الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
وقال على بن المديني: مرسلات الزُّهْرِيّ رديئة، قيل: له وحديث النذر حديث ابن سلمة. قال: إنما سمعه الزُّهْرِيّ من سليمان بن أرقم؛ ومن ثم قلت إن مرسلات الزُّهْرِيّ رديئة (1).
وقد اعتذر الإمام الشافعي للزُّهْرِيّ في روايته عن سليمان ابن أرقم فقال: وابن شهاب عندنا إمام في الحديث والتخيير وثِقة الرجال، إنما يُسمي بعض أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم، ثم خيارَ التابعين، ولا نعلم محدثًا يسمي أفضل ولا أشهر ممن يحدِّث عنه ابن شهاب. فقيل له: فأنى تُرَاه أتى في قبوله عن سليمان بن أرقم؟ فأجاب الشافعي: رآه رجلاً من أهل المروءة والعقل، فَقَبِل عنه، وأحسن الظن به، فسكت عن اسمه إما لأنه أصغر منه، وإما لغير ذلك، وسأله مَعْمر عن حديثه عنه، فأسنده له، فلما أمكن في ابن شهاب أن يكون يروي عن سليمان مع ما وصفت به ابن شهاب: لم يُؤمَن مثل هذا على غيره (2).
وعلى كل حال فإرسال الزُّهْرِيّ لا يخل بإمامته وعدالته ولا يقل من جلالته في هذا الفن؛ حيث إن الإرسال لم يكن من العيوب القادحة في عدالة الراوي، قال الخطيب: "
…
والإرسال لا يتضمن التدليس؛ لأنه لا يقتضي إيهام السماع ممن لم يسمع منه؛ ولهذا المعنى لم يذم العلماء من أرسل الحديث" (3).
ثانيًّا: ما قيل عنه في التدليس وتوجيه ذلك
الدَّلَس، بِالتَّحريك: الظُّلْمَة، ودَلَّسَ في البيع وفي كلّ شيءٍ إِذا لم يبيّن عيبه، وهو من الظُّلمة. والتَّدْلِيس فِي البيع: كتمان عيب السِّلعة عن الْمُشْتَرَى (4).
وقد قسم ابن الصلاح (5) التدليس إلى قسمين (6):
(1) انظر: تاريخ دمشق لابن عساكر، 55/ 369.
(2)
انظر: الرسالة للشافعي، تحقيق: أحمد شاكر] مكتبه الحلبي، مصر، ط 1، 1358 هـ[، ص 469، 470.
(3)
انظر: الكفاية في علم الرواية للخطيب البغدادي، ص 549.
(4)
انظر: لسان العرب لابن منظور، مادة (دلس).
(5)
انظر: أنواع علوم الحديث (المعروف بمقدمة ابن الصلاح)، ص 73، 74.
(6)
هذا هو التقسيم الذي وجدته عند غالب أهل الصنعة، ولكن برهان الدين الأبناسي في شرحه لمقدمة ابن الصلاح قال: "وقد ترك المصنف قسما ثالثًا وهو أشر الأقسام يسمونه تدليس التسوية، سماه بذلك ابن القطان وغيره، ثم ذكره (انظر: الشذا الفياح من علوم ابن الصلاح الأبناسي، 1/ 174).
أحدهما: تدليس الإسناد، وهو أن يروي عمَّن لقيه ما لم يسمع منه، موهمًا أنَّه سمعه منه، أو عمَّن عاصره ولم يلقه موهمًا أنَّه قد لقيه وسمعه منه، ثم قد يكون بينهما واحد وقد يكون أكثر، ولا يقول في ذلك:(أخبرنا فلان) ولا (حدثنا) وما أشبههما، وإنما يقول:(قال فلان أو عن فلان) ونحو ذلك.
القسم الثاني: تدليس الشيوخ، وهو: أن يروي عن شيخ حديثًا سمعه منه، فيسميه أو يكنيه، أو ينسبه، أو يصفه بما لا يعرف به، كي لا يعرف.
