المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌ ‌بَابُ الصُّلْحِ ــ باب الصلح هو في اللغة: قطع المنازعة، وفي الشرع: عقد - النجم الوهاج في شرح المنهاج - جـ ٤

[الدميري]

الفصل: ‌ ‌بَابُ الصُّلْحِ ــ باب الصلح هو في اللغة: قطع المنازعة، وفي الشرع: عقد

‌بَابُ الصُّلْحِ

ــ

باب الصلح

هو في اللغة: قطع المنازعة، وفي الشرع: عقد يحصل به ذلك.

ويطلق على الصلح بين المسلمين والمشركين، وعلى الصلح بين الإمام والفئة الباغية، وعلى الصلح بين الزوجين عند الشقاق، وعلى الصلح في المعاملات والديون وهو المراد هنا ولا يقع غالبًا إلا على حطيطة لبلوغ بعض الغرض.

وأصل الباب قبل الإجماع: قوله تعالى: {والصلح خير} .

وقوله صلى الله عليه وسلم: (الصلح جائز بين المسلمين) رواه الحاكم [4/ 101] وقال على شرط الشيخين، زاد ابن حبان [5091] والترمذي [1352]:(إلا صلحًا أحل حرامًا أو حرم حلالًا، والمسلمون عند شروطهم إلا شرطًا حرم حلالًا أو أحل حرامًا).

فالصلح الذي يحرم الحلال: أن يصالح زوجته على أن لا يطلقها ونحو ذلك، والذي يحلل الحرام: أن يصالح على خمر أو خنزير، ومن حال على مؤجل، أو من دراهم على أكثر منها.

وانعقد الإجماع على جوازه، وأكثر أحكام عمر رضي الله عنه كانت صلحًا.

ولفظه يتعدى إلى المتروك بـ (من) و (عن) وإلى المأخوذ بـ (على) و (الباء) وهو أقسام:

بيع وإجارة، ويجمعهما صلح المعاوضة.

وهبة وإبراء، ويجمعهما صلح الحطيطة وهذه الأربعة في الكتاب.

وأهمل أقسامًا:

منها: أن يكون عارية يرجع فيها متى شاء، كالصلح من الدار على سكناها، وهي

ص: 432

هُوَ قِسْمَانِ: أَحَدُهُمَا يَجْرِي بَيْنَ الْمُتَدَاعِيَيْنِ، وَهُوَ نَوْعَانِ: أَحَدُهُمَا: صُلْحٌ عَلَى إِقْرَارٍ، فَإِنْ جَرَى: عَلَى عَيْنٍ غَيْرِ الْمُدَّعَاةِ .. فَهُوَ بَيْعٌ بِلَفْظِ الصُّلْحِ تَثْبُتُ فِيهِ أَحْكَامُهُ؛ كَالشُّفْعَةِ، وَالرَّدِّ بِالْعَيْبِ، وَمَنْعِ تَصَرُّفِهِ قَبْلَ قَبْضِهِ، وَاشْتِرَاطِ التَّقَابُضِ إِنِ اتَّفَقَا فِي عِلَّةِ الرِّبَا

ــ

في (الرافعي) قبيل الكلام على صلح الإنكار.

ومنها: أن يكون فسخًا، كما إذا صالح المسلم المسلم إليه على رأس ماله، وهي في (الكفاية) في (باب السلم) عن ابن سريج.

ومنها: أن يكون جعالة كقوله: صالحتك على كذا على رد عبدي.

ومنها: أن يكون خلعًا كقول المرأة: صالحتك عن كذا على أن تطلقني طلقة.

ومنها: أن يكون معاوضة عن دم العمد، وأن يكون فداء للحربي كقوله: صالحتك عن كذا على إطلاق الأسير.

واختلف الأصحاب: هل الصلح رخصة أو أصل بنفسه مندوب إليه؟

فقال أبو إسحاق وابن أبي هريرة والشيخ أبو حامد وآخرون: هو رخصة مستثنىً من المحظورات.

وقال ابن أبي سلمة والقاضي أبو حامد: إنه أصل بنفسه مندوب إليه.

فمن قال بالأول .. قال: الحديث المذكور مجمل، ومن قال بالثاني .. قال: إنه عام.

وتظهر فائدة الخلاف فيما إذا ترددنا في جواز نوع من الصلح، فإن جعلناه مجملًا .. لم يصح الاستدلال بالخبر على جوازه، وعلى الثاني يجوز إلا أن يقوم دليل على تخصيصه.

