الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
كتاب الوقف
الوقف: مصدر وقف. يقال: وَقَفْتُ وقفاً، ولا يُقال: أوقَفْتُ إلا في لُغة شاذةٍ.
وهو من القُرَبِ المندوبِ إليها.
والأصل فيه ما روى عبدالله بن عمر قال: «أصابَ عمرُ أرضاً بخيبرَ. فأتى النبيَّ صلى الله عليه وسلم يستأمرُه فيها. فقال: يا رسولَ الله! إني أصبتُ أرضاً بخيبرَ. لم أُصِبْ مالاً أنفسُ عندي منه فما تأمرني فيها؟ قال: إن شئتَ حبستَ أصلهَا وتصدقتَ بثمرتها. غير أنه لا يباعُ أصلُها ولا يوهبُ ولا يورثُ. قال: فتصدقَ بها عمر في الفقراءِ، وذوي القربى، والرقاب، وابن السبيل، والضيف. لا جناحَ على من وليها أن يأكلَ منها، أو يُطعم صَديقاً بالمعروفِ غير مُتَأَثِّلٍ فيه، أو غيرَ متمولٍ فيه» (1). متفق عليه.
وعن النبي صلى الله عليه وسلم: «إذا ماتَ ابنُ آدم انقطعَ عملُه إلا من ثلاث: صدقةٍ جارية، أو علمٍ ينتفعُ به من بعده، أو ولدٍ صالح يدعُو لَه» (2).
وعن جابر: لم يكن أحد من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ذو مقدرة إلا وقف.
قال المصنف رحمه الله: (وهو تحبيس الأصل، وتسبيل المنفعة. وفيه روايتان:
إحداهما: أنه يحصل بالقول والفعل الدال عليه؛ مثل: أن يبني مسجداً ويأذن للناس في الصلاة فيه، أو يجعل أرضه مقبرة ويأذن لهم في الدفن فيها، أو سقاية ويشرعها لهم. والأخرى: لا يصح إلا بالقول).
أما قول المصنف رحمه الله: وهو تحبيس الأصل وتسبيل المنفعة؛ فبيان لمعنى
(1) أخرجه البخاري في صحيحه (2586) 2: 982 كتاب الشروط، باب الشروط في الوقف.
وأخرجه مسلم في صحيحه (1632) 3: 1255 كتاب الوصية، باب الوقف.
(2)
أخرجه مسلم في صحيحه (1631) 3: 1255 كتاب الوصية، باب ما يلحق الإنسان من الثواب بعد وفاته.
وأخرجه أبو داود في سننه (2880) 3: 117 كتاب الوصايا، باب ما جاء في الصدقة عن الميت.
وأخرجه الترمذي في جامعه (1376) 3: 660 كتاب الأحكام، باب في الوقف.
وأخرجه النسائي في سننه (3651) 6: 251 كتاب الوصايا، فضل الصدقة عن الميت.
قال الترمذي: حديث حسن صحيح.
الوقف شرعاً. وقد دل عليه قوله عليه السلام: «إن شئتَ حبستَ أصلَها وتصدقتَ بثمرتها» (1).
وأما ما يحصل الوقف به. فعلى ضربين:
أحدهما: متفق عليه. وهو القول؛ لأنه صريح فيه. فحصل به؛ كحصول سائر العقود بصرائحها.
وثانيهما: الفعل. وفي حصول الوقف به روايتان:
إحداهما: يحصل؛ لأن العرف جارٍ بذلك. وفيه دلالة على الوقف. فجاز أن يحصل به؛ كالقول.
والثانية: لا يحصل به؛ لأنه تحبيس أصلٍ على وجهِ القربة. فوجب أن يفتقر إلى القول؛ كالوقف على الفقراء.
قال المصنف رحمه الله في المغني: ظاهر المذهب أن الوقف يحصل بالفعل مع القرائن الدالة عليه مثل ما تقدم. ويعضد ذلك: أن القرائن جارية مجرى صريح القول في كثير من المواضع. فليكن هاهنا كذلك. بيانه: أن من قدّم إلى ضيفٍ طعاماً كان ذلك إذناً في الأكل، ومن ملأ خابية ماء ووضعها على الطريق كان ذلك تسبيلاً لمائها، وجاز لكل أحدٍ الشربُ منها، ومن نثرَ على الناس شيئاً من اللوز والسكر وغيرهما أُبيح التقاطه. وقد تقدم أن البيع بالمعاطاة جائز (2)؛ لدلالة الحال. فكذلك هاهنا.
قال: (وصريحه: وقفت وحبّست وسبّلت، وكنايته: تصدّقت وحرّمت وأبدّت. فلا يصح الوقف بالكناية إلا أن ينويه أو يقرن به أحد الألفاظ الباقية، أو حكم الوقف فيقول: تصدّقت صدقةً موقوفةً، أو محبّسةً، أو مُسَبَّلةً، أو محرّمةً، أو مؤبّدةً، أو لا تُباع، ولا تُوهب، ولا تُورث).
أما كون القول الذي يحصل به الوقف له صريحٌ وكناية؛ فلأن الصريح: ما ثبت به الشيء من غير انضمام أمر زائد. والكناية: ما يفتقر ثبوت الشيء به إلى أمرٍ زائدٍ. وكلاهما موجودٌ في الوقف.
(1) سبق تخريجه من حديث عمر ص: خطأ! الإشارة المرجعية غير معرّفة ..
(2)
ص: 52.
وأما كون الصريح ثلاثة ألفاظ: وقفت وحبّست وسبّلت؛ فلأن هذه الثلاثة ثبت لها عرف الاستعمال بين الناس، ويُفهم الوقف منها عند الإطلاق. فصارت صريحةً في الوقف؛ كلفظ الطلاق في التطليق.
وأما كون تصدّقت وحرّمت وأبّدت كناية؛ فلأنها لم يثبت لها عُرف الاستعمال.
ولأن الصدقة تستعمل في الزكاة. والتحريم يستعمل في الظهار والأيمان. والتأبيد يحتمل تأبيد التحريم وتأبيد الوقف.
فعلى هذا لا بدّ من انضمام شيء إليها لتترجّح إفادتها للوقف. وذلك أشياء:
أحدها: النية؛ لأنها تميز المراد من غيره.
ولأن كناية الطلاق مع نيته تكون موجبةً لوقوع الطلاق. فكذلك كناية الوقف مع نيته تكون موجبةً لحصول الوقف.
وثانيها: أن يقرن (1) به أحد الألفاظ الباقية من الصرائح. والكناية كما مثل المصنف رحمه الله؛ لأن اللفظ يترجح بذلك؛ لإرادة الوقف.
وثالثها: أن يقرن به حكم الوقف كقول المصنف رحمه الله: لا تباع ولا توهب ولا تورث؛ لأن ذلك يزيل الاشتراك.
قال: (ولا يصح إلا بشروطٍ أربعة:
أحدها: أن يكون في عين يجوز بيعها، ويمكن الانتفاع بها دائماً مع بقاء عينها؛ كالعقار، والحيوان، والأثاث، والسلاح).
أما كون الوقف لا يصح إلا بالشروط الآتي ذكرها؛ فلما يُذكر فيها.
وأما كون أحدها: أن يكون في عينٍ يجوز بيعها، ويمكن الانتفاع بها دائماً مع بقاء عينها؛ فلما يأتي ذكره بعدُ.
وأما كونه يصح في ذلك؛ فلأن ما نقلَ: الوقفُ فيه شأنه كذلك. فيثبت فيه بالنص، ويقاس عليه ما في معناه.
وأما قول المصنف رحمه الله: كالعقار
…
إلى آخره؛ فتمثيل لما يصح وقفه.
(1) في هـ: يقر.
وقد دلّ حديث (1) عمر على صحة وقف العقار (2)، وحديث أم معقل على صحة وقف الحيوان ولفظه:«جاءتْ إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم. فقالت: يا رسول الله! إنّ أبا معقل جعلَ ناضِحَهُ في سبيلِ اللهِ وإني أريدُ الحجَ أفأركبه؟ فقال: اركبيه. فإن الحجَ والعمرةَ من سبيلِ الله» (3).
وحديث خالد على صحة وقفِ الأثاث والسلاح. ولفظه (4): «وأما خالد فإنه قد احتبسَ أدْرَاعَهُ وأعتَادَهُ في سبيلِ الله» (5) متفق عليه.
قال: (ويصح وقف المشاع. ويصح وقف الحلي على اللُّبس والعارية. وعنه: لا يصح).
أما كون وقف المشاع يصح؛ فلأن في حديث عمر «أنه أصابَ مائة سهمٍ من خيبرَ. فأمرَهُ النبي صلى الله عليه وسلم بوقفها» (6).
