الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
***
[ما وقع من الحوادث سنة 596]
السنة الثانية من ولاية الملك المنصور محمد ابن الملك العزيز عثمان على مصر، على أنّه حكم فى آخرها من شهر رمضان إلى آخر السنة عمّ أبيه الملك العادل أبو بكر ابن أيّوب، وهى سنة ستّ وتسعين وخمسمائة.
فيها توفّى تكش بن أرسلان شاه بن أتسز «1» الملك علاء الدّين خوارزم شاه، هو من ولد طاهر بن الحسين. كان شجاعا مقداما جودا، ملك الدنيا من الصّين والهند وما وراء النهر إلى خراسان إلى باب بغداد، وكان نوّابه فى حلوان «2» ، وكان فى ديوانه مائة ألف مقاتل، وهو الذي أزال دولة بنى سلجوق، وكان عارفا بعلم الموسيقى؛ ولم يكن فى زمانه أعرف منه بضرب العود، وكان يباشر الحروب بنفسه حتّى ذهبت إحدى عينيه فى الحرب، وكان قد عزم على أخذ بغداد وسار إليها؛ فلمّا وصل إلى دهستان «3» توفّى بها فى شهر رمضان. ووقع له فى مسيره إلى أخذ بغداد فى هذه المرّة طريفة: وهو أنّ الباطنيّة جهّزوا إليه رجلا ليقتله، وكان قوىّ الاحتراس، فجلس تلك الليلة يلعب بالعود، وقد شرّع الخيمة وغنّى بيتا بالعجميّة، وفيه «ببيتم» ومعناه بالعجمىّ: أبصرتك «4» ؛ وكرّر هذه اللفظة؛ فلمّا سمع الباطنىّ ذلك خاف وظنّ أنه رآه فهرب، فأخذ وحمل إليه فعزّره وأمر بقتله. فكان ذلك من الطرائف.
وفيها توفّى إمام عصره ووحيد دهره، القاضى الفاضل عبد الرحيم ابن القاضى الأشرف أبى المجد «1» علىّ [ابن «2» القاضى السعيد أبى محمد محمد] بن الحسن بن الحسين ابن أحمد [بن المفرّج «3» بن أحمد] اللّخمىّ العسقلانىّ المولد، المصعرىّ [الدار «4» ] ، المعروف بالقاضى الفاضل الملقّب محيى الدين «5» ؛ وزير السلطان الملك الناصر صلاح الدين يوسف بن أيوب.
قال ابن خلّكان- رحمه الله: [و «6» ] تمكّن منه غاية التمكّن (يعنى من صلاح الدين) وبرز فى صناعة الإنشاء وفاق المتقدّمين، وله فيه الغرائب مع الإكثار. أخبرنى أحد الفضلاء الثّقات المطّلعين على حقيقة أمره: أنّ مسودات رسائله فى المجلّدات، والتعليقات فى الأوراق إذا جمعت ما تقصر عن مائة مجلد، وهو مجيد فى أكثرها.
قال العماد الكاتب الأصبهانىّ فى كتاب الخريدة فى حقّه: «ربّ القلم والبيان، واللّسن واللّسان؛ والقريحة الوقّادة، والبصيرة النقّادة؛ والبديهة المعجزة، والبديعة المطرّزة؛ والفضل الذي ما سمع فى الأوائل ممّن «7» لو عاش فى زمانه لتعلّق فى غباره، أو جرى فى مضماره؛ فهو كالشريعة المحمديّة التى نسخت الشرائع، ورسخت بها الصنائع؛ يخترع الأفكار، ويفترع الأبكار، ويطلع الأنوار، ويبدع الأزهار؛ وهو ضابط الملك بآرائه، ورابط السلك بلألائه «8» ؛ إن شاء أنشأ فى اليوم الواحد بل فى الساعة، ما لو دوّن لكان لأهل الصناعة، [خير] بضاعة «9» » انتهى كلام العماد باختصار.
وقال غيره: وكان مع فضله كثير العبادة تاليا للقرآن العزيز دينّا خيّرا، وكان السلطان صلاح الدين يقول: لا تظنّوا أنّى ملكت البلاد بسيوفكم، بل بقلم الفاضل. وكان بين الفاضل وبين الملك العادل أبى بكر بن أيّوب وحشة «1» ، فلمّا بلغ الفاضل مجىء العادل إلى مصر دعا الله على نفسه بالموت، فمات قبل دخوله.
