الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
باب عشرة النساء
قال المصنف رحمه الله تعالى: (يلزم كل واحدٍ من الزوجين معاشرة الآخر بالمعروف. وأن لا يمطله بحقه، ولا يظهر الكراهة لبذله).
أما كون كل واحدٍ من الزوجين يلزمه معاشرة الآخر بالمعروف؛ فلأن الله تعالى قال: {وعاشروهن بالمعروف} [النساء: 19]، وقال:{ولهن مِثْلُ الذي عليهن بالمعروف} [البقرة: 228].
قال أبو زيد: تتقون الله فيهن؛ كما عليهن أن يتقين الله فيكم.
وأما كون كل واحدٍ منهما يلزمه أن لا يمطل الآخر بحقه؛ فلأن المطل بالحق مع القدرة عليه حرام. ولذلك قال النبي صلى الله عليه وسلم: «مَطْلُ الغني ظُلم» (1).
وأما كون كل واحدٍ منهما يلزمه أن لا يظهر الكراهة لبذله؛ فلأن ذلك من المعاشرة بالمعروف.
قال: (وإذا تم العقد وجب تسليم المرأة في بيت الزوج إذا طلبها وكانت حرة يمكن الاستمتاع بها ولم تشترط دارها. وإن سألت الإنظار أنظرت مدة جرت العادة بإصلاح أمرها فيها. وإن كانت أمة لم يجب تسليمها إلا بالليل).
أما كون تسليم المرأة يجب إذا تم العقد؛ فلأن بالعقد استحق الاستمتاع بها. وذلك لا يحصل إلا بالتسليم.
وأما كونه في بيت الزوج؛ فلأن الحق له. فملك تعيين موضعه.
وأما كونه يشترط لهذا الوجوب طلب الزوج لها؛ فلأن الحق له. فلا يجب بدون الطلب.
(1) أخرجه البخاري في صحيحه (2166) 2: 799 كتاب الحوالات، باب في الحوالة وهل يرجع في الحوالة.
وأخرجه مسلم في صحيحه (1564) 3: 1197 كتاب المساقاة، باب تحريم مطل الغني
…
وأما كونه يشترط له أن تكون حرة؛ فلأن الأمة لا يجب تسليمها مطلقاً بل ليلاً لأن النهار تكون في خدمة سيدها.
وأما كونه يشترط له أن تكون يمكن الاستمتاع بها؛ فلأن التسليم إنما وجب ضرورة استيفاء الاستمتاع الواجب. فإذا لم يمكن الاستمتاع بها لم يكن واجباً. والإمكان معتبر بتسع سنين نص عليه الإمام أحمد وذلك «لأن النبي صلى الله عليه وسلم دخلَ بعائشة وهي ابنة تسع» (1).
وقال القاضي: هو معتبر بحالها واحتمالها؛ لأنها قد تكون كبيرة لا يمكنها وصغيرة يمكنها. وحمل كلام الإمام على الغالب؛ لا أنه قصد التحديد لأن الإمكان قد يتخلف عن ذلك. فكيف يجب التسليم؟ وحقيقة الإمكان منتفية.
وأما كونه يشترط له أن لا تشترط دارها؛ فلأن ذلك شرط لازم عندنا.
وأما كون المرأة تنظر مدة جرت العادة بإصلاح أمرها فيها إذا سألت الإنظار؛ فلأن الحاجة تدعو إلى ذلك.
ولأن في قوله عليه السلام: «لا تطرقُوا النساءَ ليلاً حتى تَمْتشِطَ الشَّعِثَةُ وتستحِدَّ المغِيبَة» (2) تنبيهاً على الإمهال المذكور؛ لأنه إذا منع من الطروق وأمر بإمهالها لتصلح أمرها مع تقدم صحبته لها. فلأن تمهل هذه بطريق الأولى.
فإن قيل: كم مقدار ذلك؟
قيل: قدره المصنف في المغني باليومين والثلاثة؛ لأن ما تحتاج إليه يمكن فعله في ذلك.
وأما كون الأمة لا يجب تسليمها إلا بالليل؛ فلأنها مملوكة. عُقد على إحدى منفعتيها. فلم يجب تسليمها في غير وقتها؛ كما لو أجرها لخدمة النهار. فإنه لا يجب تسليمها بالليل.
(1) أخرجه البخاري في صحيحه (4841) 5: 1973 كتاب النكاح، باب تزويج الأب ابنته من الإمام.
(2)
أخرجه البخاري في صحيحه (4791) 5: 1954 كتاب النكاح، باب تزويج الثيبات.
وأخرجه مسلم في صحيحه (715) 1: 1527 كتاب الإمارة، باب كراهة الطروق وهو الدخول ليلاً لمن ورد من سفر.
قال: (وله الاستمتاع بها ما لم يشغلها عن الفرائض من غير إضرار بها. وله السفر بها إلا أن تشترط بلدها).
أما كون الزوج له الاستمتاع بالزوجة ما لم يشغلها عن الفرائض ولم يضر بها؛ فلأن المقصود من النكاح الاستمتاع. فإذا لم يشغلها عن الفرائض ولم يضر بها وجب عليها التمكين منه. وقد نبه على ذلك النبي صلى الله عليه وسلم حيث حث على طاعة الزوج، وقد روي عنه أنه قال:«من باتتْ مهاجرةً فراشَ زوجها لعنتْها الملائكةُ حتى ترجع» (1) متفق عليه.
وأما كونه ليس له الاستمتاع بها إذا شغلها عن الفرائض؛ فلأن وقت ذلك مستثنى بأصل الشرع.
وأما كونه له السفر بها إذا لم تشترط بلدها؛ فـ «لأن النبي صلى الله عليه وسلم كان يسافر بنسائه» (2).
ولأن حاجته تدعو إلى الاستمتاع في السفر. وهو حق عليها. ولا يمكن إلا بالسفر معه. فكان له عليها ذلك. ضرورة تحصيل الاستمتاع الواجب.
فإن قيل: له السفر بها مطلقاً أم بشرط الأمن؟
قيل: بل بشرط الأمن؛ لأن في سفرها مع الخوف ضرراً عليها. والضرر لا يزال بالضرر.
وأما كونه ليس له السفر بها إذا اشترطت بلدها؛ فلأن اشتراط ذلك يلزم الوفاء؛ لما تقدم في الشروط اللازمة (3).
(1) أخرجه البخاري في صحيحه (4898) 5: 1994 كتاب النكاح، باب إذا باتت المرأة مهاجرة فراش زوجها.
وأخرجه مسلم في صحيحه (1436) 2: 1059 كتاب النكاح، باب تحريم امتناعها من فراش زوجها.
(2)
عن عائشة رضي الله عنها قالت: «كان رسول الله صلى الله عليه وسلم، إذا أراد سفرًا أقرع بين نسائه، فأيتهن خرج سهمها خرج بها معه» .
أخرجه البخاري في صحيحه (2453) 2: 916 كتاب الهبة وفضلها، باب هبة المرأة لغير زوجها وعتقها إذا كان لها زوج فهو جائز
…
(3)
ص: 600.
قال: (ولا يجوز وطؤها في الحيض ولا في الدبر).
أما كون وطء المرأة في الحيض لا يجوز؛ فلأن الله تعالى قال: {ويسألونك عن المحيض قل هو أذى فاعتزلوا النساء في المحيض ولا تقربوهن حتى يَطْهُرن} [البقرة: 222].
وعن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم: «من أتى حائضًا أو امرأة في دبرها أو كاهنًا فصدقه بما يقول فقد كفرَ بما أُنزلَ على محمد» (1) رواه الأثرم.