ولأن الوقف تحبيس الأصل وتسبيل المنفعة، وذلك يحصل في المشاع؛ كحصوله في المفرز.
وأما كون وقف الحلي على اللُّبس والعارية يصح على المذهب؛ فلأن ذلك عينٌ يمكن الانتفاع بها مع بقائها. فصح وقفُها؛ كالعقار.
وأما كونه لا يصح على روايةٍ؛ فلأنه من جنس أحد النقدين. فلم يصح وقفه؛ كالدنانير والدراهم.
والأول أصح؛ لأن المفسد في الدنانير والدراهم عدم الانتفاع بعينها، وهذا في الحلي معدوم.
(1) في هـ: دل عليه حديث.
(2)
سبق ذكره ص: خطأ! الإشارة المرجعية غير معرّفة ..
(3)
أخرجه أحمد في مسنده (27326) 6: 406.
(4)
ساقط من هـ.
(5)
أخرجه البخاري في صحيحه (1399) 2: 534 كتاب الزكاة، باب قول الله تعالى:{وفي الرقاب والغارمين وفي سبيل لله} .
وأخرجه مسلم في صحيحه (983) 2: 666 كتاب الزكاة، باب في تقديم الزكاة ومنعها.
(6)
أخرجه النسائي في سننه (3604) 6: 232 كتاب الأحباس، باب حبس المشاع.
وأخرجه ابن ماجة في سننه (2397) كتاب الصدقات، باب من وقف.
قال: (ولا يصح الوقف في الذمة كعبدٍ ودارٍ، ولا غير معين كأحد هذين، ولا وقف ما لا يجوز بيعُه كأم الولدِ والكلب، وما لا ينتفع به مع بقائه دائماً كالأثمان والمطعوم والرياحين).
أما كون الوقف في الذمة لا يصح؛ فلأن معنى الوقف إبطال ملكٍ في عين. [فلا يصح إلا في عينٍ](1)؛ كالعتق.
وأما كون وقف غير معينٍ لا يصح؛ فلأن الوقف تمليكٌ للعين أو للمنفعة. فلا يصح في غير معينٍ؛ كالإجارة.
وأما كون وقف ما لا يجوز بيعه لا يصحُ؛ فلأن الوقف نقلٌ للملكِ في العين. فلم يصح فيما لا يجوز بيعه؛ كهبته.
وأما كون وقف ما لا يُنتفع به مع بقائه دائماً؛ كالأثمان: لا يصح؛ فلأن النفع بذلك لا يمكن إلا بإتلاف عينه، وذلك ينافي تأبيدَ الوقف.
وفي قول المصنف رحمه الله: وما لا ينتفع به مع بقائه دائماً كالأثمان والمطعوم والرياحين نظرٌ؛ لأن المطعوم والرياحين لا تبقى دائماً فلا يصح التمثيل به. وصحة الكلام دائرة مع أحد أمرين: حذف التمثيل بهما، والاكتفاء بالتمثيل بالأثمان، أو حذف مع بقائه؛ لأن المطعوم والرياحين يصح أن يقال أنهما لا ينتفع بهما دائماً؛ لكون نفعهما يحصل في بعض الزمن دون بعضٍ فيكون التمثيل بهما صحيحاً.
قال: (الثاني: أن يكون على برٍّ؛ كالمساكين، والمساجد، والقناطر، والأقارب مسلمين كانوا أو من أهل الذمة).
أما كون الثاني من شروط صحة الوقف: أن يكون على برٍّ؛ فلأن المقصود من الوقف التقربُ إلى الله عز وجل. فإذا لم يكن الوقف على برٍّ لم يحصل المقصود من الوقف.
وأما قول المصنف رحمه الله: "كالمساكين
…
إلى مسلمين"؛ فتمثيلٌ للبر الذي يصح الوقف عليه.
وأما كون الوقف يصح على الأقارب مسلمين كانوا أو من أهل الذمة؛ فلأن
(1) ساقط من هـ.
القريب الذمي موضع القربة. بدليل جواز الصدقة عليه.
قال: (ولا يصح على الكنائسِ، وبيوت النارِ، وكتابة التوراة، والإنجيلِ، ولا على حربيٍ، ولا مرتد).
أما كون الوقف على الكنائس وبيوت النار لا يصح؛ فلأنها بيوت الكفر.
وأما كونه لا يصح على كتابة التوراة والإنجيل؛ فلأنها كتب مبدّلة منسوخة. ولذلك «غضب النبي صلى الله عليه وسلم لما رأى مع عمر صحيفةً فيها شيء من التوراة. وقال: أفي شَكٍ أنتَ يا ابن الخطاب؟ ألم آتِ بها بيضاءَ نقية. لو كان أخِي موسى حَياً ما وَسِعَهُ إلا اتباعي» (1). ولولا أن ذلك معصيةً ما غضب منه.
وأما كونه لا يصح على حربيٍّ ولا مرتدٍّ؛ فلأن أموالهم مباحةٌ في الأصل، ويجوز أخذها منهم بالقهر والغلبة. فما تجدد لهم أولى.
والوقف لا يجوز أن يكون مباح الأخذ؛ لأنه تحبيس الأصل.
قال: (ولا يصح على نفسه في إحدى الروايتين. وإن وقف على غيره واستثنى الأكل منه مدة حياته صح).
أما كون وقف الشخص على نفسه لا يصح على روايةٍ؛ فلأن الوقف تمليك إما للرقبة أو للمنفعة (2)، وكلاهما لا يصح هنا؛ لأن الشخص لا يجوز أن يملك نفسه، كما لا يجوز أن يبيع ماله من نفسه.
وأما كونه يصح على روايةٍ؛ فلأن عمر لما وقف قال: «لا بأسَ على من وليها أن يأكلَ منها أو يُطعمَ صَديقاً غير مُتَمَوِّلٍ فيه» (3)، وكان ذلك الوقف في يده إلى أن مات.
ولأنه إذا وقف وقفاً عاماً كالمساجد والسقايات كان له الانتفاع به. فكذا إذا خصّه بانتفاعه.
وظاهر كلام المصنف هنا: أن الصحيح عدمُ الصحة. وصرح به غيره من الأصحاب.
(1) أخرجه أحمد في مسنده (15195) 3: 387.
(2)
في هـ: والمنفعة.
(3)
سبق تخريجه ص: خطأ! الإشارة المرجعية غير معرّفة ..
وقال صاحب النهاية فيها: الأصح قولُنا يعني الصحة.
وقال المصنف في المغني بعد الحكم بالصحة: قال ابن عقيل: وهي أصح. ووجهه ما تقدم.
وقد روي عن عثمان رضي الله عنه «أنه لما وقفَ بئرَ رومة قال: دَلْوِي فيها كالدِّلاء» (1).
وأما كونه يصح استثناء الأكل مما وقفه على غيره مدة حياته؛ فلأن عمر رضي الله عنه شرطَ الأكلَ للوالي عليها والإطعام، وكان هو الوالي عليها (2).
قال: (الثالث: أن يقف على معين يَملك. ولا يصح على مجهول؛ كرجلٍ، ومسجد. ولا على حيوانٍ لا يَملك؛ كالعبدِ، والحملِ، والملكِ، والبهيمة).
أما كون الثالث من شروط صحة الوقف: أن يقف على معين يملك؛ فلأن الوقف تمليك. فلم يصح على غير معين لا يملك؛ كالهبة.
فإن قيل: فعلى قولنا: العبد يَملك هل يصح الوقف عليه؟
قيل: لا؛ لأنه لا يملك ملكاً لازماً، وكذا لو كان مكاتباً؛ لأن ملكه غير مستقر.
فإن قيل: لو وقف على المساجدِ جاز وهي لا تملك.
قيل: الوقف على المساجد مقصودٌ فيه أهلها وهم المسلمون؛ لأن النفع خاصٌ بهم. فالملكُ إذاً حاصل.
فإن قيل: فيجب أن يصح الوقف على الكنيسة، ويكون الوقف على أهل الذمة.
قيل: الجهة التي عُين صرف الوقف فيها ليست نفعاً بل هي محرّمة معصيةٌ يزدادُ الواقف (3) بها عقاباً. بخلاف المساجد.
(1) أخرجه الترمذي في جامعه (3703) 5: 627 كتاب المناقب، باب في مناقب عثمان بن عفان رضي الله عنه.
وأخرجه النسائي في سننه (3608) 6: 235 كتاب الأحباس، باب وقف المساجد.
(2)
سبق ذكر حديث عمر ص: خطأ! الإشارة المرجعية غير معرّفة ..
(3)
في هـ: الوقف.
قال: (الرابع: أن يقف ناجزاً. فإن علقه على شرطٍ لم يصح. إلا أن يقول: هو وقفٌ بعد موتي فيصح في قول الخرقي. وقال أبو الخطاب: لا يصح).
