المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌ذكر سلطنة الملك الصالح نجم الدين أيوب على مصر - النجوم الزاهرة فى ملوك مصر والقاهرة - جـ ٦

[ابن تغري بردي]

فهرس الكتاب

- ‌[الجزء السادس]

- ‌[تتمة ما وقع من الحوادث سنة 566]

- ‌ذكر ولاية السلطان صلاح الدين على مصر

- ‌[ما وقع من الحوادث سنة 567]

- ‌[ما وقع من الحوادث سنة 568]

- ‌[ما وقع من الحوادث سنة 569]

- ‌[ما وقع من الحوادث سنة 570]

- ‌[ما وقع من الحوادث سنة 571]

- ‌[ما وقع من الحوادث سنة 572]

- ‌[ما وقع من الحوادث سنة 573]

- ‌[ما وقع من الحوادث سنة 574]

- ‌[ما وقع من الحوادث سنة 575]

- ‌[ما وقع من الحوادث سنة 576]

- ‌[ما وقع من الحوادث سنة 577]

- ‌[ما وقع من الحوادث سنة 578]

- ‌[ما وقع من الحوادث سنة 579]

- ‌[ما وقع من الحوادث سنة 580]

- ‌[ما وقع من الحوادث سنة 581]

- ‌[ما وقع من الحوادث سنة 582]

- ‌[ما وقع من الحوادث سنة 583]

- ‌[ما وقع من الحوادث سنة 584]

- ‌[ما وقع من الحوادث سنة 585]

- ‌[ما وقع من الحوادث سنة 586]

- ‌[ما وقع من الحوادث سنة 587]

- ‌[ما وقع من الحوادث سنة 588]

- ‌ذكر ولاية الملك العزيز عثمان على مصر

- ‌[ما وقع من الحوادث سنة 589]

- ‌[ما وقع من الحوادث سنة 590]

- ‌[ما وقع من الحوادث سنة 591]

- ‌[ما وقع من الحوادث سنة 592]

- ‌[ما وقع من الحوادث سنة 593]

- ‌[ما وقع من الحوادث سنة 594]

- ‌ذكر ولاية الملك المنصور محمد على مصر

- ‌[ما وقع من الحوادث سنة 595]

- ‌[ما وقع من الحوادث سنة 596]

- ‌ذكر ولاية الملك العادل على مصر

- ‌[ما وقع من الحوادث سنة 597]

- ‌[ما وقع من الحوادث سنة 598]

- ‌[ما وقع من الحوادث سنة 599]

- ‌[ما وقع من الحوادث سنة 600]

- ‌[ما وقع من الحوادث سنة 601]

- ‌[ما وقع من الحوادث سنة 602]

- ‌[ما وقع من الحوادث سنة 603]

- ‌[ما وقع من الحوادث سنة 604]

- ‌[ما وقع من الحوادث سنة 605]

- ‌[ما وقع من الحوادث سنة 606]

- ‌[ما وقع من الحوادث سنة 607]

- ‌[ما وقع من الحوادث سنة 608]

- ‌[ما وقع من الحوادث سنة 609]

- ‌[ما وقع من الحوادث سنة 610]

- ‌[ما وقع من الحوادث سنة 611]

- ‌[ما وقع من الحوادث سنة 612]

- ‌[ما وقع من الحوادث سنة 613]

- ‌[ما وقع من الحوادث سنة 614]

- ‌[ما وقع من الحوادث سنة 615]

- ‌ذكر سلطنة الملك الكامل على مصر

- ‌ذكر أخذ دمياط

- ‌[ما وقع من الحوادث سنة 616]

- ‌[ما وقع من الحوادث سنة 617]

- ‌[ما وقع من الحوادث سنة 618]

- ‌[ما وقع من الحوادث سنة 619]

- ‌[ما وقع من الحوادث سنة 620]

- ‌[ما وقع من الحوادث سنة 621]

- ‌[ما وقع من الحوادث سنة 622]

- ‌[ما وقع من الحوادث سنة 623]

- ‌[ما وقع من الحوادث سنة 624]

- ‌[ما وقع من الحوادث سنة 625]

- ‌[ما وقع من الحوادث سنة 626]

- ‌[ما وقع من الحوادث سنة 627]

- ‌[ما وقع من الحوادث سنة 628]

- ‌[ما وقع من الحوادث سنة 629]

- ‌[ما وقع من الحوادث سنة 630]

- ‌[ما وقع من الحوادث سنة 631]

- ‌[ما وقع من الحوادث سنة 632]

- ‌[ما وقع من الحوادث سنة 633]

- ‌[ما وقع من الحوادث سنة 634]

- ‌[ما وقع من الحوادث سنة 635]

- ‌ذكر سلطنة الملك العادل الصغير على مصر

- ‌[ما وقع من الحوادث سنة 636]

- ‌[ما وقع من الحوادث سنة 637]

- ‌ذكر سلطنة الملك الصالح نجم الدين أيّوب على مصر

- ‌[ما وقع من الحوادث سنة 638]

- ‌[ما وقع من الحوادث سنة 639]

- ‌[ما وقع من الحوادث سنة 640]

- ‌[ما وقع من الحوادث سنة 641]

- ‌[ما وقع من الحوادث سنة 642]

- ‌[ما وقع من الحوادث سنة 643]

- ‌[ما وقع من الحوادث سنة 644]

- ‌[ما وقع من الحوادث سنة 645]

- ‌[ما وقع من الحوادث سنة 646]

- ‌[ما وقع من الحوادث سنة 647]

- ‌[ما وقع من الحوادث سنة 648]

