الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
باب الهبة والعطية
الهبة والعطية والصدقة والهدية معانيها متقاربة. وقد يقوم بعضها مقام بعضٍ. إلا أن الأغلب أن من قَصد بعطائه التقرب سمي صدقة، ومن قصد المحبة سمي هدية. والهبة والعطية تشمل الكل. وكل ذلك مندوبٌ إلى فعله؛ لما فيه من التوسعة على الغير. وقد حثّ الله سبحانه وتعالى على ذلك في مواضع من كتابه:
- منها: قوله تعالى: {وآتى المال على حبه ذوي القربى واليتامى والمساكين} [البقرة: 177].
- ومنها قوله تعالى: {إن تُبدو الصدقات فَنِعِمَّا هي وإن تُخفوها وتؤتوها الفقراء فهو خير لكم} [البقرة: 271].
- ومنها (1) قوله تعالى: {ويطعمون الطعام على حُبِّه مسكيناً ويتيماً وأسيراً} [الإنسان: 8].
وفي الحديث: «من أطعمَ مُؤمناً طَعاماً أطعمهُ اللهُ من ثمارِ الجنة، ومن سقاهُ ماءً على ظَمأٍ سقاهُ اللهُ من الرحيقِ المختومِ، ومن كسَا عُرياناً كساهُ الله من خُضْرِ الجنة» (2). رواه بنحوه أبو داود والترمذي.
وقال: «تهادوا تحابوا» (3).
وفي السنة من ذلك كثيرٌ لا يكاد يحصى. قال المصنف رحمه الله: (وهي: تمليكٌ في حياته بغير عوض. فإن شَرط فيها عوضاً معلوماً صارت بيعاً. وعنه: يغلب فيها حكم الهبة. وإن شرط ثواباً
(1) في هـ: منها.
(2)
أخرجه أبو داود في سننه (1682) 2: 129 كتاب الزكاة، باب في فضل سقي الماء.
وأخرجه الترمذي في جامعه (2449) 4: 633 كتاب صفة القيامة.
(3)
أخرجه مالك في موطئه (16) 2: 693 كتاب حسن الخلق، باب ما جاء في المهاجرة. عن عطاء بن أبي مسلم الخراساني.
وأخرجه البيهقي في السنن الكبرى 6: 169 كتاب الهبات، باب التحريض على الهبة والهدية صلة بين الناس، عن أبي هريرة.
مجهولاً لم يصح. وعنه أنه قال: يرضيه بشيء.
فعلى هذا إن لم يرض فله الرجوع فيها، أو في عوضها إن كانت تالفة).
أما قول المصنف رحمه الله: "وهي تمليكٌ في حياته بغير عوضٍ"؛ فبيان لمعنى الهبة والعطية؛ لأنهما هما المذكوران قبل.
وقوله: "تمليك" يخرج ما ليس بتمليك؛ كالعارية. فإنها إباحة.
وقوله: "في حياته" يخرج الوصية؛ لأنها تمليكٌ بعد الموت.
وقوله: "بغير عوض" يخرج عقود المعاوضات؛ كالبيع والإجارة ونحوهما.
وأما كون الهبة تصير بيعاً إذا شَرط فيها عوضاً معلوماً على المذهب؛ فلأنها تمليكٌ بعوضٍ معلوم. فكانت بيعاً؛ كما لو قال: ملكتكَ هذا بدرهم.
وأما كونها يغلب فيها حكم الهبة على روايةٍ؛ فلأنه وجد لفظها الصريح. فكان المغلب فيها الهبة؛ كما لو لم يشرط عوضاً.
وفائدة هذا الخلاف أنه إذا قيل: أنها بيعٌ ثبت فيها ضمان الدرك والخيار والشفعة وسائر أحكام البيع. وإذا قيل: أنها هبةٌ يغلب فيها حكم الهبة، لا يثبت فيها الأحكام المختصة بالبيع.
وأما كونها لا تصح إذا شرط فيها ثواباً مجهولاً على المذهب؛ فلأن الجهالة في عقود المعاملات يفسدها، وهي موجودة (1) هاهنا.
وأما كونه يرضيه بشيء على رواية؛ فلأن شرط الثواب ينفي التمليك بلا شيء، وروى أبو هريرة «أن أعرابياً وهبَ للنبي صلى الله عليه وسلم ناقةً. فأعطاهُ ثلاثاً فأبى. فزادَهُ ثلاثاً فأبى. فزادَهُ ثلاثاً فلما كملت تسعاً قال: رضيت. فقال النبي صلى الله عليه وسلم: لقد هَمَمْتُ أن لا أتّهِبَ إلا من قُرشِي أو أنْصَارِي أو ثَقَفِي أو دَوْسِي» (2). وظاهر هذه الرواية أن الهبة المشروط فيها العوض المجهول تصح.
قال المصنف في المغني: ظاهر كلام أحمد رضي الله عنه أنها تصح؛ لأنها عقدٌ، تصح بغير عوض. فلأن تصح بعوضٍ مجهولٍ بطريق الأولى.
وأما كون الواهب على هذه الرواية إن لم يرض فله الرجوع فيها؛ فلأنه يروى
(1) في هـ: موجود.
(2)
أخرجه أحمد في مسنده (2687) 1: 295.
عن عمر أنه قال: «من وهبَ هبةً أراد بها الثواب فهو على هبتهِ يرجعُ فيها إذا لم يرضَ منها» (1).
وأما كونه له الرجوع في عوضها إن كانت تالفة؛ فلأن كل عينٍ يجب ردّها إذا كانت باقية يجب ردّ عوضها إذا كانت تالفة.
قال: (وتحصل الهبة بما يتعارفه الناس هبة من الإيجاب والقبول والمعاطاة المقترنة بما يدل عليها، وتلزم بالقبض. وعنه: تلزم في غير المكيل والموزون بمجرد الهبة).
أما كون الهبة تحصل بما ذكر المصنف رحمه الله؛ فلأن الهبة تمليكٌ. فتجب بالإيجاب والقبول والمعاطاة؛ كالبيع.
ولأن الهبة أسهل من البيع. بدليل أنه يصح أن يكون عوضها مجهولاً على روايةٍ فإذا صح البيع بالمعاطاة. فلأن تصح الهبة بها بطريق الأولى.
وأما كونها تلزم بالقبض فلا شبهة فيه؛ لأن القبض يؤكدها. وهو مشعرٌ بأنها لا تلزم بغير قبض. وهو صحيح. والأصل فيه ما روت عائشة «أن أبا بكر رضي الله عنه نَحَلَها جداد عشرين وَسْقاً من ماله بالغَابَةِ. فلما مرض قال يا بُنية! ما أحد أحبُ إليّ غنًى بعدي منكِ. ولا أحد أعزُّ عليّ فقراً منك. وكنت نَحَلْتُكِ جَداد عشرين وَسْقاً وددت أنكِ حُزْتِيه أو قبضتيه. وهو اليوم مال الوارث أخواكِ وأختاكِ. فاقتسموه على كتاب الله» (2). ويروى ذلك عن عمر (3)، ولم يعرف لهما مخالف فكان كالإجماع. ولو لزمت بغير القبض لما كان الأمر كذلك.
ولأنها هبةٌ غير مقبوضةٍ. فلم تلزم بغير قبض؛ كالطعام المأذون في أكله.
وأما كون غير المكيل والموزون يلزم بمجرد الهبة على روايةٍ؛ فلأن الهبة عقد لازم ينقل الملك. فلم يقف لزومه على القبض؛ كالبيع.
ولأنه تبرع. فلا يفتقر فيه إلى القبض؛ كالوقف والوصية.
والأول أصح؛ لما ذكر.
ودليل الرواية الأخرى منقوض بالمكيل والموزون. فإنه عقد لازم وتبرع مع
(1) أخرجه البيهقي في السنن الكبرى 6: 182 كتاب الهبات، باب المكافأة في الهبة.
(2)
أخرجه مالك في الموطأ (40) 2: 576 كتاب الأقضية، باب ما لا يجوز من النحل.
(3)
أخرجه مالك في الموطأ (41) الموضع السابق.
اشتراط القبض فيه.
قال: (ولا يصح القبض إلا بإذن الواهب. إلا ما كان في يد المتّهب فيكفي مضي زمن يتأتّى قبضه فيه. وعنه: لا يصح حتى يأذن في القبض. وإن مات الواهب قام وارثُه مقامَه في الإذن والرجوع).
أما كون القبض لا يصح إلا بإذن الواهب إذا لم يكن في يد المتّهب؛ فلأنه لا يجب على الواهب تقبيضه. فوجب أن لا يصح القبض إلا بإذنه؛ كالرهن.
وأما كونه يكفي مضي زمن يتأتّى قبضه فيه إذا كان في يد المتّهب على المذهب؛ فلأن إقراره له في يده بمنزلة إذنه في القبض. فلا حاجة إلى إذن صريح.
وأما كونه لا يصح قبضه حتى يأذن الواهب فيه على روايةٍ؛ فكما لو لم يكن في يده.