وأما كون وطئها في الدبر لا يجوز؛ فلما تقدم.
ولأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «إن الله لا يستحيي من الحق. لا تأتوا النساء في أعجازهن» (2).
وعن أبي هريرة وابن عباس عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «لا ينظر الله إلى رجلٍ جامع امرأةً في دبرها» (3). رواهما ابن ماجة.
فإن قيل: قوله تعالى: {نساؤكم حرثٌ لكم فأتوا حرثكم أنى شئتم} [البقرة: 223] يقتضي الخيرة في إتيانها في أي موضع شاء.
قيل: هو كذلك إلا الدبر؛ لما روى جابر قال: «كان اليهود يقولون: إذا جامعَ الرجلُ امرأته في فرجها من ورائها جاء الولدُ أحوَل. فأنزل الله تعالى: {نساؤكم حرثٌ لكم فأتوا حرثكم أنى شئتم} [النساء: 223] أي: من بين يديها ومن خلفها. غير أن لا يأتيها إلا في المأْتِي» (4).
(1) أخرجه أبو داود في سننه (3904) 4: 15 كتاب الطب، باب في الكاهن.
وأخرجه الترمذي في جامعه (135) 1: 242 أبواب الطهارة، باب ما جاء في كراهية إتيان الحائض.
وأخرجه ابن ماجة في سننه (639) 1: 209 كتاب الطهارة وسننها، باب النهي عن إتيان الحائض.
(2)
أخرجه ابن ماجة في سننه (1924) 1: 619 كتاب النكاح، باب النهي عن إتيان النساء في أدبارهن.
(3)
أخرجه الترمذي في جامعه (1165) 3: 469 كتاب الرضاع، باب ما جاء في كراهية إتيان النساء في أدبارهن. عن ابن عباس.
وأخرجه ابن ماجة في سننه (1923) 1: 619 كتاب النكاح، باب النهي عن إتيان النساء في أدبارهن. عن أبي هريرة.
(4)
أخرجه البخاري في صحيحه (4254) 4: 1645 كتاب التفسير، باب {نساؤكم حرث لكم
…
}.
وأخرجه مسلم في صحيحه (1435) 2: 1058 كتاب النكاح، باب جواز جماعه امرأته في قبلها، من قدامها.
وفي روايةٍ: «يأيتها مقبلةً ومدبرةً إذا كان ذلك في الفرج» (1).
فإن قيل: إذا كان الوطء فيه حراماً. فهل يجب به الحد؛ كاللواط؟
قيل: لا؛ لأن الحد يُدرأ بالشبهة. وهي موجودة هنا. بخلاف وطء الأجنبية في دبرها فإنه يجب به حد اللواط؛ لأنه لا شبهة فيه.
قال: (ولا يعزل عن الحرة إلا بإذنها، ولا عن الأمة إلا بإذن سيدها).
أما كون الزوج لا يعزل عن الحرة إلا بإذنها؛ فلما روى ابن عمر قال: «نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يُعزلَ عن الحرة إلا بإذنها» (2). رواه الإمام أحمد وابن ماجة.
ولأن لها في الولد حقاً وعليها في العزل ضرراً.
وقال المصنف في المغني: يحتمل أن يكون استئذانها مستحباً؛ لأن حقها في الوطء دون الإنزال. بدليل أنه يَخْرج به من الفيئة والعنة. ثم قال: والأول أولى.
وأما كونه لا يعزل عن الأمة إلا بإذن سيدها؛ فلأن الولد حق له. فاشترط إذنه.
ولم يذكر المصنف في المغني إذن السيد بحال. قال: فأما زوجته الأمة فيحتمل جواز العزل عنها بغير إذنها استدلالاً بمفهوم هذا الحديث. يعني حديث الحرة.
وقال ابن عباس: «تُستأذنُ الحرةُ ولا تُستأذنُ الأمة» .
ولأن عليه ضرراً في استرقاق ولده. بخلاف الحرة.
ويحتمل أن لا يجوز إلا بإذنها؛ لأنها زوجة تملك المطالبة بالوطء في الفيئة والفسخ عند تعذره بالعنة وترك العزل من تمامه. فلم يجز إلا بإذنها؛ كالحرة.
والمراد بقول المصنف هنا: ولا عن الأمة: الأمة المعقود عليها لا الأمة المملوكة للواطئ؛ لأنه قال في المغني: ويجوز العزل عن أمته بغير إذنها. نص
(1) أخرجه البيهقي في السنن الكبرى 7: 196 كتاب النكاح، باب إتيان النساء في أدبارهن. عن ابن عباس.
(2)
أخرجه ابن ماجة في سننه (1928) 1: 620 كتاب النكاح، باب العزل. قال في الزوائد: في إسناده ابن لهيعة وهو ضعيف.
وأخرجه أحمد في مسنده (212) 1: 31. كلاهما عن عمر.
عليه؛ لأنها لا حق لها في الوطء ولا في الولد ولذلك لم تملك المطالبة بالقسم ولا الفيئة. فلأن لا تملك المنع من العزل بطريق الأولى.
قال: (وله إجبارها على الغسل من الحيض والجنابة والنجاسة واجتناب المحرمات، وأخذ الشعر الذي تعافه النفس؛ إلا الذمية فله إجبارها على غسل الحيض، وفي سائر الأشياء روايتان).
أما كون الزوج له إجبار زوجته المسلمة على جميع ما تقدم ذكره؛ فلأنه دائر بين واجب عليها وبين شيء يقف كمال الاستمتاع عليه.
وأما كونه له إجبار زوجته الذمية على غسل الحيض؛ فلأن حل الوطء موقوف عليه.
وأما كونه له إجبارها على سائر الأشياء في روايةٍ؛ فلأن كمال الاستمتاع يقف عليه. إذ النفس تعاف وطء من عليها غسل، أو شربت مسكراً، أو لها شعر.
وأما كونه ليس له إجبارها على ذلك في روايةٍ؛ فلأن غسل الجنابة والنجاسة واجتناب المحارم عندنا غير واجب عليها وإزالة الشعر غير مشروع عندها.
وقال المصنف في المغني: شعر العانة إذا خرج عن العادة فله إجبارها على إزالته رواية واحدة.
فصل [في حقوق الزوجة]
قال المصنف رحمه الله تعالى: (ولها عليه: أن يبيت عندها ليلة من كل أربع ليال. وإن كانت أمة فمن كل ثمان ليال. وقال أصحابنا: من كل سبع. وله الانفراد بنفسه فيما بقي).
وفي روايةٍ: فقال عمر: «نعم القاضي أنت» . وهذه قضية اشتهرت ولم تنكر. فكانت إجماعًا.
ولأن النبي صلى الله عليه وسلم قال لعبدالله بن عمرو (1) بن العاص: «إن لزوجك عليك حقًا» (2).
(1) في أ: قال لعمرو.
(2)
أخرجه البخاري في صحيحه (4903) 5: 1995 كتاب النكاح، باب لزوجك عليك حق.
وأخرجه مسلم في صحيحه (1159) 1: 817 كتاب الصيام، باب النهي عن صوم الدهر لمن تضرّر به
…
ولأنه لو لم يكن لها عليه حق لكان له تخصيص إحدى زوجتيه؛ كالزيادة في النفقة على قدر الواجب. وإذا ثبت وجوب الحق في الجملة وجب تقديره بما ذكر؛ لحكم كعب بن سور وتصويب عمر له.