قال: (وهو قسمان: أحدهما يجري بين المتداعيين، وهو نوعان:

أحدهما: صلح على إقرار، فإن جرى: على عين غير المدَّعاة .. فهو بيع بلفظ الصلح تثبت فيه أحكامه؛ كالشفعة، والرد بالعيب، ومنع تصرفه قبل قبضه، واشتراط التقابض إن اتفقا في علة الربا) وغير ذلك من أحكامه؛ لأن حد البيع صادق

ص: 433

أَوْ عَلَى مَنْفَعَةٍ .. فَإِجَارَةٌ تَثْبُتُ أَحْكَامُهَا

ــ

عليه، لكن المصنف تبع (الشرح) و (المحرر) في قوله:(على عين غير المدعاة) وصوابه: على غير العين المدعاة؛ ليشمل ما إذا صالح منها على عين وعلى دين فإن الحكم سواء، وعلى عبارة الكتاب يكون الصلح من العين على دين غير مذكور.

قال: (أو على منفعة) أي: كسكنى دار وخدمة عبد (.. فإجارة تثبت أحكامها)؛ لصدق حد الإجارة عليه.

وصورة المسألة: أن يصالح عن العين المدعاة المقر بها على منفعة عين أخرى مدة معلومة بما يجوز عقد الإجارة عليه، فيملك المقر العين التي أقر بها، ويملك المقر له منفعة العين المصالح عليها، وكأنه استأجر العين التي أخذها بالعين التي ادعاها وأقر له بها.

وهكذا لو صالح من منافعها سنة على عين أو دين أو منفعة معلومة .. صح، وكأنه أجرها للمقر بما أخذ من العين أو الدين أو المنفعة، وهذان المثالان اللذان ذكرهما المصنف تشملهما المعاوضة، وهي أحد ضربي الصلح على الإقرار.

ولو صالح من العين على منافعها .. لم يجز؛ لأن العين ومنافعها ملك المقر له، فكيف يتعوض ملكه بملكه؟!

ولو صالح في هذه الصورة من منافعها عليها .. لم تكن إجارة لذلك،

ص: 434

أَوْ عَلَى بَعْضِ الْعَيْنِ الْمُدَّعَاةِ .. فَهِبَةٌ لِبَعْضِهَا لِصَاحِبِ الْيَدِ فَتَثْبُتُ أَحْكَامُهَا. وَلَا يَصِحُّ بِلَفْظِ الْبَيْعِ،

ــ

لكنها عارية مؤقتة إن أقت المدة، ومطلقة إن أطلق، وله الرجوع فيها متى شاء مؤقتة كانت أو مطلقة.

قال: (أو على بعض العين المدعاة .. فهبة لبعضها لصاحب اليد فتثبت أحكامها) أي: التي تقررت في بابها من اشتراط القبول ومدة إمكان القبض وغيرها، وهذا يسمى صلح الحطيطة.

وقوله: (المدعاة) احتراز عما إذا ادعى بعض عين وصالح منها على بعض عين أخرى ملكه، فإنه بيع .. دخل في قوله (عين غير المدعاة) وكذا لو صالح على منافع البعض الآخر كان إجارة.

وقوله: (فهبة) إلى آخره محل الاتفاق عليه إذا جرى بلفظ الهبة وما في معناها من التمليك ونحوه، فإن كان بلفظ الصلح .. فسيأتي.

كل هذا إذا جرى عقد الهبة من غير شرط، كما إذا أقر له بالدار فقال: وهبتك نصفها ولم يشترط شيئًا، فلو قال: وهبتك نصفها على أن تسلمني النصف الآخر .. لم يصح، كما سيأتي في نظيره من الإبراء.

قال: (ولا يصح بلفظ البيع)؛ لأن العين كلها ملك المقر له فإذا باعها ببعضها .. فقد باع الشيء ببعضه وهو باطل، وهذه إحدى المسائل التي فارق فيها الصلح البيع، حيث قطع الأصحاب بأنه لا يصح صلح الحطيطة بلفظ البيع، ويصح بلفظ الصلح في الأصح كما ذكره المصنف حيث قال:

ص: 435

وَالأَصَحُّ: صِحَّتُهُ بِلَفْظِ الصُّلْحِ. وَلَوْ قَالَ مِنْ غَيْرِ سَبْقِ خُصُومَةٍ: صَالِحْنِي عَنْ دَارِكَ بِكَذَا .. فَالأَصَحُّ: بُطْلَانُهُ. وَلَوْ صَالَحَ مِنْ دَيْنٍ عَلَى عَيْنٍ .. صَحَّ

ــ

(والأصح: صحته بلفظ الصلح) وعلى هذا: يكون هبة في القبول، وسائر أحكامها كما سبق.