وأما كون وارث الواهب يقوم مقامه في الإذن والرجوع؛ فلأن كل واحدٍ منهما مستحقاً للواهب. فانتقل إلى وارثه؛ لقوله عليه السلام: «منْ تَرَكَ حَقاً فلِوَرثتِه» (1).
قال: (وإن أبرأ الغريم غريمه من دينه، أو وهبه له، أو أَحَلَّه منه: برئت ذمته، وإن رد ذلك ولم يقبله).
أما كون الغريم تبرأ ذمته إذا أبرأه غريمه من دينه؛ فلأنه إسقاط. فلم يفتقر إلى القبول؛ كالعتق والطلاق والقصاص والشفعة. وبهذا فارق هبة العين؛ لأن ذلك تمليكٌ، وهذا إسقاط.
وأما كونه تبرأ ذمته إذا وهبه له أو أَحَلَّه؛ فلأن هبة ما في الذمة والإحلال منه؛ كالإبراء معنى. فكذا يجب أن يكون حكماً.
قال: (وتصح هبةُ المشاع وكل ما يصح بيعه).
أما كون هبة المشاع تصح؛ فلأن عمرو بن شعيب روى عن أبيه عن جده
(1) أخرجه البخاري في صحيحه (2268) 2: 845 كتاب الاستقراض، باب الصلاة على من ترك دَيناً. عن أبي هريرة رضي الله عنه. ولفظه:«من ترك مالاً فلورثته» .
وأخرجه مسلم في صحيحه (1619) 3: 1237 كتاب الفرائض، باب من ترك مالاً فلورثته. عنه مثله.
قال: «سمعتُ النبي صلى الله عليه وسلم وقد جاءهُ رجلٌ ومعه كُبّةٌ من شَعْر. فقال: أخذتُ هذه من المغنم (1) لأصلح بَرْدَعَةً لي. فقال النبي صلى الله عليه وسلم: ما كان لي ولبني عبدالمطلب فهو لك» (2). وهذه هبة مشاع.
وأما كون هبة ما يصح بيعه تصح؛ فلأن الهبة تمليك. فإذا صح البيع في شيء. علم أنه قابل للتمليك.
قال: (ولا تصح هبةُ المجهول، ولا ما لا يُقدر على تسليمه).
أما كون هبة المجهول لا تصح؛ فلأن الهبة عقد تمليك. فلم تصح في المجهول؛ كالبيع.
فإن قيل: الوصية تمليكٌ وتصح.
قيل: قد خولف في الوصية في أشياء. بخلاف الهبة. ثم يمكن أن يقال تمليك في حياة. أشبه البيع. فلا ترد إذاً؛ لأنها تمليكٌ بعد الموت.
قال: (ولا يجوز تعليقها على شرط، ولا شرط ما ينافي مقتضاها؛ نحو: أن لا يبيعها ولا يهبها. ولا توقيتها؛ كقوله: وهبتك هذا سنة. إلا في العُمْرَى. وهو أن يقول: أعمرتُكَ هذه الدار، أو أَرْقَبْتُكَها، أو جعلتُها لك عمركَ أو حياتكَ: فإنه يصح. وتكون للمعمر ولورثته من بعده. وإن شرط رجوعها إلى المعمر (6) عند موته، أو قال: هي لآخرنا موتاً: صح الشرط. وعنه: لا يصح وتكون للمعمر ولورثته).
أما كون الهبة لا يجوز تعليقها على شرطٍ؛ نحو أن يقول: إن جاء زيدٌ فقد
(1) في هـ: الغنم.
(2)
أخرجه أبو داود في سننه (2694) 3: 63 كتاب الجهاد، باب في فداء الأسير بالمال.
وأخرجه النسائي في سننه (3688) 6: 263 كتاب الهبة، هبة المشاع.
(3)
في هـ: جاز، وهو تصحيف.
(4)
ساقط من هـ.
(5)
أخرجه النسائي في سننه (3688) 6: 263 كتاب الهبة، هبة المشاع.
(6)
سقط لفظي: إلى المعمر من هـ.
وهبتك هذه الدار، وما أشبه ذلك؛ فلأنها تمليكٌ في حياة لمعين. فلم يجز تعليقها على شرطٍ؛ كالبيع.
وأما كونها لا يجوز فيها شرط ما ينافي مقتضاها؛ كما مثل المصنف رحمه الله؛ فلأنها عقدٌ شرط فيه ما ينافي مقتضاه. فلم يجز؛ كالبيع.
وأما كونها لا يجوز توقيتها في غير [العمرى؛ كما مثل المصنف رحمه الله؛ فلأنه تعليقٌ لانتهاء الهبة. أشبه ابتداؤها.
وأما كون] (1) العمرى والرقبى تصح؛ فلأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «العمرى جائزة لأهلها والرقبى جائزة لأهلها» (2). رواه أبو داود والترمذي. وقال: حديث حسن.
فإن قيل: فقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: «لا تُعْمِرُوا ولا تُرْقِبُوا» (3). نهى. والنهي يقتضي الفساد.
قيل: لو اقتصر على ذلك لكان كذلك. لكنه لم يقتصر بل قال بعده: «فمنْ أَعْمَرَ عُمْرَى فهي للذي أُعْمِرَهَا حياً وميتاً» (4). فيكون النهي إذاً ورد على سبيل الإعلام بأن من أعمر أو أرقب بعد ذلك يكون للمعمر والمرقب (5) ولورثته من بعده.
وأما كونها للمعمر ولورثته من بعده؛ فلقوله عليه السلام: «فهيَ للذي أُعْمِرَهَا حياً وميتاً ولِعَقِبِه» (6) رواه مسلم.
وأما كونها إذا شرط رجوعها إلى المعمر عند موته، أو قال: هي لآخرنا موتاً يصح على المذهب؛ فلأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «المسلمون على شروطهم» (7)، ولما
(1) ساقط من هـ.
(2)
أخرجه أبو داود في سننه (3558) 3: 295 كتاب البيوع، باب في الرقبى.
وأخرجه الترمذي في جامعه (1351) 3: 633 كتاب الأحكام، باب ما جاء في الرقبى.
(3)
أخرجه أبو داود في سننه (3556) 3: 295 كتاب البيوع، باب من قال فيه ولعقبه.
وأخرجه النسائي في سننه (3732) 6: 273 كتاب العمرى، ذكر اختلاف ألفاظ الناقلين لخبر جابر في العمرى.
(4)
سيأتي تخريجه في الحديث التالي.
(5)
في هـ: والمرقبى.
(6)
أخرجه مسلم في صحيحه (1625) 3: 1246 كتاب الهبات، باب العمرى.
(7)
أخرجه أبو داود في سننه (3594) 3: 304 كتاب الأقضية، باب في الصلح.
وأخرجه الترمذي في جامعه (1352) 3: 634 كتاب الأحكام، باب ما ذكر عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في الصلح بين الناس.
روى جابر قال: «إنما العُمْرَى التي أجازَ رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يقولَ: هي لكَ ولعَقِبِكَ. فأما إذا قال: هي لكَ ما عِشْتَ. فإنها ترجعُ إلى صَاحبهَا» (1). متفق عليه.
وأما كونه لا يصح على روايةٍ؛ فلأنه لو صح لكانت العمرى والرقبى هبة مؤقتة، والهبة لا يجوز توقيتها.
فإن قيل: مقتضى هذا أن لا تصح العمرى والرقبى.
قيل: الشرط ليس على المعمر، وإنما هو على الورثة، وإذا (2) كان كذلك لم يكن الشرط مع المعقود معه بل مع غيره. فلم يؤثر في البطلان (3).
وأما كون ذلك للمعمر ولورثته؛ فلأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «فهيَ للذي أُعمرَهَا حياً وميتاً ولعَقِبِه» (4).
وقال صلى الله عليه وسلم: «لا رقبى. فمن أرقبَ شيئاً فهو له حياته وموته» (5).
ولأن الشرط إذا فسد بقي مطلق العقد، وذلك موجبٌ لنقله إلى الورثة.
(1) أخرجه مسلم في صحيحه (1625) 3: 1246 كتاب الهبات، باب العمرى. ولم أجده في البخاري.
(2)
في هـ: إذا.
(3)
في ج: في الصحة.
(4)
سبق تخريجه قريباً.
(5)
أخرجه النسائي في سننه (3732) 6: 273 كتاب العمرى، ذكر اختلاف ألفاظ الناقلين لخبر جابر في العمرى.
وأخرجه ابن ماجة في سننه (2382) 2: 796 كتاب الهبات، باب الرقبى.
فصل [في عطية الأولاد]
قال المصنف رحمه الله: (والمشروع في عطية الأولاد القسمة بينهم على قدر ميراثهم. فإن خص بعضهم أو فضّله فعليه التسوية بالرجوع أو إعطاء الآخر حتى يستووا. فإن مات قبل ذلك ثبت للمعطي. وعنه: لا يثبت وللباقين الرجوع. اختاره أبو عبدالله بن بطة).