وهناك قسم ثالث ذكره برهان الدين الأبناسي في شرحه لمقدمة ابن الصلاح وهو: تدليس التسوية، وهو: أن يسمع المدلس حديثًا من شيخ ثقة، والثقة سمعه من شيخ ضعيف، وذلك الضعيف يرويه عن ثقة، فيسقط المدلس شيخ شيخه الضعيف ويجعله من رواية شيخه الثقة عن الثقة الثاني: بلفظ محتمل كالعنعنة ونحوها فيصير الإسناد كله ثقات ويصرح هو بالاتصال بينه وبين شيخه لأنه قد سمعه منه؛ فلا يظهر حينئذ في الإسناد ما يقتضي عدم قبوله إلا لأهل النقد والمعرفة بالعلل (1).
وقد وُصف الزُّهْرِيّ بالتدليس، وصفه بذلك الشافعي والدَّارَقُطْنِيّ وغير واحد كما قال ابن حجر (2).
ولهذا عده ابن حجر في المرتبة الثالثة من مراتب المدلسين، وهم: ممن أكثر من التدليس فلم يحتج الأئمة من أحاديثهم إلا بما صرحوا فيه بالسماع، ومنهم من رد حديثهم مطلقًا، ومنهم من قبلهم (3).
(1) انظر: المصدر نفسه، الصفحة نفسها.
(2)
انظر: تعريف أهل التقديس بمراتب الموصوفين بالتدليس لابن حجر، تحقيق: د. عاصم بن عبد الله القريوتي] مكتبه المنار، عمان، ط 1، 1403 هـ[، ص 45.
(3)
انظر: المصدر نفسه، ص 13.
وقال سبط ابن العجمي: "محمد بن مسلم الزُّهْرِيّ العالم المشهور، مشهور به -أي بالتدليس- وقد قبل الأئمة قوله (عن) "(1).
وقال العلائي رحمه الله: "محمد بن شهاب الزُّهْرِيّ الإمام العلم مشهور به -أي بالتدليس- وقد قبل الأئمة قوله (عن) "(2)، وذكره في الطبقة الثانية من طبقات المدلسين، وهم ممن احتمل الأئمة تدليسه وخرّجوا له في الصحيح وإن لم يصرح بالسماع؛ وذلك إما لإمامته أو لقلة تدليسه في جنب ما روى، أو لأنه لا يدلس إلا عن ثقة، وذلك كالزُّهْرِيّ وسليمان الأعمش وإبراهيم النخعيّ
…
، ففي الصحيحين وغيرهما لهؤلاء الحديث الكثير مما ليس فيه التصريح بالسماع، وبعض الأئمة حمل ذلك على أن الشيخين اطلعا على سماع الواحد لذلك الحديث الذي أخرجه بلفظ (عن) ونحوها من شيخه (3).
ولم أجد من المتقدمين من وصف الزُّهْرِيّ بالتدليس غير الشافعي والدَّارَقُطْنِيّ فيما ذكره عنهما ابن حجر، ولم أجد من عدّه في المرتبة الثالثة من مراتب المدلسين غير الحافظ ابن حجر، وهو في ذلك قد خالف الحافظ صلاح الدين العلائي مع العلم أنه استمد مصنفه من جامع التحصيل للعلائي، يقول ابن حجر في مقدمة كتابه (تعريف أهل التقديس بمراتب الموصوفين بالتدليس):"فهذه معرفة مراتب الموصوفين بالتدليس في أسانيد الحديث النبوي لخصتها في هذه الأوراق لتحفظ، وهي مستمدة من جامع التحصيل للإمام صلاح الدين العلائي شيخ شيوخنا تغمده الله برحمته"(4)، وقد سار في تصنيفه على نفس التقسيم الذي حرره الحافظ صلاح الدين العلائي لمراتب المدلسين، كما يقول في مقدمة كتابه (5)، وقد جعل العلائي الزُّهْرِيّ في المرتبة الثانية وقال: وقد قبل الأئمة قوله (عن)، ووافقه سبط ابن العجمي في ذلك، وفي الصحيحين للزُّهْرِيّ الحديث الكثير
(1) سبط ابن العجمي، التبيين لأسماء المدلسين، تحقيق: يحيى شفيق حسن] دار الكتب العلمية، بيروت، ط 1، 1406 هـ[، ص 45.