والثاني: لا يصح؛ لأن الصلح يتضمن المعاوضة وهي مستحيلة هنا.

قال: (ولو قال من غير سبق خصومة) سواء كانت عند الحاكم أم غيره (: صالحني عن دارك بكذا .. فالأصح: بطلانه) نظرًا إلى اللفظ؛ لأن لفظ الصلح يقتضي سبق الخصومة.

والثاني: يصح نظرًا إلى المعنى؛ لأنه معاوضة فلم يشترط فيه ذلك قياسًا على البيع.

قال الرافعي والمصنف: وكأن هذا الخلاف مفروض فيما إذا استعمل لفظ الصلح ولم ينويا أو أحدهما، أما إذا استعملا ونويا أو أحدهما البيع .. فإنه يكون كناية بلا شك، ويجري فيه الخلاف في انعقاد البيع بها، وقواه الشيخ، وضعفه في (المطلب) وقطع بعدم التخريج؛ لكون اللفظ منافيًا للمعنى، فأشبه ما إذا قال: بعتك بلا ثمن .. فإنه لا يصح إذا نظرنا إلى اللفظ.

قال: (ولو صالح من دين على عين .. صح)؛ لعموم الأدلة على جواز الصلح، سواء عقد بلفظ الصلح أو البيع.

وشرط الدين: أن يجوز الاعتياض عنه كدين القرض والإتلاف، وكذلك ثمن المبيع ونحوه على الجديد كما تقدم، ولا يجوز عن دين السلم، وكذلك في إبل الدية على الأصح.

وقوله: (على عين) صوابه: على غيره بالغين المعجمة وبالهاء في آخره؛ فإنه قسمه بعد ذلك إلى عين ودين.

ص: 436

فَإِنْ تَوَافَقَا فِي عِلَّةِ الرِّبَا .. اشْتُرِطَ قَبْضُ الْعِوَضِ فِي الْمَجْلِسِ، وَإِلَاّ: فَإِنْ كَانَ الْعِوَضُ عَيْنًا .. لَمْ يُشْتَرَطْ قَبْضُهُ فِي الْمَجْلِسِ فِي الأَصَحِّ، أَوْ دَيْنًا .. اشْتُرِطَ تَعْيِينُهُ فِي الْمَجْلِسِ، وَفِي قَبْضِهِ الْوَجْهَانِ. وَلَوْ صَالَحَ مِنْ دَيْنٍ عَلَى بَعْضِهِ .. فَهُوَ إِبْرَاءٌ عَنْ بَاقِيهِ. وَيَصِحُّ بِلَفْظِ الإِبْرَاءِ وَالْحَطِّ وَنَحْوِهِمَا،

ــ

قال: (فإن توافقا) أي: الدين المصالح منه والعوض المصالح عليه (في علة الربا .. اشترط قبض العوض في المجلس) فمتى تفرقا قبل قبضه .. بطل الصلح، أما تعيينه في العقد .. فلا يشترط في الأصح.

قال: (وإلا) أي: وإن لم يتوافقا في علة الربا كالفضة بالحنطة.

قال: (فإن كان العوض عينًا .. لم يشترط قبضه في المجلس في الأصح، أو دينًا .. اشترط تعيينه في المجلس، وفي قبضه الوجهان) جميع هذا تقدم تعليله في الكلام على الاستبدال عن الثمن، ولو كان العوض منفعة .. فيقبض بقبض محلها.

قال: (ولو صالح من دين على بعضه .. فهو إبراء عن باقيه)؛ لأنه معناه، هذا صلح الحطيطة في الدين وما بعده وما قبله صلح معاوضة.

قال: (ويصح بلفظ الإبراء والحط ونحوهما) كالإسقاط والوضع فيقول لمن عليه مئة: أبرأتك من خمسين، أو وضعت عنك خمسين وأعطني الباقي، فيبرأ المديون من غير قبول كما سيأتي.