أما كون المشروع في عطية الأولاد ما ذُكر؛ فلأن الله تعالى قسم الميراث بينهم كذلك، وأولى ما اقتدي بقسمة الله تعالى. وفي الحديث عن النعمان بن بشير قال:«تصدقَ عليّ أبي ببعض ماله. فقالت أمي عمرة بنت رواحة: لا أرضَى حتى يَشهدَ عليها رسول الله صلى الله عليه وسلم. فجاء أبي إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم. فقال: أَكُلَّ ولدكَ أعطيتَ مثلَه؟ قال: لا. قال: اتقوا الله واعدلوا في أولادكم. فرجعَ أبي. فردَّ تلكَ الصدقة» (1).
وفي لفظ: «لا تُشهدني على جَور» (2).
وفي لفظ: «سوِّ بينهم» (3). حديث صحيح متفق عليه.
ولأن تخصيص بعضهم أو تفضيله يورث البغضة والعداوة وقطيعة الرحم فمنع منه؛ كتزويج المرأة على عمتها وخالتها.
ولأن العطية في الحياة إحدى حالتي العطية. فوجب أن يكون كحالة الموت.
ولأن العطية في الحياة استعجال لما يكون بعد الموت. فيجب أن يكون على حسبه؛ كما أن معجل الزكاة يخرجها على صفة أدائها بعد وجوبها.
(1) أخرجه البخاري في صحيحه (2447) 2: 914 كتاب الهبة وفضلها، باب الإشهاد في الهبة.
وأخرجه مسلم في صحيحه (1623) 3: 1242 كتاب الهبات، باب كراهة تفضيل بعض الأولاد في الهبة.
(2)
أخرجه البخاري في صحيحه (2507) 2: 938 كتاب الشهادات، باب لا يشهد على شهادة جورٍ إذا أشهد.
وأخرجه مسلم في صحيحه (1623) 3: 1243 الموضع السابق.
(3)
أخرجه أحمد في مسنده (18385) 4: 268.
ولأن الذكر أحوج من الأنثى. من قبل أن الصداق والنفقة على الذكر، والأنثى بالعكس.
وفي قول المصنف رحمه الله: في عطية الأولاد تنبيهٌ على أن عطية الأقارب غيرهم لا يشرع فيها ذلك. وصرح بذلك في المغني؛ لأنها عطية لغير الأولاد. فلم يجب ذلك فيها؛ كما لو كانوا غير وارثين.
ولأن (1) الأصل إباحة تصرف الإنسان في ماله كيف شاء. وإنما وجب ذلك بين الأولاد بالخبر، وليس (2) غيرهم في معناهم. فيبقى على مقتضى الأصل.
وقال أبو الخطاب: حكمهم حكم الأولاد؛ لأنهم في معناهم.
وفرّق المصنف بينهم من حيث إن الأولاد استووا في بر والدهم، وفي الحديث:«أيسركَ أن يَسْتَوُوا في بِرّكَ؟ قال: نعم. قال: سوِّ بينهم» (3).
ولأن الأب يرجع في عطية ابنه. فيتمكن من التسوية بالرجوع. بخلاف بقية الأقارب.
وأما كون المعطي المذكور: عليه التسوية بالرجوع، أو إعطاء الآخر حتى يستووا؛ فلأن النبي صلى الله عليه وسلم قال في بعض ألفاظه:«سوِّ بينهم» (4).
ولأن كل واحدٍ من الأمرين تسوية.
وأما كون ذلك يثبت للمعطى له إذا مات المعطي على المذهب؛ فلأن أبا بكر رضي الله عنه لما وهب لعائشة النحل قال: «وددتُ لو أنكِ حُزْتِيه» (5). فلو تمكّن الوارث من أخذه بعد الحيازة لم يكن في ذلك فائدة.
ولأنها عطية لولده. فلزمت بالموت؛ كما لو انفرد.
وأما كونه لا يثبت على رواية؛ فلأن النبي صلى الله عليه وسلم سماه جوراً بقوله: «لا أَشهد
(1) في هـ: فلأن.
(2)
في هـ: ليس.
(3)
أخرجه النسائي في سننه (3680) 6: 260 كتاب النحل، ذكر اختلاف ألفاظ الناقلين لخبر النعمان بن بشير في النحل. نحوه.
وأخرجه ابن ماجة في سننه (2375) 2: 795 كتاب الهبات، باب الرجل ينحل ولده. نحوه.
(4)
سبق تخريجه ص: خطأ! الإشارة المرجعية غير معرّفة ..
(5)
سبق تخريجه ص: خطأ! الإشارة المرجعية غير معرّفة ..
على جَور» (1). والجور حرام لا يحل للفاعل فعله ولا للمعطى له تناوله، والموت لا يخرجه عن كونه جوراً. فيجب ردّه.
و«لأن أبا بكر وعمر أمراَ قيسَ بن سعد بِرَدّ قسمةِ أبيه حين ولدَ لهُ ولدٌ لم يكنْ لهُ علمٌ بِه» .
فعلى هذا لبقية ورثة المعطي الرجوع؛ لأنه لم يثبت للمعطى له. فكان لبقية ورثة المعطي الرجوع كموروثهم (2).
ولأن الرجوع حق لموروثهم. فكان لهم؛ لقوله عليه السلام: «من تَرَكَ حقاً فلوَرَثَتِه» (3).
قال: (وإن سوّى بينهم في الوقف، أو وقف ثلثه في مرضه على بعضهم: جاز. نصّ عليه. وقياس المذهب: أن لا يجوز).
أما كون التسوية بين أولاده في الوقف؛ مثل: أن يجعل للذكر مثل الأنثى يجوز. بخلاف الهبة على المنصوص؛ فلأن الوقف لا ينتقل رقبته إلى الموقوف عليه على قول، وعلى القول بالانتقال ينتقل على وجهٍ من القصور؛ لأنه لا يجوز بيعه ولا هبته ولا التصرف في رقبته بحالٍ. بخلاف الهبة.
ولأنه يجوز أن يخصص بعضهم بالوقف دون بعض؛ لأن الزبير خصص المردودة من بناته دون المستغنية (4). فلأن يجوز التفضيل بينهم بطريق الأولى.
وأما كونها لا يجوز على قياس المذهب؛ فلأن الصحيح من المذهب أن الموقوف عليه يملك الوقف لما تقدم. وعلى تقدير عدم الملك هو يملك المنفعة بلا خلافٍ وهي المقصودة. وبالغ القاضي حتى قال: المستحب في الوقف التسوية؛ لأن القصد القربة على وجه الدوام وقد استووا فيها.
وقال المصنف في المغني (5): ما ذكره القاضي لا أصل له. وهو ملغى بالميراث
(1) سبق تخريجه ص: خطأ! الإشارة المرجعية غير معرّفة ..
(2)
في هـ: وأما كون الباقين من ورثة المعطي لهم الرجوع؛ فلأنه لم يثبت للمعطى. فكان لبقية ورثة المعطى كمورثهم.
(3)
سبق تخريجه ص: خطأ! الإشارة المرجعية غير معرّفة ..
(4)
سبق ذكره ص: خطأ! الإشارة المرجعية غير معرّفة ..
(5)
ساقط من هـ.
والعطية. وحديث الزبير يدل على الاختصاص لمعنى مقصودٍ، وذلك يجوز مثله في العطية. فلا فرق.
وأما كونه يجوز وقف ثلثه على بعض ورثتِه في مرضِ موتهِ على المذهبِ؛ «فلأنّ عمرُ جعلَ أمرَ وقفهِ إلى حفصةَ تَأكلُ منه وتشتري رَقيقاً» (1).
ولأن الوقف ليس في معنى المال؛ لأنه لا يجوز التصرف فيه. فهو كعتق الوارث.
وأما كونه لا يجوز على قياس المذهب؛ فلما تقدم.
وظاهر كلام المصنف رحمه الله: أنه لا نقل عن الإمام فيما ذكر من أنه لا يجوز؛ لأنه جعل ذلك قياس المذهب. وفي وقف الثلث روايةٌ مصرحٌ بها. ذكرها أبو الخطاب وغيره.
ورجح المصنف رحمه الله في المغني عدم الجواز وعلله بنحو ما تقدم.
ولأنه تخصيصٌ لبعض الورثة بماله في مرضه. فمنع منه؛ كالوصية. وحديث عمر ليس فيه تخصيص لبعض الورثة بالوقف؛ لأنه جعل (2) إليها الولاية، وليس ذلك وقفاً عليها.
قال: (ولا يجوز لواهبٍ أن يرجع في هبته. إلا الأب. وعنه: ليس له الرجوع. وعنه: له الرجوع إلا أن يتعلق به حق أو رغبة؛ نحو: أن يتزوج الولد أو يفلس).
أما كون الواهب لا يجوز أن يرجع في هبته إذا كان غير أب؛ فلأن النبي صلى الله عليه وسلم
قال: «العائدُ في هبتهِ كالعائدِ في قَيْئِه» (3)، وفي لفظ:«كالكلبِ يعودُ في قَيْئِه» (4)
(1) أخرجه أبو داود في سننه (2879) 3: 117 كتاب الوصايا، باب ما جاء في الرجل يوقف الوقف.
(2)
ساقط من هـ.
(3)
أخرجه البخاري في صحيحه (2478) 2: 924 كتاب الهبة، باب لا يحل لأحد أن يرجع في هبته وصدقته.
