الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
جَلاءُ العَروس أو نظرة على قصيدة العروس مرّة أخرى (*)(في الطرائف الأدبية، مطبعة اللجنة، القاهرة سنة 1937 م)
1 -
اتفق لي نشرها قبل أكثر من 15 عامًا بُعيد رحلتي، وكنتُ دللتُ في مقدّمتي على نسختَي استنبول (بني جامع ونور عثمانية) وهما أقدم نسخها المعروفة. وسائرها إمّا نُقلت عنهما أو لا تحمل مزيَّة لتأخُّرها، فليس وراءها كبيرُ طائل.
2 -
إِذ تسلّمت في 13 أغسطس سنة 1951 م الجزء الأول من مجلة المدرسة العالية بكلكتّة مايو 1951 م، فرأيت في طليعة القسم العربي مقالة في طبعتي منها، بقلم الفاضل المعصومي (1) حرسه الله، فأعجبني منه حرصه على البحث والتنقيب والنظر والتمحيص، والمجتهد أصاب أو أخطأ لا يُحرم ثوابَه وإن حُرم صوابَه. على أن فيما زبر قلمه فوائد علميَّة لا يستهان بأمثالها، وكلّ نفس تُجْزَى بأعمالها.
3 -
وقد كان تجمَّعَ عند العاجز طولَ هذه المدَّة فوائدُ يعرف قدرَها أمثالُه من المُغْرَمِين بالعلم الصحيح. وهذا زمانه إِذ آنَ أوانُه وجاء إِبَّانُه أعرِضها في سوق العلم بعد أن ركدتْ ريحها وبار ربحها فإِنا لله .. !
4 -
وقبل كل شيء أعرض تصحيحًا فخذ الطرائف بيدك وراجع:
ص 102 قولي "أن القنَّاص لم يقل غير هذه القصيدة" مبنيٌّ على التحريف الواقع في نسخة بني جامع كما سيتلو فاشطُبه.
ص 103 "كفى غنى" صوابه (كفى عيبًا بمن أولمن) كما في نسخة دار الكتب وهي أقدمها بعد أختَيها باستنبول وكما ترى آنفًا فيما أنقله عن ابن المعتزّ. "عوجا على الطلل
…
" والصواب (عوجوا) بصيغة الجمع.
(*) نشر في مجلة المجمع بدمشق 32/ 692 - 697.
(1)
وهو غير محمد صغير حسن الأستاذ بجامعة داكة شرقي باكستان، طبع مجمع دمشق شرح حيّ بن يقظان من تحقيقه سنة 1955 م.
5 -
وأما مزعم الأستاذ جنوحًا إلى ما كتبه مستعربو القرن الماضي من أن صاحبها خالد بن صفوان المِنْقري الخطيب المعروف بالفصاحة (الغير القنَّاص والشاعر) فقد كان العاجز يعرفه مما قرأ عنه في كتاب البيان كما قد اعترف به الأستاذ مما نقله عن تأليفي "سمط اللآلي" في حاشيته، فلم يكن مما ذهب عليَّ علمه، أو خفِي عني شخصه. ولكنني والحمد لله أحمد غِبَّ مسراي ونجاح مسعاي.
هذا، وقد كان صديقي العلّام سالم الكرنكوي كتب إليَّ أنه المنقري الخطيب، ذهابًا إلى ما تقدّمه به واضعو فهارسِ خزائنِ بلاده، فما زلزل قدمي كما لم يُزعجه (1) ابنُ حميد الكلابزي أو من نقل كلامه على وجه نسخة ليدن.
6 -
ولكنني أخاف الآن أن تكون هناك تصحيفة أخرى قديمة راجت عليهم لم تخطر على بال أحد، فتناقلها الخلف عن السلف. وهي أنهم لما رأوا خالدًا القناص جعلوه "ابن صفوان" فزادوا من عند أنفسهم اللفظتين إِذ لم يعرفوه وعرفوا المنقريَّ بظنّ أخطأوا فيه وجه الصواب فوهموا وأوهموا من أتى بعدهم فسدلوا بصنيعهم هذا حُجُبًا كثيفة على مُحيّا جلية الأمر وشوَّهوا وجه الحقيقة فإلى الله المشتكى.
وهذا ظاهر لمن وقف على المظانّ الخمس الآتية القديمة، إذا لم نذكر آباءه البتَّة.