- ‌ذكر سلطنة الملك المعظّم توران شاه على مصر

- ‌ذكر ولاية الملكة شجرة الدّر على مصر

- ‌استدراكات

- ‌منبوبة

- ‌خليج القاهرة

- ‌قنطرة السدّ

- ‌بركة الحبش

- ‌قوص

- ‌منية ابن خصيب

الفصل: ‌ذكر سلطنة الملك الصالح نجم الدين أيوب على مصر

‌ذكر سلطنة الملك الصالح نجم الدين أيّوب على مصر

هو السلطان الملك الصالح نجم الدين أيّوب ابن السلطان الملك الكامل ناصر الدين محمد ابن السلطان الملك العادل سيف الدين أبى بكر ابن الأمير نجم الدين أيّوب بن شادى الأيّوبىّ سلطان الديار المصريّة. وقد تقدّم أنّ الملك الصالح هذا ولى الشرق وديار بكر فى أيّام والده الملك الكامل سنين، وذكرنا أيضا ما وقع له بعد موت الكامل مع أخيه العادل، ومع ابن عمّه الملك الناصر داود وغيرهما فى ترجمة أخيه العادل مفصّلا إلى أن ملك الديار المصريّة فى يوم الاثنين الخامس والعشرين من ذى الحجّة سنة سبع وثلاثين وستمائة. ومولده بالقاهرة فى سنة ثلاث وستّمائة وبها نشأ، واستخلفه أبوه على مصر لمّا توجه إلى الشرق فأقام الصالح هذا بمصر مع صواب الخادم لا أمر له ولا نهى إلى أن عاد أبوه الكامل إلى الديار المصريّة، وأعطاه حصن كيفا فتوجّه إليها، ووقع له بها أمور ووقائع مع ملوك الشرق بتلك البلاد فى حياة والده حتّى مات أبوه، ووقع له ما حكيناه إلى أن ملك مصر؛ ولمّا تمّ أمره بمصر أصلح أمورها ومهّد قواعدها.

قلت: والملك الصالح هذا هو الذي أنشأ المماليك الأتراك وأمّرهم بديار مصر، وفى هذا المعنى يقول بعضهم:

الصالح المرتضى أيّوب أكثر من

ترك بدولته يا شرّ مجلوب

قد «1» آخذ الله أيّوبا بفعلته

فالناس كلّهم فى ضرّ أيّوب

وقال الحافظ أبو عبد الله شمس الدين الذهبىّ فى تاريخه- بعد أن ذكر من مبدأ أمره نبذة إلى أن قال-: «ثم ملك مصر بلا كلفة واعتقل أخاه، ثم جهّز من أوهم

ص: 319

الناصر بأنّ الصالح فى نيّة القبض عليه، فخاف وغضب فأسرع إلى الكرك. ثم تحقّق الصالح [فساد «1» ] نيّات الأشرفيّة، وأنّهم يريدون الوثوب عليه؛ فأخذ فى تفريقهم والقبض عليهم، فبعث مقدّم الأشرفيّة وكبيرهم أيبك الأشقر «2» نائبا على جهة، ثم سيّر من قبض عليه، ثم مسكهم عن بكرة أبيهم وسجنهم؛ وأقبل على شراء المماليك الترك والخطائيّة، واستخدم الأجناد؛ ثم قبض على أكبر الخدّام: شمس الدّين الخاصّ وجوهر النّوبىّ وعلى جماعة من الأمراء الكامليّة وسجنهم بقلعة صدر بالقرب من ايلة؛ وأخرج فخر الدين ابن الشيخ من سجن العادل فركب ركبة عظيمة، ودعت له الرعيّة لكرمه وحسن سيرته، فلم يعجب الصالح ذلك وتخيّل، فأمره بلزوم بيته.

واستوزر أخاه معين الدين. ثم شرع يؤمّر غلمانه (يعنى مماليكه) فأكثر من ذلك، وأخذ فى بناء قلعة الجزيرة «3» واتّخذها سكنا، وأنفق عليها أموالا عظيمة، وكانت الجزيرة قبلا متنّزها لوالده، فشيّدها فى ثلاثة أعوام وتحوّل إليها. وأمّا الناصر داود فإنّه اتّفق مع عمّه الصالح إسماعيل والمنصور صاحب حمص فاتّفقوا على الصالح.

ص: 320

وأمّا الخوارزميّة فإنّهم تغلّبوا على عدّة «1» قلاع وعاثوا وخرّبوا البلاد، وكانوا شرّا من التّتار، لا يعفون عن قتل ولا [عن] سبى ولا فى قلوبهم رحمة. وفى سنة إحدى وأربعين وقع الصلح بين الصالحين «2» وصاحب حمص على أن تكون دمشق للصالح إسماعيل؛ وأن يقيم هو والحلبيّون والحمصيّون الخطبة فى بلادهم لصاحب مصر، وأن يخرج ولده الملك المغيث من اعتقال الملك الصالح إسماعيل.- والملك المغيث هو ابن الملك الصالح نجم الدين، كان معتقلا قبل سلطنته فى واقعة جرت.

قلت: (يعنى أنّ الصالح قبض عليه لمّا ملك دمشق بعد خروج الصالح من دمشق قاصدا الديار المصريّة قبل أن يقبض عليه الناصر داود) وقد ذكرنا ذلك كلّه فى ترجمة العادل مفصّلا. قلت: وكذلك أطلق أصحاب الصالح، مثل حسام الدين ابن أبى علىّ، ومجير الدين بن أبى ذكرى، فأطلقهم الملك الصالح إسماعيل-.

وركب الملك المغيث وبقى يسير ويرجع إلى القلعة، وردّ على حسام الدين ما أخذ منه.