وأخرجه مسلم في صحيحه (1622) 3: 1241 كتاب الهبات، باب تحريم الرجوع في الصدقة والهبة بعد القبض إلا ما وهبه لولده وإن سفل.
(4)
أخرجه البخاري في صحيحه (2449) 2: 915 كتاب الهبة، باب هبة الرجل لامرأته والمرأة لزوجها.
وأخرجه مسلم في الموضع السابق.
متفق عليه.
وأما كون الأب يجوز أن يرجع على المذهب؛ فلأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «ليسَ لأحدٍ أن يُعطي عطيةً فيرجعَ فيها. إلا الوالدَ فيما يعطي ولدَه» (1) رواه الترمذي. وقال: حديث صحيح.
وعن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: «لا يَرجعُ واهبٌ في هبتهِ. إلا الوالدَ من ولَدِه» (2).
وأما كونه ليس له الرجوع على روايةٍ؛ فلعموم ما تقدم.
وأما كونه له الرجوع إن لم يتعلق بالموهوب حقٌ أو رغبة، وكونه ليس له الرجوع إن تعلق به ما ذكر على روايةٍ: أما الأول؛ فلعموم الأحاديث المتقدمة.
وأما الثاني؛ فلما فيه من الإضرار بالغير. وصار ذلك شبيهاً بالعبد المأذون إذا لزمه ديون فإنها تتعلق بذمة سيده على روايةٍ؛ لأن السيد حينئذٍ كالغارّ لمن عامله وهذا موجودٌ هنا.
قال: (وإن نقصت العين، أو زادت زيادة منفصلة: لم تمنع الرجوع والزيادة للابن. ويحتمل أنها للأب. وهل تمنع المتصلة الرجوع؟ على روايتين).
أما كون الزيادة المنفصلة لا تمنع الرجوع؛ فلأن الرجوع في الأصل دون النماء ممكن.
وأما كون الزيادة للابن على المذهب؛ فلأنها حدثت في ملكه.
وأما كونه يحتمل أنها للأب؛ فلأنها زيادة في الموهوب. فملكها الأب؛
(1) أخرجه أبو داود في سننه (3539) 3: 291 كتاب البيوع، باب الرجوع في الهبة.
وأخرجه الترمذي في جامعه (1299) 3: 593 كتاب البيوع، باب ما جاء في الرجوع في الهبة.
وأخرجه النسائي في سننه (3690) 6: 265 كتاب الهبة، رجوع الوالد فيما يعطي ولده وذكر اختلاف الناقلين للخبر في ذلك.
وأخرجه ابن ماجة في سننه (2377) 2: 795 كتاب الهبات، باب من أعطى ولده ثم رجع فيه.
(2)
أخرجه النسائي في سننه (3689) 6: 264 كتاب الهبة، رجوع الوالد فيما يعطي ولده وذكر اختلاف الناقلين للخبر في ذلك.
وأخرجه ابن ماجة في سننه (2378) 2: 796 كتاب الهبات، باب من أعطى ولده ثم رجع فيه.
كالمتصلة.
وأما كون المتصلة تمنع الرجوع على المذهب؛ فلأن الرجوع بدون الزيادة المتصلة متعذرٌ، وبها يلزم منه أخذ ملك الغير.
وأما كونها لا تمنع على روايةٍ؛ فلأنها زيادة. فلم تمنع الرجوع؛ كالمنفصلة.
قال: (وإن باعه المتهب، ثم رَجَع إليه بفسخٍ أو إقالةٍ: فهل له الرجوع؟ على وجهين. وإن رجع إليه ببيعٍ أو هبةٍ لم يملك الرجوع).
أما كون ما يَرجع إلى الموهوب له بفسخٍ أو إقالةٍ هل للواهب الرجوع؟ على وجهين؛ فلأن منشأه أن الملك العائد بذلك هل هو كالملك الذي لم يزُل، أم لا؟ وفيه خلافٌ تقدم ذكره في المفلس.
فعلى القول بأنه كالملك الذي لم يزل يرجع؛ لأنه كالمشبه (1) به. وعلى القول بأنه كالذي زال لا يرجع لذلك.
وأما كون ما رجع إليه (2) ببيعٍ أو هبةٍ لا يملك الواهب الرجوع فيه؛ فلأن الملك ثانياً غير الملك أولاً.
قال: (وإن وهبه (3) المتهب لابنه لم يملك أبوه الرجوع. إلا أن يرجع هو).
أما كون الأب لا يملك الرجوع إذا لم يرجع ابنه؛ فلأن ملك الابن زال. فلم يملك أبوه الرجوع؛ كما لو وهبه لغير ابنه.
وأما كونه يملك الرجوع إذا رجع إليه؛ فلأن المانع من الرجوع زوال ملك الابن، وقد عاد إليه.
(1) في هـ: كالشبه.
(2)
في هـ: به.
(3)
في هـ: هبه.
قال: (وإن كاتبه أو رهنه لم يملك الرجوع. إلا أن ينفكّ الرهن وتنفسخ الكتابة. وعن أحمد في المرأة تهب زوجها مهرها: إن كان سألها ذلك ردّه إليها رضيت أو كرهت؛ لأنها لا تهب له إلا مخافة غضبه أو إضرارٍ بها بأن يتزوج عليها).
أما كون الواهب لا يملك الرجوع في المكاتب والمرهون ما داما كذلك؛ فلأن حق المرتهن والمكاتب متعلقٌ بذلك، والرجوع يبطله. فلم يجز؛ لما فيه من الإضرار بالغير.
وأما كونه يملك الرجوع إذا انفك الرهن وانفسخت الكتابة؛ فلأن المنع كان لحق المرتهن والمكاتب، وقد زال.
وأما قول المصنف: وعن أحمد في المرأة تهب زوجها إلى آخره فتنبيهٌ على أن المرأة إذا وهبت زوجها مهرها لها أن ترجع به في روايةٍ مع الشرط المذكور وإن كانت غير أبٍ؛ لأنه لما قال قَبْلُ: ولا يجوز لواهب أن يرجع في هبته كان ذلك شاملاً للزوجة وغيرها. وفي الزوجة خلافٌ ذكره هاهنا، وعلله بما تقدم ذكره.
وتحقيق الكلام في ذلك: أن في الزوجة في الجملة إذا وهبت زوجها روايات:
إحداها: لا رجوع لها؛ لما تقدم.
والثانية: لها الرجوع؛ لأنه روي عن عمر أنه قال: «إن النساءَ يعطينَ أزواجهنّ رَهْبَةً ورغبَة. فأيما امرأةٍ أعطتْ زَوْجَهَا شيئاً ثم أرادَتْ أن تَقْتَصِرَهُ: فهيَ أحقُ بِه» (1) رواه الأثرم.
والثالثة: إن وهبته مهرها عن مسألة فلها الرجوع ويجب على الزوج ردّه إليها وإن كرهت؛ لأن الظاهر من حالها يدل على عدم طيب نفسها بذلك وإباحة ذلك مشروطة بطيب النفس. بدليل قوله تعالى: {فإن طبن لكم عن شيءٍ منه نفساً} [النساء: 4].
(1) أخرجه عبدالرزاق في مصنفه (16562) 9: 115 كتاب المواهب، باب هبة المرأة لزوجها.
فصل [في مال الولد]
قال المصنف رحمه الله: (وللأب أن يأخذ من مال ولده ما شاء. ويتملكه مع حاجته وعدمها في صغره وكبره إذا لم تتعلق حاجة الابن به).
أما كون الأب له أن يأخذ من مال ولده ما شاء؛ فلما روت عائشة رضي الله عنها قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إن أطيبَ ما أكلتُمْ من كَسْبِكمْ، وإن أولادَكمْ من كَسْبِكُم» (1). رواه الترمذي. وقال: حديث حسن.
وعن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده عن النبي صلى الله عليه وسلم: «أن رجلاً جاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: إن أبي اجتاحَ مالي. فقال: أنتَ ومالُكَ لأبِيك» (2). رواه الطبراني في معجمه.
ورواه غيره وزاد (3): «إن أولادَكُمْ من أطيبِ كَسبكم. فَكلُوا من أموالهم» (4).
وأما كونه له أن يتملكه؛ فلأنه من جاز له أخذ شيء جاز له أن يتملكه. دليله: الأشياء المباحة.
وأما كونه له ذلك مع الحاجة وعدمها ومع صغر الولد وكبره؛ فلعموم ما تقدم. وإنما اشترط عدم حاجة الولد في ذلك؛ لأن حاجة الإنسان مقدمة على دَيْنه. فلأن تقدم على أبيه بطريق الأولى.
(1) أخرجه أبو داود في سننه (3529) 3: 289 كتاب البيوع، باب في الرجل يأكل من مال ولده.
أخرجه الترمذي في جامعه (1358) 3: 639 كتاب الأحكام، باب ما جاء أن الوالد يأخذ من مال ولده. واللفظ له.
وأخرجه النسائي في سننه (4450) 7: 241 كتاب البيوع، باب الحث على الكسب.
وأخرجه ابن ماجة في سننه (2290) 2: 768 كتاب التجارات، باب ما للرجل من مال ولده.
