الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
ذكر أخذ دمياط
قال أبو المظفّر فى تاريخه: «فى شعبان أخذ الفرنج دمياط، وكان المعظّم قد جهّز إليها الناهض بن الجرخى «1» فى خمسمائة راجل، فهجموا على الخنادق فقتل ابن الجرخى ومن كان معه، وصفّوا رءوس القتلى على الخنادق، وكان الفرنج قد طمّوها (يعنى الخنادق) وضعف أهل دمياط وأكلوا الميتات، وعجز الملك الكامل عن نصرتهم، ووقع فيهم الوباء والفناء، فراسلوا الفرنج على أن يسلّموا إليهم البلد ويخرخوا منه بأموالهم وأهلهم، واجتمعوا؟؟؟ وحلّفوهم على ذلك، فركبوا فى المراكب وزحفوا فى البرّ والبحر، وفتح لهم أهل دمياط الأبواب، فدخلوا ورفعوا أعلامهم على السّور، وغدروا بأهل دمياط، ووضعوا فيهم السيف قتلا وأسرا، وباتوا تلك الليلة بالجامع يفجرون بالنساء، ويفتضّون البنات، وأخذوا المنبر والمصاحف ورءوس القتلى، وبعثوا بها إلى الجزائر، وجعلوا الجامع كنيسة؛ وكان أبو الحسن ابن قفل «2» بدمياط، فسألوا عنه، فقيل لهم: هذا رجل صالح من مشايخ المسلمين يأوى اليه الفقراء، فما تعرّضوا له. ووقع على المسلمين «3» كآبة عظيمة. وبكى الكامل والمعظّم بكاء شديدا، ثم تأخّرت العساكر عن تلك المنزلة. ثم قال الكامل لأخيه المعظّم:
قد فات المطلوب، وجرى المقدر بما هو كائن، وما فى مقامك هاهنا فائدة؛ والمصلحة أن تنزل إلى الشام تشغل خواطر الفرنج، وتستجلب العساكر من بلاد الشرق.
قال أبو المظفّر: فكتب المعظّم إلىّ وأنا بدمشق كتابا بخطّه، يقول- فى أوّله «4» -
قد علم الأخ العزيز بأن قد جرى على دمياط ما جرى، وأريد أن تحرّض الناس على الجهاد، ونعرّفهم ما جرى على إخوانهم أهل دمياط من الكفرة أهل العناد.
وإنّى كشفت ضياع الشام فوجدتها ألفى قرية، منها ألف وستّمائة أملاك لأهلها، وأربعمائة سلطانيّة، وكم مقدار ما تقوم به هذه الأربعمائة من العساكر؟ وأريد أن تخرج الدماشقة ليذبّوا عن أملاكهم الأصاغر «1» منهم والأكابر. ويكون لقاؤنا وهم صحبتك إلى نابلس فى وقت سمّاه. قال: فجلست بجامع دمشق وقرأت كتابه عليهم، فأجابوا بالسمع والطاعة، [وقالوا «2» : نمتثل أمره بحسب الاستطاعة] . وتجهّزوا؛ فلمّا حلّ ركابه بالساحل وقع التقاعد، وكان تقاعدهم سببا لأخذه الثمن والخمس من أموالهم «3» . وكتب إلىّ يقول: إذا لم يخرجوا فسر أنت إلينا، فخرجت إلى الساحل وهو نازل على قيسارية، فأقمنا حتّى فتحها عنوة، ثم سرنا إلى النفر «4» ففتحه وهدمه؛ وعاد إلى دمشق بعد أن أخرج «5» العساكر إلى السواحل. واستمرّ الملك الكامل على مقاتلة الفرنج إلى أن فتح الله عليه فى سنة ثمانى عشرة وستمائة، وطلب من إخوته النجدة، وتوجّه المعظّم فى أوّل السنة إلى أخيه الأشرف موسى، واجتمعا على حرّان.
