الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
لم يكونوا مترجمين بالمعنى الدقيق للكلمة، إنما كانوا مفاوضين لمعرفتهم اللغة الفرنسية والعربية. وكان تأثير بوضربة على سير المفاوضات واضحا، ثم إنه بسبب هذا الماضي عينه الفرنسيون على رأس بلدية الجزائر قبل أن يسخطوا عليه، كما فعلوا مع غيره في مواقع ومدن أخرى.
إذن لعبت الترجمة دورا مهما في هذه المرحلة الأولى بين الجزائريين والفرنسيين. وكانت القواميس توزع على ضباط الجيش لمعرفة مبادئ العامية، مثل معجم دنينوس المذكور، ومعجم المستشرق جان جوزيف مارسيل إلى (المعجم الفرنسي - العربي للهجات العامية الافريقية في الجزائر وتونس ومراكش ومصر)(1) بالإضافة إلى تأليف جوني فرعون في اللغة العربية بمدينة الجزائر.
تنظيم فرقة المترجمين
وبعد نجاح الحملة رجع بعض المترجمين إلى فرنسا، ولكن الآخرين التحقوا بمختلف المصالح، كما رأيا في حالة زكار وفرعون ودنينوس. وظلت الترجمة غير دقيقة وغير منظمة، فكل من يعرف قليلا من العربية والفرنسية يعد نفسه مترجما. وكانت الإدارة الجديدة في حاجة إلى هذا الجهاز لكي تتصل بالشعب وتربط علاقات مع قادة وتدرس أوضاع المحاكم والأسواق والأملاك وغيرها. وقد ظهر أن كثيرا من حالات الغش وسوء التفاهم كانت بسبب سوء الترجمة عمدا أو عجزا. وأحس القادة الفرنسيون أن نجاحهم في الجزائر يتوقف على حسن الترجمة ووجود مترجمين أكفاء. فاتهموا المترجمين الضعفاء بأنهم شلوا التأثير الفرنسي بين السكان وعرقلوا المخططات بسبب جهلهم في حين أن على المسؤول الفرنسي، مهما كان، الاعتماد على جهاز المترجمين. ويقول شارل فيرو معتذار ومبينا الحاجة التي
(1) ط. باريس 1837.
كانت تدعو إلى تنظيم هذا الجهاز (مهما كانت عبقرية المسؤول (الفرنسي) في بلد أجنبي، فإن عليه أن يعتمد على كاتبه (سكرتيره) المترجم الذي يمتاز بالذكاء والموهبة والتجربة والشعور القومي). وقد نعت برينيه المترجمين بأنهم كانوا سيئي السمعة ولا يشرفون المهنة إلا نادرا.
ولكن هذا النقد كان موجها عادة إلى من سموا بالمترجمين (الاحتياطيين)، وهم غير الفرنسيين. ويقول فيرو إنه أثناء الاستعداد للحملة في طولون اعتمد الفرنسيون على أي شخص يعرف قليلا من العربية والفرنسية. وبعد ذلك اعتمد الفرنسيون أيضا على الأهالي الذين يعرفون قليلا من الفرنسية. ولعله يعني بذلك اليهود خاصة، لأنهم هم الذين كانوا يعرفون من الفرنسية ما يكفيهم للتجارة، أما الجزائريون المسلمون فمعرفتهم للفرنسية قليلة. ومهما كان الأمر فإن اسم (المترجم) أصبح، كما يقول فيرو، إسما مرفوضا من الرأي العام الذي لم يعد يعرف الفرق بين المترجم الرسمي، وبين المترجم الاحتياطي. ومن ثمة جاءت الدعوة إلى ضرورة تصنيف المترجمين حسب سلم ودراسة بعد مسابقات محددة ليترتب على ذلك نظام شامل لمرتبات المترجمين وترقيتهم وتقاعدهم (1).
ابتدأ الفرنسيون بتنظيم جهاز القضاء بعد نجاح الحملة. فالقضاء كان الميدان الأكثر إلحاحا عليهم من غيره لاتصاله بالأملاك والجنايات ونحوها. ولذلك كلفوا جوني فرعون بوضع تقرير عن المصطلحات القضائية في الجزائر والفروق بينها وبين مصطلحات القضاء في فرنسا. كان ذلك سنة 1834. وقد بين فرعون في تقريره الاستعمالات العربية في هذا الميدان وكيفية تحرير الأحكام في المحاكم، وترجمتها. وبعد ذلك صدر مرسوم ينص أولا على تنظيم القضاء، كما ينص على إنشاء فرقة من المترجمين المحلفين ليكونوا في خدمة المحاكم بصفتهم موظفين ملحقين بها. وقد أنشئت هذه الفرقة في فبراير 1835، وهي الفرقة التي كان لها دور بارز في
(1) فيرو، مرجع سابق، ص 86 - 106.
الترجمة في المحاكم، سلبا وإيجابا، ولا سيما بعد أن استولى القضاء الفرنسي على القضاء الإسلامي، وتولت المحاكم الفرنسية جميع صلاحيات المحاكم الشرعية الاسلامية بالتدرج ابتداء من الخمسينات. وكان المترجمون يؤثرون في الأحكام الصادرة عن القضاة لأن بأيديهم أداة التعبير بين المتخاصمين. وقد أعطانا محمد بيرم الخامس صورة عن ذلك (1).
ونحن لا يهمنا هنا الجانب السياسي أو الديني من فرقة المترجمين القضائيين، ولكن يهمنا منها الجانب اللغوي والمعرفي. فقد كان هؤلاء مطلعين، في أغلب الأحوال، على الشؤون الثقافية والتاريخية للمواطنين، وكانوا يعرفون المصطلحات الواردة في اللغة القضائية، كما يعرفها اليوم المحامون والموثقون، بالإضافة إلى معرفتهم للمصطلحات الفرنسية. وقد قام بعضهم بترجمة النصوص أيضا، ودخلوا بذلك ميدان الاستشراق أو الاستعراب. وكانوا يخضعون في قبولهم وترقيتهم وتقاعدهم إلى تنظيم دقيق في العموم. وكانت المسابقات هي الطريق إلى ذلك.
أما المترجمون العسكريون فأول تنظيم جرى لهم كان سنة 1842 (عهد بوجو) ففي هذا التاريخ تبين المسؤولون الخلل الذي أصاب هذه الفرقة التي كان ينتمي إليها كل من هب ودب. وكان النظام كله عسكريا، كما نعرف. وتألفت لجنة للاستماع إلى شكاوي المترجمين العاملين. ويقول فيرو إن اللجنة انتهت إلى (تطهير) الفرقة من العناصر غير الكفأة. وكذلك تحددت طريقة إجراء المسابقة لاختيار الأكفاء. ووضعت اللجنة برنامجا للامتحان ومشروعا كاملا للترقية. ولم ينفذ المشروع دفعة واحدة، بل على مراحل. كانت اللجنة برئاسة العقيد (يوجين دوماس)، وكان الكاتب للجنة هو لويس برينيه المستشرق المعروف (ورئيس حلقة اللغة العربية) ومن أعضائها أدريان بيربروجر وليون روش. وظلت اللجنة تواصل السهر على تنفيذ مشروعها خلال سنوات، فصدر في 1845 قرار وزاري يوافق على عملها، ثم عدل
(1) انظر فقرة القضاء من فصل السلك الديني والقضائي.