وقيل: إنّ العادل كان داخلا من باب النصر، وجنازة الفاضل خارجة من باب زويلة «2» . انتهى.
قلت: وفضل الفاضل وبلاغته وفصاحته أشهر من أن يذكر. ومن شعره:
قوله:
وإذا السعادة لاحظتك «3» عيونها
…
نم فالمخاوف كلّهنّ أمان
واصطد «4» بها العنقاء فهى حبائل
…
واقتد بها الجوزاء فهى عنان
وقد استشهد علماء البديع بكثير من شعره فى أنواع كثيرة، فممّا ذكره الشيخ تقىّ «5» الدين أبو بكر [بن علىّ «6» ] بن حجّة فى شرح بديعيّته فى نوع «تجاهل العارف» قوله من قصيدة:
أهذى كفّه أم غوث غيث
…
ولا بلغ السحاب ولا كرامه
وهذا بشره أم لمع برق
…
ومن للبرق فينا بالإقامه
وهذا الجيش أم صرف اللّيالى
…
ولا سبقت حوادثها زحامه
وهذا الدهر أم عبد لديه
…
يصرّف عن عزيمته زمامه
وهذا «1» نصل غمد أم هلال
…
إذا أمسى كنون أم قلامه
وهذا التّرب أم خدّ لثمنا
…
فآثار الشّفاه عليه شامه
ومنها وهو غير تجاهل العارف [ولكنّه من «2» المرقص والمطرب] :
وهذا الدرّ منثور ولكن
…
أرونى غير أقلامى نظامه
وهذى روضة تندى وسطرى
…
بها غصن وقافيتى حمامه
وهذا الكأس روّق من بنانى
…
وذكرك كان من مسك ختامه
وذكر أيضا فى «تجاهل العارف» قوله من قصيدة:
أهذه سير فى المجد أم سور
…
وهذه أنجم فى السعد أم غرر
وأنمل أم بحار والسيوف لها
…
موج وإفرندها فى لجّها درر
وأنت فى الأرض أم فوق السماء وفى
…
يمينك البحر أم فى وجهك القمر
وفيها توفّى علىّ بن نصر بن عقيل المعروف بالهمام البغدادىّ العبدىّ الشاعر المشهور، قدم الشام ومدح الملك العادل، والملك الأمجد صاحب بعلبك. ومن شعره:
وما الناس إلّا كامل الحظّ ناقص
…
وآخر منهم ناقص الحظّ كامل
وإنّى لمثر من حياء وعفّة
…
وإن لم يكن عندى من المال طائل
الذين ذكر الذهبىّ وفاتهم فى هذه السنة، قال: وفيها توفّى أبو جعفر أحمد ابن علىّ القرطبىّ المقرئ إمام الكلّاسة. وإسماعيل بن صالح بن يس بمصر فى ذى الحجّة. وأبو سعيد خليل بن أبى الرجاء الرّارانىّ «3» الصوفىّ فى شهر ربيع الآخر،
وله ست وتسعون سنة. والسلطان علاء الدين خوارزم شاه تكش بن خوارزم شاه أرسلان بن أتسز بن محمد فى رمضان بالخوانيق، وتملّك بعده ابنه علاء الدين محمد. والقاضى الفاضل أبو علىّ عبد الرحيم بن علىّ [بن محمد «1» ] بن حسن اللّخمىّ البيسانىّ «2» الوزير فى شهر ربيع الآخر، وله سبع وستون سنة. وأبو الحسن عبد اللطيف بن إسماعيل ابن [أبى «3» ] سعد الصّوفىّ فى ذى الحجّة بدمشق. وأبو الفرج عبد المنعم بن عبد الوهاب [بن سعد «4» بن صدقة بن الحضر] بن كليب فى شهر ربيع الأول، وله ست وتسعون سنة وشهر. والأثير أبو الفضل «5» محمد بن محمد بن بيان الأنبارىّ ثم المصرىّ الكاتب فى شهر ربيع الآخر. والعلّامة شهاب الدين محمد بن محمود الطّوسىّ بمصر.
وأبو جعفر المبارك بن المبارك بن أحمد بن زريق الواسطىّ الحدّاد «6» المقرئ.
أمر النيل فى هذه السنة- الماء القديم لم يذكر لقلّته. وكان مبلغ الزيادة فى هذه السنة اثنتى عشرة ذراعا وإحدى وعشرين إصبعا. وشرقت الأراضى، وعمّ البلاء والغلاء الديار المصريّة وأعمالها.