أما كون الرابع من شروط صحة الوقف: أن يقف ناجزاً؛ فلأنه نقلٌ للملك. أشبه البيع. والناجزُ كقولك: وقفتُ داري على كذا. ولا خلاف في صحته إذا اجتمعت فيه شروطه (1).
وأما المعلّق فله صورتان:
إحداهما: أن يقول: إذا جاء زيدٌ، أو رأسُ الشهر، أو ما أشبه ذلك: فداري وقفٌ. فهذا لا يصح؛ لأنه تعليق للوقف على شرطٍ، والوقفُ تمليكٌ، وتعليق التمليك على شرطٍ لا يصح.
والثانية: أن يقول: هو وقفٌ بعد موتي. وفيها وجهان:
أحدهما: يصح؛ لأن ذلك وصيةٌ. فصح؛ كالوصية لرجلٍ بدار.
والثاني: لا يصح؛ لما تقدم قبل.
وخرّج أبوالخطاب من كلام الخرقي صحة الوقف في المسألتين؛ لاستوائهما في التعليق.
وقال المصنف في المغني: والذي أراه أن كلام الخرقي على حقيقته في إجازة تعليقه بشرط الموت خاصةً دون غيره؛ لما تقدم من أن ذلك في معنى الوصية. وهذا مفقودٌ في غيره.
(1) في هـ: شروط.
فصل [في اشتراط القبول]
قال المصنف رحمه الله: (ولا يشترط القبول. إلا أن يكون على آدمي معين ففيه وجهان؛ أحدهما: يشترط ذلك. فإن لم يقبله أو ردّه بطل في حقه دون من بعدَه، وكان كما لو وقف على من لا يجوز ثم على من يجوز يُصرف في الحال إلى من بعده.
وفيه وجه آخر: أنه إن كان من لا يجوز يُعرف انقراضُه كرجلٍ معينٍ صُرفَ إلى مَصرفِ الوقف المنقطع إلى أن ينقرض ثم يُصرف إلى من بعده).
أما كون القبول في الوقف على غير آدميٍّ معينٍ؛ كالمساجد والقناطر وما أشبه ذلك لا يشترط؛ فلأن القبول لا يتصور في ذلك. فلو اشترط القبول لامتنع صحة الوقف فيه.
وأما كونه يشترط إذا كان على آدميٍّ معينٍ؛ كزيدٍ وعمروٍ وما أشبههما في وجه؛ فلأنه تبرع لآدمي معين. فاشترط فيه القبول؛ كالهبة والوصية.
وأما كونه لا يشترط في وجهٍ؛ فلأنه أحد أنواع الوقف. فلم يشترط فيه القبول؛ كالوقف على غير معين.
ولأنه إزالة ملكٍ لا يباع ولا يوهب. فلم يشترط فيه القبول؛ كالعتق.
واختلف قول الأصحاب في الصحيح من هذين الوجهين فقال صاحب النهاية في مختصره: يشترط على الأصح. ووجهه ما تقدم.
وظاهر كلام المصنف رحمه الله في المغني عدم اشتراط القبول؛ لأنه علل اشتراط القبول بما ذكر (1). ثم نقضه بالعتق.
وفرّق بين العتق والوصية من حيث: إن الوقف لا يختص بالمعين (2) بل يتعلق به حق من يأتي من البطون في المستقبل. وما ذكر من الفرق موجودٌ بعينه في الهبة، والأشبه أن يبنى ذلك على أن الملك هل ينتقل إلى الموقوف عليه أم لا؟
(1) في هـ: ذكره.
(2)
في هـ: بالعين.
فإن قيل: بالانتقال. قيل: باشتراط القبول، وإلا فلا؛ لأن الفرق بين المعين وغير المعين ظاهرٌ. لم يبق إلا تردد الشبه بين العتق وبين الوصية والهبة.
فعلى قولنا: ينتقل الملكُ إلى الموقوف عليه يكون الشبه حينئذٍ بالهبة والوصية أكثر من الشبه بالعتق لكون الملك ينتقل في الهبة والوصية إلى الموهوب له والموصى له. بخلاف العتق فإنه لا ينتقل إلى العبد. وإذا ثبت رجحان الشبه حينئذٍ ثبت اشتراط القبول؛ لأن العمل بالراجح متعين.
فإن قيل: فما الحكم في انتقال الملك؟
قيل: فيه روايتان سيأتي ذكرهما مفصلاً إن شاء الله؛ إلا أن المصنف رحمه الله صرح في المغني بأن ظاهر المذهب الانتقال.
فعلى هذا يترجح اشتراط القبول.
وفي قول المصنف رحمه الله: على آدميٍ معينٍ إشعارٌ بأنه لو وقف على آدميٍّ غير معينٍ؛ كالفقراء والفقهاء وما أشبه ذلك لم يشترط القبول. وهو صحيح؛ لأن القبول يكون من المستحق، وهو هاهنا غير معين. فلم يشترط فيه؛ كالمذكور قبل.
وأما كون الوقف يبطل في حق من لم يقبله على القول باشتراطه؛ فلأنه تمليكٌ لم يوجد شرطه. فبطل؛ كالهبة.
وأما كونه يبطل في حق من ردّه؛ فلأنه يبطل بعدم القبول لما ذكر قبل (1)، فلأن يبطل بالرد بطريق الأولى.
وظاهر كلام المصنف أن البطلان بالرد من فروع اشتراط القبول؛ لأنه عطفه على عدم القبول، وهو من فروعه.
فعلى هذا إذا قلنا: لا يشترط لم يبطل بردّه، وصرح به في المغني. ووجهه أن جانب الموقوف عليه (2) بالنسبة إلى القبول والرد غير ملحوظٍ. فردّهُ كعدمه.
وقال صاحب النهاية فيها: لا خلاف أنه يرتد بردّه؛ كالوكيل إذا ردّ الوكالة، وإن لم يشترط لها القبول.
(1) ساقط من هـ.
(2)
ساقط من هـ.
وأما كونه لا يبطل في حق من بعده؛ فلأن المُبطل وُجد من (1) الأول فاختص به.
ولأنه لا قبول في حق من بعده؛ لأن مقتضاه أن يُقارن الإيجابَ. وهو متعذرٌ فيمن بعده.
وأما كون ذلك إذا بطل في حق من لم يقبل أو ردّ؛ كما لو وقف على من لا يجوز الوقف عليه ثم على من يجوز؛ فلأنهما يشتركان في بطلان الوقف على الجهة الأولى. فوجب أن يشتركا في حكمه.
وأما كون الوقف على من لا يجوز ثم على من يجوز يُصرف في الحال إلى من بعده وجهاً واحداً إذا كان من لا يجوز (2) لا يعرف انقراضه كالمجهول؛ فلأن الواقف قصد صيرورةَ الوقفِ إليه في الجملة، ولا حالة يمكن انتظارها. فوجب الصرفُ إليه؛ لئلا يفوتَ غرضُ الواقف.
ولأن ذكر من لا يجوز الوقف عليه كعدمه. فوجب أن يُصرف إلى من يجوز؛ كما لو صرّح به.
وأما كونه يُصرف في الحال إلى من بعده إذا كان من لا يجوز يُعرف انقراضه كعبده وأم ولده على المذهب؛ فلأنه أحد نوعي الوقف. أشبه الذي قبله.
وأما كونه يُصرف مَصرف الوقف المنقطعِ -وسيأتي ذكره بعد- إلى أن ينقرض من لا يجوز الوقف عليه على وجهٍ؛ فلأن ذلك إحدى حالتي الانقطاع. أشبهت الأخرى. ثم يصرف إلى من يجوز الوقف عليه؛ لأنه مُرتبٌ عليه.
قال: (وإن وقف على جهةٍ تنقطع ولم يذكر له مآلاً، أو على من يجوز ثم على من لا يجوز، أو قال: وقفتُ وسكتَ: انصرف بعد انقراض من يجوز الوقف عليه إلى ورثةِ الواقفِ وقفاً عليهم في إحدى الروايتين. والأخرى إلى أقرب عصبته. وهل يختص به فقراؤهم؟ على وجهين. وقال القاضي في موضعٍ: يكون وقفاً على المساكين).
أما كون الوقف ينصرف في المواضع المذكورة بعد انقراض من يجوز الوقف
(1) في هـ: في.
(2)
سقط لفظي: لا يجوز من هـ.
عليه إلى ورثة الواقف على روايةٍ؛ فلأنهم هم الذين صرفَ الله إليهم ماله بعد موته واستغنائه عنه. فكذلك تُصرف إليهم صدقتُه التي لم يُعين لها مصرفاً.