وفي (الصحيحين)[خ457 - م1558]: أن كعب بن مالك رضي الله عنه طلب من عبد الله بن أبي حدرد رضي الله عنه دينًا له عليه، فارتفعت أصواتهما في المسجد حتى سمعها رسول الله صلى الله عليه وسلم، فخرج إليهما ونادى:(يا كعب) قال: لبيك يا رسول الله، فأشار بيده أن ضع الشطر، قال: فقال: قد فعلت، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:(قم فاقضه).

(وحدرد): قال الجوهري: وزنه فعلع لا فعلل.

وإذا جرى ذلك بصيغة الإبراء ونحوها مما تقدم .. لا يشترط القبول على المذهب، سواء قلنا: الإبراء إسقاط أم تمليك، ولا يشترط قبض الباقي في المجلس.

ص: 437

وَبِلَفْظِ الصُّلْحِ فِي الأَصَحِّ. وَلَوْ صَالَحَ مِنْ حَالٍّ عَلَى مُؤَجَّلٍ مِثْلِهِ أَوْ عَكَسَ .. لَغَا، فَإِنْ عَجَّلَ الْمُؤَجَّلَ .. صَحَّ الأَدَاءُ. وَلَوْ صَالَحَ مِنْ عَشَرَةٍ حَالَّةٍ عَلَى خَمْسَةٍ مُؤَجَّلَةٍ .. بَرِئَ مِنْ خَمْسَةٍ وَبَقِيَتْ خَمْسَةٌ حَالَّهٌ، وَلَوْ عَكَسَ .. لَغَا ..

ــ

قال: (وبلفظ الصلح في الأصح).

صورتها: أن تقول: صالحتك عن المئة التي لي في ذمتك بخمسين وفيها وجهان:

أحدهما: لا يصح؛ لأن الصلح بيع.

والثاني –وهو الأصح-: الصحة؛ لأن معناه أعطني خمسين وأبرأتك من خمسين، ولو صرح بذلك .. صح كما تقدم، وعلى الأصح هل يشترط القبول في هذه الحالة؟ خلاف مدركه مراعاة اللفظ أو المعنى، والأصح اشتراطه.

قال: (ولو صالح من حال على مؤجل مثله) أي: جنسًا وقدرًا وصفة.

قال: (أو عكس .. لغا)؛ لأن الأول وعد من رب المال، والثاني وعد من المديون فلا يؤثران.

قال: (فإن عجل المؤجل .. صح الأداء)؛ لصدور الإيفاء والاستيفاء من أهلهما.

ومحل هذا: إذا لم تظن صحة الصلح ووجوب التعجيل، فإن ظن ذلك .. فإنه يسترد قطعًا، كمن ظن أن عليه دينًا فأداه فبان خلافه، وهذا فيه اضطراب حرره في (المهمات).

قال: (ولو صالح من عشرة حالّة على خمسة مؤجلة .. برئ من خمسة وبقيت خمسة حالّة)؛ لأن الصلح على بعض الدين إبراء، والتأجيل لا يلحق، وهذا تفريع على صحة المصالحة من الدين على بعضه بلفظ الصلح، فإن أبطلنا ذلك .. بقيت العشرة بحالها.

قال: (ولو عكس .. لغا) أي: صالح من عشرة مؤجلة على خمسة حالة فذلك لاغ؛ لأن صفة الحلول لا يصح إلحاقها، والخمسة الأخرى إنما تركها في مقابلته،

ص: 438

النَّوْعُ الثَّانِي: الصُّلْحُ عَلَى الإِنْكَارِ، فَيَبْطُلُ إِنْ جَرَى عَلَى نَفْسِ الْمُدَّعَى،

ــ

فإذا لم يحصل الحلول .. لا يحصل الترك.

وحكم الصحيح والمكسر حكم المؤجل والحالّ.

قال: (النوع الثاني: الصلح على الإنكار، فيبطل إن جرى على نفس المدعى) خلافًا للأئمة الثلاثة.

لنا: أنه لا أثر فيه يجب اتباعه، وهو صلح محرم للحلال إن كان المدعي صادقًا؛ لتحريمه المدعى به عليه بعد ذلك، أو محلل للحرام إن كان كاذبًا بأخذه ما لا يستحق، ولم يقل أحد من الأصحاب بجواز ذلك وإن كان كلام (المطلب) يفهم أن فيه وجهًا، وهو وهم.

وصورة الصلح على الإنكار: أن يقول: صالحني، أو يقول: صالحني عن دعواك، أو عن دعواك الكاذبة.

