الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
ركام الشك الذي أحاطته به المدرسة الفرنسية.
الكنيسة والتنصير
لا نريد أن ندرس مختلف أنشطة الكنيسة منذ الاحتلال، فذلك موضوع واسع يخرجنا عما نحن فيه. إنما نريد أن نسلط الضوء على بعض الأنشطة التي تحدد العلاقة بين الكنيسة والإدارة الاستعمارية وكذلك على أدوار بعض رجال الدين الذين تولوا أمر الكنيسة وكانت لهم مخططات خاصة، ومدى علاقة ذلك بالاسلام واللغة العربية والثقافة الوطنية على وجه العموم.
الأطروحة السائدة بين الكتاب الفرنسيين تقوم على أن هناك خلافا بين نوايا وأهداف رجال الدين ورجال الدنيا الفرنسيين في الجزائر، فالعسكريون كانوا لا يريدون إطلاق العنان لرجال الدين ينفذون مخططاتهم بين المسلمين. والحكومة الفرنسية من جهتها تعلن على لسان وسائلها ورجالها أن الهدف من إنشاء الكنيسة وتعيين رجال الدين إنما هو خدمة المستوطنين الأوروبيين وليس التبشير واستعادة المسيحية القديمة وإثارة مشاعر المسلمين. ويقول أولئك الكتاب إن الجنرالات الفرنسيين كانوا غير متدينين، وأنهم كانوا يخشون، كمسؤولين، أن يؤدي نشاط رجال الدين المباشر إلى ثورة المسلمين وعدم الاستقرار. ومن جهة أخرى تذهب الأطروحة المذكورة إلى أن المستوطنين أنواع، وأغلبهم غير متدينين أيضا، لأن منهم الجاهل والصعلوك الذي لم يكن يهتم بالأخلاق والمعنويات ولكن بالمادة والكسب، ومنهم السياسيون الذين هجرتهم الدولة إلى الجزائر في أزمنة مختلفة، وهؤلاء كانوا لائكيين وغير مهتمين بالدين، بالإضافة إلى أن هناك رجال إعلام ومترجمين ينتمون إلى الاشتراكية المثالية والسانسيمونية.
وفي نظر أولئك الكتاب أن الجمهورية الثالثة قد فتحت النار، كما يقولون، على الكنيسة وعلى (الجزويت) بالخصوص، وقلمت أظافرهم، ثم جاء الاعلان عن فصل الدين عن الدولة مع فاتح هذا القرن، فأرغم رجال
الكنيسة على التوارى وتقليص نشاطهم. ومعنى هذا أن السلطة الحاكمة كانت (غير دينية) أو لائكية، وإن التسامح وحرية العقيدة كان هو شعار الحكم الفرنسي في الجزائر. ترى هل هذا صحيح؟
إذا عدنا إلى مراجعة مسيرة الاحتلال سنجد أن السلطة الزمنية والسلطة الدينية (الروحية) كانت غير محددة لدى الحكام الفرنسيين في الجزائر ولدى رجال الدولة في فرنسا الذين لهم علاقة بالشؤون الجزائرية، منذ تقرير العقيد كليرمون تونير الذي قدمه إلى شارل العاشر لإقناعه بالموافقة على الحملة ضد الجزائر، كان الدافع الديني قويا في أذهان الفرنسيين. فقد وعده بأن الحملة ستحقق انتصار الكنيسة الكاثوليكية على الاسلام واستعادة المسيحية إلى إفريقية (الجزائر) كما كانت قبل الاسلام. ومن يتأمل في العبارات الواردة في التقرير المذكور، وفي غيره، يدرك أن الروح التي كانت تقود رجال الدولة الفرنسية عندئذ تكاد لا تختلف عن الروح التي كانت تقود ايزابيلا وفيرديناند في الأندلس ثلاثة قرون قبل ذلك.