(2)
أخرجه الطبراني في الكبير (6961) 7: 230 عن سمرة، و (10019) 10: 99 عن ابن مسعود. وأخرجه في الصغير 1: 8 عن ابن مسعود أيضاً.
(3)
في هـ: وزاد غيره.
(4)
أخرجه ابن ماجة في سننه (2292) 2: 769 كتاب التجارات، باب ما للرجل من مال ولده.
قال: (وإن تصرف فيه قبل تملكه ببيعٍ أو عتق أو إبراء من دينٍ لم (1) يصح تصرفه. وإن وطئ جارية ابنه فأحبلها صارت أم ولدٍ له، وولده حرٌ لا تلزمه قيمته، ولا مهر، ولا حد. وفي التعزير وجهان).
أما كون الأب لا يصح تصرفه في مال ولده قبل تملكه؛ فلأن الأب لا يملك ملك ولده. بدليل أن الابن كامل التصرف في ماله يصح بيعه له وهبته ووطء جاريته، ولو كان ذلك لغيره أو مشتركاً لم يجز جميع ذلك. وكون الأب له حق الانتزاع. بدليل ما تقدم لا يلزم منه صحة التصرف. دليله: ما إذا وهبه شيئاً فإنه له أن يرجع فيه مع أنه لا يصح تصرفه فيه.
وأما كون جارية ولده تصير أم ولدٍ له إذا أحبلها؛ فلأن إحبال الأب لها يوجب نقل ملك الجارية إليه. وحينئذٍ يكون الوطء مصادفاً للملك، وذلك يوجب صيرورتها أم ولدٍ له. ضرورة مصادفة الوطء الملك.
وأما كون الولد حراً؛ فلأنه من وطء شبهة.
[وأما كون الأب لا تلزمه قيمة الولد ولا مهر؛ فلأن الابن لا يجب له على أبيه شيء؛ لما يأتي.
وأما كونه لا يلزمه حدٌ؛ فلأنه وطءٌ بشبهة] (2)، وذلك يدرأ الحد.
وأما كونه يعزر في وجه؛ فلأنه وطئ وطئاً محرماً لا حد فيه. أشبه ما لو وطئ جارية مشتركة بينه وبين غيره.
وأما كونه لا يعزر (3) في وجهٍ؛ فلأنه لا يقتص منه بالجناية على ولده. فلا يعزر بالتصرف في ماله.
قال: (وليس للابن مطالبة أبيه بدين، ولا قيمة متلفٍ، ولا أرش جنايةٍ، ولا غير ذلك. والهدية والصدقة نوعان من الهبة).
أما كون الابن ليس له مطالبة أبيه بدينٍ؛ فلما روي «أن رجلاً جاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم بأبيهِ يقتضيهِ دَيناً عليه فقال: أنتَ ومالُكَ لأبِيك» . رواه الخلال بإسناده.
(1) ساقط من هـ.
(2)
مثل السابق.
(3)
في هـ: يعز.
وروى الزبير بن بكار بإسناده «أن رجلاً استقرضَ من ابنهِ (1) مالاً. فحبسهُ فأطالَ في حبسهِ. فاستعدَى عليه الابنُ عليَّ بن أبي طالب. وذكرَ قصتهُ في شعرٍ. فأجابهُ أبوه بشعرٍ أيضاً. فقال علي بن طالب:
قد سمعَ القاضي
…
ومن ربى الفَهَم
المال للشيخ جزاء بالنعم
…
يأكله برغم أنف من رَغَم
من قال قولاً غير ذا فقد ظلم
…
وجار في الحكم وبئس ما جَرَم».
ولأن ذلك إحدى نوعي الحقوق. فلم يملك الابن مطالبة أبيه به؛ كحقوق الأبدان.
وأما كونه ليس له مطالبته ببقية ما ذُكر؛ فلأنه بالتلف والجناية يصير في ذمته. فهو دينٌ أو كالدين.
وأما كون الهدية والصدقة نوعين من الهبة؛ فلأن الهبة التبرع بالمال في الحياة. فإن قصد بها المحبة كانت هدية، وإن قصد بها القربة كانت صدقة.
ولأنهما اسمان يشملهما اسم الهبة. وذلك شأن نوعي الجنس. دليله: الإنسان والفرس مع الحيوان.
(1) في هـ: أبيه.
فصل في عطية المريض
قال المصنف رحمه الله: (أما المريض غير مرض الموت، أو مرضاً غير مخوفٍ؛ كالرمد، ووجع الضرس، والصّداع، ونحوه: فعطاياه كعطايا الصحيح سواء. تصح من جميع ماله. وإن كان مرض الموت المخوف؛ كالبرْسامِ، وذات الجنب، والرّعاف الدائم، والقيام المتدارك، والفالج في ابتدائه، والسّل في انتهائه، وما قال عدلان من أهل الطب (1) أنه مخوف: فعطاياه كالوصية في أنها لا تجوز لوارثٍ ولا تجوز لأجنبيٍ بزيادةٍ على الثلث إلا بإجازة الورثة؛ مثل: الهبة والعتق والكتابة والمحاباة).
أما كون عطايا المريض غير مرض الموت أو مرضاً غير مخوف كعطايا الصحيح سواء تصح من جميع ماله؛ فلأن مقتضى الدليل صحة تصرف الإنسان في جميع ماله. تُرك العمل به في عطية المريض المرض المخوف المتصل بالموت؛ لما يأتي. فيجب أن يبقى فيما عداه على مقتضاه.
وأما كون عطايا المريض مرض الموت المخوف؛ كما مثل المصنف رحمه الله؛ كوصيته في أنها لا تجوز لوارثٍ ولا لأجنبيٍ بزيادةٍ على الثلث: أما في العتق؛ فلما روى عمران بن حصين «أن رجلاً أعتقَ ستةَ أعبدٍ له عندَ موتهِ لم يكن له مالٌ غيرهم. فبلغَ ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم. فدعاهمْ فجزأهمْ ثلاثةَ أجزاءٍ. فأقرعَ بينهمْ. فأعتقَ اثنينِ وأَرَقَّ أربعة. وقالَ لهُ قَولاً شَديداً» (2). رواه مسلم.
وأما في بقية التصرفات؛ فلأن العتق إذا لم يجز إلا من الثلث مع سرايته. فغيره أولى.
ولأن العطية في المرض عطية في حال الظاهر منه الموت. فلم يجز لوارثٍ بشيء
(1) في هـ: الطيب، وهو تصحيف.
(2)
أخرجه مسلم في صحيحه (1668) 3: 1288 كتاب الأيمان، باب من أعتق شركاً له في عبد.
وأخرجه أبو داود في سننه (3958) 4: 28 كتاب العتق، باب فيمن أعتق عبيداً له لم يبلغهم الثلث.
وأخرجه الترمذي في جامعه (1364) 3: 645 كتاب الأحكام، باب ما جاء فيمن يعتق مماليكه عند موته وليس له مال غيرهم. قال الترمذي: حديث حسن صحيح.
ولا لأجنبيٍ بزيادةٍ على الثلث؛ كالوصية.
وأما المرض غير (1) المخوف والمخوف؛ فكما ذكر المصنف رحمه الله.
قال: (فأما الأمراض الممتدة؛ كالسل، والجذام، والفالج في دوامه. فإن صار صاحبها صاحب فراشٍ فهي مخوفة، وإلا فلا. وقال أبو بكر: فيه وجه آخر أن عطيته من الثلث).
أما كون الأمراض المذكورة مخوفة إذا صار صاحبها صاحبَ فراش، وغير مخوفة إذا لم يصر على المذهب؛ فلأن العادة قاضية بذلك.
وأما كون العطية من الثلث فيما ذكر من غير تفصيلٍ على قول أبي بكر؛ فلأنها مخوفة في الجملة. فوجب إلحاقها بالمخوف من غير تفصيلٍ؛ لمكان المخوف في الجملة.
وحكى المصنف في المغني أن أبا بكر ذكر في صاحب الأمراض الممتدة وجهاً: أن عطيته من صلب ماله. ثم علله بأنه لا يخاف تعجيل الموت منه وإن كان لا يبرأ فهو كالهرم. وظاهر هذا التناقض. إلا أن يكون أبو بكر قال مرة: هو من الثلث ومرة هو من صلب المال. بيان التناقض إذا لم يكن كذلك: أن ما قاله في المغني: إما أن يحمل على غير صاحب الفراش أو عليهما: أما الأول؛ فظاهر. وأما الثاني؛ فلأن أحد مدلوليه غير صاحب الفراش فيجيء المعنى المذكور قبل.
فإن قيل: هلاّ يحمل على صاحب الفراش؟
قيل: لأنه إن أريد الخصوص به صارت العطية من صاحب الفراش من صلب المال. فلا يتوجه قول أبي بكر أن عطية غير صاحب الفراش من الثلث؛ لأن من يخشى تلفه غالباً لا تكون عطيته من الثلث. فما ظنك بمن لا يخشى موته غالباً، وإن أريد به هو وغير صاحب الفراش فقد تقدم. وطريق السلامة من التناقض أن يكون النقل وجده مرة (2) كذا ومرة كذا.
