المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌الأخطاء المشتركة لمرغليوث ونكلسن: - بحوث وتحقيقات عبد العزيز الميمني - جـ ١

[عبد العزيز الميمني]

فهرس الكتاب

- ‌القسم الأول مقالات

- ‌العاجز عبد العزيز الميمني

- ‌كتب أعجبتني

- ‌الأمالي والنوادر- للقالي

- ‌الذيل والصلة

- ‌اللآلئ

- ‌دعاؤُه شرح الأمالي

- ‌دعاؤه شرح النوادر

- ‌التنبيه للبكري

- ‌المفضليات: صاحبها الأصلي

- ‌بشار والخالديان والشارح ومعاصروه

- ‌مقدمة شعر أبي عطاء السندي

- ‌جراب الدولة رجل لا كتاب

- ‌المكاره التي حف بها "إقليد الخزانة

- ‌بيان الأغلاط الواقعة في فهرست المؤلفين الملحقة بآخر "إقليد الخزانة

- ‌ترجمة العلامة البغدادي مؤلف كتاب الخزانة [من خلاصة الأثر في أعيان القرن الحادي عشر للمحيي 2: 451 - 454]

- ‌حرصه على العلم

- ‌تآليفه

- ‌أدبه وإنصافه

- ‌تشيعه

- ‌صورة إجازة الشهاب له

- ‌كيف تستفيد من فهرستنا

- ‌من نُسب إلى أمّه من الشعراء

- ‌القسم الأول

- ‌القسم الثاني

- ‌المراجع

- ‌أوهام المستشرقين في دراساتهم عن أبي العلاء المعري

- ‌أخطاء مرجليوث:

- ‌تصحيفات فاحشة:

- ‌دعاو فارغة:

- ‌نتائج قصور التفكير والكتابة السهلة:

- ‌الجهل بعادات الشرق:

- ‌الأخطاء المشتركة لمرغليوث ونكلسن:

- ‌ماذا رأيت بخزائن البلاد الإِسلامية

- ‌بعض غرائب ما وجدته في تطوافي

- ‌ومما يفيد دائرة المعارف

- ‌ما يتعلق بالكتاب كتاب سيبويه

- ‌الحماسة الطائية وما في معناها وشروحها

- ‌ديوان المتنبيء

- ‌اللغة

- ‌التفاسير

- ‌الحديث

- ‌من نوادر المخطوطات المغربية

- ‌مكتبة جامع القرويين

- ‌مكاتب تونس

- ‌نوادر المخطوطات العربية

- ‌توطئة

- ‌[ورقة المقدمة]

- ‌تعقيب

- ‌مكتبة جامع القرويين بفاس ونوادرها

- ‌التفسير:

- ‌القراءات:

- ‌الحديث:

- ‌النحو:

- ‌اللغة:

- ‌التاريخ:

- ‌الأدب:

- ‌الطب:

- ‌خزانة بانكي بور (بتنه) خيرُ مكتبة في بلاد الهند

- ‌التعريف بجمعية (دار المصنفين) في أعظم كرة- الهند

- ‌القسم الثاني نقد وتعريف

- ‌كتاب الأغاني

- ‌الجزء الأول - طبعة دار الكتب المصرية

- ‌ملاحظات وبيان إصلاحات

- ‌الأغاني

- ‌طرر على معجم الأدباء أو إِرشاد الأريب إلى معرفة الأديب لياقوت طبعة الأستاذ مرجليوث سنة 1907 م

- ‌(المجلد الأول)

- ‌(المجلد الثاني)

- ‌تصحيحات وتعليقات على لسان العرب

- ‌النكت على خزانة الأدب

- ‌نسخة تاسعة من ديوان ابن عُنين

- ‌الفصل الرابع

- ‌الفصل الخامس

- ‌نسخة فريدة من "نقائض جرير والأخطل" لأبي تمام

- ‌التعريف بكتاب التيجان

- ‌القصيدة اليتيمة ومن صاحبُها

- ‌جَلاءُ العَروس أو نظرة على قصيدة العروس مرّة أخرى (*) (في الطرائف الأدبية، مطبعة اللجنة، القاهرة سنة 1937 م)