واستدل الأئمة الثلاثة لجوازه بما روى أحمد [6/ 320] وأبو داوود [3583]: أن رجلين اختصما في مواريث بينهما قد درست وليس بينهما بينة، فقال لهما رسول الله صلى الله عليه وسلم:(إنكم تختصمون إلي، ولعل بعضكم ألحن بحجته من بعض، وإنما أقضي بينكم على نحو ما أسمع، فمن قضيت له من حق أخيه شيئًا .. فلا يأخذه؛ فإنما أقطع له قطعة من نار يأتي بها إسطامًا في عنقه يوم القيامة) فبكى الرجلان وقال كل منهما: حقي لأخي، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:(أما إذ قلتما .. فاذهبا فاقتسما، ثم توخيا الحق، ثم استهما، ثم ليحلل كل واحد منكما صاحبه).

و (الإسطام): الحديدة التي تحرك بها النار وتسعر، أي: أقطع له ما تسعر به النار على نفسه وتشعلها، أو أقطع له نارًا مسعرة.

والجواب: أنه عليه الصلاة والسلام قسمه بينهما؛ لأن المال في يديهما ولا مرجح لأحدهما على الآخر.

وأما التحليل مع الجهالة .. فمن باب الورع؛ لأنه أقصى ما يمكن في هذه الحالة، بخلاف الجهل الذي يمكن استكشافه لا يصح معه التحلل ولا الصلح، ولا فرق في مسألة الكتاب بين أن يكون المدعى به عينًا أو دينًا.

ص: 439

وَكَذَا إِنْ جَرَى عَلَى بَعْضِهِ فِي الأَصَحِّ. وَقَوْلُهُ: صَالِحْنِي عَنِ الدَّارِ الَّتِي تَدَّعِيهَا لَيْسَ إِقْرَارًا فِي الأَصَحِّ ....

ــ

وإذا سكت المدعى عليه .. كان كالإنكار، قاله سليم وغيره، حكاه في (المطلب).

وإن أقيمت عليه بينة بعد إنكاره .. قال الماوردي: جاز الصلح؛ للزوم الحق بالبينة كلزومه بالإقرار، وإذا أقر ثم أنكر .. جاز الصلح، وإذا تصالحا ثم اختلفا في أنهما تصالحا على إقرار أو إنكار .. فالذي نص عليه الشافعي رضي الله عنه: أن القول قول مدعي الإنكار؛ لأنه الغالب كما تقدم في (اختلاف المتبايعين).

ولو أنكر فصولح ثم أقر .. قال في (الحاوي): يستمر البطلان، واستشكله الشيخ.

والمراد بـ (البطلان) ههنا: إنما هو في الظاهر، أما فيما بينه وبين الله تعالى .. فيحل له الأخذ إن كان محقًا.

قوله: (إن جرى على نفس المدعى) لا يستقيم؛ فإن (على) و (الباء) يدخلان على المأخوذ، و (من) و (عن) على المتروك كما تقرر، فصوابه:(إن جرى على غير المدعى) بالغين المعجمة والراء، وكذا هو في (المحرر)، كان الراء تصحفت على المصنف بالنون فعبر عنها بالنفس.

قال: (وكذا إن جرى على بعضه في الأصح) كما لو كان على غير المدعى، ولأن الاعتبار بقول الدافع، وهو يزعم أنه إنما بذله لكف الأذى، وأخذ المال لكف الأذى لا يجوز.

والثاني: يصح ويجعل المدعي واهبًا للنصف إن كان صادقًا، وموهوبًا له إن كان كاذبًا، ولا يبالى باختلافهما في ذلك.

قال: (وقوله: صالحني عن الدار التي تدعيها ليس إقرارًا في الأصح)؛ لأنه قد يريد قطع الخصومة.

ص: 440

الْقِسْمُ الثَّانِي: يَجْرِي بَيْنَ الْمُدَّعِي وَأَجْنَبِيٍّ؛ فَإِنْ قَالَ: وَكَّلَنِي الْمُدَّعَى عَلَيْهِ فِي الصُّلْحِ وَهُوَ مُقِرٌ لَكَ .. صَحَّ، وَلَوْ صَالَحَ لِنَفْسِهِ وَالْحَالَةُ هَذِهِ .. صَحَّ

ــ

والثاني: نعم كما لو قال: هبنيها .. فالمشهور: أنه إقرار.