قال: (ومن كان بين الصفين عند التحام الحرب، أو في لجّة البحر عند هيجانه،
(1) ساقط من هـ.
(2)
ساقط من هـ.
أو وقع الطاعون ببلده، أو قُدم ليُقْتَصّ منه، والحامل عند المخاض: فهو كالمريض. قال الخرقي: وكذلك الحامل إذا صار لها ستة أشهر. وقيل عن أحمد: ما يدل على أن عطايا هؤلاء من المال كله).
أما كون من كان بين الصفين
…
إلى الحامل عند المخاض كالمريض على المذهب؛ فلأن الغالب في هذه الصور حصول التلف. فكان ملحقاً بالمريض المخوف مرضه؛ لأنه في معناه من جهة الخوف.
وأما كون الحامل إذا صار لها ستة أشهر كالمريض على قول الخرقي؛ فلأن ذلك وقت يمكن فيه الولادة، وهي من أسباب التلف.
قال المصنف في المغني: والصحيح أنه إذا ضربها الطلق كان مخوفاً؛ لأنه ألمٌ شديدٌ يخاف منه التلف. وأما قبل ذلك فلا؛ لعدم الألم، واحتمال وجوده خلاف العادة. فلا يثبت الحكم لاحتمالٍ (1) بعيد.
وأما كون عطايا من تقدم ذكره من المال كله على قولٍ عن أحمد؛ فلأنه لا مرض بهم. أشبهوا الصحيح الخالي عما ذكر.
قال: (وإن عجز الثلث عن التبرعات المنجزة بُدئ بالأول فالأول. فإن تساوت قسّم بين الجميع بالحصص. وعنه: يقدم العتق).
أما كون ما ذُكر يُبدأ بالأول فالأول؛ فلأن الأول فالأول استحق الثلث. فلم يسقط بما بعده.
وأما كونه يقسم بين الجميع بالحصص على المذهب إذا تساوت؛ فلأنهم تساووا في الحق. فقسم بينهم بالحصص؛ كالميراث.
وأما كونه يقدم العتق على روايةٍ؛ فلأنه آكد لكونه مبنياً على السراية والتغليب.
قال: (وأما معاوضة المريض بثمن المثل فتصح من رأس المال، وإن كانت مع وارث. ويحتمل: أن لا تصح لوارث).
أما كون معاوضة المريض بما ذكر تصح مع غير وارثٍ فلا شبهة فيه؛ لأنه إنما
(1) في هـ: باحتمال.
يعتبر من الثلث التبرع. وليس هذا تبرعاً.
وأما كونها تصح مع الوارث على المذهب؛ فلأنه لا تبرع فيها ولا تهمة. أشبه الأجنبي.
وأما كونه يحتمل أن لا تصح؛ فلأنه لا يصح إقراره له. فلا يصح بيعه بالقياس عليه.
فإن قيل: في إقراره له تهمة. بخلاف المعاوضة بثمن المثل.
قيل: وفي المعاوضة تهمة؛ لأنه يحتمل أن يواطئه ويظهر دفع الثمن وليس الأمر كذلك في الباطن.
قال: (وإن حابا وارثه: فقال القاضي: يبطل في قدر ما حاباه ويصح فيما عداه وللمشتري الخيار؛ لأن الصفقة تبعضت في حقه فإن كان له شفيع فله أخذه. فإن أخذه فلا خيار للمشتري. وإن باع المريض أجنبياً وحاباه وكان شفيعه وارثاً فله الأخذ بالشفعة؛ لأن المحاباة لغيره).
أما (1) كون المعاوضة تبطل في قدر المحاباة؛ فلأن المحاباة (2) كالوصية، والوصية لوارث باطلة. فكذا المحاباة.
وأما كونها تصح فيما عداه؛ فلأن البيع اقتضى الصحة والمانع منه فيما تقدم المحاباة. وهي هاهنا مفقودة.
وأما كون المشتري له الخيار؛ فلما ذكر المصنف رحمه الله من أن الصفقة تبعضت في حقه وذلك أنه يصح البيع في بعض المبيع دون بعض، وذلك تبعيضٌ. وفيه ضرر.
وأما كون الشفيع له أخذه إذا كان له؛ فلأن الشفعة تجب بالبيع الصحيح، وقد وُجد.
وأما كون المشتري لا خيار له إذا أخذه الشفيع؛ فلأن ضرره يزول بأخذه؛ لأن الخيار ثبت لضرر التشقيص والتبعيض، وبأخذه بالشفعة يزول ذلك.
وأما كون الوارث له الأخذ بالشفعة إذا باع المريض أجنبياً شريكاً له وحاباه؛
(1) في هـ: وأما.
(2)
سقط لفظي: فلأن المحاباة من هـ.
فلما علل المصنف رحمه الله من أن المحاباة لغيره. وفي تعليله تنبيهٌ على الفرق بين أن تكون المحاباة له، وبين أن تكون المحاباة لغيره ثم اتصلت إليه؛ لأن أصل المحاباة إنما منع منها في حق الوارث؛ لما فيها من التهمة في إيصال المال إلى بعض الورثة المنهي عنه شرعاً، وهذا المعنى مفقود فيما إذا أخذ بالشفعة ما وقعت فيه المحاباة.
قال: (ويعتبر الثلث عند الموت. فلو أعتق عبداً لا يملك غيره، ثم ملك مالاً يَخرج من ثلثه تبينّا أنه عتق كله. وإن صار عليه دين يستغرقه (1) لم يعتق منه شيء).
أما كون الثلث يعتبر في العطية عند الموت؛ فلأن العطية ملحقةٌ بالوصية، والثلث فيها يعتبر عند الموت. فكذا ما أُلحق بها.
وأما كوننا نتبين أن العبد عتق كله إذا أعتقه وهو لا يملك غيره، ثم ملك مالاً يخرج من ثلثه؛ فلأنه يخرج من الثلث حين الموت، وذلك هو المعتبر؛ لما تقدم.
وأما كونه لا يعتق من العبد شيءٌ إذا صار عليه دينٌ يستغرقه؛ فلأن العتق إنما ينفذ من الثلث بعد الدين، وهذا لم يُخَلِّف شيئاً يَفْضُل عن الواجب من الدين.
(1) في هـ: يستغرق قيمته.
فصل [فيما تفارق العطية الوصية]
قال المصنف رحمه الله: (وتفارق العطية الوصية في أربعة أشياء:
أحدها: أنه يُبدأ بالأول فالأول منها. والوصايا يُسوّى بين المتقدم والمتأخر منها.
والثاني: أنه لا يملك الرجوع في العطية. بخلاف الوصية.
الثالث: أنه يعتبر قبوله للعطيّة عند وجودها، والوصية بخلافه).
أما كون العطية تفارقُ الوصية في البداءة بالأول فالأول منها دون الوصايا؛ فلأن الأول فيها راجحٌ على ما بعده. ضرورة سبقه له في الاستحقاق. بخلاف الأول في الوصية فإنه وإن سبق في القول إلا أنه مساوٍ لما بعده في النقل عند الموت.
وأما كونها تفارقها في أن المعطي لا يملك الرجوع فيها. بخلاف الوصية؛ فلأن الهبة تلزم بالإيجاب والقبول والقبض، وذلك موجودٌ في العطية دون الوصية.
ولأن قوله عليه السلام: «العائدُ في هبتهِ كالعائدِ في قَيْئه» (1) يدل على عدم الرجوع في العطية، وليست الوصية في معناها.
وأما كونها تفارقها في أنه يعتبر القبول للعطية عند وجودها. بخلاف الوصية؛ فلأن العطية تمليكٌ في الحال. فاعتبر قبولها عند وجود ذلك. بخلاف الوصية فإنها تمليكٌ بعد الموت. فاعتبر عند وجوده.
قال: (والرابع: أن الملك يثبت في العطية من حينها، ويكون مُراعاً. فإذا خرج من الثلث عند الموت تبينا أن الملك كان ثابتاً من حينه. فلو أعتق في مرضه عبداً أو وهبه لإنسان ثم كسب في حياة سيده شيئاً ثم مات سيده فخرج من الثلث كان كسبه له إن كان معتقاً وللموهوب له إن كان موهوباً، وإن خرج بعضه فلهما من كسبه بقدر ذلك).
أما كون العطية تفارق الوصية في أن الملك يثبت فيها من حين العطية. بخلاف الوصية؛ فلأنها تمليكٌ في الحال. فوجب أن تثبت حينئذٍ. عملاً بموجبه.
(1) سبق تخريجه ص: خطأ! الإشارة المرجعية غير معرّفة ..
وأما كون الملك مراعاً؛ فلأن الثلث معتبرٌ عند الموت.
وأما كوننا نتبين ثبوت الملك حين العطية إذا خرج من الثلث عند الموت؛ فلأن المانع من ثبوته كونه زائداً على الثلث. وقد تبين خلافه.
وأما كون الكسب للمعتق إن كان معتقاً، وللموهوب له إن كان موهوباً فيما إذا أعتق في مرضه عبداً أو وهبه لإنسان ثم كسب في حياة سيده شيئاً ثم مات سيده فخرج من الثلث؛ فلأن الكسب تابعٌ لملك الرقبة. فإذا خرج من الثلث تبينا أن العتق والهبة نافذان فيه. فيتعين كون الكسب للمعتق، والموهوب له للتبعية.