وأما كونه ينصرف إلى أقرب عصبته على روايةٍ؛ فلأن أقرب عصبته خُص بالعقل عنه وبالميراث بالولاء. فكذلك بهذا.
فعلى هذا لا يدخل في ذلك الزوجات ولا البنات المنفردات ولا ولدُ الأم؛ لأنهم ليسوا بعصبةٍ. ولا من بعدَ من العصبة؛ لأنه ليس بأقرب.
وأما كون ذلك يختص به فقراؤهم على وجهٍ؛ فلأنهم أكمل. والظاهرُ أن الواقف يقصد ذلك.
وأما كونه لا يختص به فقراؤهم على وجهٍ؛ فلأنه مُسْتَحَقٌّ بالقرابة. فلم يختص به الفقراء؛ كسهم ذوي القربى.
وأما كونه وقفاً على المساكين على قول القاضي؛ فلأنهم هم المصرف غالباً. فكذا هاهنا.
وكلام المصنف رحمه الله مشعرٌ بأشياء:
أحدها: أن الوقف في الصور المذكورة صحيح. وتحقيق الكلام فيه: أن الوقف متصلٌ ومنقطع. فالمتصل: أن يقف على جهةٍ يجوز الوقف عليها كزيدٍ أو عمروٍ أو ما أشبه ذلك، ثم على جهةٍ لا يجوز انقراضها بحكم العادة كالمساكين والفقراء والعلماء وما أشبه ذلك، أو وقف ابتداءً على الجهة المذكورة (1). فهذا لا خلاف في صحته؛ لأنه متصلٌ، ويتناوله حديث عمر رضي الله عنه (2).
والمنقطع على أربعة أضرب:
أحدها: منقطعُ الابتداءِ والوسطِ والانتهاءِ؛ كالوقف على أم ولده ثم على رجلٍ. فهذا لا يصح؛ لأن الأول والثاني (3) لا يصح الوقف عليه، ولم يذكر مآلاً يرجع الوقف إليه.
فإن قيل: هلاّ صح وكان لورثته أو لأقرب عصبته؛ كما لو وقف على من
(1) في هـ: أو يقصد ابتداء الجهة المذكورة.
(2)
سبق ذكره ص: خطأ! الإشارة المرجعية غير معرّفة ..
(3)
ساقط من هـ.
يجوز الوقف عليه ولم يذكر له مآلاً؟
قيل: لأن الصحة فيما ذكر وُجدت في جهة من جهات الوقف، وسومح في ذكر المآل نظراً إلى كونه معلوماً بالعُرف. بخلاف هذه الصورة. فإنه لم يوجد فيها شيءٌ حكم بالصحة فيه.
وثانيها: منقطعُ الابتداء دون الانتهاء؛ كالوقف على من لا يجوز الوقف عليه ثم على المساكين. فهذا يصح؛ لأنه جمع في الوقف بين من لا يجوز وبين من يجوز. فصح؛ كما لو وقف على من يجوز ثم على من لا يجوز. ومصرفه ما تقدم ذكره.
وثالثها: منقطعُ الوسطِ؛ كالوقف على من يجوز الوقف عليه ثم على من لا يجوز ثم على المساكين. فهذا أيضاً يصح؛ لأنه إذا صح منقطع الأول فلأن يصح متصله بطريق الأولى. ومصرفه بعد موت من يجوز ما تقدم ذكره؛ لأن الوسط هنا كالأول هناك.
ورابعها: منقطعُ الانتهاء؛ كالوقف على من يجوز الوقف عليه كزيدٍ وعمروٍ وما أشبههما، ولم يذكر مآلاً، أو على من ذُكر ثم على جهةٍ يُعلم بحكم العادة انقراضها كبني فلان وليسوا بقبيلة. فهذا أيضاً يصح؛ لأنه وقفٌ معلومُ المصرِف في الجملة. فصح؛ كما لو كان متصل الانتهاء.
ولأن الإطلاق إذا كان له عرفٌ حمل عليه؛ كنقد البلد. وعُرْف المصرف هاهنا أولى الجهات به، وهم من ذكر. فكأنه عنى ذلك.
وثانيها: أن قوله: بعد انقراض من يجوز الوقف عليه يخرج الحكم المذكور فيما إذا قال: وقفتُ وسكتَ؛ لأنه ليس فيه من يجوز الوقف عليه حتى يُصرف بعد انقراضه إلى من تقدم ذكره. والحكم فيهما واحدٌ؛ لاشتراكهما في عدم تعيين جهة الصرف.
وثالثها: أن قوله بعد ذكر الورثة: وقفاً عليهم: يدل بمنطوقه على أنه إذا انصرف الوقف إلى الورثة يكون ذلك وقفاً، وبمفهومه على أنه إذا انصرف إلى أقرب العصبة لا يكون وقفاً؛ لأنه ذكر ذلك في إحدى الروايتين دون الأخرى.
قال المصنف في المغني بعد الحكم بالوقف للورثة: قال القاضي: ويكون وقفاً
عليهم. ثم قال: وظاهر كلام الخرقي خلافه؛ لأنه ترك ذكر الوقف هاهنا.
وقال في الرواية الأخرى: يكون وقفاً على أقرب العصبة. فتخصيصه إحدى الروايتين بذكر الوقف يدل على أنه لا يكون وقفاً على الأخرى. فإذاً الحاصل من كلام المصنف رحمه الله (1) هنا: تخصيص الورثة بكونه وقفاً عليهم، وفي المغني حاكياً عن الخرقي تخصيص العصبة بكونه وقفاً عليهم. فيخرج في المسألة فيها (2) وجهان:
أحدهما (3): يكون وقفاً؛ لأنه إنما صرف إليهم بوقف مالكه له، والوقف يقتضي التأبيد.
وثانيهما: لا يكون وقفاً؛ لأنهم صرف إليهم لكونهم أولى، وذلك لا يستلزم الوقف.
قال: (وإن قال: وقفتُه سنة لم يصح. ويحتمل أن يصح. ويصرف بعدها مصرف المنقطع).
أما كون وقف ما ذكر لا يصح على المذهب؛ فلأن ذلك ينافي التأبيد.
وأما كونه يحتمل أن يصح؛ فلأن غاية ما يُقَدَّر في ذلك أنه منقطع الانتهاء، وقد بيّنا صحته.
وأما كونه يُصرف بعد السنة مصرف المنقطع؛ فلأنه منقطع الانتهاء. فكان مصرفُه مصرفَه.
قال: (ولا يُشترط إخراج الوقف عن يده في إحدى الروايتين).
أما كون الوقف لا يشترط إخراجه عن يد الواقف في رواية؛ فلأن الوقف تبرعٌ يمنع البيع والهبة والميراث. فلزم بمجرده؛ كالعتق.
فعلى هذا إذا تلفّظ بالوقف بشرطه لزم وإن لم يُخرجه عن يده.
وأما كونه يشترط ذلك في روايةٍ؛ فلأنه تبرعٌ. فلم يلزم بمجرده؛ كالهبة والوصية.
(1) ساقط من هـ.
(2)
في هـ: فيهما.
(3)
ساقط من هـ.
والأولى أصح. قاله صاحب النهاية فيها وفي مختصره؛ لما تقدم. وفارق الهبة والوصية من حيث إنها تمليك. والوقف تحبيس الأصل وتمليك المنفعة. فكان بالعتق أشبه. فكان ملحقاً به.
فصل [في أحكام الموقوف عليه]
قال المصنف رحمه الله: (ويَملك الموقوفُ عليه الوقفَ. وعنه: لا يملكه. ويملك صوفَهُ، ولبنَهُ، وثمرتَهُ، ونفعَه).
أما كون الموقوف عليه يملك الوقف على المذهب؛ فلأن الوقف نقلٌ للملك. فملكه المنتقل إليه؛ كالهبة والوصية.
وأما كونه لا يملكه على روايةٍ؛ فلأنه إزالة ملكٍ عن العين والمنفعة، على وجهِ القربة (1). بتمليك المنفعة. فلم ينتقل إلى صاحب المنفعة؛ كالعتق.
ولأنه لو انتقل إليه؛ لافتقر إلى قبوله؛ كسائر الأملاك.
والأول أولى؛ لما ذكر.
ولأنه سببٌ لم يخرج به الملك عن الماليّة. فوجب أن ينتقل إليه؛ كالهبة والبيع. وفارق العتق من حيث إنه إخراج عن حكم الماليّة.
ولأنه لو كان تمليكاً للمنفعة المجردة لم يلزم؛ كالعارية والسكنى.
وكلام الإمام أحمد في الرواية الأخرى محمولٌ على أن الموقوف عليه لا يملك التصرف في الرقبة. جمعاً بين الروايتين.
فإن قيل: فعدم ملكه التصرف (2) فيها يدل على عدم ملكه لها.
