) 2: 933 كتاب الشهادات، باب شهادة المختبي.
وأخرجه مسلم في صحيحه (1433) 2: 1055 كتاب النكاح، باب لا تحل المطلقة ثلاثاً لمطلقها ..
وأما كون المُحْرمة تحرم حتى تحل؛ فلأن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «لا يَنكحُ المحرمُ ولا يُنكحُ ولا يَخطُب» (1). رواه مسلم.
ولأنه عارضٌ منع الطيب. فمنع النكاح؛ كالعدة.
قال: (ولا يحل لمسلمة نكاح كافر بحال ولا لمسلم نكاح كافرة إلا حرائر أهل الكتاب. فإن كان أحد أبويها غير كتابي أو كانت من نساء بني تغلب فهل تحل؟ على روايتين).
أما كون المسلمة لا يحل لها نكاح كافر بحال؛ فلأن الله تعالى قال: {ولا تُنكحوا المشركين حتى يؤمنوا} [البقرة: 221]، وقال سبحانه وتعالى:{فإن علمتموهن مؤمناتٍ فلا تَرجعوهن إلى الكفار لا هنّ حل لهم ولا هم يحلون لهنّ} [الممتحنة: 10].
وأما كون المسلم لا يحل له نكاح كافرة غير حرائر أهل الكتاب؛ فلأن الله تعالى قال: {ولا تَنكحوا المشركات حتى يؤمنّ} [البقرة: 221]، وقال:{ولا تُمْسكوا بعِصَم الكوافر} [الممتحنة: 10].
وأما كونه يحل له نكاح حرائر أهل الكتاب؛ فلأن الله تعالى قال: {والمحصناتُ من الذين أوتوا الكتاب من قبلكم إذا آتيتموهن أجورهن} [المائدة: 5].
ولأن الصحابة أجمعت عليه.
فإن قيل: عموم ما تقدم يدل على عدم حل أهل الكتاب أيضاً؛ لأنهن مشركات.
قيل: الجواب من وجهين:
أحدهما: ما روي عن ابن عباس أن قوله: {ولا تَنكحوا المشركات} [البقرة: 221] نسخ بالآية في المائدة. وكذلك ينبغي أن يكون ذلك في الآية الأخرى؛ لأنهما متقدمتان (2)، والآية التي في المائدة متأخرة عنها.
(1) أخرجه مسلم في صحيحه (1409) 2: 1031 كتاب النكاح، باب تحريم نكاح المحرم، وكراهة خطبته.
(2)
في أ: لأنها متقدمان. وما أثبتناه من الشرح الكبير 7: 508.
والثاني: أن لفظ المشركين بإطلاقه لا يتناول أهل الكتاب. بدليل قوله: {لم يكن الذين كفروا من أهل الكتاب والمشركين منفكين} [البينة: 1]، وقوله:{إن الذين كفروا من أهل الكتاب والمشركين} [البينة: 6]، وقوله:{لتجدنّ أشد الناس عداوةً للذين ءامنوا اليهود والذين أشركوا} [المائدة: 82]، وقوله:{ما يَوَدُّ الذين كفروا من أهل الكتاب ولا المشركين} [البقرة: 105]، وسائر آي (1) القرآن تَفصل بينهما.
وقيد المصنف أهل الكتاب بالحرائر؛ لأن الإماء يأتي حكمهن إن شاء الله تعالى.
وأما كون من كان أحد أبويها غير كتابي لا تحل على روايةٍ؛ فلأنها متولدة بين من يحل ومن لا يحل. فلم يحل؛ كالسِّمَع والبغل.
وأما كونها تحل على روايةٍ؛ فلعموم الآية المقتضية للحل.
ولأنها كتابية تقر على دينها. أشبه من أبويها كتابيان.
وذكر المصنف في المغني هذا احتمالاً وسوى بين من أحد أبويها غير كتابي وبين من أبواها غير كتابيين.
وأما كون من كانت من نساء بني تغلب لا تحل على روايةٍ؛ فلأنه يروى عن علي رضي الله عنه.
ولأنهم يحتمل أنهم دخلوا في دين الكفر بعد التبديل.
وأما كونها تحل على روايةٍ؛ فلأنها من أهل الكتاب فتدخل في عموم الآية المقتضية للحل.
ولأن بني تغلب أهل كتاب يقرُّون على دينهم ببذل المال. فحل نكاح نسائهم؛ كأهل الكتاب.