وأما كون المعتق والموهوب له لهما من الكسب بقدر ما يخرج إذا خرج بعضه؛ فلما ذكر من أن الكسب تابعٌ للرقبة.
قال: (فلو أعتق عبداً لا مال له سواه. فكسب مثل قيمته قبل موت سيده: فقد عتق منه شيء، وله من كسبه شيء، ولورثة سيده شيئان فصار العبد وكسبه نصفين يعتق منه نصفه وله نصف كسبه وللورثة نصفهما. وإن كسب مثلي قيمته: صار له شيئان، وعتق منه شيء، وللورثة شيئان. فيعتق ثلاثة أخماسه وله ثلاثة أخماس كسبه والباقي للورثة. وإن كسب نصف قيمته: عتق منه شيء، وله نصف شيء من كسبه، وللورثة شيئان. فيعتق ثلاثة أسباعه، وله ثلاثة أسباع كسبه، والباقي للورثة. وإن كان موهوباً لإنسان فله من العبد بقدر ما عتق منه، وبقدره من كسبه).
أما كون ما عتق في جميع ما تقدم شيئاً مُنَكَّراً؛ فلأن به ينفك الدَّوْر. وذلك أنه قد تقدم أن الكسب يتبع ما تنفذ (1) فيه العطية دون غيره، وذلك يلزم من الدَّوْر؛ لأن للعبد من كسبه بقدر ما عتق وباقيه لسيده فيزداد به مال السيد وتزداد الحرية لذلك ويزداد حقه من كسبه فينقص به حق السيد من الكسب وينقصُ بذلك قدر المعتق منه.
وأما كون العبد له من كسبه شيءٌ إذا كسب مثل قيمته، وكونه يصير له شيئان إذا كسب مثلي قيمته، وكونه له نصف شيء إذا كسب نصف قيمته؛ فلما
(1) في هـ: نفذ.
تقدم من أن الكسب يتبع العتق. فإذا عتق شيء وكان كَسَب مثل قيمته كان له من كسبه شيء؛ لأنه مثله. وإذا كان كسبه مثلي قيمته صار له شيئان؛ لأنهما مثلاه. وإذا كان كَسَب نصف قيمته كان له نصف شيء؛ لأنه مثله.
وأما كون الورثة لهما شيئان في جميع ما ذكر؛ فلأن لهم مثلي ما عتق.
وأما كون المعتق نصف العبد إذا كسب مثل قيمته؛ فلأن العبد إذا كانت قيمته مثلاً مائة وكسب مائة وقسمت ذلك على أربعة أشياء: شيء للمعتق، وشيء للعبد بكسبه، وشيئين للورثة حصل لكل شيء خمسون: فيعتق من العبد نصفه؛ لأنه عتق منه شيء. وقد تبين أن الشيء خمسون، وذلك نصف العبد، ويحصل من كسبه خمسون؛ لأن له بكسبه شيئاً، وقد تبين أنه خمسون، ويحصل للورثة مائة؛ لأن لهم منه شيئين. ثم إذا أردت تصحيح ذلك فَضُمَّ قيمة القدر المعتق إلى ما في يد الورثة يكن (1) الجميع مائة وخمسين. فقد عتق منها قدرُ خسمين وهو قدرُ الثلث.
وقول المصنف رحمه الله: فصار العبد وكسبه نصفين معناه: أنه صار مقسوماً نصفين؛ لأن العبد لما استحق بعتقه شيئاً، وبكسبه شيئاً: كان له في الجملة شيئان، وللورثة شيئان. ومعلوم أن ذلك إذا اجتمع يكون للعبد نصفٌ وللورثة نصف إلا أن قسمة العبد والكسب على أربعة أشياء أجود من ضم الأشياء. ثم يقسم نصفين؛ [لأن بالأول يبين مقدار الشيء فيعلم مقدار العتق. بخلاف القسمة نصفين](2) فإنه يحتاج إلى نظرٍ آخر؛ ليبين مقدار العتق.
وأما كون المعتق ثلاثةَ أخماس العبد إذا كسب مثلي قيمته؛ فلأن العبد إذا كانت قيمته مثلاً مائة، وكسبه مثلي قيمته وهما مائتان، وقسمت مجموع ذلك وهو ثلاثمائة على خمسة أشياء: ثلاثة للعبد، وشيئين للورثة وجدت كل شيء يعدل ستين، وذلك ثلاثة أخماس العبد.
وأما كون المعتق ثلاثةَ أسباعه إذا كَسَب نصف قيمته؛ فلأن العبد إذا كانت قيمته مثلاً سبعين، وكسب خمسة وثلاثين، وقسمت المائة والخمسة على ثلاثة
(1) في هـ: يكون.
(2)
ساقط من هـ.
أشياء ونصف: للعبد شيء بعتقه، ونصف شيء بكسبه، وللورثة شيئان: وجدت الشيء يعدل ثلاثين، وذلك ثلاثة أسباع العبد.
وأما كون الباقي للورثة في جميع ما ذكر؛ فلأنه ملكهم.
وأما كون الموهوب له: له من العبد بقدر ما عتق؛ فلأن القدر الموهوب يعدل القدر المعتق.
وأما كونه له من كسبه بقدر ما ملك من العبد؛ فلأن الكسب يتبع الملك. فيلزم أن يملك من الكسب بقدر ما ملك من العبد.
قال: (وإن أعتق جارية ثم وطئها، ومهر مثلها نصف (1) قيمتها: فهو كما لو كَسَب نصف قيمتها يعتق منها ثلاثة أسباعها).
أما كون المهر كالكسب؛ فلأن مهر الأمة من كسبها فكأنها كسبت نصف قيمتها.
وأما كونها يعتق منها ثلاثة أسباعها؛ فلأنها لو كسبت نصف قيمتها لعتق منها ثلاثة أسباعها؛ لما تقدم. فكذا فيما هو بمنزلته، وفي هذا نظر من حيث إن الكسب يزيد به ملكُ السيد، وذلك يقتضي الزيادة في العتق، والمهر ينقصه، وذلك يقتضي نقصان العتق.
قال: (ولو وهبها مريضاً آخر لا مال له أيضاً. فوهبها الثاني للأول: صحت هبة الأول في شيء، وعاد إليه بالهبة الثانية ثلثه بقي لورثة الآخر ثلثا شيء وللأول شيئان فلهم ثلاثة أرباعها ولورثة الثاني ربعها).
أما كون الهبة في هذه المسألة تصح في شيء مُنَكَّرٍ؛ فلأن فيها دوراً؛ لأن هبة الأول لا تُعلم إلا أن يُعلم مقدار العائد بالهبة الثانية، ولا يُعلم العائد بالهبة الثانية حتى يعلم مقدار ما تصح فيه الهبة الأولى.
فإن قيل: ينبغي أن يكون لورثة الأول شيئان وثلث؛ لأن لهم مقابلة الهبة أولاً شيئين، وقد عاد إليهم ثلث شيء بالهبة الثانية.
قيل: لا؛ لأنهم لا يستحقون إلا مثلي قدر التبرع عند الموت، وقدره عند
(1) في هـ: مثلها مثل نصف.
الموت شيء. فلو كان لهم شيئان وثلث لكان ذلك أكثر من مثلي التبرع.
قال: (وإن باع مريض فقيراً لا يملك غيره يساوي ثلاثين بقفيز يساوي عشرة: فأَسْقط قيمة الرديء من قيمة الجيد، ثم انسب الثلث إلى الباقي وهو عشرة من عشرين تجده نصفها. فيصح البيع في نصف الجيد بنصف الرديء، ويبطل فيما بقي).
أما كون قيمة الرديء تسقط من قيمة الجيد؛ فليعلم الباقي حتى ينسب الثلث إليه.
وأما كونه ينسب الثلث إلى الباقي؛ فليعلم مقدار ما يصح البيع فيه؛ لأن الصحة تتبع النسبة.
وأما كونه فيما ذكر نصفها. فظاهر.
وأما كونه يصح البيع في بعض الجيد ببعض الرديء؛ فلأن ذلك مقابلة بعض المبيع بقسطه من الثمن عند تعذر أخذ جميعه بجميع الثمن. أشبه ما لو اشترى سلعتين بثمن. فانفسخ البيع في إحداهما لعيبٍ أو غيره.
وأما كون ذلك النصف؛ فلأنه تابعٌ للنسبة، وقد تبين أنها هنا بالنصف. وعلى هذا فَقِسْ.
وأما كونه يبطل فيما بقي؛ فلانتفاء المقتضي للصحة.
فإن قيل: هلاّ صح في الجيد بقدر قيمة الرديء، ويبطل في غيره؟
قيل: لوجهين: أحدهما: أنه يفضي إلى الربا؛ لأنه حينئذٍ يصح في ثلث الجيد بكل الرديء، وذلك رباً.