- ‌ابن أبي حصينة

- ‌عَرّام بن الأصبغ السُلَمي الأعرابي وكتابهُ أسماء جبال تهامة

- ‌عَرّام صاحبنا

- ‌وصف كتاب أسماء جبال تهامة وسُكّانها وما فيها من القرى وما ينبت عليها من الأشجار وما فيها من المياه:

- ‌الإِفصاح عن أبيات مشكلةِ الإِيضاح للفارقيّ ولا توجيه إعراب أبيات مُلْغَزَةِ الإِعراب للرُّمّانيّ

- ‌كتاب الإبْدال لحجة العرب أبي الطيب اللغوي

- ‌كتاب الإبدال

- ‌حول نسخة شرح أبي جعفر اللَّبلي على الفصيح)

- ‌خاتمة المطاف ومسك الختام في نسخة شرح اللبلي

- ‌العباب الزاخر واللباب الفاخر وطريقة نشره المثلى

- ‌حول كتاب (تتمة اليتيمة) و (طبقات الشعراء) و (مناقب بغداد)

- ‌كلمة في مناقب بغداد

- ‌أعلام الكلام ومقامة الانتقاد (لابن شرف)

الفصل: ‌الأخطاء المشتركة لمرغليوث ونكلسن:

ولكن هذه الترجمة لا توافق ما قاله أبو العلاء فإن أبا العلاء يرى أن الإنسان إنما يقاس في ضوء أوضاعه الراهنة وأما [ما] مضى أو ما سيستقبله فلا يمكن أن نقطع فيه بشيء، والدليل على ذلك الأبيات الآتية التي وردت في اللزوم:

أنت ابن وقتك والماضي حديث كرى

ولا حلاوة للباقي الذي غبَرا

خذ الآن فيما نحن فيه وخلِّيا

غدًا فهو لم يقدم وأمسِ فقد مرّا (1)

ولعل أبا العلاء أراد من "ابن الوقت" نفس ما أراده الشيخ نذير أحمد (1 م) عندما أسمى أحد كتبه بـ "ابن الوقت" ولو نظر نكلسن إلى البيتين السالفين اللذين يتفقان في المعنى لما تعرض لهذا الخطأ.

‌الأخطاء المشتركة لمرغليوث ونكلسن:

1 -

يكتب مرغليوث (2): كان أخوال أبي العلاء وأعمامه غير ملتزمين في العقائد فتأثر بها أبو العلاء وتدل القصيدة التي نقلها الصفدي على أنه لم يؤد الحج في عهدهم.

ويقول نكلسن (3): لم يحج والده ولا أخواله وأعمامه الذين يعتبرهم أبو العلاء القدوة المثالية، الأمر الذي يحمل أهمية خاصة في صياغة معتقداته وأفكاره.

ولا يوجد برهان أقوى (4) على العصبية التي تسيطر على الكاتبين من هذا القول، فإن مرغليوث نفسه قد فند الحكاية التي وردت في مناسبة الأبيات تالية مستهزءًا، ساخرًا، ورفضها رفضًا باتًا.

قالوا هرمت ولم تطرق تهامة في

مشاة وفد ولا ركبان أجمالِ

فقلت إني ضرير والذين لهم

رأي رأوا غير فرض الحج أمثالي

ما حجَّ جدي ولم يحجج أبي وأخي

ولا ابن عمي ولم يعرف منى حالي

وحجَّ عنهم قضاء بعد ما ارتحلوا

قوم سيقضون عني بعد ترحالي

(1) اللزوميّات 1/ 489، 498 (م. ي.).

(1 م) الشيخ نذير أحمد الدهلوي.

(2)

م، ص 13.

(3)

الأفكار 45.

(4)

م، ص 23.

ص: 125

وهنا يستشهد بجزء من هذا الواقع العظيم لأجل مصلحة رآها، وما ذلك إلا عصبية لم يسبق إليها، وهل يوجد مثيل أبشع وأشنع من هذه العصبية والخيانة العلمية؟

والحقيقة أن هذه الرواية لا تمت إلى الواقع بصلة ما ولا تعتمد على أيِّ دليل، كما نفاه صاحب "ذكرى أبي العلاء" نفيًا باتًا، و"سر العالمين" للغزالي هو مرجع هذه الحكاية وهو ليس بتأليف الغزالي ولا أيِّ عالم بل هو اختلاق من جاهل أبله، لا يعرف العربية إطلاقًا، كما صرح به العلامة شبلي النعماني في تأليفه "الغزالي" وقد ذكر في هذا الكتاب "سر العالمين" أيضًا أن الغزالي يدعي أنه سمع بعض أبيات أنشدها له أبو العلاء، والواقع أنه ولد بعد وفاة المعري بسنين، ومما يزيد الطين بلة أن هذه الأبيات إنما هي لقائليها بشار وجرير وهما يسبقان أبا العلاء بثلاث مئة سنة.