قيل: لا يلزم من عدم التصرف في الرقبة عدم الملك. بدليل أم الولد. فإنه يملكها، ولا يملك التصرف في رقبتها.
وأما كونه يملك صوفه ولبنه؛ فلأنهما كثمرته وهو يملكها؛ لما يأتي.
وأما كونه يملك ثمرته؛ فلأن النبي صلى الله عليه وسلم قال لعمر: «إن شئتَ حَبَّستَ أصلَها وتصدّقتَ بثمرتها» (3).
وأما كونه يملك نفعه؛ فلأن ذلك من نمائه. فكان للموقوف عليه؛ كالثمرة.
(1) في هـ: والقربة.
(2)
ساقط من هـ.
(3)
سبق تخريجه ص: خطأ! الإشارة المرجعية غير معرّفة ..
ولأن المقصود من الوقف الانتفاع بمنافعه؛ لأن الرقبة لا يمكن الانتفاع ببيعها ولا هبتها ولا سائر ما يوجب نقل الملك فيها.
قال: (وليس له وطء الجارية. فإن فعل فلا حد عليه ولا مهر. وإن أتت بولدٍ فهو حرٌّ، وعليه قيمته يشترى بها ما يقوم مقامه، وتصير أم ولده تعتق بموته، وتجب قيمتها في تركته يشترى بها مثلها تكون وقفاً).
أما كون الموقوف عليه ليس له وطء الجارية الموقوفة؛ فلأنه لا يؤمن (1) حبلها. فتنقص قيمتُها وتتلف.
ولأن ملكه ناقص، والوطء لا يُباح معه.
وأما كونه لا حد عليه؛ فلأن شبهة الملك تَدرأ الحد. فكيف الملك نفسه.
وأما كونه لا مهر عليه؛ فلأنه لو وجب لوجب له، والإنسان لا يجب عليه شيء وجب لنفسه.
وأما كون الولد حراًّ؛ فلأنه من وطء شبهة.
وأما كون الواطئ عليه قيمتُه؛ فلأنه فوّت رقّه.
وأما كونه يشترى بالقيمة ما يقوم مقامه؛ فلأن القيمة بدلٌ عن الوقف. فوجب أن تردّ في مثله.
وأما كون الموطوءة تصير أم ولدٍ للواطئ؛ فلأنه أحبلها بِحُرٍّ في ملكه.
فإن قيل: إذا قلنا لا يملك الموقوفُ عليه الوقفَ هل تصير أم ولده؟
قيل: لا. صرح به المصنف في المغني. وعلله بأنه وطئ غير مملوكته.
وأما كونها تعتق بموته؛ فلأن هذا شأن أم الولد (2).
وأما كون قيمتها تجب في تركته؛ فلأنه أتلفها على من بعده من البطون.
وأما كونه يشترى بالقيمة مثل الموطوءة تكون وقفاً فلينجبر على البطن الثاني ما فاتهم.
قال: (وإن وطئها أجنبي بشبهةٍ فأتت بولدٍ: فالولد حرٌ، وعليه المهر لأهل
(1) في هـ: يؤمن من.
(2)
في هـ: ولد.
الوقف، وقيمة الولد. وإن أُتْلفت فعليه قيمتها يشترى بها مثلهما (1). ويحتمل أن يملك قيمة الولد هاهنا، ولا تلزمه قيمته إن أولدها).
أما كون الولد فيما ذكر حراًّ؛ فلأنه من وطءِ شبهة.
وأما كون الواطِئ عليه المهر لأهل الوقف؛ فلأنه عوض المنفعة، وهي مستحقة لأهل الوقف.
وأما كونه عليه قيمة الولد؛ فلأن رقِّه فات بسببٍ من جهته.
وأما كونه عليه قيمة الأم إذا أتلفت (2)؛ فلأنه إتلافٌ حصل في ملك الغير أو في مستحق الغير. فوجبت القيمة؛ كما لو أتلفت مملوكة لإنسان، أو أم ولده.
وأما كونه يشترى بقيمتها مثلهما على المذهب؛ فلما تقدم.
ولأنه أقرب إلى الوفاء بشرط الواقف.
وقوله: يشترى بهما: المراد قيمة الأم وقيمة الولد؛ لما ذكر.
وأما كونه يحتمل أن يملك الموقوف عليه قيمة الولد فيما ذكر هاهنا وأنه لا يلزمه قيمة الولد إن أولدها: أما الأول؛ فلأنه يملك النماء والولد من النماء. وأما الثاني؛ فلأن ما لا يملك قيمته لا تلزمه قيمته.
قال: (وله تزويج الجارية، وأخذ مهرها. وولدها وقف معها. ويحتمل أن يملكه).
أما كون الموقوف عليه له تزويج الجارية؛ فلأنه عقدٌ على منفعتها. فكان للموقوف عليه ذلك؛ كالإجارة.
وأما كونه له أخذ مهرها؛ فلأنه بدل المنفعة، وهو يستحق المنفعة.
وأما كون ولدها وقفاً معها على المذهب؛ فلأن ولد كل ذات رحم يثبت لها حرمةٌ حكمُه حكمها؛ كأمّ الولد والمكاتبة.
وأما كونه يحتمل أن يملكه؛ فلأنه من نمائها. أشبه بقيّة نمائها.
ولأن نسبة الولد إلى الوالدة كنسبة الثمرة إلى الشجرة، وهو يملك ثمرة الشجرة. فكذلك يملك ولد الموقوفة.
(1) في هـ: مثلها.
(2)
في هـ: تلفت.
قال: (وإن جنى الوقف خطأ فالأرش على الموقوف عليه. ويحتمل أن يكون في كسبه).
أما كون أرش جناية الوقف خطأ على الموقوف عليه على المذهب؛ فلأنه ملكه.
ولأنه لا يمكن تعلقها برقبته؛ لأنه لا يجوز بيعه. فيتعين أن يكون على الموقوف عليه.
وأما كونه يحتمل أن يكون في كسبه؛ فلأنه لما تعذر تعلقه برقبته لما ذكر وجب أن يتعلق بأقرب الأشياء بالرقبة، والكسب أقربها.
ولأن النكاح لما تعذر تعلق حقوقه برقبة الزوج تعلقت بكسبه. فكذلك هاهنا.
قال: (وإذا وقف على ثلاثة، ثم على المساكين: فمن مات منهم رجع نصيبه إلى الآخرين).
أما كون ما ذُكر يرجع إلى الآخرين؛ فلأنهما من الموقوف عليهم أولاً، وعودُه إلى المساكين مشروطٌ بانقراض الثلاثة؛ لأنه رتّبَ الاستحقاق بلفظ:"ثم" التي هي للترتيب. فيكون استحقاق المساكين متأخراً عن استحقاق الثلاثة.
وأما قوله: على ثلاثة فمن باب (1) التمثيل؛ لأن حكم الاثنين والأربعة ونحوهما كذلك.
(1) في هـ: مات.
فصل [في شرط الواقف]
قال المصنف رحمه الله: (ويُرجع إلى شرط الواقف في قسمه على الموقوف عليه، وفي التقديم والتأخير، والجمع والترتيب، والتسوية والتفضيل، وإخراج من شاء بصفة وإدخاله بصفة، وفي الناظر فيه، والإنفاق عليه، وسائر أحواله. فإن لم يشترط ناظراً فالنظر للموقوف عليه. وقيل: للحاكم، وينفق عليه من غلته).
أما كونه يُرجع إلى شرط الواقف في جميع ما تقدم ذكره؛ فلأن الوقف متلقىً من جهته. فاتبع شرطه.
ولأن عمر وقف وشرط فيه شروطاً (1)، ولو لم يجب اتباع الشرط لم يكن في اشتراطه فائدة.
فعلى هذا: معنى القسمة أن يقول: لزيدٍ كذا ولعمروٍ كذا (3).
ومعنى التقديم: أن يَقف على أولاده مثلاً، ويقول: يقدم الأفقه منهم، أو الأدين، أو ما أشبه ذلك.
ومعنى التأخير أن يقول: لولد بني فلان كذا بعد أخذ ولدي (4) فلان كذا.
ومعنى الجمع: أن يقف على أولاده وأولاد أولاده ونسله وعقبه.
ومعنى الترتيب: أن يجعل استحقاق بطن مرتباً على غيره وله ألفاظ:
أحدها: أن يقف على أولاده ثم أولادهم ثم أولاد أولادهم.
(1) سبق ذكر حديث عمر ص: خطأ! الإشارة المرجعية غير معرّفة ..
(2)
علقه البخاري في صحيحه 3: 1021 كتاب الوصايا، باب إذا وقف أرضاً أو بئراً واشترط لنفسه مثل دلاء المسلمين.