7 -
وقد جمع الأستاذ نُتَفًا مبعثرة من هنا وهناك ليعرِّف بالمنقري، ولكنه معرفة غير نكرة. وأزيده الآن بعد ما أتعب جواده وأفرغ مجهوده، أن له ترجمة ضافية في عشر صفحات كوامل في مختصر تاريخ دمشق الجزء الخامس ص 53 - 63. فقوله أن "ترجمته لا توجد مستوفاة ولا مستقصاة" بحيث ترى. ومن حفِظ حُجَّة على من لم يحفَظْ. ولكن الحافظ لم يَدْعُه قنَّاصًا فلم يكن القَنَص مما عرف به ولا كان لسانه كلسان قنّاصنا عاميّة دارجة وهو إمام الفصحاء ومِصْقَع الخطباء. وأما بعد ما نَدّ من اللحن في كلامه فلم يكن يحُطّه إلى درجة صاحبنا الذي كان أكبر همّه قنصه وبعض ما بلغنا من شعره العاميّ المُشْبَع بالأوصاف والنعوت فحسبُ.
وكذلك ما ضبطه واضع فهرست خزانة ديوان الهند (خالد الفيّاض) فإنه غلط فاحش تبع فيه بلديَّةُ المستشرق ووستنفلد الألماني ناشر معجم البلدان على ما سأتلوه عليكم يا سادتي!
(1) إبراهيم المتوفي سنة 5312 أدرك المازني وأخذ عن المبرّد.
وليُعلم أن الجزئين الرابع والسابع من معجم الأدباء منحولان من وضع بعض ورّاقي عصرنا هذا كما يعرفه ويعترف به شُداة عصرنا فكيف بالقَرْعَى في سورية وغيرها. وقد كتب صديقنا الأستاذ راغب الطباخ في ذلك مقالةً في بعض أجزاء مجلة المجمع العلمي العربي وعندي في ذلك حقائق لا تنكر.
وأما وفاة المنقري فما عرفوا سَنَتَها، وكل ما أتوا به حَدْس ورَجْم بالغيب ليس إلَّا! ولكن مما لا يتطرَّق إِليه أدنى ريب أنه من رجال القرن الأول عُمّر إلى أن أدرك السفاح المتوفي سنة 136 هـ.
والصواب في اسم شرح القزويني ثمار الغُروس بالمعجمة يعني ما غُرس من الأشجار المثمرة وما للعروس وللثمار؟. وهو متأخر جدًّا. والشروح المثبتة تحت الأبيات في النسخ المعروفة أقدم وأجلّ وعليها المعوَّل.
وأما غَضُّ صاحبنا المرحوم السورتي منها على جاري عادته بأن القصيدة مولّدة وأن كل مولّد لا يساوي شيئًا فإنه كما ترى! "وذاك قضاء في القضاء مَذومُ". والدارجة وتقييد ما طرأ عليها من التغيُّرات بعد انتشار الإِسلام وفتوحِه إلى يومنا هذا أمرٌ طالما اهتمَّ له كبار اللغويين وعلماء اللسان أمثال الكسائي وابن السكيت والطالقاني وأبي بكر الزبيدي والجواليقي وابن برّيّ والخفاجي إلى غيرهم، وهو أمر لا يتأتى دون الوقوف على نشر العامّة ونظمهم. على أن هذه النونية لا نظير لها في صنعة من البديع سمَّاها قدامة (1) الترصيع، أبرّت فيه على شاعرَي هذيل: أبي صخر، وأبي المثلم. وقد صدق الأول "قد استرحت من حيث تعب الكرام".
8 -
وهذا أوان ما وعدنا به من الإِتيان بالمظان الخمس التي عرفته فذكرته ونوّهتْ به ومن حفظ حجة على من لم يحفظ:
(أ) أوّلهم ابن المعتز المقتول سنة 296 هـ، ترجم له في طبقات الشعراء المحدثين (مختصره للمبارك المعروف بابن المستوفي الإِربلي نسخة الاسكوريال) وهاك نصّه وفصَّه:
(1) نقد الشعر 13، الصناعتان 299، العمدة 2/ 22، وكَلِمتاهما في أشعار هذيل.
أخبار خالد القنّاص. قال مما يُستحسن من شعر خالد القنَّاص كلمته التي هي سائرة في الناس عوجوا (1) على طلل (الخمسة الأبيات وهي مما عندنا 1، 3، 5، 14، 30) ثم سرد أبياته كلها على هذا النمط وقال في آخرها حتى إِذا ثَمِلوا (الثلاثة وهي 76،74،73). وقال زعم مرداس بن محمد أن من رواها ثم لم يقل الشعر فلا ترجُ خيره، قال ابن المعتز وأنا أقول أيضًا إن من روى هذه ثم لم يقل الشعر فأبعده الله وأسحقه. قال الناسخ لها: ما قرأت لأحد أبرد منها ولا أشدّ تفاوتًا ولست أدري ما هذا الوصف من ابن المعتزّ مع براعته وتقدّمه ولعله نُحل هذا الكلام والله أعلم.
