الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
ذكر ولاية الملك العزيز عثمان على مصر
هو الملك العزيز عماد الدين أبو الفتح عثمان سلطان الديار المصريّة وابن سلطانها الملك الناصر صلاح الدين يوسف ابن الأمير نجم الدين أيّوب بن شادى ابن مروان الأيّوبىّ الكردىّ الأصل المصرىّ. ولى سلطنة مصر فى حياة والده صورة؛ ثم تسلطن بعد وفاته استقلالا باتّفاق الأمراء وأعيان الدولة بديار مصر، لأنه كان نائبا عن أبيه صلاح الدين بها لمّا كان أبوه مشتغلا بفتح السواحل بالبلاد الشاميّة وتمّ أمره. وكان مولده بالقاهرة فى ثامن جمادى الأولى سنة سبع وستين وخمسمائة. وكان الملك العزيز هذا أصغر من أخيه الملك الظاهر غازى صاحب حلب، وأصغر من أخيه الأفضل صاحب دمشق. وكان الأفضل هو أكبر الإخوة، وهو المشار إليه فى أيّام أبيه صلاح الدين ومن بعده، وهو الذي جلس للعزاء بعد موت صلاح الدين، وصار هو السلطان الأكبر إلى أن ظهر منه أمور، منها: أنّه كان استوزر ضياء الدين «1» الجزرىّ، فأساء ضياء الدين السّيرة؛ وشغّف قلوب الجند إلى مصر، وساروا إليها فالتقاهم الملك العزيز وأكرمهم، وكانوا معظم الصلاحيّة. واشتغل الأفضل بلهوه. وكان القدس فى يده فعجز عنه وسلّمه إلى نوّاب الملك العزيز هذا؛ فبان للناس عجز الأفضل. ثم وقعت الوحشة بين العزيز هذا وبين أخيه الأفضل المذكور. وبلغ الفرنج ذلك، فطمعوا فى البلاد وحاصروا جبلة، وكان بها جماعة من الأكراد فباعوها للفرنج. وبرز الملك العزيز من مصر يريد قتال الفرنج فى الظاهر، وفى الباطن أخذ دمشق من أخيه الأفضل؛
وعلم الأفضل بذلك فكتب إلى عمّه العادل أبى بكر بن أيّوب، وللمشارقة «1» بالنجدة، فأجابوه إلى ما يريد؛ وكان مع العادل عدّة بلاد بالشرق، وكان لمّا توفّى أخوه السلطان الملك الناصر صلاح الدين بالكرك قدم دمشق معزّيا للأفضل وأقام عنده أيّاما؛ ثم رحل إلى محلّ ولايته بالجزيرة والرّها «2» وسميساط «3» والرّقّة «4» وقلعة «5» جعبر وديار «6» بكر وميّافارقين «7» . وهى البلاد التى كان أعطاها له أخوه صلاح الدين فى حياته، وكان له أيضا مع ذلك بالبلاد الشاميّة الكرك والشّوبك.
والمقصود أنّ الملك العزيز هذا لمّا رحل من مصر إلى نحو دمشق، سار حتى نزل بظاهر دمشق، وقيل بعقبة الشّحورة «8» ؛ وجاء العادل بعساكر الشرق ونزل بمرج «9» عدواء. فأرسل إليه العزيز يقول: أريد الاجتماع بالعادل؛ فاجتمعا على ظهور خيلهما وتفاوضا؛ فقال له العادل: لا تخرّب البيت وتدخل عليه الآفة! والعدوّ وراءنا من كلّ جانب، وقد أخذوا جبلة؛ فارجع إلى مصر واحفظ عهد أبيك. وأيضا فلا تكسر حرمة دمشق، وتطمع فيها كل أحد! وعاد الملك العادل عنه إلى دمشق، واقام العزيز فى منزلته. وقدمت العساكر على الأفضل وبعث العادل إلى العزيز يقول له: ارحل إلى مرج الصّفّر؛ فرحل وهو مريض. وكان
قصد العادل أن يبعده عن البلد. فوصل الملك الظاهر غازى من حلب، والملك المنصور من حماة، وشيركوه بن محمد بن شيركوه من حمص، والأمجد من بعلبكّ، والجميع نجدة للأفضل. فقال لهم العادل: قد تقرّر أنّه يرحل إلى مصر. واشتدّ مرض العزيز فاحتاج إلى المصالحة، ولولا المرض ما صالح؛ فأرسل الملك العزيز كبراء دولته فخر الدين اياز جهاركس «1» وغيره يحلّف الملوك، وطلب مصاهرة عمّه العادل فزوّجه ابنته الخاتون. ورجع كلّ واحد إلى بلده، وذلك فى شعبان سنة تسع وثمانين وخمسمائة.