ولا شك أن أبا العلاء لم يؤد الحج لعوائق وموانع، كما أشار إليه في الأبيات التالية من اللزوم.

أردتَ إلى الحجاز تحملًا

فعاقتك عنه عائقاتُ الحواجز

من خوف بارئك امتطيت نجيبة

عادت بسيرك مثل قوس الباري

فإذا وردت منى فغايات المنى

ملقى جرائم في الحياة كبار (1)

لا يستطيع أن يقول من له ذوق أصيل إن أبا العلاء كان من منكري الحج حقيقة.

إن يسمعوا ريبة طاروا بها فرحًا

عني وما سمعوا من صالح دفنوا

صمُّ إذا سمعوا خيرًا ذكرت به

وإن ذكرت بشرٍّ عندهم أذنوا

إنما كان كرهه وعداؤه لأولائك الحجاج الذي كانوا يزدادون شرًّا وشقاوةً بعد عودتهم من الحج كما قال الشاعر:

أصبح الشيخ ماردًا

بعدما حجَّ واستلم

هذا وقد قرض أبو العلاء قصيدة لامية في "السقط"(2) بلسان سائق الحاج تثير عزائم الضعفاء وتبعث فيهم الجراءة والهمة لأن يتوجهوا إلى البيت العتيق عن طواعية

(1) اللزوميّات 1/ 628، 588 (م. ي.).

(2)

(2: 329).

ص: 126

هذا وقد قرض أبو العلاء قصيدةً لاميةً في السقط (1) بلسان سائق الحاجّ تثير عزائمَ الضعفاء وتبعث فيهم الجرأةَ والهمّة لأن يتوجّهوا إلى البيت العتيق عن طوعية النفس وبشاشة القلب، وهي كما يلي:

وسريت تحت المدجنـ

ـات ممارسًا أهوالها

في فتية تزجى إلى البيـ

ـت الحرام نعالها

تبغي بمكة حاجة

قدر العزيز مآلها

حتى قضيت طوافها

سبعًا وزرت جبالها

وسمعت عند صباحها

ومسائها أهلًا لها

ترجو رضي الملك الذي

منح الملوك جلالها

23 -

يقول مرغليوث (1)، قبل أبو العلاء تحدي القرآن ويقول نكلسن (2) في "الآداب" كان أبو العلاء يراوده الشك فيما أن القرآن كلام الله ولذا قبل تحدي النبي صلى الله عليه وسلم وأعدَّ كتابًا في معارضة القرآن الكريم إلخ، وقد أعاد هذه الفكرة الأستاذ براؤن في كتابه "التاريخ الأدبي لإيران" والحقيقة أن هذا الفكرة الخاطئة المرفوضة إنما بثها في أوربا كلها "جولدزيهر" بمقالة "ذ، د، م، ج (2 م) ".

وقد سبق أن تناولناها بالرد والتفنيد وكشف عوارها في مقالة نشرتها مجلة "معارف" في عدد فبراير سنة 25 م، ولكننا ننقل هنا شهادة لأبي العلاء نفسه بإعجاز القرآن، ظهرت بعد فراغه من تأليف "الفصول" بنحو عشر سنين في 414 هـ: لقد أجمع كل ملحد ومهتد، وناكب عن المحجة، ومقتد على أن الكتاب الذي جاء به النبي صلى الله عليه وسلم من الله كتاب بهر بالإعجاز ولقي عدوه بالإرجاز (3).

24، 25 - يروي مرغليوث عن التاريِخ الإِسلامي أن أبا العلاء لما عاد من الشام سنة 383، بدأ يحصل على ثلاثين دينارًا سنويًّا من وقف لقومه، بيد أن الذهبي يقول كما يلي:"له وقف يحصل منه في العام نحو ثلاثين دينارًا. . . . واتفق أنه عورض في الوقف المذكور من جهة أمير حلب فسافر. إلى بغداد إلخ" كتب نكلسن مثله في مكانين (4)، ولكنه زاد في "الآداب"(5)، "لم يكن له أيّ دخل سوى هذه

(1)362.