وبالرجوع إلى أدبيات الحملة نفسها بعد نجاحها نلاحظ السلوك الديني لدى الجنرالات وعلى رأسهم بورمون وكلوزيل ثم من جاء بعدهم، بمن فيهم بوجو وراندون. فإقامة القداس الأول على يد القس شارل زكار الداعية المعروف والملازم لبورمون، وتولية العسكريين الشؤون الدينية إلى حين مجيء دوبوش سنة 1838، وإقامة القداسات بعد معارك (النصر) الشكر الله على رضاه وتوفيقه ضد (الكفار) المسلمين، وإحاطة القساوسة بالأبهة وإدخالهم إلى مراكز نشاطهم مرفوقين بالفرق العسكرية، كما حدث للأب سوشي في قسنطينة، كل ذلك يدل على أن ممثلي الدولة الفرنسية في الجزائر لم يكونوا لائكيين، كما يريد البعض أن يفهمونا في عصر الليبرالية واللائكية.
وأوضح من ذلك موقف ممثلي السلطة الفرنسية من الدين الاسلامي نفسه في الجزائر. فهم، وليس رجال الكنيسة، الذين داسوا على اتفاق 5 يوليو،
1830 الذي ينص على احترام الدين الاسلامي ومعابده، ثم هم، وليس رجال الكنيسة، الذين هدموا المساجد وجعلوها مستشفيات واسطبلات ومخازن، وتحت سلطتهم تحول بعضها إلى كنائس، وهم الذين صادروا الأوقاف، وقطعوا عن الكتاتيب القرآنية مواردها. والقائمة طويلة. ومنذ 1838 تعاونوا مع دوبوش وخلفائه على تحطيم الحياة الاسلامية، كالقضاء والتعليم العربي، والمساعدة على انتشار الخمر وأماكن الفساد الأخلاقي (1)، وجلب الجزويت الذين منعوهم من العمل بفرنسا. والقائمة هنا طويلة أيضا. والفرق الذي يبدو للعيان هو أن رجال الدين كانوا يريدون المواجهة وتحدي المسلمين مباشرة متغطين بالجيش والسلطة. أما المسؤولون المدنيون والعسكريون فيريدون عدم المواجهة واتخاذ أسلوب التوغل الهادئ والتسرب البطيء، للوصول إلى نفس الهدف.
يقول بعض الكتاب إن الجزائريين أنفسهم شهدوا على عدم تدين الفرنسيين. فقد كانوا يظنونهم (أهل كتاب) واتباع عيسى بن مريم عليه السلام عن حقيقة. وينسبون إلى الأمير عبد القادر قوله: إن هؤلاء الفرنسيين ليس لهم دين. وذلك بعد أن وجدهم على غير ما كان يعتقد فيهم. ويقولون إن الجنرالات وبعض الكولون الأولين كانوا متأثرين بأفكار فولتير المتنورة وبعيدين عن روح الدين. وقد ذكرنا أن حركة التنوير والحركة الرومانتيكية، والليبرالية المادية، والفكر الجمهوري والنظرية الاشتراكية المثالية والماسونية، كلها كان لها تأثير في الفرنسيين عبر المراحل المختلفة. وهذا صحيح إلى حد كبير بالنسبة لبعض الحكام وأصحاب الجرائد والجمعيات. ولكن عندما تأتي المصلحة الفرنسية فالكل يصبح واحدا، ولا يهم بد ذلك أن تكون المصلحة من جهة رجال الدين أو
(1) كتب بلاكسلي (وهو قسيس) أوائل الخمسينات من القرن الماضي، إن الفساد قد انتشر بعد الاحتلال بدرجة مريعة. وذكر أن الأطفال غير الشرعيين بين 1831 - 1836 كانوا لا يقلون عن 244 في الألف، بينما كانوا في فرنسا كلها 72 في الألف. انظر (أربعة أشهر في الجزائر)، لندن 1859، ص 44.