وأما كون الزوجة الأمة لها على زوجها أن يبيت عندها ليلة من كل ثمان عند المصنف؛ فلأن الأمة على النصف من الحرة.
وأما كون ذلك من كل سبع عند أصحابنا؛ فلأن أكثر ما يمكن أن يجمع معها ثلاث حرائر فتبقى السابعة لها.
فإن قيل: من أين لك أن الليلة من الثمان اختيار المصنف؟
قيل: لأن في قوله: وقال أصحابنا إشعاراً بذلك. وصرح به في المغني فقال بعد أن حكى أن لها ليلة من سبع: والذي يقوى عندي أن لها ليلة من ثمان لتكون على النصف مما للحرة. فإن حق الحرة من كل ثمان ليلتان ليس لها أكثر من ذلك. فلو كان للأمة ليلة من سبع لزاد على النصف ولم يكن للحرة ليلتان وللأمة ليلة.
ولأنه إذا كان تحته ثلاث حرائر وأمة. فلم يرد أن يزيد لهن على الواجب فقسم بينهن سبعاً فماذا يصنع في الليلة الثامنة؟ إن أوجبنا عليه مبيتها عند الحرة فقد أوجبنا عليه زيادة على الواجب، وإن باتها عند الأمة جعلها كالحرة ولا سبيل إليه. وعلى ما اخترته تكون هذه الليلة الثامنة له، إن أحب انفرد بها فيها وإن أحب بات عند الأولى مستأنفاً للقسم.
وأما كونه له الانفراد بنفسه فيما بقي؛ فلما تقدم من حديث كعب بن سور.
قال: (وعليه وطؤها في كل أربعة أشهر مرة إن لم يكن عذر. وإن سافر عنها أكثر من ستة أشهر فطلبت قدومه لزمه ذلك إن لم يكن عذر. فإن أبى شيئاً من ذلك ولم يكن عذر فطلبت الفرقة فرّق بينهما. وعنه: ما يدل أن الوطء غير واجب فيكون هذا كله غير واجب).
أما كون الزوج عليه وطء زوجته في كل أربعة أشهر مرة إن لم يكن عذر على المذهب؛ فلأنه لو لم يكن واجباً لم يصر باليمين على تركه واجباً؛ كسائر ما لا يجب.
ولأن النكاح شرع لمصلحة الزوجين ودفع الضرر عنهما، وهو مفضٍ إلى دفع ضرر الشهوة عن المرأة كإفضائه إلى دفع ذلك عن الرجل. فيجب تعليله بذلك ويكون النكاح حقاً لهما.
ولأنه لو لم يكن لها فيه حق لما وجب استئذانها في العزل؛ كالأمة المملوكة له.
وإنما اشترط عليه كون المدة أربعة أشهر؛ لأن الله تعالى قدر في حق المولي ذلك. ولو وجب الوطء في أقل من ذلك لوجب على المولي في تلك المدة.
وإنما اشترط أن لا يكون عذر كمرض ونحوه لأن صاحب العذر معذور. فلم يجب عليه من أجل عذره.
وأما كونه يلزمه القدوم إذا سافر عنها أكثر من ستة أشهر فطلبت ذلك ولم يكن عذر؛ فلما روى زيد بن أسلم قال: «بينما عمر بن الخطاب يحرس المدينة فمر بامرأة في بيتها وهي تقول:
تطاول هذا الليل واسود جانبه
…
وطال عليّ أن لا خليل ألاعبه
فوالله لولا خشية الله وحده
…
لحرك من هذا السرير جوانبه
فسأل عنها عمر. فقيل له: فلانة. زوجها غائب في سبيل الله. فأرسل إليها امرأة تكون معها وبعث إلى زوجها فأقفله. ثم دخل على حفصة فقال: يا بنية! كم تصبر المرأة على زوجها؟ فقالت: سبحان الله! مثلك يسأل مثلي عن هذا. فقال: لولا أني أريد النظر للمسلمين ما سألتك. فقالت: خمسة أشهر أو (1) ستة أشهر. فوقّت للناس في مغازيهم ستة أشهر: يسيرون شهراً، ويقيمون أربعة أشهر، ويسيرون شهراً راجعين».
وفي قول المصنف: إن لم يكن عذر تنبيه على أن السفر إذا زاد على ستة أشهر وكان لعذرٍ لم يلزمه القدوم؛ لأن صاحب العذر يعذر من أجل عذره.
(1) زيادة من الشرح الكبير 8: 139.
وأما كونه يفرّق بينهما إذا أبى الزوج شيئاً ولم يكن عذر فطلبت الفرقة؛ فلأنها تعذر عليها ما وجب لها مولياً. فملك الفرقة به؛ كما لو كان زوجها مولياً فطلبت منه الوطء فأبى.
وأما كون الوطء غير واجب عليه على روايةٍ؛ فلأنه حق له فلا يكون واجباً عليه كسائر حقوقه.
وأما قول المصنف: فيكون هذا كله غير واجب: فالمراد به أنه إذا قيل الوطء لا لا يجب: لا يجب عليه القدوم من السفر وإن طال، ولا يفسخ النكاح بعدم قدومه؛ لأن جميع ذلك من موانع وجوب الوطء وقد انتفى.
قال: (ويستحب أن يقول عند الجماع: "بسم الله. اللهم! جنبني الشيطان وجنب الشيطان ما رزقتني". ولا يكثر الكلام حال الوطء. ولا ينزع إذا فرغ قبلها حتى تفرغ).
أما كون الزوج يستحب له أن يقول عند الجماع: بسم الله. اللهم! جنبني الشيطان وجنب الشيطان ما رزقتني؛ فلما روى ابن عباس قال: «لو أن أحدكم حين يأتي أهله قال: [بسم الله]. اللهم! جنبنا الشيطان وجنب الشيطان ما رزقتنا فولد بينهما ولد لم يضره الشيطان أبدًا» (1) متفق عليه.
وقال عطاء في تفسير قوله تعالى: {وقدموا لأنفسكم} [النساء: 223]: هي التسمية عند الجماع.
وأما كون المجامع لا يكثر الكلام حال الوطء؛ فلما روى قبيصة بن ذؤيب أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «لا تكثروا الكلام عند مجامعة النساء فإن منه يكون الخرس والفأفاء» (2). رواه أبو حفص العكبري.
والمراد بقوله: ولا يكثر: الكراهة. صرح به في المغني، وعلله بما تقدم، وبأنه يكره الكلام حالة البول، وحالةُ الجماع في معناه وأولى بذلك منه.
(1) أخرجه البخاري في صحيحه (6025) 5: 2347 كتاب الدعوات، باب ما يقول إذا أتى أهله.
وأخرجه مسلم في صحيحه (1434) 2: 1058 كتاب النكاح، باب ما يستحب أن يقوله عند الجماع. وما بين المعكوفين من الصحيحين.
(2)
ذكره المتقي الهندي في كنز العمال (44901) 16: 354 كتاب النكاح، محظورات المباشرة.
وأما كونه لا ينزع إذا فرغ قبلها حتى تفرغ؛ فلما روى أنس بن مالك قال:
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إذا جامع الرجل أهله فليقصدها. فإذا قضى حاجته فلا يعجلها حتى تقضي حاجتها» (1) رواه أبو حفص العكبري.
ولأن في ذلك ضررًا ومنعًا لها من قضاء شهوتها.
والمراد أيضاً بقوله: ولا ينزع
…
إلى آخره: أنه يكره له النزع قبل فراغها. ذكره المصنف رحمه الله تعالى في المغني.
قال: (وله الجمع بين وطء نسائه وإمائه بغسلٍ واحد. ويستحب الوضوء عند معاودة الوطء).