وثانيهما: أن المحاباة في البيع وصية، وفيما ذكر إبطال لها؛ لأنه لا يحصل بها شيء، وفي صحة النصف المذكور إشعارٌ بصحة بيع المريض المذكور وإن اشتمل على محاباة. وهو صحيح؛ لأنه بيعٌ. فيدخل في عموم قوله:{وأحل الله البيع} [البقرة: 275].
ولأنه بيع صَدَر من أهله في محله. فصح؛ كغير المريض.
ولأن غاية ما (1) في ذلك المحاباة، وله فعلها صريحاً. فلأن يكون له فعلها ضمناً بطريق الأولى.
قال: (وإن أصدق امرأة عشرة لا مال له غيرها، وصداقُ مثلها خمسة فماتت قبله ثم مات: فلها بالصداق خمسة، وشيء بالمحاباة. رَجَع إليه نصف ذلك بموتها. صار له سبعة ونصف إلا نصف شيء يعدل شيئين. اجبرها بنصف شيء، وقابل يخرج الشيء ثلاثة: فلورثته ستة ولورثتها أربعة. وإن مات قبلها ورثته وسقطت المحاباة. نص عليه. وعنه: تعتبر المحاباة من الثلث. قال أبو بكر: هذا قولٌ قديمٌ رَجع عنه).
أما كون المرأة لها بالصداق خمسة فيما إذا ماتت قبله ثم مات؛ فلأنها مهر مثلها.
وأما كونها لها شيء بالمحاباة؛ فلأن المحاباة كالوصية ولو أوصى (2) لها بذلك لكان لها شيء. فكذا المحاباة.
وأما كون نصف الخمسة والشيء يَرجع إلى الزوج بموتها؛ فلأن الزوج يرث نصف ما لامرأته إذا لم يكن لها ولدٌ، والأمر هاهنا كذلك.
وأما كون الزوج يصير له سبعة ونصف إلا نصف شيء؛ فلأنه كان له خمسة إلا شيئاً، وورث اثنين ونصفاً (3) ونصف شيء.
وأما كون ذلك يعدل شيئين؛ فلأنه مثلا ما استحقته المرأة بالمحاباة وذلك شيء.
وأما كونه يجبر بنصف شيء؛ فليعلم.
وأما كونه يقابل. ومعناه: أنه يزداد على الشيئين نصف شيء؛ فليقابل ذلك النصف المزاد.
وأما كون الشيء يخرج ثلاثة؛ فلأن السبعة والنصف إذا قسمت على شيئين ونصفٍ كان الشيء ثلاثة.
(1) ساقط من هـ.
(2)
في هـ: وصى.
(3)
في هـ: ونصف.
وأما كون ورثة الزوج لهم ستة؛ فلأن لهم شيئين.
وأما كون ورثة المرأة لهم أربعة؛ فلأن المرأة بقي (1) لها من العشرة اثنان ونصف ونصف شيء، وقد تبين أن الشيء ثلاثة فنصفه أحد ونصفٌ. فإذا ضممتها إلى الاثنين والنصف كانت أربعة.
وإن أردت إيضاح ذلك فقل: صح الصداق في خمسة وشيء: أما الخمسة؛ فلأنها مهر المثل، ومهر المثل يعتبر من رأس المال. وأما الشيء فبالمحاباة، ونكر (2) ليعلم بعد ذلك. ثم رَجَع إليه نصف الخمسة والشيء بالإرث؛ لأنه زوجها. ويجب أن يقدر أنها لا ولد لها؛ لأن الزوج إنما يرث ذلك مع عدمه فيصير مجموع ما له من الأصل والميراث سبعةً ونصفاً إلا نصف شيء؛ لأنه كان قد بقي له من العشرة خمسة إلا شيئاً. ثم ورث اثنين ونصفاً ونصف شيء. فإذا أضفت ذلك إلى ما بقي له كان ذلك. اجبر نصف شيء بنصف شيء تكن سبعة ونصفاً، وقابل تكن شيئين ونصفاً. فالسبعة والنصف تعدل (3) شيئين ونصفاً. فإذا قسمتها على ذلك خرج الشيء ثلاثة. وحينئذٍ يصح أن يقال: صح الصداق في ثمانية رجع إلى الزوج أربعة وله من الأصل اثنان. صارت الجملة ستة وبقي لورثة الزوج أربعة.
وأما كون المرأة ترث الزوج إذا مات قبلها؛ فلأنها زوجته.
وأما كون المحاباة تسقط على منصوص أحمد؛ فلأنها محاباة لوراث. وكلام المصنف رحمه الله مشعرٌ بأن سقوط المحاباة من أجل الإرث؛ لأنه ذكره مرتباً عليه، وذِكْر الحكم مرتباً على الوصف مشعرٌ بأنه علته.
فعلى هذا لو كانت غير وارثة كالكافرة ونحوها لم تسقط المحاباة؛ لعدم العلة.
وأما كون المحاباة تعتبر من الثلث على رواية؛ فلأنها حين المحاباة لم تكن وارثة.
والأولى أصح؛ لما تقدم.
(1) ساقط من هـ.
(2)
في هـ: وذكر.
(3)
في هـ: تدل.
والعبرة في المحاباة بالموت؛ لأنها معتبرةٌ بالموت في الثلث. فكذا في كونها وارثة.
فصل
قال المصنف رحمه الله: (ولو ملك ابن عمه فأقر في مرضه أنه أعتقه في صحته عتق ولم يرثه. ذكره أبو الخطاب؛ لأنه لو ورثه لكان إقراره لوارث وكذلك على قياسه: لو اشترى ذا رحمه المحرم في مرضه وهو وارثه، أو وصى له به، أو وهب له فقبله في مرضه. وقال القاضي: يعتق ويرث).
أما كون ابن العم يعتق بالإقرار المذكور؛ فلأن إقرار المريض في ذلك كإقرار الصحيح.
وأما كونه لا يرثه على ما ذكره أبو الخطاب؛ فلما ذكر المصنف من أنه لو ورثه لكان إقراراً لوارث. وتحقيقه: أنه يلزم من إرثه بطلان إقراره. ثم يلزم منه بطلان إرثه لبطلان الإقرار المثبت له.
وأما كونه يرث على قول القاضي؛ فلأنه حرٌ حين موت موروثه ليس بقاتل (1) ولا مخالفٍ لدينه. أشبه ما لو لم يقرّ به.
وأما كون بقية الصور المذكورة كصورة (2) الإقرار؛ فلأنها في معناها.
قال: (ولو أعتق أمته وتزوجها في مرضه لم ترثه على قياس الأول. وقال القاضي: ترثه).
أما كون الأمة المذكورة لا ترث زوجها على قياس الأول؛ فلأن إرثها يفضي إلى بطلان عتقها؛ لما تقدم ذكره.
وأما كونها ترثه على قول القاضي؛ فلما تقدم في تعليل قوله فيما ذكر قبل.
(1) في هـ: يقابل.
(2)
في هـ: كصور.
قال: (ولو أعتقها وقيمتها مائة، ثم تزوجها وأصدقها مائتين لا مال له سواهما وهي مهر مثلها، ثم مات: صح العتق ولم تستحق العتق؛ لئلا يفضي إلى بطلان عتقها ثم يبطل صداقها. وقال القاضي: تستحق المائتين).
أما كون العتق يصح؛ فلأنه صَدَر من أهله في محلّه.
وأما كون الزوجة لا تستحق الصداق على قول غير القاضي؛ فلما ذكر المصنف رحمه الله من التعليل.
ووجه إفضاء استحقاق الصداق إلى بطلان العتق: أنها إذا استحقت الصداق لم يبق له شيء سوى قيمة الأمة المقدر بقاؤها. فلا ينفذ العتق في كلها؛ لكون الإنسان محجوراً عليه في التصرف في مرضه في جميع ماله، وإذا بطل العتق في البعض بطل النكاح، وإذا بطل النكاح بطل الصداق.
وأما كونها تستحق المائتين على قول القاضي؛ فلأنهما مستحقان بعقد (1) المعاوضة. أشبه ما لو تزوج غيرها.
قال: (وإن تبرع بثلث ماله، ثم اشترى أباه من الثلثين: فقال القاضي: يصح الشراء ولا يعتق. فإذا مات عتق على الورثة إن كانوا (2) ممن يعتق عليهم. ولا يرث؛ لأنه لم يعتق في حياته).
أما كون الشراء يصح؛ فلأن شراء المريض صحيح.
وأما كون الأب لا يعتق في الحال؛ فلأن ابنه اشتراه بما هو مُسْتَحَقٌّ للورثة بتقدير موته.
وأما كونه يعتق على ورثة المشتري إذا مات؛ فلأنهم ملكوا من يعتق عليهم.
واشترط المصنف رحمه الله: أن يكونوا ممن يعتق عليهم؛ مثل: أن يكونوا أولاد ابنه؛ لأن الجد يعتق على أولاد ابنه احترازاً من أن يكونوا ممن لا يعتق عليهم كإخوة ابنه لأمه وما أشبه ذلك.
وأما كونه لا يرث؛ فلما ذكر المصنف رحمه الله؛ لأن من شرط الإرث كونه حراً حين الموت، ولم يوجد.
(1) في هـ: بقدر.
(2)
في هـ: كان.