ثم ساروا إلى مصر، واتّفق الملوك على عداوة الناصر داود وجهّز الصالح إسماعيل عسكرا يحاصرون عجلون «3» وهى للناصر، وخطب لصاحب مصر فى بلاده، [وبقى عنده المغيث حتّى تأتيه نسخ الأيمان، ثم بطل ذلك كلّه «4» ] . وقال ابن «5» واصل:

فحدّثنى جلال الدين الخلاطىّ قال:

ص: 321

كنت رسولا من جهة الصالح إسماعيل، فورد علىّ منه كتاب وفى طيّه: كتاب من الصالح نجم الدين إلى الخوارزمية يحثّهم على الحركة ويعلمهم [أنّه «1» ] إنّما صالح عمّه الصالح ليخلّص ابنه المغيث من يده، وأنّه باق على عداوته، ولا بدّ له من أخذ دمشق منه، فمضيت بهذا الكتاب إلى الصاحب معين [الدين»

] فأوقفته عليه، فما أبدى عنه عذرا يسوغ. وردّ الصالح إسماعيل المغيث بن الصالح نجم الدين إلى الاعتقال، وقطع الخطبة وردّ عسكره عن عجلون وأرسل إلى الناصر داود واتّفق معه على عداوة صاحب مصر؛ وكذلك رجع صاحب حلب وصاحب حمص عنه، وصاروا كلمة واحدة عليه، واعتقلت رسلهم بمصر؛ واعتضد صاحب دمشق بالفرنج، وسلّم إليهم القدس وطبريّة وعسقلان، وتجهّز صاحب [مصر «3» ] الملك الصالح هذا لقتالهم، وجهّز البعوث وجاءته الخوارزمية فساقوا إلى غزّة واجتمعوا بالمصريّين، وعليهم ركن الدين بيبرس البندقدارىّ الصالحىّ. قلت: وبيبرس هذا هو غير بيبرس البندقدارىّ الظاهرىّ، وإنّما هذا أيضا على اسمه وشهرته، وهذا أكبر من الظاهر بيبرس [وأقدم «4» ] ، وقبض «5» عليه الملك الصالح بعد ذلك وأعدمه. انتهى.

قال ابن واصل: وتسلّم الفرنج حرم القدس وغيره، وعمّروا قلعتى طبريّة وعسقلان وحصّنوهما، ووعدهم الصالح إسماعيل بأنّه إذا ملك مصر أعطاهم بعضها، فتجمّعوا وحشدوا وسارت عساكر الشام إلى غزة، ومضى المنصور صاحب حمص بنفسه إلى عكّا وطلبها فأجابوه. قال: وسافرت أنا إلى مصر ودخلت القدس، فرأيت الرّهبان على الصخرة وعليها قنانى الخمر، ورأيت الجرس

ص: 322

فى المسجد الأقصى، وأبطل الأذان بالحرم وأعلن الكفر. وقدم- وأنا بالقدس- الناصر داود إلى القدس فنزل بغربيّه.

وفيها ولّى الصالح نجم الدين قضاء مصر للأفضل «1» بعد أن عزل ابن عبد السلام «2» نفسه بمديدة. ولمّا عدّت الخوارزميّة الفرات، وكانوا أكثر من عشرة آلاف ما مرّوا بشىء إلّا نهبوه وتقهقر الذين بغزّة منهم، وطلع الناصر إلى الكرك وهربت الفرنج من القدس، فهجمت الخوارزميّة القدس وقتلوا من به من النصارى، وهدموا مقبرة القمامة «3» ، وجمعوا بها عظام الموتى فحرقوها، ونزلوا بغزّة وراسلوا صاحب مصر (يعنى الملك الصالح هذا) فبعث إليهم بالخلع والأموال وجاءتهم العساكر، وسار الأمير حسام الدين بن أبى علىّ بعسكر ليكون مركزا بنابلس، وتقدّم المنصور إبراهيم على الشاميّين (يعنى لقتال المصريّين) وكان شهما شجاعا قد انتصر على الخوارزميّة غير مرّة، وسار بهم ورافقته الفرنج من عكّا وغيرها بالفارس والراجل، ونفّذ الناصر داود عسكرا فوقع المصافّ بظاهر غزّة، فانكسر المنصور إبراهيم شرّ كسرة. وأخذت سيوف المسلمين الفرنج فأفنوهم قتلا وأسرا، ولم يفلت منهم إلّا الشارد، وأسر أيضا من عسكر دمشق والكرك جماعة من المقدّمين.

قال ابن واصل: حكى لى عن المنصور أنّه قال: والله لقد قصّرت ذلك اليوم

ص: 323

ووقع فى قلبى أنّه لا ننتصر لانتصارنا بالفرنج- قلت: عليه من الله ما يستحقّه من الخزى. وإيش يفيد تقصيره بعد أن صار هو والفرنج يدا واحدة على المسلمين! - قال: ووصلت عسكر دمشق معه فى أسوأ حال.

وأمّا مصر فزيّنت زينة لم ير مثلها، وضربت البشائر ودخلت أسارى الشام الفرنج والأمراء، وكان يوما مشهودا بالقاهرة. ثم عطف حسام الدين بن أبى علىّ، وركن الدين بيبرس فنازلوا عسقلان وحاصروها وبها الفرنج الذين تسلّموها فجرح حسام الدين، ثم ترحّلوا إلى نابلس، وحكموا على فلسطين والأغوار إلا عجلون فهى بيد سيف الدين [بن] قليج نيابة عن الناصر داود. ثم بعث السلطان الملك الصالح نجم الدين وزيره معين الدين ابن الشيخ على جيشه وأقامه مقام نفسه، وأنفذ معه الخزائن وحكّمه فى الأمور، وسار إلى الشام ومعه الخوارزميّة، فنازلوا دمشق وبها الصالح إسماعيل والمنصور صاحب حمص؛ فذلّ الصالح إسماعيل، وبعث وزيره أمين الدولة مستشفعا بالخليفة ليصلح بينه وبين ابن أخيه الملك الصالح نجم الدين، فلم يظفر بطائل، ورجع واشتدّ الحصار على دمشق، وأخذت بالأمان لقلّة من مع صاحبها، ولعدم الميرة بالقلعة، ولتخلّى الحلبيّين عنه، فترحّل الصالح إسماعيل إلى بعلبكّ، والمنصور إلى حمص، وتسلّم الصاحب معين الدين القلعة والبلد.