قال المصنف في المغني: هذا الصحيح عن الإمام أحمد. وهو مروي عن عمر ابن الخطاب وابن عباس.
قال الأثرم: ما علمت أحداً كرهه من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا علياً.
(1) في أ: لا يحل. وما أثبتناه من الشرح الكبير 7: 508.
قال: (وليس للمسلم وإن كان عبداً نكاح أمة كتابية. وعنه: يجوز).
أما كون المسلم ليس له نكاح أمة كتابية وإن كان عبداً على المذهب؛ فلأن الله تعالى قال: {من فتياتِكم المؤمنات} [النساء: 25].
وأما كونه له ذلك على روايةٍ؛ فلأنها تحل بملك اليمين. فحلت بالنكاح؛ كالمسلمة.
والأول ظاهر المذهب. قاله المصنف في المغني.
وفرّق بين المسلمة والكافرة من حيث: إن نكاح المسلمة لا يؤدي إلى استرقاق الكافر ولدها؛ لأن الكافر لا يقر ملكه على مسلمة، والكافرة تكون ملكاً للكافر ويقر ملكه عليها وولدها لسيدها.
ولأنه قد اعتورها نقصان الكفر والملك. فإذا اجتمعا منعا؛ كالمجوسية لما اجتمع فيها نقص الكفر وعدم الكتاب منع من نكاحها.
وقول المصنف: وإن كان عبداً تنبيه على أن النقص الحاصل فيه بالرق لا يؤثر في كونه له نكاح الأمة الكتابية؛ لأن الأدلة المقتضية للمنع عامة في الحر والعبد.
ولأن ما حرم على الحر نكاحه لأجل دينه حرم على العبد؛ كالمجوسية.
قال: (ولا يحل لحر مسلم نكاح أمة مسلمة؛ إلا أن يخاف العنت، ولا يجد طَوْلاً لنكاح حرة ولا ثمن أمة. وإن تزوجها وفيه الشرطان ثم أيسر أو نكح حرة فهل يبطل نكاح الأمة؟ على روايتين).
أما كون الحر المسلم لا يحل له نكاح أمة مسلمة إذا لم يخف العنت ولا يجد ما ذُكر؛ فلأن الله تعالى قال: {ومن لم يستطع منكم طَوْلاً أن ينكح المحصنات المؤمنات فمن ما ملكت أيمانكم من فتياتِكم المؤمنات -إلى قوله-: ذلك لمن خشي العنت منكم} [النساء: 25]. شرط في جواز ذلك عدم استطاعة الطول وخشية العنت.
ولأن في نكاح الأمة إرقاق ولده مع الغنى. فلم يجز؛ كما لو كان تحته حرة.
وأما كونه يحل له ذلك إذا وجد فيه الشرطان؛ فللآية المذكورة.
فإن قيل: الآية دلت على اشتراط الطَّول للحرة المؤمنة فما وجه اشتراط الطَّول للحرة الكتابية أو ثمن الأمة؟
قيل: لأن القادر على ذلك غير خائف العنت.
ولأنه قدر على صيانة ولده عن الرق. فلم يجز له إرقاقه؛ كما لو قدر على نكاح مؤمنة.
وأما كونه إذا تزوج أمة وفيه الشرطان ثم أيسر لا يبطل نكاح الأمة على روايةٍ؛ فلأن عدم استطاعة الطَّول أحد شرطي إباحة نكاح الأمة. فلم يعتبر استدامته؛ كخوف العنت.
وأما كونه يبطل على روايةٍ؛ فلأنه إنما أبيح للحاجة. فإذا زالت الحاجة لم يجز له استدامة؛ كمن أبيح له أكل الميتة لضرورته فإذا وَجَد الحلال لم يستدمه. وذكر المصنف في المغني هذا وجهاً. وفرّق بين مسألة الطَّول ومسألة الميتة من حيث: إن أكل الميتة بعد القدرة ابتداء للأكل. بخلاف عادم الطَّول فإنه إذاً غير مبتدئ للنكاح وإنما هو مستديم.
وأما كونه إذا تزوج أمة ثم نكح حرة لا يبطل نكاح الأمة على روايةٍ؛ فلأنه لا يبطله اليسار في روايةٍ. فكذا لا يبطله نكاح الحرة.
وأما كونه يبطل على روايةٍ؛ فلأنه يبطله اليسار في روايةٍ فلأن يبطله نكاح الحرة بطريق الأولى.