وأخرجه الدارمي في سننه (3295) 2: 289 كتاب الوصايا، باب في الوقف.
(3)
في هـ: كذا وكذا.
(4)
ساقط من هـ.
الثاني: أن يقف على أولاده وإن نزلوا: الأعلى فالأعلى، أو الأقرب فالأقرب، أو الأول فالأول.
الثالث: أن يقف على أولاده. فإذا انقرضوا فعلى أولاد أولاده.
ومعنى التسوية: أن يقف على أولاده بينهم بالسوية.
ومعنى التفضيل أن يقول: للواحد الثلث وللآخر الثلثان.
ومعنى إخراج من شاء بصفة وإدخاله بصفة ما تقدم من قصة ابن الزبير في بناته (1) ونحوه.
ومعنى الناظر أن يقول: فلان الناظرُ. فإن مات ففلان.
ومعنى الإنفاق أن يقول: يعمّر الوقف من المكان الفلاني أو من الكل.
وأما كون النظر للموقوف عليه على المذهب إذا لم يشترط ناظراً؛ فلأن الريع له، والرقبة: على الصحيح.
وأما كونه للحاكم على قولٍ؛ فلأن له النظر بالولاية العامة. فحيث لم يصرح الواقف بناظرٍ يجب أن يدخل تحت ولايته العامة.
ولا بد أن يُلحظ في الخلاف المذكور كون الموقوف عليه معيناً. فإن كان غير معين كالفقراء ونحو ذلك كان النظر للحاكم (2) بلا خلاف؛ لأن ما تقدم من العلة في كون النظر للموقوف عليه موجود في الموقوف عليه المعين مفقودة في الموقوف عليه غير المعين.
وأما كونه يُنفق عليه من غلته؛ فلأن في الإنفاق عليه إبقاءً له، ولا جهة له أولى من ريعه.
ولأن العرف يقتضي ذلك. فيكون مُراداً عرفاً.
ولا بد أن يلحظ في هذا القول أن الواقف لم يعين جهة الإنفاق في الوقف. جمعاً بينه وبين ما تقدم.
(1) سبق ذكره قريباً.
(2)
ساقط من أ.
قال: (وإن وقف على ولده، ثم على المساكين: فهو لولده الذكور والإناث بالسوية. ولا يدخل فيه ولد البنات. وهل يدخل ولد البنين؟ على روايتين).
أما كون الوقف المذكور للذكور والإناث؛ فلأن اللفظ يشمل الكل.
وأما كونه بالسوية بينهم؛ فلأنه أضافه إليهم إضافة على السواء. فكان بينهم على السوية؛ كما لو وهب لهم شيئاً أو وصّى لهم بشيء أو أقرّ لهم به.
ولأن الله تعالى لما شرّك بين ولد الأم في الميراث (1) كانوا فيه على السواء. فكذا هاهنا.
وأما كونه لا يدخل فيه ولد البنات؛ فلأنه لا ينسب إليه.
وأما كونه يدخل ولد البنين على روايةٍ؛ فلأن ولد الابن ينتسب إليه ويدخل في الإطلاق؛ لأن الله تعالى لما قال: {يوصيكم الله في أولادكم} [النساء: 11] دخل فيه ولد الابن.
وأما كونه لا يدخل على روايةٍ؛ فلأن ولد الابن لا يُسمى ولداً حقيقة بل مجازاً، وآية الميراث دلت قرينةٌ على إرادةِ الولد وإن سفل. فحمل اللفظ على مجازه لا على حقيقته.
قال: (وإن وقف على عقبه، أو ولد ولده، أو ذريته: دخل فيه ولد البنين. ونقل عنه: لا يدخل فيه ولد البنات. ونقل عنه في الوصية: يدخلون فيه، وذهب إليه بعض أصحابنا وهذا مثله. وقال أبو بكر وابن حامد: يدخلون في الوقف إلا أن يقول: على ولد ولدي لصلبي فلا يدخلون).
أما كون ولد البنين يدخل في ذلك؛ فلأنه ولد ولده حقيقة وانتساباً. فدخل في ذلك.
وأما كون ولد البنات لا يدخل على المذهب؛ فلأنه لا ينتسب إليه. قال الشاعر:
بَنونا بنو أبنائنا، وبناتُنا
…
بنوهنّ أبناء الرجال الأباعدِ
ولأن الله تعالى لما قال: {يوصيكم الله في أولادكم} [النساء: 11] لم يدخل فيه
(1) وذلك في قوله تعالى: {وإن كان رجلٌ يورث كلالة أو امرأةٌ
…
إلخ} [النساء: 12].
ولد البنات، وكذا قوله:{ولأبويه لكل واحد منهما السدس مما ترك إن كان له ولد} (1)[النساء: 11]. ولذلك لا تحجب الأم ولد البنت (2).
فإن قيل: الكلام في شمول ولد الولد لذلك لا في شمول الولد له.
قيل: المراد من الآية الولد وولد الولد وإن سفل. بدليل دخول ولد الابن بالاتفاق فكأنه قال: يوصيكم الله في أولادكم وأولاد أولادكم. وهلمّ جرّا.
وأما كونه يدخل على قول بعض أصحابنا؛ فلأن أحمد نص عليه في الوصية. وحكم الوقف والوصية واحد. والحجة فيه أن الله تعالى قال: {ونوحاً هدينا من قبلُ ومن ذريته داود وسليمان} إلى قوله: {وعيسى} [الأنعام: 84 - 85] وهو ابن ابنته.
وقال النبي صلى الله عليه وسلم عن الحسن: «إن ابني هذا سيد» (3)، وكان ابن ابنته.
ولأن ولد البنت يدخل في التحريم الدال عليه: {حُرِّمت عليكم أمهاتُكم وبناتُكم} [النساء: 23].
وأما كونه يدخل إذا لم يقل: على ولد ولدي لصلبي على قول أبي بكر؛ فلما تقدم من الأدلة.
وأما كونه لا يدخل إذا قال ذلك على قوله؛ فلأنه ليس من صلبه.
وسوّى المصنف رحمه الله هنا بين قول ابن حامدٍ وبين قول أبي بكر.
وقال في المغني: قال ابن حامد: يدخل فيه ولد البنات. ثم قال: وقال أبو بكر: إن قال: لصلبي لم يدخل، وإلا دخل.
قال: (وإن وقف على بنيه، أو بني فلان: فهو للذكور خاصة. إلا أن يكونوا قبيلة فيدخل فيه النساء دون أولادهن من غيرهم).
أما كون الوقف للذكور خاصة إذا لم يكن بنو فلان قبيلة؛ فلأن "بني" وضع لذلك حقيقة قال الله تعالى: {أَصْطَفى البناتِ على البنين} [الصافات: 153]، وقال تعالى:{أَمِ اتخذ مما يخلقُ بناتٍ وأصفاكم بالبنين} [الزخرف: 16]، وقال: {زُيِّنَ للناس
(1) في أ: فإن كان له ولد فلأمه السدس.
(2)
في هـ: تحجب الأم عن الثلث ولد البنت.
(3)
أخرجه البخاري في صحيحه (2557) 2: 962 كتاب الصلح، باب قول النبي صلى الله عليه وسلم للحسن بن علي رضي الله عنهما: «ابني هذا سيد
…
».
حبُّ الشهوات من النساء والبنين} [آل عمران: 14]، وقال:{المالُ والبنونَ زينةُ الحياة الدنيا} [الكهف: 46].
وقد أخبر في موضع آخر أنهم لا يشتهون البنات بقوله: {ويجعلون لله البنات سبحانه ولهم ما يشتهون? وإذا بشر أحدهم بالأنثى ظل وجهه مُسْوَداًّ وهو كظيم} [النحل: 57 - 58].
وأما كونه يدخل فيه النساء إذا كانوا قبيلة؛ فلأنه يقال: جاريةٌ من بني هاشم، وامرأةٌ من بني بكر. ولذلك لما قال الله:{يا بني آدم} [الأعراف: 26]، ولما قال:{ولقد كرمنا بني آدم} [الإسراء: 70]: دخل فيه الذكر والأنثى.
وأما كونه لا يدخل فيه أولاد النساء من قبيلةٍ غير القبيلة المذكورة؛ فلأنهم (1) لا ينتسبون إلى القبيلة الموقوف عليها بل إلى غيرها فلم يدخل في مسمى الوقف عليها.
قال: (وإن وقف على قرابته، أو على قرابة فلان: فهو للذكر والأنثى من أولاده وأولاد أبيه وجده وجد أبيه؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم لم يجاوز بني هاشمٍ بسهم ذوي القربى. وعنه: إن كان يصلُ قرابته من قبل أمه في حياته صُرف إليهم، وإلا فلا).