ولمّا رأت الخوارزميّة أنّ السلطان قد تملّك الشام بهم وهزم أعداءه صار لهم عليه إدلال كثير، مع ما تقدّم من نصرهم له على صاحب الموصل قبل سلطنته وهو بسنجار، فطمعوا فى الأخباز العظيمة؛ فلمّا لم يحصلوا على شىء فسدت نيتهم له وخرجوا عليه، وكاتبوا الأمير ركن الدين بيبرس البندقدارىّ، وهو أكبر أمراء الصالح نجم الدين أيّوب، وكان بغزّة، فأصغى إليهم- فيما قيل- وراسلوا صاحب

ص: 324

الكرك فنزل إليهم [ووافقهم «1» ] . وكانت أمّه [أيضا «2» ] خوارزميّة وتزوّج منهم، ثم طلع إلى الكرك واستولى حينئذ على القدس ونابلس [وتلك «3» الناحية] ، وهرب منه نوّاب صاحب مصر، ثم راسلت الخوارزمية الملك الصالح إسماعيل وهو فى بعلبكّ وحلفوا له فسار إليهم، واتّفقت كلمة الجميع على حرب الصالح صاحب مصر، فقلق الصالح لذلك وطلب ركن الدين بيبرس فقدم مصر فاعتقله. وكان آخر العهد به، ثم خرج بعساكره فخيم بالعبّاسة «4» وكان قد نفذّ رسوله إلى الخليفة المستعصم يطلب تقليدا بمصر والشام [والشرق «5» ] ، فجاءه التشريف والطّوق الذهب والمركوب، فلبس التشريف الأسود والعمامة والجبّة، وركب الفرس بالحلية الكاملة، وكان يوما مشهودا؛ ثم جاء الصالح إسماعيل والخوارزميّة ونازلوا دمشق وليس بها كبير عسكر، وبالقلعة الطّواشى رشيد، وبالبلد نائبها حسام الدين بن أبى علىّ الهذبانى، فضبطها وقام بحفظها بنفسه ليلا ونهارا، واشتدّ بها الغلاء وهلك أهلها جوعا ووباء.

قال: وبلغنى أنّ رجلا مات فى الحبس فأكلوه؛ كذلك حدّثنى حسام الدين بن أبى علىّ، فعند ذلك اتّفق عسكر حلب والمنصور صاحب حمص على حرب الخوارزميّة وقصدوهم، فتركوا حصار دمشق وساقوا أيضا يقصدونهم فالتقى الجمعان، ووقع المصافّ فى أوّل سنة أربع وأربعين على القصب «6» ، وهى منزلة بريد من حمص من قبليها، فاشتدّ القتال والصالح إسماعيل مع الخوارزميّة فانكسروا عند ما قتل مقدّمهم حسام الدين بركة خان، وانهزموا ولم تقم لهم بعدها قائمة، وقتل بركة خان مملوك من الحلبيّين وتشتّتت الخوارزميّة، وخدم طائفة منهم بالشام وطائفة بمصر

ص: 325

وطائفة مع كشلو خان ذهبوا إلى التّتار وخدموا معهم؛ وكفى الله شرّهم. وعلّق رأس بركة خان على قلعة حلب. ووصل الخبر إلى القاهرة فزيّنت، وحصل الصلح التامّ بين السلطان (يعنى الصالح نجم الدين أيّوب) وبين صاحب حمص والحلبيّين.

وأمّا الصالح إسماعيل [فإنّه] التجأ إلى ابن أخته «1» الملك الناصر صلاح الدين صاحب حلب. وأما نائب دمشق حسام الدين فإنّه سار إلى بعلبك وحاصرها وبها أولاد الصالح إسماعيل فسلّموها بالأمان؛ ثم أرسلوا إلى مصر تحت الحوطة هم والوزير أمين الدولة والأستادار ناصر الدين بن يغمور فاعتقلوا بمصر. وصفت البلاد للملك الصالح. وبقى الملك الناصر داود بالكرك فى حكم المحصور، ثم رضى السلطان على فخر الدين ابن الشيخ وأخرجه من الحبس بعد موت أخيه الوزير معين الدين، وسيّره إلى الشام واستولى على جميع بلاد الناصر داود، وخرّب ضياع الكرك ثم نازلها أياما، وقلّ ما عند الناصر من المال والذخائر وقلّ ناصره، فعمل قصيدة يعاتب فيها السلطان فيما له عنده من اليد من الذبّ عنه وتمليكه ديار مصر، وهى:

قل للذى قاسمته ملك اليد

ونهضت فيه نهضة المستأسد

عاصيت فيه ذوى الحجى من أسرتى

وأطعت فيه مكارمى وتودّدى

يا قاطع الرّحم التى صلتى بها

كتبت على الفلك الأثير بعسجد

إن كنت تقدح فى صريح مناسبى

فأصبر بعزمك للهيب المرصد

عمّى أبوك ووالدى عمّ به

يعلو انتسابك كلّ ملك أصيد

صالا وجالا كالأسود ضواريا

فارتدّ تيّار الفرات المزيد

ص: 326

دع سيف مقولى البليغ يدبّ عن

أعراضكم بفرنده المتوقّد

فهو الذي قد صاغ تاج فخاركم

بمفصّل من لؤلؤ وزبرجد

ثم أخذ يصف نفسه [وجوده ومحاسنه «1» وسؤدده] إلى أن قال:

يا محرجى بالقول والله الذي

خضعت لعزّته جباه السّجّد

لولا مقال الهجر منك لما بدا

منّى افتخار بالقريض المنشد

إن [كنت] قلت خلاف ما هو شيمتى

فالحاكمون بمسمع وبمشهد

والله يا بن العمّ لولا خيفتى

لرميت ثغرك بالعداة المرّد

لكننى ممّن يخاف حرامه

ندما يجرّعنى سمام الأسود

فأراك ربّك بالهدى ما ترتجى

لنراك تفعل كلّ فعل مرشد

لتعيد وجه الملك طلقا ضاحكا

وتردّ شمل البيت غير مبدّد

كى لا ترى الأيام فينا فرصة

للخارجين وضحكة للحسّد

قال: ثم إنّ السلطان طلب الأمير حسام الدين بن أبى علىّ وولّاه نيابة الديار المصريّة، واستناب على دمشق الصاحب جمال الدين يحيى بن مطروح، ثم قدم الشام وجاء إلى خدمته صاحب حماة الملك المنصور وهو ابن اثنتى عشرة سنة وصاحب حمص [وهو صغير «2» ] ، فأكرمهما وقرّبهما، ووصل إلى بعلبكّ، ثم ردّ إلى الشام، ثم رجع السلطان ومرض فى الطريق.