(2)
العلائي، جامع التحصيل في أحكام المراسيل، ص 109.
(3)
انظر: المصدر نفسه، ص 113.
(4)
ابن حجر، تعريف أهل التقديس بمراتب الموصوفين بالتدليس، ص 13.
(5)
انظر: المصدر نفسه، ص 14.
مما ليس فيه التصريح بالسماع (1)، والحافظ ابن حجر نفسه وصف الزُّهْرِيّ بقلة التدليس (2)، فالأولى أن يكون في المرتبة الثانية وليست الثالثة.
أما الإمام الذهبي فقال: "محمد بن مسلم الزُّهْرِيّ الحافظ الحجة كان يدلس في النادر"(3)، وما ذكره العلائي وسبط ابن العجمي من اشتهار الزُّهْرِيّ بالتدليس ففيه نظر، حيث إن الزُّهْرِيّ لم يكن كثير التدليس حتى يشتهر به.
ولم أجد فيمن وصف الزُّهْرِيّ بالتدليس من ذكر نوع التدليس الذي كان يفعله، والذي يظهر أنهم أرادوا الإرسال لا التدليس بمعناه الخاص عند المتأخرين، أو أنهم أرادوا مطلق الوصف بالتدليس غير القادح، بمعنى أنه قد وقع منه أحيانًا؛ لأن التدليس بمعناه الخاص منه قليل جدًا بالمقارنة إلى مجموع رواياته، ولم يتردد أحد من الأئمة في قبول روايته مطلقًا، بل هو أحد أعمدة الحديث النبوي (4).
"وقد حصر الأئمة ما رواه عمن سمع منه ما لم يسمع منه (5)، وهو من أهل المدينة والتدليس لا يعرف في المدينة"(6)، حيث إنّ أهل الحجاز والحرمين، ومصر وَالعوالي، ليس التَّدْلِيس من مَذْهَبِهِم (7).
(1) انظر على سبيل المثال لا الحصر: صحيح البخاري: الحديث رقم (77، 78) كتاب العلم، باب متى يَصِحُّ سماع الصَّغير؟ ، والحديث رقم (115) كتاب العلم، باب العلم والعظة باللّيل، والحديث رقم (124) كتاب العلم، باب السُّؤَال وَالفُتْيَا عند رمي الجِمَار، وانظر أيضًا في صحيح مسلم: الحديث رقم (36) كتاب الإيمان، باب شعب الإيمان، والحديث رقم (170) كتاب الإيمان، باب ذكر الْمَسِيح ابن مَرْيَم، وَالْمَسِيح الدَّجَّال، والحديث رقم (257) كتاب الطهارة، باب خصال الفطرة.
(2)
انظر: فتح الباري شرح صحيح البخاري لابن حجر، 10/ 427، تحت حديث رقم (5995).
(3)
انظر: ميزان الاعتدال في نقد الرجال للذهبي] دار المعرفة للطباعة والنشر، بيروت، ط 1، 1382 هـ[، 4/ 40.
(4)
انظر: منهج المتقدمين في التدليس لناصر بن حمد الفهد] أضواء السلف، الرياض، ط 1، 1422 هـ[، ص 85.
(5)
انظر: جامع التحصيل للعلائي، ص 269.
(6)
ناصر بن حمد الفهد، منهج المتقدمين في التدليس، ص 85.
(7)
انظر: معرفة علوم الحديث للحاكم، ص 111.
فمن وصف الزُّهْرِيّ بالتدليس -مع ندرة صدوره منه- إما أنه أراد به الإرسال، أو أنه أراد مطلق الوصف بالتدليس غير القادح، وتدليس الزُّهْرِيّ على هذا الوصف لا يقلل من أهمية رواياته، ولا يترتب عليه ما يخل بعدالته، فالذين قالوا إنه يدلس، هم من وصفوه بالإمامة والجلالة في هذا العلم، وحكموا له بالعدالة وشهدوا له بالأمانة وشدة الإتقان.