أما كون الزوج له الجمع بين وطء نسائه وإمائه بغسلٍ واحدٍ؛ فلما روى أنس قال: «سكبتُ لرسول الله صلى الله عليه وسلم غُسلاً واحدًا في ليلةٍ واحدة» (2) رواه أبو حفص العكبري.
ولأن حدث الجنابة لا يمنع الوطء. بدليل إتمام الجماع.
وأما كون الوضوء عند معاودة الوطء يستحب؛ فلما روى أبو سعيد الخدري قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إذا جامعَ الرجلُ أول الليل ثم أرادَ أن يعودَ فليتوضأ» (3) رواه مسلم.
(1) ذكره المتقي الهندي في كنز العمال (44837) 16: 344 كتاب النكاح، المباشرة وآدابها ومحظوراتها.
(2)
أخرجه ابن ماجة في سننه (588) 1: 194 كتاب الطهارة وسننها، باب ما جاء فيمن يغتسل من جميع نسائه غسلاً واحدًا. ولفظه: عن أنس «أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يطوف على نسائه في غسل واحد» .
(3)
أخرجه مسلم في صحيحه (308) 1: 249 كتاب الحيض، باب جواز نوم الجنب واستحباب الوضوء له
…
قال: (ولا يجوز له الجمع بين زوجتيه (1) في مسكنٍ واحدٍ إلا برضاهما. ولا يجامع إحداهما بحيث تراه الأخرى أو غيرها. ولا يحدّثها بما جرى بينهما).
أما كون الزوج لا يجوز له الجمع بين زوجتيه في مسكنٍ واحدٍ بغير رضاهما؛ فلأن في الجمع ضرراً بهما لما بينهما من العداوة والغَيْرة، والجمع يثير المخاصمة والمقاتلة.
وأما كونه له ذلك برضاهما؛ فلأن الحق لهما فإذا رضيتا بإسقاطه سقط.
وأما كونه لا يجوز له أن يجامع إحداهما بحيث تراه الأخرى؛ فلما ذكر قبل.
فإن قيل: هل يجوز ذلك مع الإذن كالجمع في المسكن الواحد؟
قيل: لا. وكلام المصنف هنا مشعر به؛ لأنه استثنى ذلك في السكنى دون المجامعة. وصرح به في المغني فقال: إن رضيتا بأن يجامع واحدة واحدة بحيث تراه الأخرى لم يجز؛ لأن فيه دناءة وسخفاً وسقوط مروءة.
وأما كونه لا يجوز له ذلك بحيث تراه غير الضرة؛ فلأن فيه ما ذكر من الدناءة والسخف وسقوط المروءة، وربما كان وسيلة إلى وقوع الرائية في الفاحشة؛ لأنها قد تثور شهوتها بذلك فيؤدي إلى المحذور المذكور.
وأما كونه لا يحدّث الضرة بما جرى بينهما؛ فلأن ذلك سبب لإثارة الغيرة وبغض إحداهما الأخرى.
قال: (وله منعها من الخروج عن منزله. فإن مرض بعض محارمها أو مات استحب له أن يأذن لها في الخروج إليه).
أما كون الزوج له منع زوجته من الخروج عن منزله؛ فلما روى أنس «أن رجلاً سافرَ ومنع زوجته من الخروج عن منزله. فمرضَ أبوها. فاستأذنتْ رسول الله صلى الله عليه وسلم في عيادةِ أبيها. فقال لها رسول الله صلى الله عليه وسلم: اتقي الله ولا تخالفي زوجك. فأوحى الله تعالى إلى النبي صلى الله عليه وسلم: قد غفرتُ لها بطاعةِ زوجها» . رواه ابن بطة.
ولأن طاعة الزوج واجبة والعيادة وشبهها غير واجبة. فلم يجز ترك الواجب لغير الواجب.
(1) في أ: الأخرى، وما أثبتناه من المقنع.
وأما كونه يستحب له أن يأذن لها في ذلك إذا مرض بعض محارمها أو مات؛ فلأن ذلك وسيلة إلى صلة الرحم.
ولأن في منعها القطيعة والحمل على مخالفة والديها إن كانا هما الممنوع من الخروج إليهما.
قال: (ولا تملك المرأة إجارة نفسها للرضاع والخدمة بغير إذن زوجها. وله أن يمنعها من رضاع ولدها إلا أن يضطر إليها ويخشى عليه).
أما كون المرأة لا تملك إجارة نفسها لما تقدم ذكره بغير إذن زوجها؛ فلأن الزوج يملك الاستمتاع بها، وكونها تملك ذلك يؤدي إلى فوات حقه. فلم تملكه؛ كما لا تملك منعه من الوطء.
وأما كون الزوج له أن يمنعها من رضاع ولدها إذا لم يضطر إليها ويخشى على الولد؛ فلأن إرضاع ولدها ليس بواجب عليها، وحق الزوج واجب عليها. فجاز أن يمنع الواجب ما ليس بواجب.
وأما كونه ليس له ذلك إذا اضطر إليها وخشي على الولد؛ فلأنه حينئذ يتعين عليها إرضاعه ويترجح على حق الزوج. فإنه إحياء نفس وذلك راجح للمصلحة في نظر الشارع. وليس الاضطرار المذكور مختصاً بالولد بل لو فرض في غير الولد أنه لم توجد مرضعة سواها تعين عليها إرضاعه تقدماً على حق الزوج لما فيه من الإحياء المذكور.
فصل في القسم
قال المصنف رحمه الله تعالى: (وعلى الرجل أن يساويَ بين نسائه في القَسْم. وعماد القسم الليل؛ إلا لمن معيشته بالليل كالحارس).
أما كون الرجل عليه أن يساوي بين نسائه في القَسْم؛ فلأن الله تعالى قال: {وعاشروهن بالمعروف} [النساء: 19]. وليس مع الميل معروف.
وروى أبو هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «من كان له امرأتان فمال إلى إحداهما جاء يوم القيامة وشقه مائل» (1).
وعن عائشة قالت: «كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقسم بين نسائه فيعدل. ثم يقول: اللهم! هذا قسَمي فيما أملك فلا تلُمني فيما لا أملك» (2) رواهما أبو داود.
وأما كون عماد القسم الليل لغير من معيشته بالليل كالحارس؛ فلأن الليل للسكن والإيواء يأوي فيه الآدمي إلى منزله وينام في فراشه مع زوجته عادة. والنهار للمعاش والكسب والاشتغال. قال الله تعالى: {وجعل الليل سكنا} [الأنعام: 96]، وقال تعالى:{وجعلنا الليل لباسًا? وجعلنا النهار معاشًا} [النبأ: 10 - 11]، وقال:{ومن رحمته جعل لكم الليل والنهار لتسكنوا فيه ولتبتغوا من فضله} [القصص: 73]. أي لتسكنوا في الليل ولتبتغوا من فضله في النهار.
(1) أخرجه أبو داود في سننه (2133) 2: 242 كتاب النكاح، باب في القسم بين النساء.
وأخرجه الترمذي في جامعه (1141) 3: 447 كتاب النكاح، باب ما جاء في التسوية بين الضرائر.
وأخرجه النسائي في سننه (3942) 7: 63 كتاب عشرة النساء، ميل الرجل إلى بعض نسائه دون بعض.
وأخرجه ابن ماجة في سننه (1969) 1: 633 كتاب النكاح، باب القسمة بين النساء.
وأخرجه أحمد في مسنده (8549) 2: 347.