وكتب صاحب ماردين إلى الأشرف يسأله أن يصعد المعظّم إليه، فسأله فسار إلى ماردين، فتلقّاه صاحب ماردين من دنيسر، وأصعده إلى القلعة وخدمه خدمة
عظيمة، وقدّم له التّحف والجواهر «1» وتحالفا واتّفقا على ما أرادا، ثم عاد المعظّم إلى أخيه الأشرف. وجاء خبر دمياط. وكان المعظّم أحرص الناس على خلاص دمياط والغزاة، وكان مصافيا لأخيه الكامل، وكان الأشرف مقصّرا فى حقّ الكامل مباينا له فى الباطن؛ فلمّا اجتمعت العساكر على حرّان قطع بهم المعظّم الفرات، وسار الأشرف فى آثاره، ونزل المعظّم حمص والأشرف سلمية. قال: وكنت قد خرجت من دمشق إلى حمص لطلب الغزاة، فإنّهم كانوا «2» على عزم الدخول إلى طرابلس، فاجتمعت بالمعظّم فى شهر ربيع الآخر فقال لى: قد سحبت الأشرف إلى هاهنا وهو كاره، وكلّ يوم أعتبه فى تأخّره وهو يكاسر «3» وأخاف من الفرنج أن يستولوا على مصر، وهو صديقك؛ وأشتهى أن تقوم تروح إليه فقد سألنى عنك [مرارا «4» ] ؛ ثم كتب إلى [أخيه «5» ] كتابا بخطّه نحو ثمانين سطرا، فأخذته ومضيت إلى سلمية؛ وبلغ الأشرف وصولى فخرج من الخيمة وتلقّانى وعاتبنى على انقطاعى، [عنه «6» ] وجرى بينى وبينه فصول؛ وقلت له: المسلمون فى ضائقة، وإذا أخذ الفرنج الديار المصريّة ملكوا إلى حضرموت، وعفّوا آثار مكّة والمدينة والشام [وأنت «7» تلعب]، قم الساعة وارحل؛ فقال: ارموا الخيام [والدهليز «8» ]، وسبقته إلى حمص فتلقّانى المعظّم؛ وقال: ما نمت البارحة ولا أكلت اليوم شيئا، فقلت: غدا يصبّح أخوك الأشرف حمص.
فلمّا كان من الغد أقبلت الأطلاب «9» وجاء طلب الأشرف، والله ما رأيت أجمل منه ولا أحسن رجالا ولا أكمل عدّة، وسرّ المعظّم سرورا عظيما؛ وجلسوا تلك الليلة
يتشاورون، فاتّفقوا على الدخول فى السحر إلى طرابلس، وكانوا على حال، فأنطق الله الملك الأشرف من غير قصد وقال للمعظّم: ياخوند «1» ، عوض ما ندخل الساحل وتضعف خيلنا وعساكرنا ويضيع الزمان ما نروج إلى دمياط ونستريح؟ فقال له المعظّم- قول رماة البندق قال-: نعم، فقبّل المعظّم قدمه ونام الأشرف، فخرج المعظّم من الخيمة كالأسد الضارى يصيح: الرحيل الرحيل إلى دمياط؛ وما كان يظنّ أنّ الأشرف يسمح بذلك، وساق المعظّم إلى دمشق وتبعته العساكر، ونام الأشرف فى خيمته إلى قرب الظهر، وانتبه فدخل الحمّام فلم ير [حول «2» ] خيمته أحدا، فقال: وأين العساكر؟ فأخبروه الخبر فسكت، وساق إلى دمشق فنزل القصير يوم الثلاثاء رابع جمادى الأولى، فأقام إلى سلخه، وعرض العساكر تحت قلعة دمشق، وكان هو وأخوه المعظّم فى الطّيارة بقلعة دمشق، وساروا إلى مصر.