قال: (وإن تزوج حرة أو أمة فلم تعفه ولم يجد طولاً لحرة أخرى فهل له نكاح أمة أخرى؟ على روايتين. قال الخرقي: وله أن ينكح من الإماء أربعاً إذا كان الشرطان فيه قائمين).
أما كون من ذكر له نكاح أمة أخرى على روايةٍ؛ فلأنه خائف العنت عادم طول حرة. أشبه من لا زوجة تحته وفيه الشرطان.
وأما كونه ليس له ذلك على روايةٍ؛ فلأنه تحته زوجة.
والأولى أولى؛ لما تقدم ذكره. ولذلك قال المصنف: قال الخرقي
…
إلى آخره؛ لأن فيه تأكيداً لجوازه. وكونه تحته زوجة لا أثر له؛ لأن المعنى الذي أبيح
من أجله نكاح الأمة: الشرطان المتقدم ذكرهما. فإذا وجدا فيما ذكر وجب أن يباح. عملاً بالعلة.
قال: (وللعبد نكاح الأمة. وهل له أن ينكحها على حرة؟ على روايتين. وإن جمع بينهما في العقد جاز. ويتخرج أن لا يجوز).
أما كون العبد له نكاح الأمة وإن فقد الشرطين؛ فلأنه مساوٍ لهما. فلم يعتبر فيه وجود الشرطين؛ كالحر مع الحرة.
وأما كونه له أن ينكحها على روايةٍ؛ فلما ذكر قبل.
ولأنه لو اشترط عدم الحرة لاشترط عدم القدرة عليها كما في حق الحر.
وأما كونه ليس له ذلك على روايةٍ؛ فلأنه مالك لبضع حرة. فلم يكن له أن يتزوج أمة؛ كالحر.
وعن سعيد بن المسيب: «تُنكحُ الحرةُ على الأمة، ولا تُنكحُ الأمةُ على الحرّة» (1).
وأما كونه إذا جمع بينهما في العقد يجوز على المذهب؛ فلأن كل واحدة (2) يجوز له إفرادها بالعقد. فجاز له الجمع بينهما؛ كالأمتين.
وأما كونه يتخرج أن لا يجوز؛ فلأنه جمع. أشبه ما لو تزوج الأمة على الحرة.
فإن قيل: الخلاف في الجمع المذكور مطلقاً أم على قولنا ليس له أن يتزوج الأمة على الحرة.
قيل: على الثاني. صرح به صاحب المحرر.
(1) أخرجه مالك في موطئه (29) 2: 423 كتاب النكاح، باب نكاح الأمة على الحرة. ولفظه:«لا تنكح الأمة على الحرة إلا أن تشاء الحرة فإن طاعت الحرة فلها الثلثان من القسم» .
(2)
في أ: واحد، ولعل الصواب كما أثبتناه
قال: (وليس له نكاح سيدته، ولا للحر أن يتزوج أمته ولا أمة ابنه. ويجوز للعبد نكاح أمة ابنه).
أما كون العبد ليس له نكاح سيدته؛ فلأن أبا الزبير قال: «سألت جابراً عن العبد ينكح سيدته. فقال: جاءتِ امرأةٌ إلى عمر بن الخطاب رضي الله عنه ونحنُ بالجابيةِ وقد نَكحتْ عبدَها فانتهرَها عمر وهمَّ أن يرجُمَهَا. وقال: لا يحلُّ لك» .
ولأن أحكام النكاح مع أحكام الملك يتنافيان من حيث إن كل واحدٍ منهما يقتضي أن يكون الآخر في حكمه يسافر سفره ويقيم بإقامته وينفق عليه.
وأما كون الحر ليس له أن يتزوج أمته؛ فلأن ملك الرقبة يقيد ملك المنفعة وإباحة البضع، ولا يجتمع مع عقد لضعف منه.
وأما كونه ليس له أن يتزوج أمة ابنه؛ فلأن له فيها شبهة الملك. بدليل قوله عليه السلام: «أنتَ ومالُكَ لأبيك» (1). أشبه الملك.
وأما كون العبد يجوز له نكاح أمة ابنه؛ فلأنه لا شبه له فيها. بخلاف الحر.
قال: (وإن اشترى الحر زوجته انفسخ نكاحها. وإن اشتراها ابنه فعلى وجهين).