(2)
أخرجه أبو داود في سننه (2134) 2: 242 كتاب النكاح، باب في القسم بين النساء.
وأما كون عماد قَسْم من معيشته بالليل كالحارس ونحوه النهار؛ فلأن الليل في حقهم كالنهار في حق غيرهم.
قال: (وليس له البداءة بإحداهن ولا السفر بها إلا بقرعة. فإذا بات عندها بقرعة أو غيرها لزمه المبيت عند الثانية).
أما كون الزوج ليس له البداءة بإحدى زوجاته ولا السفر بها بغير قرعة؛ فلأن فعل ذلك تفضيل لها والتسوية واجبة.
ولأنهن متساويات في الحق فوجب المصير إلى القرعة؛ لأنها المرجحة. وفي الحديث: «أن النبي صلى الله عليه وسلم كان إذا أراد السفرَ ببعض نسائه أقرعَ بينهن» (1). ولو جاز ذلك بغير قرعة لفعله ولو مرة تبييناً للجواز.
وأما كونه يلزمه المبيت عند الثانية إذا بات عند غيرها بقرعة أو غيرها؛ فلأنه يجب عليه التسوية في القَسْم لما تقدم. وقد حصل لغيرها مبيت ليلة فوجب المبيت عند الثانية لتحصل التسوية الواجبة.
قال: (وليس عليه التسوية بينهن في الوطء بل يستحب).
أما كون الزوج ليس عليه التسوية بين الزوجات في الوطء؛ فلأن الله تعالى قال: {ولن تستطيعوا أن تعدلوا بين النساء ولو حرصتم} [النساء: 129]. قال أبو عبيدة السلماني: في الحب والجماع.
ولأن الجماع طريقه الشهوة والميل ولا سبيل إلى التسوية في ذلك.
وأما كونه يستحب له التسوية إن أمكن؛ فلأنه أبلغ في العدل.
ولأنه روي عن النبي صلى الله عليه وسلم: «أنه كان يسوي بين نسائه حتى في القُبَلْ» .
وحكم الاستمتاع دون الفرج حكم الوطء؛ لأنه إذا لم يجب التسوية في الجماع ففي دواعيه أولى.
(1) أخرجه البخاري في صحيحه (4913) 5: 1999 كتاب النكاح، باب القرعة بين النساء إذا أراد سفرًا.
وأخرجه مسلم في صحيحه (2445) 4: 1894 كتاب فضائل الصحابة، باب فضل عائشة رضي الله عنها.
قال: (ويَقسم لزوجته الأمة ليلة والحرة ليلتين وإن كانت كتابية. ويَقسم للحائض والنفساء والمريضة والمعيبة).
أما كون الرجل يقسم لزوجته الأمة ليلة والحرة ليلتين؛ فلما روي عن علي رضي الله عنه أنه كان يقول: «إذا تزوج الحرة على الأمة قسم للأمة ليلة وللحرة ليلتين» (1). رواه الدارقطني.
ولأن الحرة يجب تسليمها ليلاً ونهارًا. فكان حظها أكثر في الإيواء.
وأما قول المصنف: وإن كانت كتابية فتنبيه على أن الحرة الكتابية في القسم كالحرة المسلمة. وصرح به في المغني فقال: والمسلمة والكتابية سواء في القسم.
قال ابن المنذر: أجمع كل من نحفظ عنه من أهل العلم على أن القسم بين المسلمة والذمية سواء.
ولأن القسم من حقوق الزوجية. فاستوت فيه المسلمة والكتابية؛ كالنفقة والسكنى.
فإن قيل: فما الفرق بين الحرة والأمة؟
قيل: الأمة لا يتم تسليمها ولا يحصل لها الإيواء التام. بخلاف الحرة.
وأما كونه يقسم للحائض والنفساء والمريضة والمعيبة؛ فلأن القصد الإيواء والسكن والأنس وحاجتهن داعية إلى ذلك.
قال: (فإن دخل في ليلتها إلى غيرها لم يجز إلا لحاجة داعية. فإن لم يلبث عندها لم يقض. وإن لبث أو جامع لزمه أن يقضي لها (2) مثل ذلك من حق الأخرى).
أما كون الزوج لا يجوز له الدخول إلى غير من الليلة لها إذا لم تكن حاجة داعية؛ فلأنه ترك الواجب عليه لا لحاجة.
وأما كونه يجوز له لحاجة داعية مثل: أن تكون ضرتها منزولاً بها فيريد أن يحضرها أو توصي إليه أو نحو ذلك مما لا بد منه عرفاً؛ فلأن ذلك حالة ضرورة وحاجة فأبيح به ترك الواجب إلى قضائه في وقت آخر.
(1) أخرجه الدارقطني في سننه (148) 3: 285 كتاب النكاح، باب المهر.
(2)
زيادة من المقنع.
وقول المصنف رحمه الله تعالى: في ليلتها: مشعرٌ بأنه له فعل ذلك في نهارها الذي هو تبع لليلة وإن لم تكن الحاجة داعية. وصرح به في المغني فقال: يجوز الدخول في النهار إلى المرأة في يوم غيرها لحاجة من دفع نفقة أو عيادة أو سؤال عن أمر يحتاج إلى معرفته أو زيارتها لبعد عهدهما ونحو ذلك؛ لما روت عائشة قالت: «كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يدخل عليَّ في يوم غيري فينال مني كل شيء إلا الجماع» (1).
وأما كونه لا يقضي إذا لم يلبث عندها؛ فلأنه لا فائدة فيه لقلته.
وأما كونه يلزمه أن يقضي لها مثل ذلك من حق الأخرى إذا لبث أو جامع؛ فلأن التسوية واجبة ولا يحصل إلا بذلك.
ولا فرق في القضاء المذكور وعدمه بين ما إذا كان ممنوعاً من الدخول؛ مثل: أن يدخل لغير حاجة، أو غير ممنوع؛ مثل: أن يدخل لحاجة؛ لأنه زمن مستحق للغير أو زمن لا يقضى لقلته. فاستوى فيه صاحب الحاجة وغيره.
قال: (وإن أراد النقلة من بلدٍ إلى بلدٍ وأخذ إحداهن معه والأخرى مع غيره لم يجز إلا بقرعة. ومتى سافر بها بقرعة لم يقض. وإن كان بغير قرعة لزمه القضاء للأخرى).
أما كون الرجل لا يجوز له أخذ إحدى نسائه معه والأخرى مع غيره إذا أراد النقلة من بلدٍ إلى بلدٍ بغير قرعة؛ فلأن فعل ذلك ميل. فلم يجز لما تقدم. بخلاف فعله بقرعة.
وأما كونه لا يقضي إذا سافر بها بقرعة؛ فلأن عائشة ذكرت السفر بالقرعة ولم تذكر القضاء.
(1) أخرج أبو داود نحوه في سننه عن عائشة قالت: «كان رسول الله صلى الله عليه وسلم لا يفضل بعضنا على بعض في القسم، من مكثه عندنا، وكان قل يوم إلا وهو يطوف علينا جميعا فيدنو من كل امرأة من غير مسيس حتى يبلغ إلى التى هو يومها فيبيت عندها» . (2135) 2: 242 كتاب النكاح، باب في القسم بين النساء.
ولأن التي تسافر معه يلحقها من مشقة السفر بإزاء ما يحصل لها من السكن، ولا يحصل لها من السكن مثل ما يحصل في الحضر. فلو قضى للحاضرات لكان قد مال على المسافرة.