أما كون الوقف المذكور للذكر والأنثى من أولاد من ذُكر على المذهب؛ فلما علل المصنف. رُوي «أن الله تعالى لما أنزل: {ما أفاء الله على رسوله من أهل القرى فلله وللرسول ولذي القربى} [الحشر: 7]-يعني قربى النبي صلى الله عليه وسلم أعطى النبيُّ صلى الله عليه وسلم قرابته إلى بني هاشمٍ. لم يجاوزهم. ولم يعط من هو أبعد منهم؛ كبني عبد شمسٍ وبني نوفلٍ، ولا قرابته من جهة أمه وهم بنو زهرة» (2). فيجب حمل مطلق كلام
(1) في أ: فلأنه.
(2)
أخرجه أبو داود في سننه (2980) 3: 146 كتاب الخراج، باب في بيان مواضع قسم الخمس وسهم ذي القربى. ولفظه عن جبير بن مطعم قال:«لما كان يوم خيبر وضع رسول الله صلى الله عليه وسلم سهم ذي القربى في بني هاشم وبني المطلب، وترك بني نوفل وبني عبد شمس، فانطلقت أنا وعثمان بن عفان حتى أتينا النبي صلى الله عليه وسلم فقلنا: يا رسول الله! هؤلاء بنو هاشم لا ننكر فضلهم للموضع الذي وضعك الله به منهم فما بال إخواننا بني المطلب أعطيتهم وتركتنا، وقرابتنا واحدة؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: أنا وبنو المطلب لا نفترق في جاهلية ولا إسلام، وإنما نحن وهم شيء واحد. وشبك بين أصابعه» .
وأخرجه النسائي في سننه (4137) 7: 130 كتاب قسم الفيء. نحوه.
الموصي على المطلق من كلام الله، ويجب تفسيره بما فسره به.
فإن قيل: أعطى بني المطلب وهم كبني عبد شمس.
قيل: قد علل إعطاءهم بأنهم لم يفارقوا بني هاشمٍ في جاهليةٍ ولا إسلام.
وأما كونه يُصرف إلى قرابة الأم (1) وهم أقرباؤه من جهة أمه إن كان يصلهم في حياته، وإلا فلا على روايةٍ؛ فلأن عطيتهم في حياته قرينةٌ دالةٌ على إرادتهم بالعطية؛ لما تقدم.
والأول أصح؛ لما تقدم من فعل النبي صلى الله عليه وسلم.
ولأنهم (2) لا يجوز إعطاؤهم إذا لم يكن يصلهم في حال حياته. فكذلك إذا كان يصلهم.
ويمكن أن يجعل إعطاؤهم في حال حياته دليلاً على عدم دخولهم؛ لأنه لو أراد مساواة الحي بالميت لصرح بدخولهم.
قال: (وأهل بيته بمنزلة قرابته. وقال الخرقي: يُعطى من قبل أبيه وأمه).
أما كون أهل بيته بمنزلة قرابته على المذهب؛ فلأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «لا تحلُ الصدقةَ لي ولا لأهلِ بيتي» (3)، وفي حديث زيد بن أرقم:«أُذَكِّرُكُمُ الله في أهلِ بيتي. قال: قلنا: منْ أهلُ بيته؟ نساؤه. قال: لا. أصله وعشيرتهُ الذين حرموا الصدقة بعدَه: آلُ علي، وآلُ العباس، وآلُ جعفر، وآلُ عقيل» (4).
وأما كونه يُعطى من قبل أبيه وأمه على قول الخرقي؛ فلأنه من أهل بيته.
قال: (وقومه ونسباؤه كقرابته. والعترة هم: العشيرة. وذووا رحمه: كل قرابةٍ له من جهة الآباء والأمهات).
أما كون قومه ونسبائه كقرابته؛ فلأنهما سواء معنى. فكذا يجب أن يكون
(1) في هـ: الأهم.
(2)
في هـ: ولأنه.
(3)
أخرجه أحمد في مسنده (17699) 4: 186.
(4)
أخرجه مسلم في صحيحه (2408) 4: 1873 كتاب فضائل الصحابة، باب من فضائل علي بن أبي طالب رضي الله عنه.
حكماً.
وأما كون العترة هم العشيرة؛ فلأن ابن قتيبة قال ذلك. ويروى عن أبي بكر أنه قال: «نحن عترة النبي صلى الله عليه وسلم» (1).
وأما كون ذوي رحمه كل قرابة له من جهة الآباء والأمهات؛ فلأن الرحم يشملهما وهي في القرابة من جهة الأم أكثر استعمالاً. فإذا لم يجعل ذلك مرجحاً فلا أقل من أن لا يجعل مانعاً.
قال: (والأيامى والعزاب: من لا زوج له من الرجال والنساء. ويحتمل أن يختص الأيامى بالنساء، والعزاب بالرجال).
أما كون الأيامى من لا زوج له من الرجال والنساء على المذهب: أما من الرجال؛ فلأن الشاعر قال:
فإن تنكحي أنكح، وإن تتأيمي
…
وإن كنت أفتى منكم أتأيم
وأما من النساء فظاهر؛ لأنه يختص بهن على قول. فلأن يدخلْنَ فيه بطريق الأولى. قال الله تعالى: {وأنكحوا الأيامى} [النور: 32]. والمراد النساء ممن ذكر، وفي الحديث:«أعوذ بالله من بوار الأيم» .
وأما كون العزاب من لا زوج له من الرجال والنساء على المذهب؛ فلأنه يقال: رجل عزب، وامرأة عزبة.
ولأن الرجل إنما سمي عزباً؛ لانفراده وهذا موجودٌ في المرأة.
وأما كونه يحتمل أن يختص الأيامى بالنساء، والعزاب بالرجال؛ فلأن ذلك هو المتبادر إلى الفهم عُرفاً. فوجب حمل اللفظ عليه.
قال: (فأما الأرامل فهن النساء اللاتي فارقهن أزواجهن. وقيل: هو للرجال والنساء).
أما كون الأرامل هن النساء اللاتي فارقهن أزواجهن على المذهب؛ فلأن هذا الاسم لا يفهم منه في العُرف إلا ذلك.
وأما كون ذلك للرجال وللنساء على قولٍ؛ فلأن الشاعر قال:
هذي الأرامل قد قَضَّيْتَ حاجتها
…
فمن لحاجة هذا الأرمل الذكر
والأول أولى؛ للعرف.
(1) أخرجه البيهقي في السنن الكبرى 6: 166 كتاب الوقف، باب الصدقة في العترة.
ولأن الأرامل جمع أرملة. فلا يكون جمعاً للذكر؛ لأن اختلاف (1) المفرد يقتضي اختلاف الجمع. والشِّعْرُ المذكور لا حجة فيه؛ لأنه لو شمل لفظ الأرامل الذكر والأنثى لقال: حاجتهم؛ لأن تذكير الضمير عند اجتماع المذكر والمؤنث لازم.
فإن قيل: لم سمى نفسه أرملاً؟
قيل: تجوُّزاً. ولهذا وصف نفسه بأنه ذَكَر.
قال: (وإن وقف على أهل قريته، أو قرابته: لم يدخل فيهم من يخالف دينه. وفيه وجه آخر: أن المسلم يدخل وإن كان الواقف كافراً).
أما كون من يخالف دينُه دينَ الواقف لا يدخل في الوقف المذكور مسلماً كان أو كافراً على المذهب؛ فلأن الظاهر من حال الموصي أنه لم يرد من يخالف دينه لما بينهما من المنافاة. فيكون ذلك قرينة صارفة للفظ عن عمومه.
ولأن الله تعالى لما أطلق آية الميراث، والأمر بإعطاء ذي القربى: لم يدخل فيهم الكفار. فكذلك هذا.
وأما كون المسلم يدخل في ذلك وإن كان الواقف كافراً على وجهٍ؛ فلأن عموم اللفظ يدل على ذلك. والأولى جعل الوقف لهم فلا يُصرف الوقف عن الأولى مع اقتضاء اللفظ له. بخلاف الذمي.
والأول أولى؛ لأن المانع من دخول الكافر في وقف المسلم القرينة المذكورة، وهي موجودة إذا كان الواقف مسلماً وفي أهل قريته وقرابته كافر. فوجب استواؤهما في المنع.
قال: (وإن وقف على مواليه، وله موال من فوق ومن أسفل: تناول جميعهم. وقال ابن حامد: يختص الموالي من فوق).
أما (2) كون ما ذكر يتناول الجميع على المذهب؛ فلأن الاسم يتناول الجميع حقيقة وعُرفاً. فدخل الجميع في ذلك؛ كما لو وقف على إخوته، وله إخوة لأبوين وإخوة لأب.
ولأنه لو حلف: لا كلمتُ مواليّ حنث بكلام أيهم كان. فكذا هاهنا.