وقال العماد الكاتب الأصفهانىّ: خرج الملوك لتوديع الملك العزيز إلى مرج الصّفّر واحدا بعد واحد. وأوّل من خرج إليه أخوه الملك الظاهر غازى صاحب حلب، فبات عنده ليلة وعاد، فخرج إليه أخوه الأفضل صاحب الواقعة، فقام إليه واعتنقا وبكيا، وأقام عنده أيضا يوما، وكان قد فارقه منذ تسع سنين، فلمّا عاد كتب إلى العزيز من إنشائه من عدّة أبيات:
نظرتك «2» نظرة من بعد تسع
…
تقضّت بالتفرّق من سنين
ولمّا انفصل العساكر عن دمشق شرع الأفضل على عادته فى اللهو واللّعب، فاحتجب عن الرعيّة فسمّى «الملك النوّام» وفوّض الأمر إلى وزيره ضياء الدين الجزرىّ، وحاجبه الجمال محاسن بن العجمىّ، فأفسدا «3» عليه الأحوال، وكانا سببا لزوال دولته. واستمرّ الملك العزيز هذا بمصر وأمره ينمو ويزداد إلى سنة تسعين.
وفيها عاد الاختلاف ثانيا بين العزيز والأفضل؛ وسببه إغراء الجند والوسائط.
وكان أكبر المحرّضين للعزيز على أخيه الأفضل أسامة، حتّى قال له: إنّ الله يسألك عن
الرعيّة، هذا الرجل قد غرق فى اللهو وشربه، واستولى عليه الجزرىّ وابن العجمىّ.
ثم قال له القاضى ابن أبى عصرون: لا تسلم يوم القيامة. وبلغ الأفضل قول أسامة وابن أبى عصرون فأقلع عمّا كان عليه، وتاب وندم على تفريطه، وعاشر العلماء والصلحاء، وشرع يكتب مصحفا بخطّه، وكان خطّه فى النهاية، فلم يغن عنه ذلك. وتحرّك العزيز يقصده، فسار الأفضل إلى عمّه العادل يستنجد به، فالتقاه العادل على صفّين «1» ، فسار معه بعساكر الشرق إلى دمشق؛ وكان الأفضل لمّا اجتاز بحلب اتّفق مع أخيه الظاهر غازى وتحالفا، وجاء إلى حماة ففعل كذلك مع ابن عمّه المنصور.
وصار العادل يشير عليه بعزل الجزرىّ عن الوزارة، ويقول له: هذا يخرّب بيتك.
فصار لا يلتفت إليه فحنق منه. ثم إنّ العادل سأل الملك الظاهر غازى فى شىء فلم يجبه، فغضب لذلك العادل وانفرد عنهم، وكتب إلى العزيز يخبره أنّه معه، ويستحثّه على القدوم إلى دمشق؛ فخرج العزيز من مصر مسرعا، ثم علم العادل أنّه لا طاقة له بالعزيز ولا بالظاهر؛ فراسل الأسديّة الذين كانوا بمصر، وأوعدهم بالأموال والإقطاعات. وكان الملك العزيز قد قدّم عليهم الصلاحيّة مماليك أبيه. والأسديّة هم مماليك عمّه أسد الدين شيركوه وحواشيه الأكراد؛ ثم دسّ العادل للأسديّة الأموال، وكان مقدّم الأكراد الأسديّة أبو الهيجاء السّمين؛ وكان العزيز قد عزله عن ولاية القدس، وتقدّمت الأسديّة بسيف الدين جرديك؛ فركب أبو الهيجاء بجموعه، ومعه أزكش فى الليل، وقصدوا دمشق، فأصبح العزيز فلم يرفى الخيام من الأسديّة أحدا، فرجع إلى مصر. وشرع أزكش وأبو الهيجاء والأسديّة يحرّضون العادل على أخذ مصر؛ وكانت الأسديّة والأكراد يكرهون العادل، وإنّما دعتهم
الضرورة إليه. واتّفق العادل مع ابن أخيه الأفضل وسارا إلى جهة العزيز نحو مصر.