(2)

218.

(2 م): أي مجلّة. Z.D.M.G النمساويّة (م. ي.).

(3)

الغفران 158.

(4)

الأفكار 26 والدائرة 7.

(5)

313.

ص: 127

الثلاثين دينارًا" وكتب في "الأفكار": لعله كان له مصدر آخر للدخل سواء من التعليم أو غيره. وبين هذين القولين تناقض فاضح، ولكن ما هو أغرب من ذلك هو أنه يكتب في "الأفكار" (1) مرة ثانية: كان يستلم من تلامذته مبلغًا معقولًا، وقد استعمل الكاتب في الاستشهاد الأول "لعل وشيئًا" وهما تعبيران مريضان بعيدان عن أسلوب البحث والتحقيق، وفي الاستشهاد الثاني استعمل كلمة "معقول" في مناسبتين في كتاب واحد، وقد اتبع فيه مرغليوث (2) الذي يقول: ليس من المستبعد أن التلامذة كانوا لا يعودون إلى أوطانهم إلا بتقديم مكافأة جهمٍ وتكريمهم لأساتذتهم ماديًّا، ويقول في مكان آخر: كان تعليم أبي العلاء موجهًا إلى تحصيل المال بحكم طبيعته التي فطر عليها، ويكتب في مكان آخر أيضًا: "وإن كان أبو العلاء ليردد أنه لم ينظم قصائده طلبًا للمكافاة والجائزة، ثم يروي عن الدكتور ريو:"القصيدة الأولى من "السقط" يمدح فيها أبو العلاء حفيد سيف الدولة بسعيد الدولة" الخ وكأن مرغليوث حريص جد الحرص على أن يثبت بأن هذه القصيدة شهادة قاطعة على طمع أبي العلاء وكأنه يتقلب على الجمر لأن يبرهن على أن أبا العلاء كان من الشعراء الذين يرتزقون بالشعر ويتكسبون.

والواقع أن المبلغ المذكور أعلاه لم يكن إلا خمسة وعشرين دينارًا، وقد خصص معظمها لخادمه، كما صرح به أبو العلاء (3) وأنا أعارض الذهبي فيما يقول: إن هذا المبلغ الزهيد كان يحصل له بعد عودته من بغداد وذلك لأنه يعترف بوضوح بأنه كان لديه ثروة (4) قبل مغادرته لبغداد ولا شك أن خمسة وعشرين دينارًا لا تعد ثروة، ولكنه من نسيج خيال مرغليوث ونكلسن أن أبا العلاء بدأ يتسلم هذا المبلغ الزهيد بعد مغادرته من الشام، ولا تدل عبارة الذهبي على هذا المعنى أبدًا، بل يبدو أن هذا المبلغ كان يحصل له قبل هذه الرحلة أيضًا، وأما تسلمه للأجرة من تلامذته فلا يقوله إلا من جهل عادات الشرق وأحوال أبي العلاء فهل كان أبو العلاء أستاذًا

(1)125.

(2)

34.

(3)

معجم الأدباء (1: 201).

(4)

شرح التنوير على سقط الزند (2: 119/ 163) حيث يقول:

أثارني عنكم أمران والدة

لم ألقَها وثراء عاد مسفوتًا

أحياهما الله عصر البين ثم قضى

قبل الإياب إلى الذُّخْرَين أن مُوتًا

ص: 128

كمثلهما في "كيمبردج" و"أوكسفورد" أو كان معلمًا جوالًا يتجول على تعليم "عشاق" العلم العديدين، بل كان يسدي إلى طلبته الخير ويحسن إليهم، ويروي الذهبي أن أبا العلاء كان يعتذر إلى الطلبة الذين يأتون إليه من بعيد بأنه قليل البضاعة، عديم الثروة وكان يتأسف على ذلك تأسفًا بالغًا، وإليكم بعض أبيات من اللزوم تشير إلى هذا المعنى وهي كما يلي:

يزورني القوم هذا أرضه يمن

من البلاد وهذا داره الطبس

قالوا سمعنا حديثًا عنك قلت لهم

لا يبعد الله إلا معشرًا لبسوا

أعاننا الله كل في معيشتِه

يلقى العناء فدرّي فوقنا دُبَس

ماذا تريدون لا مال تيسر لي

فيستماح ولا علم فيقتبس

أتسألون جهولًا أن يفيدكمو

وتحلبون سفيًّا ضرعها يبس

أنا الشقي بأني لا أطيق لكم

معونة وصروف الدهر تحتبس (1)

يروي القفطي أن تلامذة أبي العلاء أبدوا ذات مرة رغبة إلى حبحب حلب، حتى أحضره أبو العلاء فأكلوا جميعًا وقد خصصوا منه شيئًا لأبي العلاء، لكنه جف ولم يأخذ منه أبو العلاء شيئًا. إن هذا الحكاية لهي أوضح دليل على أن أبا العلاء إنما كان يعطي ويساعد الطلبة، كذلك روى الذهبي في تذكرة الحفاظ عن تلميذ أبي العلاء الرشيد التبريزي أنه قال: كنت أقرأ كتب الأدب على الخطيب البغدادي في جامع دمشق، مرة جاء الخطيب إليَّ في غرفتي ومنحني خمسة دنانير وطلب مني بأن اشتري منها الأقلام وكذلك منحني مثله مرة أخرى.

عبر مرغليوث ونكلسن كلاهما عن الوقف بصندوق مال الوقف Trust fund حينًا وبمعاش التقاعد (PENESION) حينًا آخر، والواقع أن أبا العلاء لم يكن يملك سوى أرض ومباني فكانت الأرض تؤتي ثمارها سنويًّا والمباني تجلب له الأجرة، كما تناولناه بالضبط والتحقيق في كتابنا مدعمًا بتصريحات أبي العلاء نفسه، ولا شك أن مثل هذا الدخل لا يعبر عنه بكلا اللفظين إطلاقًا.

وما أبعد عن الواقع قوله إن: أبا العلاء واصل تعليمه لكسب المال، رغم أنه قد رفض هذا القول مرارًا وتكرارًا، يقول الذهبي وغيره (2) إن أبا العلاء كان طموحًا

(1) اللزوميّات، 1/ 23 (م. ي.).

(2)

م، 129.

ص: 129

على الهمة، لم يكن يحمل في جيده منة أحد، فإنه لو أراد أن يرتزق بشعره ويلتمس لتوفرت له الرياسة الدنيوية وانهالت عليه الثروة الفائضة، ولا نحتاج إلى إيضاح أن أبا العلاء كانت حياته بكاملها قدوة ونموذجًا مثاليًّا للتقشف والقناعة، فكأن مرغليوث يريد أن ينظر إلى أبي العلاء من خلال العيون النهمة المادية لأوربا، ينظره فريسة الشره المطرد والنهامة الزائدة، رغم أنه يقول بنفسه عن قصائد صباه في مقدمة السقط (1):

"ولم أطرق مسامع الرؤساء بالنشيد ولا مدحت طالبًا للثواب وإنما كان ذلك على معنى الرياضة وامتحان السوس فالحمد لله الذي ستر بضفة من قوام العيش ورزق شعبة من القناعة أوفت على جزيل الوفر".

فهل هما فاقا أبا العلاء صدقًا وأمانة، أنا اعترف بأن "ريو" صدق فيما أفاد بأن القصيدة الأولى للسقط في مدح سعيد الدولة، لكنه لو سرح هذا المدعي طرفه على عنوان نفس القصيدة التي فيها "ولم يكن من طلاب الفوائد" وورد في النسخ المطبوعة "من طلاب الرفد"، فقوله بأن مدائحه لكسب المال، ليس بعد هذا التصريح إلا العناد والمكابرة والعصبية الجاهلية، وإن البيت التالي الذي أنشده في صباه ليؤكد ما نقول (2):

قنعت فخلت أن النجم دوني

وسيان التقنع والجهاد

26 -

يدعيان (3): أن أبا العلاء غادر إلى بغداد للبحث عن المعاش أو الوظيفة أو تجربة الحظ، ولكن أبا العلاء نفى ذلك يوم كان في بغداد ونفاه بعد عودته منها أيضًا حيث يقول:

سيطلبني رزقي الذي لو طلبته

لما زاد والدنيا حظوظ وإقبال

رحلت لم آت قرواشًا أزاوله

ولا المهذب أبغي النيل تقويتًا

والموت أحسن بالنفس التي ألفت

غذا القناعة من أن تسأل القوتا

وكم ماجد في سيف دجلة لم أشم

له بارقًا والمرء كالمزن هطال

وإني تيممت العراق لغير ما

تيمّمه غيلان عند بلال

(1) شرح التنوير على سقط الزند ص 6.