قال ابن واصل: حكى لى الأمير حسام الدين قال: لمّا ودّعنى السلطان قال:

إنّى مسافر وأخاف أن يعرض لى موت وأخى العادل بقلعة مصر، فيأخذ البلاد وما يجرى عليكم منه خير، فإن مرضت ولو أنّه حمّى يوم فأعدمه، فإنّه لا خير فيه؛

ص: 327

وولدى توران شاه لا يصلح للملك، فإن بلغك موتى فلا تسلّم البلاد لأحد من أهلى، بل سلّمها للخليفة. انتهى.

قال: ودخل السلطان مصر، وصرف حسام الدين عن نيابة مصر بجمال الدين ابن يغمور، وبعث الحسام بالمصريّين إلى الشام، فأقاموا [بالصالحيّة «1» ] أربعة أشهر.

قال ابن واصل: وأقمت مع حسام الدين هذه المدّة، وكان السلطان فى هذه المدّة وقبلها مقيما بأشمون «2» طنّاح، ثم «3» فى السنة خرج الحلبيّون وعليهم شمس الدين لؤلؤ الأمينىّ، فنازلوا حمص، ومعهم الملك الصالح إسماعيل يرجعون إلى رأيه، فحاصرها شهرين ولم ينجدها صاحب مصر؛ وكان السلطان مشغولا بمرض عرض له فى بيضه ثم فتح، وحصل منه ناسور بعسر بول «4» ، وحصلت له فى رئته بعض قرحة متلفة، لكنّه عازم على إنجاد صاحب حمص. ولمّا اشتدّ الحصار بالأشرف صاحب حمص اضطرّ إلى أن أذعن بالصلح، وطلب العوض عن حمص تلّ باشر مضافا إلى ما بيده، وهو الرّحبة «5» وتدمر، فتسلمها الأمير شمس الدين لؤلؤ الأمينىّ، وأقام بها نوّابا لصاحب

ص: 328

حلب. فلمّا بلغ السلطان أخذ حمص، وهو مريض، غضب وعظم عليه، وترحّل إلى القاهرة فاستناب بها ابن يغمور وبعث الجيوش إلى الشام لاستنقاذ حمص، وسار السلطان فى محفّة، وذلك فى سنة ستّ وأربعين وستمائة؛ فنزل بقلعة دمشق وبعث جيشه فنازلوا حمص ونصبوا عليها المجانيق، منها منجنيق مغربىّ. ذكر الأمير حسام الدين أنّه كان يرمى حجرا زنته مائة وأربعون رطلا بالدمشقىّ؛ ونصب عليها قرابغا اثنى عشر منجنيقا سلطانيّة، وذلك فى الشتاء. وخرج صاحب حلب بعسكره فنزل بأرض كفر طاب، ودام الحصار إلى أن قدم البادرانىّ «1» للصلح بين صاحب حلب والسلطان، على أن تقرّ حمص بيد صاحب حلب، فوقع الاتّفاق على ذلك؛ وترحّل السلطان عن حمص لمرض السلطان ولأنّ الفرنج تحرّكوا [وقصدوا «2» مصر] ، وترخّل السلطان إلى الديار المصريّة كذلك وهو فى محفّة.

وكان الناصر صاحب الكرك قد بعث شمس الدين الخسرو شاهى إلى السلطان وهو بدمشق يطلب خبزا بمصر والشّوبك وينزل له عن الكرك، فبعث السلطان تاج الدين [بن «3» ] مهاجر فى إبرام ذلك إلى الناصر، فرجع عن ذلك لمّا سمع حركة الفرنج؛ وطلب السلطان نائب مصر جمال الدين بن يغمور فاستنابه بدمشق وبعث على نيابة مصر حسام الدين بن أبى علىّ فدخلها فى المحرّم سنة سبع وأربعين؛ وسار السلطان فنزل بأشموم طنّاح ليكون فى مقابلة الفرنج إن قصدوا دمياط، وتواترت الأخبار بأنّ ريدا فرنس مقدّم الأفرنسيسيّة قد خرج من بلاده فى جموع عظيمة وشتّى بجزيرة قبرص؛ وكان من أعظم ملوك الفرنج وأشدّهم بأسا. وريدا