وأما كونه يلزمه القضاء للأخرى إذا كان بغير قرعة؛ فلأنه خص بعضهن بمدة على وجهٍ تلحقه التهمة فيه. فيلزمه القضاء؛ كما لو كان حاضراً.
فإن قيل: قد تقدم أنه لو قضى للحاضرة لأدى إلى الميل؛ لأن المسافرة لا يحصل لها من السكن مثل ما يحصل للحاضرة.
قيل: هو كذلك؛ إلا أنه لا يمكن إسقاط القضاء بالكلية لما فيه أيضاً من الميل. ومن أن ذلك يصير وسيلة إلى المسافرة بمن يريد. وإذا تعارض القضاء وعدمه وجب القضاء لكن على مثل ما أقام مع المسافرة؛ لأنه أقرب القولين إلى عدم الميل.
فعلى هذا لا يلزمه قضاء مدة السير لأنها لم يحصل لها من ذلك إلا التعب والمشقة.
ولأنه لو جعل للحاضرة في مقابلته مبيتاً عندها واستمتاعاً بها لمال كل الميل.
قال: (وإن امتنعت من السفر معه، أو من المبيت عنده، أو سافرت بغير إذنه: سقط حقها من القسم. وإن أشخصها هو فهي على حقها من ذلك. وإن سافرت لحاجتها بإذنه فعلى وجهين).
أما كون حق الزوجة من القسم يسقط إذا امتنعت مما ذكر أو سافرت بغير إذنه؛ فلأن القسم للأُنس وقد تعذر بسببٍ من جهتها. فيسقط؛ كما لو تعذر ذلك قبل دخوله بها.
وأما كونها على حقها من ذلك إذا أشخصها هو؛ فلأنه ما فات بسبب من جهتها وإنما فات بتفويته. فلم يسقط حقها؛ كما لو أتلف المشتري المبيع فإنه لا يسقط حق البائع بتسليم ثمنه إليه.
فإن قيل: ما معنى أشخصها؟
قيل: أن يبعثها لحاجة أو يأمرها بالنقلة من بلدها. ذكره المصنف رحمه الله تعالى في المغني.
وأما كون حقها يسقط إذا سافرت لحاجتها بإذن الزوج على وجهٍ؛ فلأن الاستيفاء تعذر بسبب من جهتها. أشبه ما لو سافرت بغير إذنه.
وأما كونه لا يسقط على وجهٍ؛ فلأن سفرها بإذنه. أشبه ما لو سافرت معه.
فإن قيل: ما المراد بسفرها لحاجتها؟
قيل: أن تسافر لتجارة لها أو زيارة أو حج تطوع أو عمرة أو نحو ذلك.
فإن قيل: ما الصحيح من الوجهين المذكورين؟
قيل: ظاهر كلام صاحب المغني فيه ترجيح السقوط؛ لأنه علله بنحو ما تقدم. وفرّق بين سفرها لحاجته بإذنه وبين سفرها معه بأن القسم لم يتعذر بسفرها معه. بخلاف سفرها بإذنه.
قال: (وللمرأة أن تهب حقها من القَسْم لبعض ضرائرها بإذنه وله فيجعله لمن شاء منهن. فمتى رجعت في الهبة عاد حقها).
أما كون المرأة لها أن تهب حقها لبعض ضرائرها بإذن الزوج؛ فـ «لأن سَوْدة وهبت يومها لعائشة. فكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقسم لعائشة يومها ويوم سودة» (1).
وعن عائشة: «أن رسول الله صلى الله عليه وسلم وجد على صفية في شيء. فقالت صفية لعائشة: هل لك أن تُرضي عني رسول الله صلى الله عليه وسلم ولك يومي؟ قالت: فقعدت إلى جنب رسول الله. قال: إليك يا عائشة! إنه ليس يومك. قلت: ذلك فضل الله يؤتيه من يشاء. وأخبرته بالأمر. فرضي عنها» (2) رواه ابن ماجة.
واشترط المصنف رحمه الله تعالى في الهبة المذكورة إذن الزوج؛ لأن حقه على الواهبة فلا ينتقل إلى غيرها إلا برضاه.
وأما كونها لها أن تهب ذلك للزوج؛ فلأن الحق لها فلمن نقلته انتقل إليه.
(1) أخرجه البخاري في صحيحه (4914) 5: 1999 كتاب النكاح، باب المرأة تهب يومها من زوجها لضرتها وكيف يقسم ذلك.
وأخرجه مسلم في صحيحه (1463) 2: 1085 كتاب الرضاع، باب جواز هبتها نوبتها لضرتها.
(2)
أخرجه ابن ماجة في سننه (1973) 1: 634 كتاب النكاح، باب المرأة تهب يومها لصاحبتها.
وأما كون الزوج له الخيرة في جعله لمن شاء؛ فلأنه قام مقام الواهبة. فكما كان لها الخيرة في جعله فيمن تشاء. فكذلك القائم مقامها.
وأما كون حق الواهبة يعود إذا رجعت في الهبة؛ فلأنها هبة لم تقبض. والمراد بالعود المذكور: العود في المستقبل؛ لأن ذلك الذي لم يقبض: أما الماضي فليس لها الرجوع فيه؛ لأنها هبة اتصل بها القبض.
فعلى هذا إذا رجعت في أثناء ليلتها لزم الزوج الانتقال. وإن لم يعلم حتى أتم الليلة لم يقض لها شيئاً؛ لأن التفريط منها.
قال: (ولا قَسْم عليه في ملك يمينه. وله الاستمتاع بهن كيف شاء. ويستحب التسوية بينهن، وأن لا يعضلهن إن لم يرد الاستمتاع بهن).
أما كون السيد لا قَسْم عليه في ملك يمينه؛ فلأن الله تعالى قال: {فإن خفتم أن لا تعدلوا فواحدة أو ما ملكت أيمانكم} [النساء: 3]. وقد كان للنبي صلى الله عليه وسلم مارية القبطية وريحانة. فلم يكن يقسم لهما.
ولأن الأمة لا حق لها في الاستمتاع. ولذلك لا يثبت لها الخيار بكون السيد مجبوباً أو عنيناً، ولا يضرب لها مدة الإيلاء.
وأما كون التسوية بينهن تستحب؛ فلأنه أطيب لقلوبهن وأبعد من النفرة والبغضة.
وأما كون أن لا يعضلهن إن لم يرد الاستمتاع بهن يستحب؛ فلأن إعفافهن وصونهن عن احتمال الوقوع في المحظور مطلوب (1).
(1) زيادة يقتضيها السياق.
فصل [إذا تزوج بكرا]
قال المصنف رحمه الله تعالى: (وإذا تزوج بكراً أقام عندها سبعاً ثم دار. وإن كانت ثيباً أقام عندها ثلاثاً. فإن أحبّت أن يقيم عندها سبعاً فعل وقضاهن للبواقي).
أما كون الزوج إذا تزوج بكراً يقيم عندها سبعاً ثم يدور على نسائه، وإذا تزوج ثيباً يقيم عندها ثلاثاً ثم يدور؛ فلما روى أبو قلابة عن أنس قال:«من السنة إذا تزوج البكر على الثيب أقام عندها سبعًا وقسم، وإذا تزوج ثيباً أقام عندها ثلاثًا ثم قسم» (1).
قال أبو قلابة: لو شئت لقلت أن أنسًا رفعه إلى النبي صلى الله عليه وسلم. متفق عليه.
وأما كونه إذا أحبت الثيب أن يقيم عندها سبعاً فعل وقضاهن للبواقي؛ فلما روي عن أم سلمة «أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما تزوجها أقام عندها ثلاثاً. وقال: إنه ليس بكِ هوانٌ على أهلك. إن شئتِ سبّعتُ لك، وإن سبّعتُ لكِ سبّعتُ لنسائي» (2). رواه مسلم.