قال المبارك بن أحمد: صدق والله الناسخ، ليس في هذه القصيدة بيت واحد إلا رديء النظم متباين الرَصْف مُستكرَه الألفاظ قَلِق المعاني سيّما مطلعها إلى قوله دار لجارية فإِنه كثير الحشو قبيح النسج لا طائل تحته اهـ.
(ب) جاء في كتاب بغداد 6/ 291 لابن طيفور المتوفي سنة 280 هـ وكان أدرك عصر المأمون المتوفي سنة 218 هـ أخبرني موسى بن عبيد الله التميمي قال تذاكروا الشطرنج عند المأمون فتذاكروا قول خالد القناص فيها حيث يقول:
أراد بلا ذَحل أخٌ لي يَوَدُّني
…
ويُعظم حقّي دون كلّ ودود
(الخمسة) اهـ
(ج) في الحيوان للجاحظ المصحف السابع (ص 53 من الأولى ومن الثانية 276) قال خالد القنَّاص في قصيدته تلك المزاوجة والمخمَّسة التي ذكر فيها الصيد فأطنب فيها فقال حين صار إلى ذكر الفيل:
ذاك الذي مشفره طويل
…
وهو من الأفيال زندبيل (2)
اهـ
(د) ابن رشيق في العمدة (1/ 118 سنة 1907 م) وقد ذكر المسمَّط وعرَّف به
(1) فيها عوجوا (وهو الصواب) وفي خَلْقِ جنَّان ونفيٍ لأحزان ومالوا وما عقلوا تميال وسنان ودارت قوافزهم (وهو الصواب وهي القوارير والأقداح أعجميّة). وذلَّت غرائزهم من نَقْر عبدان. وانظر بعد طبعة ليدن طبعة الأستاذ عبد الستار فراج بمصر.
(2)
الفيل العظيم، فارسيّتُه زنده بيل أي الفيل الضخم.
قال: وربَّما جاءوا بأوله أبياتًا خمسة على شرطهم في الأقسمة وهو المتعارف أو أربعة ثم يأتون بعد ذلك بأربعة أقسمة كما قال خالد القنَّاص أنشده الزجَّاجي أبو القاسم:
لقد نكرت عيني منازل جيران
…
كأسفار رَقّ ناهج خَلَق فإن
(الأربعة)
فجاء بأربعة أبيات كما ترى ثم قال بعدها:
وما نطقت واستَعجمت حين كلّمت (الخمسة الأشطار)
وهكذا إلى آخرها الخ.
(هـ) ياقوت في بلدانه في رسم شِبْداز وذكر كسرى وشَبْدِيزَه وصاحبته شِيرين وصُوَرهم في لِحْف جبل بيستُون قال وقد ذكر هذه القصة خالدٌ القنَّاص (وفي الطبعة الفيَّاض مصحفًا) في شعر قاله وهو:
والمَلك كسرى شَهَنْشاهٌ تَقَنَّصه
…
سهمٌ بريش جَناح الموت مقطوبُ
التسعة اهـ
9 -
فهذه العروس اصطادها وانتشلها القنّاص لضَراوته بالصيد وعُنفوان شبابه إِذنْ؛ وحلَّت له إِذ حَرُمت على سمِيِّه المِنقري ولم تنفعه خُطَبُه الطَّنَّانة ولا عُمرُه الطويل كما قال علقمة الفحل: "وشرخ الشباب عندهنّ عجيبُ".
فلسان حاله تنشد لعنترة متلهِّفة:
يا شاة ما قَنَص لمن حلّت له
…
حَرُمَتْ عليَّ وليتها لم تَحْرُم
والعجب أنه مع اعترافه بأن المِنقري غير شاعر نقلًا عن كامل المبرد (ص 254) يجتهد هنا في عزو الكلمة إِليه، لقد جئتم شيئًا إِدّا.
هذا وظاهرٌ أن القنّاص عاش في القرن الثاني بعد سميّه.
10 -
ومسك الختام بعد كلّ ما سردناه عليك أن نعيد كلمتنا الأولى مرَّة أخرى أن صاحبنا نكرة إِذ لم نعرف عن أوّليته أوأخباره شيئًا يُعتدّ به فما أصدقها إِذن! هذا والله يقول الحق وهو يهدي السبيل.