فلمّا وصلوا إلى القدس ولّوا أبا الهيجاء كما كان، وعزلوا جرديك عنها؛ ثم ساروا حتّى نزلوا بلبيس وبها جماعة من الصلاحيّة. فتوقّف العادل عن القتال ولم ير انتزاع مصر من يد العزيز، وظهرت منه قرائن تدلّ على أنّه لا يؤثر السلطنة للأفضل، ولا يرى بتقدمته على العزيز. فأرسل العادل إلى العزيز يطلب منه القاضى الفاضل، وكان الفاضل قد اعتزلهم وانقطع إلى داره، فأرسل إليه العزيز يسأله فامتنع، فتضرّع إليه وأقسم عليه، فخرج إلى العادل، فاحترمه العادل وأكرمه وتحدّث معه بما قرّره، وعاد الفاضل إلى العزيز وتحدّث معه، فأرسل العزيز ولديه الصغيرين مع خادم له برسالة ظاهرة، مضمونها:«لا تقاتلوا المسلمين ولا تسفكوا دماءهم، وقد أنفذت ولدىّ يكونان تحت كفالة عمّى العادل، وأنا أنزل لكم عن البلاد وأمضى إلى الغرب» .
وكان ذلك بمشهد من الأمراء، فرقّ العادل وبكى من حضر. فقال العادل:
معاذ الله! ما وصل الأمر إلى هذا الحدّ.
وكان العادل قد قرّر مع القاضى الفاضل ردّ خير الأسديّة وإقطاعاتهم وأملاكهم، وأن يبقى أبو الهيجاء على ولاية القدس. ثم قال العادل للأفضل:
المصلحة أن تمضى إلى أخيك وتصالحه، ما عذرنا عند الله وعند الناس إذا فعلنا بابن أخينا ما لا يليق!. وكان العزيز أرسل يقول للعادل مع الخادم المقدّم ذكره:«البلاد بلادك وأنت السلطان ونحن رعيّتك» . ففهم الأفضل أنّ العادل رجع عن يمينه، وأنّه اتّفق مع العزيز على أخذ البلاد منه، لكنّه لم يمكنه الكلام، ومضى إلى أخيه الملك العزيز واصطلحا، وعاد إلى دمشق. ودخل العزيز والعادل والأسديّة إلى القاهرة يوم الخميس رابع ذى الحجّة. وسلطن العادل العزيز ومشى بين يديه بالغاشية «1» .
ولو أراد العادل مصر فى هذه المرّة لأخذها؛ وإنّما كان قصده الإصلاح بين الإخوة.
ثم وقع بين العزيز هذا والأفضل ثالثا، وهو أنّه لمّا عاد الأفضل إلى دمشق ازداد وزيره الجزرىّ من الأفعال القبيحة، والأفضل يسمع منه ولا يخالفه، فكتب قيماز النّجمىّ وأعيان الدولة إلى العادل يشكونه، فأرسل العادل إلى الأفضل:
«ارفع يد هذا الأحمق السيّئ التدبير القليل التوفيق» ، فلم يلتفت. فاتّفق العادل مع ابن أخيه العزيز هذا على التوجّه إلى الشام فسارا. واستشار الأفضل أصحابه، فكلّ أشار عليه بأن يلتقى عمّه العادل وأخاه العزيز ولا يخالفهما إلّا الجزرىّ، فإنّه أشار بالعصيان، فاستعد الأفضل للقتال والحصار وحلّف الأمراء والمقدّمين، وفرّقهم فى الأبراج والأسوار، فراسلوا العزيز والعادل وأصلحوا أمرهم فى الباطن؛ واتّفق العادل مع عزّ الدين الحمصى على فتح الباب الشرقىّ؛ وكان مسلّما إليه، فلمّا كان يوم الأربعاء سادس عشرين شهر رجب ركب العادل والعزيز وجاءا إلى الباب الشرقىّ ففتحه ابن الحمصى فدخلا إلى البلد من غير قتال؛ فنزل العزيز دار عمّته ستّ الشام، ونزل العادل دار العقيقىّ، ونزل الأفضل إليهما وهما بدار العقيقى؛ فدخل عليهما وبكى بكاء شديدا، فأمره العزيز بالانتقال من دمشق إلى صرخد، فأخرج وزيره الجزرىّ فى الليل فى جملة الصناديق خوفا عليه من القتل، فأخذ أموالا عظيمة وهرب إلى بلاده.
