الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
كتاب الإبدال
إن الاختلاف اللغويَّ فيما بين اللغات، ساميّةً كانت أم آريّة، يكون من جهتين: إحداهما جوهرية أصليَّة، وهي المتعلقة بأصول الكلمات أي الحروف التي تتركب منها، والثانية فرعية لما يقع من اختلاف في بعض أحرف الكلمات لا في سائرها، ولئن كانت الجهة الأولى تفرّق وتشتت ترتيب الكلمات فتختلف مسافةُ حروفها، ويتباعد أو يتقارب بعضها من بعض، فإن الكلمات في الجهة الثانية يأخذ بعضها بحَجز بعض، وتدنيها من صواحباتها اللغوية ونظائرها البدلية، فتتقارب في جميع اللهجات واللثغات واللُّغيات بحيث تتشابه ألفاظها وتأتلف أشكالها وتراكيبها، وتتجمَّع فتكون أُسَرًا لغوية مشمولةً برعاية أمّ واحدة؛ ولعلَّ ابن السراج حين ألف كتابه في الاشتقاق الأكبر، أو أبا الفتح ابن جني حين تابعه فتكلم على هذا الاشتقاق، إنما كانا يتناجَيان حين ينحيان هذا المنحى، وهذا هو السبب الذي من أجله كان (كتاب الإبدال) لأبي الطيب اللغوي الكبير هو ضالتَنا المنشودة. فكان عمودًا فقريًّا مترابط الفقرات والحلقات، بعد أن لبث حينًا من الدهر، وكثير من حلقاته مفقودة، ولم يبق منها إلَّا قليل: فلولاه لانقصم ظهر اللغة واختلَّ من هذه الجهة أمرها، لذلك يكاد الحزن يذيب شغاف القلب حين نذكر ما صنعه الدُّمستق بحلب، أو ما صنعه من قبلُ هولاكو ببغداد فخسرنا ما خسرنا من كنوز اللغة وذخائر العلم والأدب.
وبما بيَّناه نرى لزامًا علينا -بعد أن فقدنا ما فقدناه من تُراث العربية، وبعد أن أحرقَ هولاكو أمهات كتب اللغة والأدب وأصولها المضبوطة- أن نقدر مجهود الإِمام الصاغاني حقَّ قدره، فهو الذي ارتشف لمصنَّفاته اللغوية من تلك المنابع اللغوية الثَّرة وعيونها الفياضة قبل إِغراق كتبنا في دجلة، وقد حُرم من الاطلاع على تلك الأصول المضبوطة المروية عن الثقات الأثبات كلُّ من جاء بعد الصاغاني أو عاصره من اللغويين؛ ولقد ظلت بغدادُ مدينةُ السلام مركزَ العلم واللغة والأدب خمسةَ قرون متوالية، ولم يستفد العلماء من هذه المدينة الفاضلة الاستفادة المرجُوَّة، ولذلك جاءت كتبُ الصاغاني وعبابه الزاخر الذي اعتمد على تلك الأصول المضبوطة قبل غرقها محرَّرة ومنقحةً التنقيحَ كله.