(2)

شرح التنوير على سقط الزند ص 6.

(3)

م، 21، الأفكار 46، الآداب 313.

ص: 130

فالقراء لهم الخيار إما أن يصدقوا أبا العلاء أو يصدقوا مؤلفي سيرته الماديين. ثم يزعم كلاهما أن أبا العلاء كان يخيب مقاصده وغاياته بمثل هذه الأبيات الإنكارية، يا سبحان الله! لعلهما قد شقا قلبه ولمساه بالبنان.

27 -

كلاهما يدعي (1) أن أبا العلاء تحول نباتيًّا Vegetarian فرفض أكل اللحوم بعد عودته من بغداد، ويعارض ذلك تصريح أبي العلاء نفسه فإنه يقول:

"لما بلغت الثلاثين من عمري صمت صوم الدهر وبدأت اقتصر في طعامي على النبات يعني تم ذلك في 393 هـ قبل مغادرته لبغداد بخمس سنوات ونصف، مع أن عندنا شهادة قوية خارجية أيضًا وهي ما قاله ابن حجر أنه بقي في صنعاء سنة لا يأكل اللحم، معنى ذلك أنه بقي في صنعاء مدة سنة مجتنبًا أكل اللحم، وقد أجمعوا على أنه لم يفارق زاوية عزلته قط بعد عودته من بغداد فلا محالة أن رحلته إلى صنعاء كانت قبل عودته من بغداد، أما ما يزعمون أن أفكاره المتشابهة بالبرهمية، والجينية قد نشأت بعد عودته من بغداد، فهذا خطأ تعرض له معظم المترجمين له، ويمكن أنه قد تمسك بهذه النظريات بشدة بعد ما عاد من بغداد وقد وضع لحياته خطة عمل في المستقبل.

28 -

يزعمان (2) أن أبا العلاء مرَّ في طريقه بحلب، ولكن المسافر نفسه لا يصدق ذلك فإنه يقول (3): "ما نكبت حلب في الإبداء والانكفاء إلا إلخ، ومما يبعث على العجب أن يقول ذلك ناشر رسائله ومترجمها.

29 -

ورد في رسائله رقم 8 "نبذة كنبذة فنيق النجوم" يعني عزلة كعزلة فحل النجوم، أخطأ فيه نكلسن ومرغليوث حيث ظنا عن خطأ أن "فنيق" نجم من النجوم (4)، رغم أنه في الواقع اسم للفحل من الإبل، وبما أن "سهيلًا بمعزل عن جميع النجوم لذا يعبر عنه بالفنيق بطريق المجاز، ويشهد بذلك أحد الأبيات التي ذكرها أبو علي المرزوقي في كتاب الأزمنة وهو كما يلي:

شآمية إلا سهيلًا كأنه

فنيق غدا عن شوله وهو حافر

(1) م 3603، الآداب 315.

(2)

م 121، الأفكار 176.

(3)

الرسائل ص 29.

(4)

ترجمة الرسائل ص 43 الأفكار ص 37.

ص: 131

والآن نتصدى لعرض خطأ من أخطاء مرغليوث يختص به وقد فاتنا ذكره فيما سبق.

30 -

يزعم (1): أن داعي الدعاة راسل أبا العلاء من مصر في شأن أكل اللحم، فهذا ليس بصحيح، لأن داعي الدعاة يقول (2):"فلما رمت بي المرامي إلى الشام وسمعت أن الشيخ وفقه الله تعالى. . . . إلخ" إن هذه العبارة بكاملها لا تترك أيّ مجال للشك، وقلد صاحب "الذكرى" مرغليوث تقليدًا أعمى، راجعوا "ذكرى أبي العلاء" ص 96.