وكان العزيز قد قرّر مع عمّه العادل أن يكون نائبه بمصر، ويقيم العزيز بدمشق.
ثم ندم فأرسل إلى أخيه الأفضل رسالة فيها صلاح حاله. ثم وقعت أمور إلى أن سلّم العزيز بصرى إلى العادل، وكان بها الظافر. وأقام العزيز بعد ذلك بدمشق مدّة، وصلّى الجمعة عند قبر والده بالكلّاسة وأمر ببناء القبّة والمدرسة إلى جانبها،
ثم أمر محيى الدين بن الزّكىّ بعمارة المدرسة العزيزيّة، ونقل السلطان صلاح الدين إلى الكلّاسة فى سنة اثنتين وتسعين وخمسمائة. وكان الأفضل قد شرع فى بناء تربة عند مشهد «1» القدم بوصيّة من السلطان صلاح الدين. وكان الملك العزيز إذا جلس فى مجالس لهوه يجلس العادل على بابه، كأنّه برد [هـ «2» ] داره. فلمّا كان آخر ليلة من مقام العزيز بدمشق، وكانت ليلة الاثنين تاسع شعبان، قال العادل لولده المعظم عيسى:
ادخل إلى العزيز فقبّل يده واطلب منه دمشق، وكان المعظّم قد راهق الحلم، فدخل إلى ابن عمّه العزيز وقبّل يده وطلب منه دمشق، فدفعها إليه وأعطاه مستحقّه، وقيل: بل استناب العادل فيها، ثم أعطاها للمعظّم فى سنة أربع وتسعين. وكان خروج الملك العزيز من دمشق فى يوم تاسع شعبان المذكور. وسار إلى مصر ومضى الأفضل إلى صرخد، واجتاز العزيز بالقدس فعزل أبا الهيجاء السمين عن نيابتها، وولّاها لسنقر الكبير، ومضى أبو الهيجاء إلى بغداد.
واستمرّ الملك العزيز بمصر، واستقامت الأمور فى أيّامه، وعدل فى الرعيّة، وعفّ عن أموالها حتّى قيل: إنّ ابن البيسانىّ أخا القاضى الفاضل بذل على قضاء المحلّة «3» أربعين ألف دينار، فعجّل منها عشرين ألفا، وكان رسوله فى ذلك الملك العادل عمّ العزيز المقدّم ذكره، وبذل له عن ترسّله خمسة آلاف دينار، وللحاجب
أبى بكر ألف دينار، ولجهاركس ألف دينار. فاجتمعوا على العزيز جميعا وخاطبوه فى ذلك، وألحّ عليه الملك العادل. فقال له العزيز: والله يا عمّ، هذا الرجل بذل لنا هذا البذل [لا «1» ] عن محبّة لنا، والله إنّه ليأخذ من أموال الرعيّة أضعاف ذلك، لا ولّيته أبدا! فرجع العادل عن مساعدته، فلمّا آل الأمر إلى العادل صادر ابن البيسانىّ المذكور، وأخذ منه أموالا كثيرة. انتهى.
وقال القاضى شمس الدين بن خلّكان فى ترجمة الملك العزيز هذا بعد أن ذكر اسمه ولقبه قال: «وكان ملكا مباركا كثير الخير واسع الكرم محسنا إلى الناس معتقدا فى أرباب الخير والصلاح، وسمع بالإسكندرية الحديث من [الحافظ «2» ] السّلفىّ، والفقيه أبى طاهر بن عوف الزّهرىّ، وسمع [بمصر «3» ] من العلّامة أبى محمد بن برّىّ النحوىّ وغيرهم. ويقال: إنّ والده لمّا كان بالشام والقاضى الفاضل عبد الرحيم بالقاهرة عند العزيز ولد للعزيز المذكور ولد، فكتب القاضى الفاضل يهنّئ والده السلطان صلاح الدين بولد ولده، فقال:«المملوك يقبّل الأرض بين يدى مولانا الملك الناصر، دام «4» رشده وإرشاده، وزاد سعده وإسعاده، وكثر أولياؤه وعبيده وأحفاده، واشتدّ بأعضاده فيهم اعتضاده، وأنمى الله عدده حتّى يقال هذا آدم الملوك وهذه أولاده؛ وينهى أنّ الله تعالى- وله الحمد- رزق الملك العزيز- عزّ نصره- ولدا مباركا عليّا، ذكرا سريّا، [برّا «5» ] زكيّا، نقيّا تقيّا؛ من ورثة كريمة بعضها من بعض، وبيت شريف كادت ملوكه تكون ملائكة فى السماء، ومماليكه ملوكا فى الأرض» . انتهى ما كتبه القاضى الفاضل فى التهنئة.