وفي لفظ: «إن شئتِ ثلَّثتُ ثم دُرْتُ» (3).
(1) أخرجه البخاري في صحيحه (4916) 5: 2000 كتاب النكاح، باب إذا تزوج الثيب على البكر.
وأخرجه مسلم في صحيحه (1461) 2: 1084 كتاب الرضاع، باب قدر ما تستحقه البكر والثيب من إقامة الزوج عندها عقب الزفاف.
(2)
أخرجه مسلم في صحيحه (1460) 2: 1083 الموضع السابق.
وأخرجه أبو داود في سننه (2122) 2: 240 كتاب النكاح، باب في المقام عند البكر.
وأخرجه ابن ماجة في سننه (1917) 1: 617 كتاب النكاح، باب الإقامة على البكر والثيب.
وأخرجه أحمد في مسنده (26547) 6: 292.
(3)
أخرجه مسلم في صحيحه (1460) 2: 1083 كتاب الرضاع، باب قدر ما تستحقه البكر والثيب من إقامة الزوج عندها عقب الزفاف.
قال: (وإن زُفّت إليه امرأتان قدم السابقة منهما، ثم أقام عند الأخرى، ثم دار. فإن زُفّتا معاً قدم إحداهما بالقرعة، ثم أقام عند الأخرى).
أما كون الزوج يقدم السابقة فيما إذا زفّت إليه امرأتان إحداهما قبل الأخرى؛ فلأن حقها سبق.
وأما كونه يقيم بعد فعل الواجب عليه للأولى عند الأخرى؛ فلأن حقها واجب عليه لما تقدم. تُرك العمل به في مدة الأولى؛ لأنه عارضه ورجح عليه. فإذا زال المعارض وجب العمل بالمقتضي لحق الأخرى السالم عن المعارض.
وأما كونه يدور بعد ذلك؛ فليأتي بالواجب عليه من حق الدَّوْر.
وأما كون تقديم إحداهما بالقرعة إذا زُفّتا معاً؛ فلأنهما استويا في سبب الاستحقاق، والقرعة مرجحة عند التساوي.
وأما كونه يقيم عند الأخرى بعد فعل ما عليه للأخرى؛ فلما تقدم.
قال: (وإن أراد السفر فخرجت القرعة لإحداهما سافر بها ودخل حق العقد في قسم السفر، وإذا قدم بدأ بالأخرى فوفاها حق العقد).
أما كون الزوج يسافر بمن خرجت لها القرعة؛ فلأن حقها ترجح بالقرعة.
وأما كون حق العقد يدخل في قسم السفر؛ فلأنه نوع قسم يختص بها.
وأما كونه يبدأ بالأخرى فيوفيها حق العقد؛ فلأنه حق وجب لها قبل سفره لم يؤده إليها. فلزمه قضاؤه؛ كما لو لم يسافر بالأخرى معه.
وقال المصنف في المغني: فيه وجهان:
أحدهما: يقضي لها ذلك؛ لما ذكر.
والثاني: لا يقضيه لها؛ لئلا يكون تفضيلاً لها على التي سافر بها. ثم قال: ويحتمل أن يستأنف قضاء العقد لكل واحدةٍ منهما ولا يحتسب على المسافرة بمدة سفرها؛ كما لا يحتسب به عليها فيما عدا حق العقد. ثم قال: وهذا أقرب إلى الصواب من إسقاط حق العقد الواجب بالشرع بغير مسقط.
قال: (وإذا طلق إحدى نسائه في ليلتها أثم فإن تزوجها بعد ذلك قضى لها ليلتها).
أما كون الزوج يأثم إذا طلق إحدى نسائه في ليلتها؛ فلأنه يوصل إلى منعها حقها.
وأما كونه إذا تزوجها بعد ذلك يقضي لها ليلتها؛ فلأنه أمكنه أداء ما عليه من الحق بعد العجز. فلزمه ذلك؛ كما لو كان عليه دَيْن فأعسر ثم قدر عليه.
قال: (وله أن يخرج في نهار ليل القسم لمعاشه وقضاء حقوق الناس).
أما كون الزوج له الخروج في نهار ليل القسم لمعاشه وقضاء حقوق الناس؛ فلأنه لا قسم عليه في النهار. وقد تقدم ذلك في قول المصنف رحمه الله تعالى: وعماد القسم الليل (1).
وأما كون المصنف قيد ذلك بالنهار فليشعر بأن الزوج ليس له ذلك في الليل.
وقال رحمه الله تعالى في المغني: فإن خرج في النهار أو أول الليل أو آخره الذي جرت العادة بالانتشار فيه والخروج إلى الصلوات جاز؛ لأن المسلمين يخرجون لصلاة العشاء وصلاة الفجر قبل طلوعه.
فعلى هذا يحمل التقييد المذكور على نفي ما عداه بما ذكره في المغني؛ لأنه صريح. وذلك راجح على المفهوم.
(1) ص: 730.
فصل في النشوز
قال المصنف رحمه الله تعالى: (وهو معصيتها إياه فيما يجب عليها. وإذا ظهر منها أمارات النشوز بأن لا تجيبه إلى الاستمتاع أو تجيبه متبرمة متكرهة: وَعَظَهَا. فإن أصرّت هَجَرَها في المضجع ما شاء. وفي الكلام فيما دون ثلاثة أيام. فإن أصرّت فله أن يضربها ضرباً غير مُبَرِّح).
أما قول المصنف: وهو معصيتها إياه فيما يجب عليها فبيان لمعنى نشوز المرأة. وهو: مأخوذ من النَّشَز. وهو الارتفاع. فكأنه لما عصته فيما يجب عليها قد ارتفعت عما فرض الله عليها من طاعته.
وأما كون الزوج يَعِظُها إذا ظهر منها أمارات النشوز؛ فلأن الله تعالى قال: {واللاتي تخافون نشوزهن فعِظُوُهن} [النساء: 34].
وأما كونه يهجرها في المضجع قبل الضرب؛ فلأن الله تعالى قال: {واهجروهن في المضاجع} [النساء: 34].
وعن ابن عباس: «لا تُضاجعها في فراشك» .
وأما كون الهجر المذكور ما شاء؛ فلأن القرآن مطلق. فلا يقيد بغير دليل.
وأما كونه يهجرها في الكلام فيما دون ثلاثة أيام؛ فلأنه ليس بمنهي عنه.
ولأن فيه زجراً لها عن العصيان.
وتقييد المصنف الكلام بما دون ثلاثة أيام: مشعرٌ بأنه لا يجوز فيما زاد على ذلك. وهو صحيح فيما فوق الثلاثة؛ لما روى أبو هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «لا يحل لمسلم أن يهجر أخاه فوق ثلاثة أيام» (1).
وأما كونه إذا أصرّت له أن يضربها ضرباً غير مبرح؛ فلأن الله قال: {واضربوهن} [النساء: 34].
(1) أخرجه أبو داود في سننه (4911) 4: 278 كتاب الأدب، باب فيمن يهجر أخاه المسلم.