وعجب على العجب أن ياقوت الحموي قد روى عن "فلك المعالي (3) " أن بعض الناس يعدون الموت عدوانًا من الله وأبو العلاء منهم، ولذا سلط الله عليه داعي الدعاة فجرت بينهما مراسلات ودارت مناظرات مما أدى إلى أمر داعي الدعاة بأن يؤتى بأبي العلاء إلى حلب ويخير بين حياة يزينها الإسلام الصحيح وتذهب بأثقالها الثروة الموفورة أو قتل يريحه ويريح الدين من شره، فلما علم أبو العلاء ذلك شرب السم فمات حتف أنفه.

"فلك المعاني" تأليف لأبي يعلى بن الهبارية الذي يروي عنه ياقوت كثيرًا راجعوا "كشف الظنون" ونسخة خطية له موجودة في مكتبة "أيا صوفية قسطنطينية" راجعوا دفترها برقم 4157 المطبوع بسنة 1314، وكان ابن الهبارية شاعرًا فحاشًا بذاءً لم يسلم من معرة لسانه ووصمة بنانه أحد من أعيان عصره (4) فوقوع أبي العلاء فريسة هجائه لهو دليل على فضله وعلوه:

وإذا أتتك مذمتي من ناقص

فهي الشهادة لي بأني كامل

قد شرحنا ذلك في كتابنا ورفضنا هذا القول بقوة، أما القول بأن أبا العلاء شرب السم ومات فهو قول مرفوض لم يذكره مؤرخ، وابن الهبارية لا يوثق به فهذا القول أيضًا مرفوض.

(1) م 39 ج، ر، ألف، س، رقم الحاشية 3 ص 3/ 3، 1902 م.

(2)

الأدباء.

(3)

الأدباء (1: 194).

(4)

راجع ابن خلكان.

ص: 132

والقصة المذكورة أعلاه يرويها الدكتور طه حسين عن "غرس النعمة" فيقول (1):

"ومن الواضح أن ليس لهذه الرواية ظل من الصحة، لأن موت أبي العلاء معروف لذلك أسرع ياقوت إلى رفض الرواية وتكذيبها، والعجب أن المستشرق الفرنسي "سلامون" لم يفهم ما كتب ياقوت فظن أنه صاحب الرواية واجتهد في الرد عليه، ولو أنه فطن لما كتب ياقوت لأراح نفسه من عناء كثير".

وأنا أقول للدكتور: نسب سلامون عن خطأ رواية القصة إلى ياقوت، لكنك يا ليت لو راجعت نفسك، فقد ارتكبت نفس الفرية ونسبت الرواية إلى غرس النعمة، رغم أنه منها براء، وسيتجلى لكم ما أقول لو أعدتم النظر في "معجم الأدباء"، ولا يغيبنّ عن البال أن "فلك المعاني" هو تأليف ابن الهبارية بدل "غرس النعمة"، فهل تسمحون لي بأن أنشد هنا بيتًا لصاحبنا:

وبصير الأقوام مثلي أعمى

فهلموا في حندس نتصادم

* * *

لم يكن يحلو لي أن أطعن في الرجال شأن الآخرين كسبًا للتأييد وتمهيدًا للطريق، ولكني رأيت أن الباحثين إنما سلطوا الضوء على الجوانب المشرقة من إنجازات المستشرقين وخدماتهم على حساب الجوانب الأخرى من الضعف وعدم الحياد، والسلبيات التي تطرقت إلى أعمالهم وإنتاجاتهم، فكانت السنة الآلهية تقتضي أن لا يظل هذا الجانب مهملًا غير مطروق، على أنني أعرف جيدًا أن الإنسان لا يمكن أن يسلم أيّ عمله من العيب والخلل، فلا أبرئ نفسي ولا أزكيها على الله، غير أنه يبعث على الارتياح ويثلج المصدر أنني تحاشيت من الدعاوي ما استطعت وأتيت بما سيكبح -لو شاء الله- شيئًا كثيرًا من جماح المجانين المزعومين في بلادنا من الباحثين المستشرقين الذين كثيرًا ما يتجرأون على نسبة العصمة إلى أنفسهم.

هذا، ويحتوي البحث على كثير من آراء قيمة نادرة وملاحظات موضوعية بديعة فأرجو من الباحثين عن الحق أنهم سيضعون فوائده الحقيقية نصب أعينهم.

ألا ليقل من شاء ما شاء إنما

يلام الفتى فيما استطاع من الأمر

(1) ذكرى أبي العلاء، ص 225.

ص: 133