ص: 329

بلسانهم: الملك، فشحنت دمياط بالذخائر وأحكمت الشوانى، ونزل فخر الدين ابن الشيخ بالعساكر على جزيرة دمياط، فأقبلت مراكب الفرنج فأرست فى البحر بازاء المسلمين فى صفر من الستة، ثم شرعوا من الغد فى النزول إلى البرّ الذي فيه المسلمون وضربت خيمة حمراء لريدا فرنس وناوشهم [المسلمون «1» ] القتال، فقتل يومئذ الأمير نجم الدين ابن شيخ الإسلام، والأمير الوزيرىّ- رحمهما الله تعالى- فترحّل فخر الدين ابن الشيخ بالناس، وقطع بهم الجسر إلى البرّ الشرقى الذي فيه دمياط، وتقهقر إلى أشمون طنّاح، ووقع الخذلان على أهل دمياط، فخرجوا منها طول الليل على وجوههم حتّى لم يبق بها أحد؛ وكان هذا من قبيح رأى فخر الدين، فإنّ دمياط كانت فى نوبة سنة خمس عشرة وستمائة أقلّ ذخائر وعددا، وما قدر عليها الفرنج إلّا بعد سنة، وإنّما هرب أهلها لمّا رأوا هرب العسكر وضعف السلطان؛ فلمّا أصبحت الفرنج ملكوها صفوا بما حوت من العدد والأسلحة والذخائر والغلال والمجانيق، وهذه مصيبة لم يجر مثلها! فلمّا وصلت العساكر وأهل دمياط إلى السلطان حنق على الشجعان الذين كانوا بها، [وأمر «2» بهم] فشنقوا جميعا ثم رحل بالجيش، وسار إلى المنصورة فنزل بها فى المنزلة التى كان أبوه نزلها، وبها قصر بناه أبوه الكامل، ووقع النّفير العامّ فى المسلمين، فاجتمع بالمنصورة أمم لا يحصون من المطّوّعة والعربان؛ وشرعوا فى الإغارة على الفرنج ومناوشتهم وتخطّفهم، واستمرّ ذلك أشهرا، والسلطان يتزايد والأطباء قد آيسته لاستحكام المرض به.

وأمّا صاحب الكرك (يعنى الملك الناصر داود) فإنّه سافر إلى بغداد فاختلف أولاده، فسار أحدهم إلى الملك الصالح نجم الدين أيّوب وسلّم إليه الكرك، ففرح [بها] مع ما فيه من الأمراض، وزيّنت بلاده وبعث إليها بالطواشى بدر الدين الصّوابى

ص: 330

نائبا، وقدم عليه أولاد الناصر داود، فبالغ الملك الصالح فى إكرامهم وأقطعهم أخبازا جليلة. ولم يزل يتزايد به المرض إلى أن مات، وأخفى موته على ما سيأتى ذكره. إن شاء الله تعالى.

قال ابن واصل فى سيرة الملك الصالح نجم الدين أيّوب هذا: وكان مهيبا عزيز النفس عفيفا طاهر اللّسان والذّيل، لا يرى الهزل ولا العبث، شديد الوقار كثير الصّمت، اشترى من المماليك الترك ما لم يشتره أحد من أهل بيته حتّى صاروا معظم عسكره، ورجّحهم على الأكراد [وأمّرهم «1» ] ، واشترى وهو بمصر خلقا منهم، وجعلهم بطانته والمحيطين بدهليزه، وسمّاهم «البحرية» . حكى لى حسام الدين ابن أبى علىّ: أن هؤلاء المماليك مع فرط جبروتهم وسطوتهم كانوا أبلغ من يعظّم هيبته، كان إذا خرج وشاهدوا صورته يرعدون خوفا منه، وأنّه لم يقع منه فى حال غضبه كلمة قبيحة قطّ، أكثر ما يقول إذا شتم: يا متخلّف، وكان كثير الباه بجواريه فقط، ولم يكن عنده فى آخر وقت غير زوجتين: إحداهما شجرة الدّر، والأخرى بنت العالمة، تزوّجها بعد مملوكه الجوكندار «2» ؛ وكان إذا سمع الغناء لا يتزعزع ولا يتحرّك، وكذلك الحاضرون يلتزمون حالته كأنّما على رءوسهم الطير؛ وكان لا يستقلّ أحدا من أرباب دولته بأمر بل يراجعون القصص مع الخدّام، فيوقّع عليها بما يعتمده كتّاب الإنشاء؛ وكان يحبّ أهل الفضل والدّين، وما كان له ميل لمطالعة الكتب؛ وكان كثير العزلة والانفراد، وله نهمة باللّعب بالصّوالجة، وفى إنشاء الأبنية العظيمة الفاخرة. انتهى كلام ابن واصل.

ص: 331

وقال غيره: وكان ملكا مهيبا جبّارا ذا سطوة وجلالة، وكان فصيحا حسن المحاورة عفيفا عن الفواحش، أمّر مماليكه الترك؛ وجرى بينه وبين عمّه الملك الصالح أمور وحروب إلى أن أخذ «1» نقابة دمشق عام ثلاثة وأربعين؛ وذهب إسماعيل إلى بعلبكّ، ثم أخذت من إسماعيل بعلبك، وتعثّر والتجأ إلى ابن أخته الناصر صاحب حلب. ولمّا خرج الملك الصالح هذا من مصر إلى الشام خاف من بقاء أخيه الملك العادل فقتله سرّا ولم يتمتع بعده؛ ووقعت الأكلة فى خدّه «2» بدمشق.

ونزل الأفرنس ملك الفرنج بجيوشه على دمياط فأخذها، فسار إليه الملك الصالح فى محفّة حتى نزل المنصورة عليلا، ثم عرض له إسهال إلى أن مات فى ليلة النصف من شعبان بالمنصورة، وأخفى موته حتى أحضروا ولده الملك المعظم توران شاه من حصن كيفا وملّكوه.

وقال سعد الدين: إنّ ابن عمّه فخر الدين نائب السلطنة أمر بتحليف الناس لولده الملك المعظم توران شاه، ولولىّ عهده فخر الدين فتقرّر ذلك، وطلبوا الناس فحضروا وحلفوا إلّا أولاد الناصر داود صاحب الكرك توقّفوا، وقالوا: نشتهى [أن] نبصر السلطان، فدخل خادم وخرج وقال: السلطان يسلّم عليكم، وقال: ما يشتهى أن تروه فى هذه الحالة، وقد رسم لكم أن تحلفوا.