ولو قال: ملكني الدار التي تدعيها .. جزموا بأنه إقرار، فلو قال: أجرني أو أعرني .. لم يكن إقرارًا.

ولو كان النزاع في دين فقال: أبرئني .. فهو إقرار على المشهور وقال بعض الأصحاب: لا يكون إقرارًا؛ لقوله تعالى: {فبرأه الله مما قالوا} وموسى عليه السلام لم يكن آدر، وتبرئته مما قالوا لا تقتضي إثباته.

قال: (القسم الثاني: يجري بين المدعي وأجنبي؛ فإن قال: وكلني المدعى عليه في الصلح وهو مقر لك .. صح)؛ لأن قبول الإنسان في دعوى الوكالة مقبول في جميع المعاملات، ثم إن كان صادقًا في دعوى الوكالة .. فيفعل ما وكل فيه من المصالحة على بعض المدعى، أو على شيء آخر عينًا كان أو دينًا، وإن لم يكن صادقًا .. فهو شراء فضولي وقد تقدم حكمه في (البيع).

وشمل قوله: (وهو مقر) ما إذا وقع الإقرار في الظاهر، وما إذا أقر عند الأجنبي الذي وكله فقط ولم يظهر خوفًا من أخذ المالك له، وقد صرح بالقسمين في (المحرر).

فلو قال: وكلني في مصالحتك وأن أعلم أنك محق .. فالصلح صحيح، جزم به القاضي أبو الطيب، وصاحب (التنبيه) وأقره عليه المصنف، وصححه الماوردي، وحكى وجهًا آخر: أنه لابد مع ذلك من الاعتراف بالإقرار.

وعلم من عبارة المصنف: أنه لا يكفي مجرد التوكيل بالمصالحة، وهو كذلك.

قال: (ولو صالح لنفسه والحالة هذه .. صح) أي: ظاهرًا، وكذا باطنًا، أما إذا كان دينًا .. فيأتي فيه الخلاف السابق في بيع الدين لغير من عليه.

واحترز بقوله: (والحالة هذه) عما إذا صالح لنفسه مع الإنكار وسيأتي.

ص: 441

وَكَأَنَّهُ اشْتَرَاهُ. وَإِنْ كَانَ مُنْكِرًا وَقَالَ الأَجْنَبِيُّ: هُوَ مُبْطِلٌ فِي إِنْكارِهِ .. فَهُوَ شِرَاءُ مَغْصُوبٍ، فَيُفَرَّقُ بَيْنَ قُدْرَتِهِ عَلَى انْتِزَاعِهَا وَعَدَمِهَا، وَإِنْ لَمْ يَقُلْ: هُوَ مُبْطِلٌ .. لَغَا الصُّلْحُ

ــ

قال: (وكأنه اشتراه)؛ لأن الصلح قد وقع بعد دعوى وجواب.

وتعبيره بكاف التشبيه أحسن من قول (الروضة): (كما لو اشتراه)؛ فإنه شراء حقيقة فلا معنى للتشبيه.

قال: (وإن كان منكرًا وقال الأجنبي: هو مبطل في إنكاره .. فهو شراء مغصوب فيفرق بين قدرته على انتزاعها وعدمها) وأشار المصنف بتأنيث الضمير في قوله: (انتزاعها) إلى أن صورة المسألة في العين، أما الدين .. فطريقة الكتاب بطلانه.

كل هذا إذا صالح الأجنبي لنفسه، فإن صالح للمدعى عليه والصورة كما في الكتاب .. فوجهان: أصحهما في الدين الصحة وفي العين المنع؛ لأنه لا يمكن أن يملكه العين قهرًا، بخلاف قضاء الدين.

قال: (وإن لم يقل: هو مبطل .. لغا الصلح)؛ لأنه اشترى منه ما لم يثبت له ملكه)، وهذه العبارة تشمل ثلاث صور:

إحداها: أن يقول: وهو محق.

والثانية: لا أعلم حاله.

والثالثة: أن يقول: صالحني ولا يذكر شيئًا، وهذه الثالثة ليست في (الشرح) ولا في (الروضة)، وإطلاق الكتاب و (المحرر) يقتضي البطلان فيها وهو كذلك.

تتمة:

قال أبو إسحاق: لا يحل للمنكر فيما بينه وبين الله تعالى أن يوكل في المصالحة؛ لأنه مع الإنكار إلجاء إلى بيعه منه، ولا يحل لأحد أن يلجئ غيره إلى بيع ماله.

ص: 442