فإن قيل: الآية دلت على الضرب عند خوف النشوز ولم يشترط الإصرار على النشوز وعلى الضرب من غير تقييد. فلم قيد بغير المبرح؟
قيل: الجواب عن الأول أن الآية فيها إضمار تقديره: "واللاتي تخافون نشوزهن فعظوهن فإن نشزن فاهجروهن في المضاجع فإن أصررن فاضربوهن"؛ كما قال سبحانه وتعالى: {إنما جزاء الذين يحاربون الله ورسوله ويسعون في الأرض فسادًا أن يقتلوا أو يصلبوا أو تقطع أيديهم وأرجلهم من خلافٍ أو ينفوا من الأرض} [المائدة: 33]. والذي يدل على هذا أنه رتب هذه العقوبات على خوف النشوز ولا خلاف في أنه لا يضربها لخوف النشوز قبل إظهاره.
والجواب عن الثاني: أن إصرارها على منع حق زوجها ليس أبلغ من فعلها الفاحشة. وقد اشترط في ضربها على ذلك أن لا يكون مبرحاً؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «إن لكم عليهن أن لا يُوطئنَ فرشكُم أحداً تكرهونه. فإن فعلن فاضربوهن ضربًا غير مبرح» (1) رواه مسلم.
ومعنى غير مبرح: غير شديد.
(1) أخرجه مسلم في صحيحه (1218) 1: 891 كتاب الحج، باب حجة النبي صلى الله عليه وسلم، عن جابر بن عبدالله.
قال: (فإن ادعى كل واحد ظلم صاحبه له (1) أسكنهما الحاكم إلى جانب ثقة يشرف عليهما، ويلزمهما الإنصاف. فإن خرجا إلى الشقاق والعداوة بعث الحاكم حكمين حرين مسلمين عدلين، والأولى أن يكونا من أهلهما برضاهما وتوكيلهما فيكشفان عن حالهما ويفعلان ما يريانه من جَمْع بينهما، أو تفريقٍ بطلاق، أو خلع. فإن امتنعا من التوكيل لم يجبرا. وعنه: أن الزوج إن وكل في الطلاق بعوض أو غيره، ووكلت المرأة في بذل العوض برضاهما، وإلا جعل الحاكم إليهما ذلك. وإن غاب الزوجان أو أحدهما لم ينقطع نظرهما على الأولى ولم ينقطع على الثانية).
أما كون الحاكم يسكن الزوجين إلى جانب ثقة يشرف عليهما ويلزمهما الإنصاف إذا ادعى كل واحدٍ ظلم صاحبه له؛ فلأن ذلك وسيلة إلى كفهما عن التعدي، وذلك مطلوب شرعاً.
وأما كونه يبعث حكمين إذا خرجا إلى الشقاق؛ فلأن الله تعالى قال: {وإن خفتم شقاق بينهما فابعثوا حكمًا من أهله وحكمًا من أهلها} [النساء: 35].
وأما كون الحكمين حرين؛ فلأن العبودية نقص.
وقال صاحب المغني فيه: الأولى أن يقال: إن كانا وكيلين لم تعتبر الحرية؛ لأن توكيل العبد جائز، وإن كانا حكمين اعتبرت؛ لأن الحاكم لا يجوز أن يكون عبداً.
وأما كونهما مسلمين عدلين؛ فلأنهما إن كانا حكمين كان اشتراط ذلك ظاهراً؛ لكون الحاكم لا يجوز أن يكون إلا مسلماً عدلاً. وإن كانا وكيلين؛ فلأن الوكالة إذا تعلقت بنظر الحاكم لم يجز أن يكون الوكيل إلا مسلماً عدلاً؛ كما لو نصب وكيلاً لصبي أو سفيه.
وأما قول المصنف: والأولى أن يكونا من أهلهما برضاهما وتوكيلهما: فمشعرٌ بأمور:
أحدها: أن كون الحكمين من أهلهما راجح في نظر الشرع ولا شبهة فيه؛ لقوله تعالى: {حَكَماً من أهله وحَكَماً من أهلها} [النساء: 35].
(1) زيادة من المقنع.
ولأنهما إذا كانا من أهلهما كانا أعلم بحالهما وأشفق عليهما.
وثانيهما: أنه يجوز أن يكونا من غير أهلهما؛ لأن الأهلية ليست شرطاً في الحكم.
ولأن في الوكالة وهماً لا يخرجان عنهما. وذلك يوجب حمل الأمر في الآية على الرجحان لا على الراجح المانع من النقص.
وثالثها: أن كون الحكمين برضا الزوجين وتوكيلهما راجح في نظر الشرع أيضاً. ولا شبهة فيه؛ لما فيه من الخروج من الخلاف الآتي ذكره.
ورابعها: أنه يجوز أن يكونا بغير رضا الزوجين ولا توكيلهما.
وأما كونهما يكشفان عن حالهما ويفعلان ما يريانه من جمع بينهما أو تفريق بطلاق أو خلع؛ فلأن الغرض من بعثهما إزالة ما بينهما من الشقاق والعداوة. وما ذكر طريق إليه. وفي حديث علي رضي الله عنه الآتي ذكره: «إن رأيتُما أن تجمعا جمعتما، وإن رأيتما أن تفرقا فرقتما» .
وأما كون الزوجين إذا امتنعا من التوكيل لم يجبرا؛ فلأنهما رشيدان والبضع حق للزوج والمال حق للزوجة. فلم يجبرا على التوكيل فيهما كغيرهما من الحقوق.
وعدم إجبارهما مشعر بأن الحاكم ليس له أن يبعث حكمين بغير رضاهما. وهو صحيح على المذهب؛ لأنه حق لهما. فلم يجز لغيرهما التصرف إلا بالوكالة.
وأما كون الزوج إن وكل في الطلاق والمرأة في بذل العوض وإلا جعل الحاكم إليهما ذلك؛ فلعموم قوله تعالى: {فابعثوا} [النساء: 35].
ولأن الله تعالى سماهما حكمين ثم قال: {إن يريدا إصلاحاً} [النساء: 35] خاطب الحكمين بذلك ولم يعتبر رضا الزوجين.
وعن أبي عبيدة السلماني «أن رجلاً وامرأة أتيا علياً رضي الله عنه مع كل واحدٍ منهما فئام من الناس. فقال علي: ابعثوا حكمين حكماً من أهله، وحكماً من أهلها. فبعثوا حكمين. ثم قال علي للحكمين: هل تدريان ما عليكما من الحق؟ إن رأيتما أن تجمعا جمعتما وإن رأيتما أن تفرقا فرقتما. فقالت المرأة:
رضيت بكتاب الله عليّ ولي. وقال الرجل: أما الفرقة فلا. فقال علي: كذبت حتى ترضى بما رضيت به» (1). رواه أبو بكر بإسناده.
ويشترط في كونهما حكمين شرطان آخران لم يذكرهما هنا:
أحدهما: كونهما عالمين بالجمع والتفريق؛ لأنهما يتصرفان في ذلك. فيعتبر علمهما به.
وثانيهما: كونهما ذكرين؛ لأن الحاكم لا يجوز إلا أن يكون ذكراً.
وأما كون الحكمين ينقطع نظرهما إذا غاب الزوجان أو أحدهما على الرواية الأولى ولا ينقطع على الثانية؛ فلأن الوكيل ينعزل بجنون موكله. بخلاف الحاكم فإنه لا يمنع أن يحكم مع جنون المحكوم عليه.
وقال المصنف في المغني بعد ذكر الغيبة: وإن كان حاكماً لم يجز له الحكم؛ لأن من شرط ذلك بقاء الشقاق وحضور المتداعيين ولا يتحقق ذلك مع الجنون.
(1) أخرجه الدارقطني في سننه (188 - 189) 3: 295 كتاب النكاح، باب المهر.
وأخرجه عبدالرزاق في مصنفه (11883) 6: 512 كتاب الطلاق، باب الحكمين.