فحلفوا؛ وكان للسلطان مدّة من وفاته ولا يعلم به أحد، وزوجته شجرة الدرّ توقّع مثل خطّه على التواقيع- على ما يأتى ذكره- ولمّا حلف أولاد الناصر صاحب الكرك جاءتهم المصيبة من كلّ ناحية، لأنّ الكرك راحت من يدهم، واسودّت وجوههم عند أبيهم، ومات الملك الصالح الذي أمّلوه وأعطوه الكرك؛

ص: 332

ثم عقيب ذلك نفوهم من مصر. ثم إنّ الأمير فخر الدين نفذ نسخة الأيمان إلى البلاد [ليحلفوا للمعظّم «1» ] ثم كلّ ذلك والسلطان لم يظهر موته. قال: وكانت أمّ ولده شجرة الدرّ ذات رأى وشهامة، فدبّرت أمر الملك الصالح وأخفت موته. وهى التى وليت الملك مدّة شهرين بعد ذلك، وخطب لها على المنابر بمصر وغيرها- على ما يأتى ذكر ذلك فى محلّه إن شاء الله تعالى. ثم ملك بعدها الأتراك إلى يومنا هذا. انتهى.

وقال الشيخ شمس الدين يوسف بن قزأوغلى فى تاريخه مرآة الزمان- بعد ما ذكر اسم الملك الصالح ومولده قال-: «ولما ملك مصر اجتهد فى خلاص ولده المغيث فلم يقدر. قلت (يعنى المغيث الذي كان حبسه الملك الصالح إسماعيل بقلعة دمشق فى مبادئ أمر الملك الصالح) . قال: وكان مهيبا، هيبته عظيمة، جبّارا أباد الأشرفيّة وغيرهم. وقال جماعة من أمرائه: والله ما نقعد على بابه إلّا ونقول من هاهنا نحمل إلى الحبوس، وكان إذا حبس إنسانا نسيه، ولا يتجاسر أحد أن يخاطبه فيه، وكان يحلف أنّه ما قتل نفسا بغير حقّ. قال صاحب المرآة: وهذه مكابرة ظاهرة؛ فإنّ خواص أصحابه حكوا أنّه لا يمكن إحصاء من قتل من الأشرفية وغيرهم، ولو لم يكن إلّا قتل أخيه العادل [لكفى «2» ] . قال:

وكانت عتيقته شجرة الدرّ تكتب خطّا يشبه خطّه، فكانت تعلّم على التواقيع، وكان قد نسر مخرج السلطان وامتدّ إلى فخذه اليمنى ورجله ونحل جسمه وعملت له محفّة يركب فيها، وكان يتجلّد، ولا يطّلع أحد على حاله؛ ولمّا مات حمل تابوته إلى الجزيرة فعلّق بسلاسل حتّى قبر فى تربته إلى جانب مدرسته بالقاهرة» .

ص: 333

قلت: وذكر القطب «1» اليونينىّ فى كتابه الذيل على مرآة الزمان، قال فى ترجمة البهاء «2» زهير كاتب الملك الصالح قال:

فلمّا خرج الملك الصالح بالكرك من الاعتقال وسار إلى الديار المصرية، كان بهاء الدين زهير المذكور فى صحبته، وأقام عنده فى أعلى المنازل وأجلّ المراتب، وهو المشار إليه فى كتّاب الدرج والمقدّم عليهم، وأكثرهم اختصاصا بالملك الصالح واجتماعا به، وسيّره رسولا فى سنة خمس وأربعين وستمائة إلى الملك الناصر صلاح الدين يوسف صاحب حلب يطلب منه إنفاذ الملك الصالح عماد الدين إسماعيل إليه فلم يجب إلى ذلك، وأنكر الناصر هذه الرسالة غاية الإنكار، وأعظمها واستصعبها، وقال: كيف يسعنى أن أسيّر عمّه إليه، وهو خال أبى وكبير البيت الأيّوبىّ حتى يقتله، وقد استجار بى! والله هذا شىء لا أفعله أبدا. ورجع البهاء زهير إلى الملك الصالح نجم الدين بهذا الجواب، فعظم عليه وسكت على ما فى نفسه من الحنق.

وقبل موت الملك الصالح نجم الدين أيّوب بمديدة يسيرة- وهو نازل على المنصورة- تغيّر على بهاء الدين زهير وأبعده لأمر لم يطّلع عليه أحد. قال: حكى لى البهاء أن سبب تغيّره عليه أنّه كتب عن الملك الصالح كتابا إلى الملك الناصر داود صاحب الكرك، وأدخل الكتاب إلى الملك الصالح ليعلّم عليه على العادة، فلمّا وقف عليه الملك الصالح كتب بخطّه بين الأسطر: «أنت تعرف قلّة عقل ابن عمّى، وأنّه

ص: 334

يحبّ من يعظّمه ويعطيه من يده فاكتب له غير هذا الكتاب ما يعجبه» ، وسيّر الكتاب إلى البهاء زهير ليغيّره، والبهاء زهير مشغول، فأعطاه لفخر الدين إبراهيم بن لقمان وأمره بختمه، فختمه وجهّزه إلى الناصر على يد نجّاب، ولم يتأمّله فسافر به النجّاب لوقته؛ واستبطأ الملك الصالح عود الكتاب إليه ليعلّم عليه؛ ثم سأل عنه بهاء الدين زهير بعد ذلك، وقال له: ما وقفت على ما كتبته بخطّى بين الأسطر؟

قال البهاء زهير: ومن يجسر أن يقف على ما كتبه السلطان بخطه إلى ابن عمّه! وأخبره أنّه سيّر الكتاب مع النجّاب، فقامت قيامة السلطان، وسيّروا فى طلب النجّاب فلم يدركوه؛ ووصل الكتاب إلى الملك الناصر بالكرك فعظم عليه وتألّم له، ثم كتب جوابه إلى الملك الصالح، وهو يعتب فيه العتب المؤلم، ويقول له فيه: والله ما بى ما يصدر منك فى حقّى، وإنما بى اطلاع كتّابك على مثل هذا! فعزّ ذلك على الملك الصالح، وغضب على بهاء الدين زهير، وبهاء الدين لكثرة مروءته نسب ذلك إلى نفسه ولم ينسبه لكاتب الكتاب، وهو فخر الدين بن لقمان- رحمه الله تعالى-.