قال ابن خلّكان- رحمه الله: «وكانت ولادة العزيز بالقاهرة فى ثامن جمادى الأولى سنة سبع وستين وخمسمائة. وكان قد توجّه إلى الفيّوم، فطرد فرسه وراء، صيد فتقنطر به فرسه، فأصابته الحمّى من ذلك، وحمل إلى القاهرة فتوفّى بها فى الساعة السابعة من ليلة الأربعاء «1» الحادى والعشرين من المحرّم سنة خمس وتسعين وخمسمائة- رحمه الله تعالى- قال: ولمّا مات كتب القاضى الفاضل إلى عمّه العادل رسالة يعزّيه، من جملتها:
«فنقول فى توديع النّعمة بالملك العزيز: لا حول ولا قوّة إلا بالله قول الصابرين، ونقول فى استقبالها بالملك العادل؛ الحمد لله ربّ العالمين قول الشاكرين؛ وقد [كان «2» ] من أمر هذه الحادثة «3» ما قطّع «4» كلّ قلب وجلب كلّ كرب ومثّل وقوع هذه الواقعة لكلّ أحد ولا سيما لأمثال المملوك، ومواعظ الموت بليغة، وأبلغها ما كان فى شباب الملوك؛ فرحم الله ذلك الوجه ونضّره، ثمّ السبيل إلى الجنة يسّره.
وإذا محاسن أوجه بليت
…
فعفا الثرى عن وجهه الحسن
والمملوك فى حال تسطير هذه الخدمة جامع بين مرضى قلب وجسد، ووجع أطراف وعليل كبد؛ فقد فجع المملوك بهذا المولى، والعهد بوالده غير بعيد، والأسى فى كلّ يوم جديد؛ وما كان ليندمل ذلك القرح، حتّى أعقبه هذا الجرح؛ والله تعالى لا يعدم المسلمين بسلطانهم الملك العادل [السلوة «5» ، كما لم يعدمهم بنبيّهم صلى الله عليه وسلم الأسوة]- وأخذ فى نعت الملك العادل إلى أن قال-: ودفن بالقرافة
الصغرى (يعنى العزيز) فى قبّة الإمام الشافعىّ- رضى الله عنه-. وقبره معروف هناك» انتهى كلام ابن خلّكان برمّته، ولم يتعوّض لشىء من أحواله، ولا إلى ما كان فى بداية أمره.
وقال أبو المظفّر سبط ابن الجوزىّ فى تاريخه: «وفيها (يعنى سنة خمس وتسعين) توفّى الملك العزيز عثمان بن صلاح الدين صاحب مصر. كان صلاح الدين يحبّه، وكان جوادا شجاعا عادلا منصفا لطيفا كثير الخير رفيقا بالرعيّة حليما. حكى لى المبارز سنقر الحلبىّ- رحمه الله قال: ضاق ما بيده بمصر (يعنى عن العزيز) ولم يبق فى الخزانة درهم ولا دينار، فجاء رجل من أهل الصعيد إلى أزكش سيف الدين، قال: عندى للسلطان عشرة آلاف دينار ولك ألف دينار، وتولينى قضاء الصعيد؛ فدخل أزكش إلى العزيز فأخبره؛ فقال: والله لا بعت دماء المسلمين وأموالهم «1» بملك الأرض! وكتب ورقة لأزكش بألف دينار. وقال: اخرج فاطرد هذا الدبر «2» ، ولولاك لأدّبته.
وقد ذكرنا أنّه وهب دمشق [للملك «3» ] المعظّم، وكان يطلق عشرة آلاف دينار وعشرين ألفا. وكان سبب وفاته أنّه خرج إلى الفيّوم يتصيّد، فلاح له ظبى فركض الفرس خلفه فكبا به الفرس، فدخل قربوس [السرج «4» ] فى فؤاده، فحمل إلى القاهرة فمات فى العشرين من المحرّم، ودفن عند الشافعى- رحمه الله عن سبع وعشرين سنة وشهور؛ وقيل: عن ثمان وعشرين سنة. ولمّا مات نصّ على ولده ناصر الدين محمد، وهو أكبر أولاده، وكان له عشرة أولاد، ولم يذكر عمّه العادل فى الوصيّة.