أما كون زوجة الحر إذا اشتراها زوجها ينفسخ نكاحها؛ فلما تقدم من منافاة أحكام الملك أحكام النكاح والملك أقوى؛ لأنه يفيد ملك الرقبة والمنفعة، والنكاح لا يفيد إلا ملك المنفعة.
ولأن النكاح يوجب للمرأة حقوقاً يمنعها ملك اليمين من القَسْم والملك فانفسخ بالملك لئلا يجتمع معه ما لا يوافقه.
وأما كونها إذا اشتراها ابنه ينفسخ نكاحها على وجه؛ فلأن ملك الابن كملك الأب في إسقاط الحد وحرمة الاستيلاد. فكان كملكه في فسخ النكاح.
وأما كونها لا ينفسخ نكاحها بذلك على وجه؛ فلأنه لا يملكها بملك الابن. فلم يفسخ نكاحها؛ كما لو ملكها أجنبي.
(1) سبق تخريجه ص: 560.
قال: (ومن جمع بين محرمة ومحللة في عقد واحدٍ فهل يصح فيمن تحل؟ على روايتين).
أما كون العقد كما ذكر يبيح فيمن تحل على المذهب؛ فلأنها لو انفردت لكان العقد عليها صحيحاً. فكذلك إذا جمعها مع محرمة.
وأما كونه لا يصح على روايةٍ؛ فلأن العقد تناول محرَّمة ومحلّلة. فلم يصح فيهما؛ كما لو باع خلاً وخمراً.
قال: (ومن حرم نكاحها حرم وطئها بملك اليمين؛ إلا إماء أهل الكتاب).
أما كون من حرم نكاحها وليست من إماء أهل الكتاب يحرم وطؤها؛ فلأن النكاح إذاً حرم لكونه طريقاً إلى الوطء. فلأن يحرم الوطء بنفسه بطريق الأولى.
وأما كون إماء أهل الكتاب لا يحرم وطؤهن بملك اليمين وإن حرم نكاحهن؛ فلأن حرمة النكاح إنما كان من أجل إرقاق الولد وإبقائه مع كافرة، وهو معدوم في الوطء بملك اليمين.
فصل [في نكاح الخنثى]
قال المصنف رحمه الله تعالى: (ولا يحل نكاح خنثى مشكل حتى يتبين أمره. نص عليه. وقال الخرقي: إذا قال: أنا رجل لم يمنع من نكاح النساء، ولم يكن له أن ينكح بغير ذلك بعد، وإن قال: أنا امرأة لم ينكح إلا رجلاً. فلو تزوج امرأة ثم قال: أنا امرأة انفسخ نكاحه، ولو زُوِّج برجل ثم قال: أنا رجل لم يقبل قوله في فسخ النكاح).
أما كون الخنثى المشكل لا يحل نكاحه حتى يتبين أمره على منصوص الإمام أحمد؛ فلأنه مشكوك في حله للرجال والنساء. فلم يحل نكاحه حتى يتبين أمره؛ كما لو اشتبهت أخته بأجنبية.
وأما كونه لا يمنع من نكاح النساء إذا قال: أنا رجل على قول الخرقي؛ فلأن كونه رجلاً معنى يعرف من جهته وليس فيه إيجاب حق على غيره. فوجب أن يقبل منه؛ كما يقبل قول المرأة في انقضاء عدتها، وإذا قبل قوله في ذلك لم يمنع من نكاح النساء كغيره.
وأما كونه لا يكون له أن ينكح بغير ذلك بعد؛ فلأنه أقر بتحريمه.
ولأنه إذا ادعى غير الأول يكون مكذباً لنفسه مدعياً دعوى تناقض قوله الأول. فلم يلتفت إليه؛ كالإنكار بعد الإقرار.
وأما كونه لا ينكح إلا رجلاً إذا قال: أنا امرأة؛ فلأنه يقبل قوله في كونه امرأة لما تقدم. والمرأة ليس لها أن تنكح رجلاً فكذا الخنثى المذكور.
وأما كونه ينفسخ نكاحه إذا قال: أنا امرأة بعد أن تزوج امرأة؛ فلأن النكاح له وقد أقر ببطلانه.
وأما كونه لا يقبل قوله في فسخ النكاح إذا قال: أنا رجل بعد أن زُوِّج برجل؛ فلأن النكاح حق عليه. فلم يقبل قوله في إسقاط حق الغير.