قال: وكان الملك الصالح كثير التخيّل والغضب والمؤاخذة على الذنب الصغير والمعاقبة على الوهم، لا يقيل عثرة ولا يقبل معذرة ولا يرعى سالف خدمة، والسيئة عنده لا تغفر، والتوسّل إليه لا يقبل، والشفائع لديه لا تؤثّر، فلا يزداد بهذه الأمور التى تسلّ سخائم الصدور إلا انتقاما. وكان ملكا جبّارا متكبّرا شديد السطوة كثير التجبّر والتعاظم على أصحابه وندمائه وخواصه، ثقيل الوطأة؛ لا جرم أن الله تعالى قصّر مدّة ملكه وابتلاه بأمراض عدم فيها صبره. وقتل مماليكه ولده توران شاه من بعده؛ لكنه كان عنده سياسة حسنة ومهابة عظيمة وسعة صدر فى إعطاء العساكر والإنفاق فى مهمّات الدولة، لا يتوقّف فيما يخرجه فى هذا الوجه؛ وكانت همّته عالية جدا، وآماله بعيدة، ونفسه تحدّثه بالاستيلاء على الدنيا بأسرها والتغلّب

ص: 335

عليها، وانتزاعها من يد ملوكها، حتّى لقد حدّثته نفسه بالاستيلاء على بغداد والعراق؛ وكان لا يمكّن القوىّ من الضعيف، وينصف المشروف من الشريف؛ وهو أوّل من استكثر من المماليك من ملوك البيت الأيّوبىّ، ثم اقتدوا به لمّا آل الملك إليهم.

قلت: ومن ولى مصر بعد الصالح من بنى أيّوب حتى اقتنى المماليك! هو آخر ملوك مصر، ولا عبرة بولاية ولده الملك المعظم توران شاه، اللهم إن كان الذي بالبلاد الشاميّة فيمكن، وأمّا بمصر فلا.

وكانت ولايته بمصر تسع سنين وسعة أشهر وعشرين يوما لأنّه ولى السلطنة فى عشرين ذى الحجّة سنة سبع وثلاثين، ومات فى نصف شعبان سنة سبع وأربعين وستمائة. انتهى.

قال: ولمّا مات الملك الصالح نجم الدين لم يحزن لموته إلّا القليل مع ما كان الناس فيه من قصد الفرنج الديار المصرية واستيلائهم على قلعة منها، ومع هذا سرّ معظم الناس بموته حتّى خواصّه، فإنّهم لم يكونوا يأمنون سطوته ولا يقدرون على الاحتراز منه. قال: ولم يكن فى خلقه الميل لأحد من أصحابه ولا أهله ولا أولاده ولا المحبة لهم ولا الحنوّ عليهم على ما جرت به العادة. وكان يلازم فى خلواته ومجالس أنسه من الناموس ما يلازمه إذا كان جالسا فى دست السلطنة.

وكان عفيف الذيل طاهر اللسان قليل الفحش فى حال غضبه، ينتقم بالفعل لا بالقول- رحمه الله تعالى-. انتهى ما أوردناه فى ترجمة الملك الصالح من أقوال جماعة كثيرة من المؤرّخين ممّن عاصره وبعدهم، فمنهم من شكر ومنهم من أنكر.

قلت: وهذا شأن الناس فى أفعال ملوكهم، والحاكم أحد الخصمين غضبان منه إذا حكم بالحقّ، فكيف السلطان! وفى الجملة هو عندى أعظم ملوك بنى أيّوب

ص: 336

وأجلّهم وأحسنهم رأيا وتدبيرا ومهابة وشجاعة وسؤددا بعد السلطان صلاح الدين يوسف بن أيّوب، وهو أخو جدّه الملك العادل أبى بكر بن أيّوب؛ ولو لم يكن من محاسنه إلّا تجلّده على مقابلة العدوّ بالمنصورة، وهو بتلك الأمراض المزمنة المذكورة وموته على الجهاد، والذبّ عن المسلمين.- والله يرحمه- ما كان أصبره وأغزر مروءته.

ولمّا مات رثاه الشعراء بعدّة مراث. وأمّا مدائحه فكثيرة من ذلك ما قاله فيه كاتبه وشاعره بهاء الدين زهير من قصيدته التى أوّلها:

وعد الزيارة طرفه المتملّق

وبلاء قلبى من جفون تنطق

إنّى لأهوى الحسن حيث وجدته

وأهيم بالقدّ الرشيق وأعشق

يا عاذلى أنا من سمعت حديثه

فعساك تحنو أو لعلّك ترفق

لو كنت منّا حيث تسمع أو ترى

لرأيت ثوب الصبر كيف يمزّق

ورأيت ألطف عاشقين تشاكيا

وعجبت ممّن لا يحبّ ويعشق

أيسومنى العذّال عنه تصبّرا

وحياته قلبى أرقّ وأشفق

إن عنّفوا أو سوّفوا أو خوّفوا

لا انتهى لا أنثنى لا أفرق

أبدا أزيد مع الوصال تلهّفا

كالعقد فى جيد المليحة يقلق

يا قاتلى إنّى عليك لمشفق

يا هاجرى إنّى اليك لشيّق

وأذاع أنّى قد سلوتك معشر

يا ربّ لا عاشوا لذاك ولا بقوا

ما أطمع العذّال إلّا أنّنى

خوفا عليك إليهم أتملّق

وإذا وعدت الطيف منك بهجعة

فاشهد علىّ بأنّنى لا أصدق

فعلام قلبك ليس بالقلب الذي

قد كان لى منه المحبّ المشفق

وأظنّ قدّك شامتا لفراقنا

فلقد نظرت إليه وهو مخلّق

ص: 337