وأوصى للأمير أزكش، وكان مقدّم الأسديّة وكبيرهم، وعاش بعد العزيز مدّة طويلة» . انتهى كلام أبى المظفّر.
وقال ابن القادسىّ- خلاف ما نقل أبو المظفّر وابن خلّكان وغيرهما- قال:
وقال الشيخ شمس الدين يوسف بن قزأوغلى فى تاريخه: «ولمّا مات العزيز كان لابنه محمد عشر سنين، وكان مقدّم الصّلاحيّة فخر الدين جهاركس، وأسد الدين سرا سنقر، وزين الدّين قراجا؛ فاتّفقوا على ناصر الدين محمد (يعنى ابن العزيز) ، وحلّفوا له الأمراء. وكان سيف الدين أزكش مقدّم الأسدية غائبا بأسوان، فقدم فصوّب رأيهم وما فعلوه، إلّا أنّه قال: هو صغير السّن لا ينهض بأعباء الملك، ولا بدّ من تدبير كبير يحسم الموادّ ويقيم الأمور؛ والعادل مشغول فى الشرق بماردين «1» ، وما ثمّ أقرب من الأفضل نجعله أتابك العساكر. فلم يمكن الصّلاحيّة مخالفته.
وقالوا: افعل، فكتب أزكش إلى الأفضل يستدعيه وهو بصرخد «2» ، وكتبت الصلاحيّة إلى من بدمشق من أصحابهم يقولون: قد اتّفقت الأسديّة على الأفضل، وإن ملكوا حكموا علينا، فامنعوه من المجىء؛ فركب عسكر دمشق ليمنعوه ففاتهم؛ وكان الأفضل قد التقى نجّابا من جهاركس إلى من بدمشق بهذا المعنى، ومعه كتب فأخذها منه وقال: ارجع فرجع إلى مصر. ولمّا وصل الأفضل إلى مصر التقاه
الأسديّة- نحكى ذلك كلّه فى أوّل ترجمة الملك المنصور بن العزيز هذا، إن شاء الله-
وكان الملك العزيز قوّيّا ذا بطش وخفّة حركة، كريما محسنا «1» عفيفا لم يردّ سائلا؛ وبلغ من كرمه أنّه لم يبق له خزانة ولا خاصّ ولا ترك ولا فرش. وأمّا عفته فإنّه كان له غلام تركىّ اشتراه بألف دينار يقال له: أبو شامة، فوقف يوما على رأسه فى خلوة ليس معهما ثالث، فنظر العزيز إلى جماله، وأمره أن ينزع ثيابه، وقعد العزيز منه مكان الفاحشة؛ فأدركه التوفيق ونهض مسرعا إلى بعض سراريه فقضى وطره، وخرج إلى الغلام وأمره بالخروج عنه» . انتهى.
ويحكى عن عفّته عن الأموال: أنّ عرب المحلّة قتلوا بعض أمرائه، وكان والى المحلة ابن بهرام، فجباهم عشرة آلاف دينار، وجاء بها إلى القاهرة؛ فصادف فى الدّهليز غلاما خارجا من عند السلطان؛ فقال ابن بهرام: ارجع إلى السلطان واستأذنه لى؛ فقال الغلام: دعنى، أنا فى أمر مهمّ للسلطان، قد وهب لشيخ صيّاد دينارين، وقد سيّرنى إلى الجهات كلّها فلم أجد فيها شيئا، وقد تعذّر عليه هذا المبلغ اليسير؛ فقال: ارجع إليه، معى مال عظيم. فلمّا دخل ابن بهرام إلى العزيز فضّ المال بين يديه وقال: هذا دية فلان؛ فقال: أخذتها من القاتل؟ قال: لا، بل من القبيلة؛ فقال العزيز: لا أستجيز أخذه، ردّه على أربابه، فراجعه فاكفهرّ؛ فخرج ابن بهرام بالمال وهو يقول: ما يردّ هذا مع شدّة الحاجة إلّا مجنون!. فرحم الله هذه الشّيم.
انتهت ترجمة الملك العزيز من عدّة أقوال. رحمه الله تعالى وعفا عنه وعن جميع المسلمين والحمد لله رب العالمين.