هذا، ولما زرتُ مكتبة آل عابدين بدمشق وقفت على مجموعة خطية فريدة نادرة، والرسالة الأولى منها (كتاب المثنَّى) لحجة العرب أبي الطيب اللغوي، وكان رفيقي في هذه الزيارة العلمية أخي العزّ التنوخيّ المفتون باللغة وفنونها وشواردها، وأردت يومئذٍ اشتراءَ هذه المجموعة فحال حرص الدكتور أبي اليسر عابدين على مخطوطات خزانته دون الظفر بذلك، وكنت أعلم ما بينَ الأستاذ أبي قيس وبين أبي اليسر من الإِخاء والمودَّة الموروثة من الآباء فقلت، وقد نبَّهتُ به عمرًا: ليس لنشر هذه المجموعة وتحقيقها أحد غيرك ممن توفَّرت له شرائط النشر العلمي، بيد أن الأستاذ التنوخيّ لبث مشغولًا عن ذلك بمشاغل التدريس ومذاهلهِ، ومع ذلك ما برحتُ، أنا وصديقنا سالم الكرنكويّ، نكتب إليه ونحثّه على نشر كتاب المثنَّى وسائر رسائل تلك المجموعة اللغوية، ثم ألحَّ المجمع العلمي العربي عليه بنشره بعد أن قررَّ طبعَه على نفقاته، وما تمكَّن مع ذلك كله من تحقيق رغبتنا، ولا صحّت له عزيمة على الشروع في التحقيق حتى أنعم الله عليه بنعمة التقاعد (المعاش) فتفرَّغ له من بعد لأي وطول عهد، وفَرط حضّ منا وصدّ، وجاءنا بأخِرةٍ (كتابُ الإبدال) من خير ما نُشر في هذه العصور المتأخرة التي قلّت فيها الرغبة الصادقة في درس اللغة والبحث عن فرائدها وشواردها: ذلك أنه ليس لها مغانم مادية من ورائها، ولكم بحث الأستاذ التنوخي في الكتاب عن شواهد الإِبدال التي بلغت نحو ستمائة شاهد من كلام العرب، ولا يوجد كثير منها في المصادر المعروفة، وتمكن بعد صدق البحث والتنقيب من عزوها إلى قائليها، واهتمّ بتفسير غوامض التعبير، واستدرك من حروف الإِبدال كثيرًا من الفوائت التي عثر عليها في أمهات كتب اللغة مما زادت به فائدة الكتاب، ثم نشر بأمانة جميعَ حواشيه وطُرره اللغوية المروية عن أئمة اللغة، أو المنقولة عن كتبهم بخطوطهم، وقد ضاع أكثرها، أَجَلْ، ما كان ليطلعنا على كل ذلك إلَّا مَن ذاق لذة العلم، وألف الصبر على مشاقِّه، لذلك أهنئ العزَّ التنوخي على عمله هذا المبرور، وعلى ما كابده في تحرير كتابه وتصحيحِه بالاختلاف المستمرّ إلى المطبعة للإشراف على تجاربه التي لا ينبغي الاعتماد في تصحيحها على العمَّال، ولا سيما كتب اللغة التي تفسد ألفاظها بطمس حرف، أو انتقال نقطة إلى غير موضعها، ممَّا يجعل أمر التصحيح على أمثالهم عقبةً كؤودًا، ونحن في زمن قلَّ فيه الاهتمام بأمر الطبع، وضعفت الصلة بين
الناشرين والمطابع، وفسد النشر باعتماد كثير من الأساتذة الناشرين على تلامذتهم الأغرار، وجُهّال العمَّال الأغمار، فازداد بذلك التشويه والتصحيف والتحريف، والنشر العلمي كما بيَّناه لا يضطلع به إلا مَن رزقه الله فهمًا في اللغة دقيقًا، وطبعًا عربيًّا صحيحًا، وكان له عناية فائقة بتمحيص المسائل وتحقيق نصوصها ثم أُوتي صبرًا كصبر أيوب، مما اجتمع للعز التنوخي، ولذلك كله جاء (كتاب الإِبدال) على ما رأيتُ، بريئًا من التصحيف سليمًا من التحريف، ما خلا هَنات تعدُّ من طَبَع الطَّبع، وهو ممَّا يشهد للمحقّق باضطلاعه وسعة اطلاعه على أسرار العربية، ولا يجتمع ذلك إلا لقليل من علماء اللغة المحققين وفي مقدمتهم العزُّ التنوخيُّ، فالحمد لله على ذلك، وأنا مع هذه الكلمة المنصفة الصادقة أحثُّه من متابعة جهوده لنشر الجزء الثاني من الإِبدال، وما بقي من آثار أبي الطيب اللغويّ الحلبي، وحقيق به ذلك، لِأَنَّ أَبَا قيس التنوخيّ شاميّ كأبي الطيب فجزاه الله على تحقيقه هذا خيرًا، وأبقاه للعلم والأدب، وخدمة لغة العرب.
العاجز
عبد العزيز الميمني
29/ 7/ 60 م بدمشق