وأما كونه يختص الموالي من فوق على قول ابن حامد؛ فلأنه أقوى جَنَبَةً.
(1) في هـ: الاختلاف.
(2)
في هـ: وأما.
بدليل ثبوت الميراث لهم.
قال: (وإذا وقف على جماعةٍ يمكن حصرهم واستيعابهم وجب تعميمهم والتسوية بينهم، وإلا جاز تفضيل بعضهم على بعض والاقتصار على واحدٍ منهم. ويحتمل أن لا يجزئه أقل من ثلاثة).
أما كونه يجب التعميم والتسوية فيما إذا وقف على جماعة يمكن حصرهم واستيعابهم كبني فلان الذين ليسوا قبيلة؛ فلأن اللفظ يقتضي ذلك ولا مانع منه. فوجب أن يكون الأمر كذلك؛ كما لو أقرّ لهم بشيء أو وهبهم شيئاً.
وأما كونه يجوز تفضيل بعضهم على بعض إذا لم يكن فيهم ذلك كالفقراء والمساكين وبني هاشم ويني تميم وما أشبه ذلك؛ فلأن الملحوظ في مثل ذلك الجنس لا كل فرد.
وأما كونه يجوز الاقتصار على واحدٍ منهم على المذهب؛ فلأن مقصود الواقف أن لا يتجاوز الجنس، وذلك يحصل بالدفع إلى واحدٍ منهم.
وأما كونه يحتمل أن لا يجزئه أقل من ثلاثة؛ فلأنها أقل الجمع.
وحكى المصنف في المغني أن الأول قياس المذهب، والثاني رواية عن أحمد.
قال: (ولا يُدفع إلى واحدٍ أكثرُ من القدر الذي يُدفع إليه من الزكاة إذا كان الوقف على صنفٍ من أصناف الزكاة. والوصية كالوقف في هذا الفصل).
أما كونه لا يُدفع إلى صنفٍ من أصناف الزكاة أكثرُ من القدر الذي يُدفع إليه من الزكاة إذا كان الوقف على ذلك كالفقراء والمساكين، أو بقية الأصناف المذكورة في باب الزكاة؛ فلأن مطلق كلام الآدمي محمول على مطلق كلام الله تعالى.
فعلى هذا إن كان الموقوف عليه الفقراء لم يدفع إلى واحدٍ منهم زيادةٌ على خسمين درهماً؛ لأنه لا يعطى أكثر من ذلك من الزكاة على ظاهر المذهب، وإن كان غارماً أو مكاتباً لم يُعطَ أكثر من غرمه وكتابته؛ لأنه لا يعطى أكثر من ذلك في الزكاة.
وأما كون الوصية كالوقف في هذا الفصل؛ فلأنها تساويه معنى. فوجب أن تساويه حكماً.
فصل [الوقف عقد لازم]
قال المصنف رحمه الله: (والوقف عقدٌ لازم. لا يجوز فسخه بإقالةٍ ولا غيرها. ولا يجوز بيعه إلا أن تتعطل منافعه فيباع ويصرف ثمنه في مثله).
أما كون الوقف عقداً لازماً؛ فلأن جوازه ينافي مقتضاه؛ لأن مقتضاه التأبيد، وذلك لا يقبل الزوال.
وأما كونه لا يجوز فسخه بإقالةٍ ولا غيرها؛ فلأن ذلك شأن العقود اللازمة المقتضية للتأبيد.
وأما كونه لا يجوز بيعه إذا لم تتعطل منافعه؛ فلأن النبي صلى الله عليه وسلم قال لعمر: «إن شئتَ حَبَّستَ أصلَها وسبّلتَ ثمرتها. غيرَ أنه لا يباعُ أصلُها ولا يوهبُ ولا يورث» (1).
وأما كونه يباع إذا تعطلت منافعه؛ كدارٍ انهدمت، أو أرض خربت وعادت مَوَاتاً ولم يمكن عمارتها؛ فلما روي عن عمر «أنه كتبَ إلى سعد لما بلغه أنه قد نقبَ بيت المال بالكوفة: أن انقل المسجد الذي بالتمَّارين واجعل بيت المال في قبلة المسجد. فإنه لن يزال في المسجد مصل». وكان هذا بمشهد من الصحابة، ولم يُظهر أحدٌ خلافه. فكان إجماعاً.
ولأن في بيعه استبقاءَ الوقف بمعناه عند تعذر إبقائه بصورته؛ كما لو استولد الموقوف عليه الجارية الموقوفة أو قتلها.
ولأن الجمود على العين مع تعطيلها تضييع للغرض.
ولأن الهدي لو عطب ذُبح في الحال، وإن كان يختص بموضع دون موضع؛ لأنه لما لم يكن استبقاء المنفعة بالكلية استوفي منها ما أمكن. فكذا هاهنا.
وأما كونه يُصرف ثمنه في مثله؛ فلأنه أقرب إلى غرض الواقف. وظاهر قول المصنف رحمه الله: في مثله يقتضي أن ذلك متعين.
وقال في المغني: ظاهر كلام الخرقي لو صرف في غير جنسه جاز؛ لأن
(1) سبق تخريجه ص: خطأ! الإشارة المرجعية غير معرّفة ..
المقصود المنفعة لا الجنس.
قال: (وكذلك الفرس الحبيس إذا لم يصلح للغزو بيع واشتري بثمنه ما يصلح للجهاد).
أما كون الفرس الحبيس إذا لم يصلح للغزو؛ مثل: أن يتحطم بحيث لا يصلح للقتال؛ كالوقف إذا تعلطت منفعته في كونه يباع؛ فلأنه مثله معنى. فكذا يجب أن يكون حكماً.
وأما كونه يُشترى بثمنه ما يصلح للجهاد؛ فلأجل المحافظة على غرض الواقف.
قال: (وكذلك المسجد إذا لم يُنتفع به في موضعه. وعنه: لا تباع المساجد. لكن تنقل آلتها إلى مسجد آخر. ويجوز بيع بعض آلته وصرفها في عمارته).
أما كون المسجد المذكور كالوقف المتقدم ذكره في جواز البيع على المذهب؛ فلما تقدم ذكره فيه.
وأما كونه لا يجوز بيعه في رواية؛ فلأن المسجد آكد من غيره. بدليل جواز وضع الخشب على غيره دونه.
فعلى هذا ينقل آلته إلى مسجدٍ آخر؛ لما فيه من النفع العائد إلى الوقف. ويباع بعض آلته؛ لأجل عمارة ذلك.
قال: (وما فضل من حصره وزيته عن حاجته جاز صرفه إلى مسجد آخر والصدقة به على فقراء المسلمين).
أما كون ما فضل مما ذكر يجوز صرفه إلى مسجدٍ آخر؛ فلأنه انتفاع في جنس ما وقف له. فكان صرفاً له في مثله.
ولأن ذلك يجري مجرى الهدي إذا عطب قبل مَحِلِّه، والهدي يفعل به ذلك. فكذا هذا.
وأما كونه يتصدق بذلك على فقراء المسلمين؛ فلأن نفع المسجد عامٌ، ونفع الفقراء كذلك.
وقال أبو الخطاب: على فقراء جيرانه؛ لأنهم أحق بمعروفه.
قال: (ولا يجوز غرس شجرة في المسجد. فإن كانت مغروسة فيه جاز الأكل منها. قال أبو الخطاب: إذا لم يكن (1) بالمسجد حاجة إلى ثمنها. فإن احتاج صرف ذلك في عمارته).
أما كونه لا يجوز غرس شجرة في المسجد؛ فلأنه تصرف بغير إذن الواقف وشرطه.
وأما كونه يجوز الأكل منها إذا كانت مغروسة فيه؛ فلأن الشجرة تبعٌ للمسجد. فكما يجوز لكل أحد الانتفاع به. فكذلك له الأكل من الشجرة التي فيه.
وأما كونه لا يجوز الأكل إذا كان المسجد محتاجاً إلى ثمنها؛ فلأن حاجة المسجد مقدمة على غيره.
فعلى هذا يصرف ثمنها في عمارته؛ لأنها مقدمة على غيرها.
فإن قيل: قول المصنف رحمه الله: قال أبو الخطاب للتنبيه على الخلاف أو على تقييد ما أَطلق قبلُ.
قيل: ظاهره التقييد لا الخلاف؛ لأنه ذكره بغير واو.
ولأن المسجد إذا كان محتاجاً لا وجه لجواز الأكل، ولذلك (2) قال بعض أصحابنا: إنما جاز الأكل؛ لأن الجيران عادتهم عمارة المسجد؛ فإذا لم يفعلوا ذلك تعين صرف ثمن ما فيه من الشجرة في عمارته.
(1) ساقط من هـ.
(2)
في هـ: وكذلك.