وأمّا الفرنج فإنّهم خرجوا بالفارس والراجل، وكان البحر زائدا جدّا، فجاءوا إلى ترعة فأرسوا عليها، وفتح المسلمون عليهم الترع من كلّ مكان، وأحدق بهم عساكر الكامل، فلم يبق [لهم «3» ] وصول إلى دمياط؛ وجاء أسطول المسلمين فأخذوا مراكبهم، ومنعوهم أن تصل إليهم الميرة من دمياط، وكانوا خلقا عظيما، وانقطعت أخبارهم عن دمياط، وكان فيهم مائة كند «4» وثمانمائة من الخيّالة المعروفين وملك عكّا والدوك؟ «5» واللوكان نائب البابا؛ ومن الرجّالة مالا يحصى، فلمّا عاينوا الهلاك أرسلوا إلى الكامل يطلبون الصلح والرهائن، ويسلّمون دمياط؛ فمن حرص «6» الكامل على
خلاص دمياط أجابهم، ولو أقاموا يومين أخذوا برقابهم؛ فبعث إليهم الكامل ابنه الملك الصالح نجم الدين أيّوب، وابن أخيه شمس الملوك؛ وجاء ملوكهم إلى الكامل ممّن سمّينا، فالتقاهم وأنعم عليهم وضرب لهم الخيام. ووصل المعظّم والأشرف فى تلك الحال إلى المنصورة فى ثالث رجب، فجلس الكامل مجلسا عظيما فى خيمة كبيرة عالية، وقد مدّ سماطا عظيما، وأحضر ملوك الفرنج [والخيّالة «1» ] ، ووقف المعظّم والأشرف والملوك فى خدمته، وقام الحلّى «2» الشاعر- رحمه الله تعالى- فأنشد:
هنيئا فإنّ السعد راح مخلّدا
…
وقد أنجز الرحمن بالنصر موعدا
حبانا إله الخلق فتحا بدا لنا
…
مبينا وإنعاما وعزّا مؤبّدا
تهلّل وجه الدهر «3» بعد قطوبه
…
وأصبح وجه الشرك بالظلم أسودا
ولمّا طغى البحر الخضمّ بأهله ال
…
طغاة وأضحى بالمراكب مزبدا
أقام لهذا الدّين من سلّ سيفه
…
صقيلا كما سلّ الحسام مجرّدا
فلم ينج إلّا كلّ شلو مجدّل
…
ثوى منهم أو من تراه مقيّدا
ونادى لسان الكون فى الأرض رافعا
…
عقيرته فى الخافقين ومنشدا
أعبّاد عيسى إنّ عيسى وحزبه
…
وموسى جميعا يخدمون محمّدا
وهذا من أبيات كثيرة.
قلت: صحّ للشاعر فيما قصد من التورية فى المعظّم عيسى والأشرف موسى، لمّا وقفا فى خدمة الكامل محمد، فلله دره! لقد أجاد فيما قال.
ووقع الصلح بين الملك الكامل وبين الفرنج فى يوم الأربعاء تاسع عشر شهر رجب سنة ثمانى عشرة وستمائة، وسار بعض الفرنج فى البرّ وبعضهم فى البحر إلى عكّا، وتسلّم الكامل دمياط.
قلت: ويعجبنى قول البارع كمال الدين «1» علىّ بن النّبيه فى مدح مخدومه الملك الأشرف موسى لمّا حضر مع أخيه المعظّم إلى دمياط فى هذه الكائنة قصيدته التى أوّلها:
للذّة العيش والأفراح «2» أوقات
…
فانشر لواء له بالنصر عادات
إلى أن قال منها:
دمياط طور ونار الحرب موقدة
…
وأنت موسى وهذا اليوم ميقات
ألق العصا تتلقّف كلّ ما صنعوا
…
ولا تخف ما حبال القوم حيّات
وهى قصيدة طويلة مثبتة فى ديوان ابن النبيه.
قال أبو المظفّر قال فخر الدين ابن «3» شيخ الشيوخ: «4» لمّا حضر الفرنج دمياط صعد الكامل على مكان عال، وقال لى: ما ترى ما أكثر الفرنج! ما لنا بهم طاقة؛ [قال «5» ] فقلت [له «6» ] : أعوذ بالله من هذا الكلام؛ قال: ولم؟ قلت لأنّ السعد [موكّل «7» ] بالمنطق، قال: فأخذت الفرنج دمياط بعد قليل، فلمّا طال الحصار صعد يوما على مكان عال، وقال: يا فلان، ترى الفرنج ما أقلّهم! والله ما هم شىء؛