المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

وهم قليلون .. بل قليلهم كثير، وواحد منهم كألف .. - تاريخ الجزائر الثقافي - جـ ٦

[أبو القاسم سعد الله]

فهرس الكتاب

- ‌الجزء السادس

- ‌الفصل الأولالاستشراق والهيئات العلمية والتنصير

- ‌الاستشراق ومراحله

- ‌حلقات اللغة العربية

- ‌ مدرسة الآداب

- ‌أعمال المستشرقين

- ‌حياة بعض المستشرقين والمستعربين

- ‌اللجان العلمية

- ‌لجنة الاكتشاف العلمي للجزائر:

- ‌لجنة الاحتفال المئوي بالاحتلال:

- ‌الجمعيات المتخصصة

- ‌المعاهد الجامعية

- ‌البعثات العلمية ومشاركة المثقفين الجزائريين فيها

- ‌الكنيسة والتنصير

- ‌نشأة الأسقفية

- ‌الأسقف بافي:

- ‌ لافيجري

- ‌شارل دي فوكو:

- ‌النشاط التنصيري منذ 1930:

- ‌الفصل الثانيالترجمة وظهور النخبة الاندماجية

- ‌مترجمو الحملة وغداتها

- ‌تنظيم فرقة المترجمين

- ‌المترجمون الجزائريون

- ‌تعاون الجزائريين والفرنسيين في مجال الترجمة

- ‌الترجمة إلى العربية

- ‌الاتجاه الاندماجي - الاستغرابي

- ‌الزيارات المنظمة لباريس وفكرة المعهد العربي

- ‌أسر الأطفال وحملهم إلى فرنسا

- ‌دعاة التعلم باللغة الفرنسية الأوائل

- ‌نماذج من المثقفين والاندماجيين

- ‌الفصل الثالثمذاهب وتيارات

- ‌(نعمة) الاحتلال

- ‌رأي باصيه، ود. وارنييه، وطوكفيل

- ‌رأي لافيجري ولويس فينيون وآخرين

- ‌(فرق تسد)

- ‌معاداة العرب

- ‌ومعاداة البربر

- ‌التآمر على زواوة

- ‌الدعوة إلى تعلم الفرنسية ..وإلى التعلم عموما

- ‌وضع المرأة

- ‌الهجرة أو البقاء

- ‌الاندماج، التجنس، النخبة

- ‌الجزائر في الكتابات الفرنسية

- ‌اليهودية والصهيونية

- ‌الماسونية

- ‌الإسلام ووحدة الأديان

- ‌المثالية والاشتراكية

- ‌ إسماعيل عربان

الفصل: وهم قليلون .. بل قليلهم كثير، وواحد منهم كألف ..

وهم قليلون .. بل قليلهم كثير، وواحد منهم كألف .. (1).

‌وضع المرأة

أخذ الحديث عن المرأة في المجتمع الجزائري حيزا كبيرا، في المناقشات والكتابات أثناء العهد الفرنسي (2). كان الجهل بالتقاليد الاجتماعية والتعاليم الإسلامية قد أدى إلى تفسيرات عديدة لوضعها. منهم من تأسف على حالها ومنهم من وصف شقاءها. ومعظم الكتابات ترجع ما آل إليه أمر المرأة إلى تعاليم الإسلام للطعن فيها. والمرأة في نظرهم قدرية غارقة في الخرافات، ومستسلمة راضية بحكم القضاء عليها. وهي ضحية التخلف والأمية، وهي لعبة الرجل الذي كان يشتريها يقوده كما يشتري البهائم والبضائع، وهي في نظرهم ضحية الدين الإسلامي القاسي الذي جعل الرجل قواما على المرأة وأباح تعدد الزوجات وجعل الطلاق بيد الرجل وحده وفرض الحجاب والعفاف. والمرأة العربية المسلمة عندهم نمط واحد في المدينة والريف، إنها آلة نسل وخادمة بيت وحاضنة أطفال وجالبة حطب وماء. وهي محرومة من كل النعم في الحياة الدنيا، فلا أفراح ولا مراقص ولا ملتقيات اجتماعية. إن شباب المرأة يذوي بسرعة ويداهمها الهرم وهي في الأربعين من عمرها فتترهل وتموت قبل الأوان. إن المجتمع الجزائري مجتمع رجالي ليس فيه دور للنساء.

وانطلاقا من هذه الصورة عن المرأة جاءت المحاولات لإنقاذها. بدأت المحاولات بقناعة أنه لا يمكن تغيير أي مجتمع إلا بتغيير حال المرأة فيه، والدخول إلى عقلها وعاطفتها وذوقها. ولا يكفي وصف الرجال الأوروبيين لوضع المرأة العربية المسلمة بل لا بد من إرسال النساء الأوروبيات إليها

(1) أبو يعلى الزواوي (جماعة المسلمين)، 1947، ص 51 - 55.

(2)

انظر فصل السلك الديني والقضائي وفصول التعليم من هذا الكتاب، وكذلك الحركة الوطية، ج 1.

ص: 337

والاطلاع على أحوالها ومعرفة رغائبها وسط تفكيرها، ومحاولة إخراجها من وضعها المتردي. وفي النساء الأوروبيات من حملت القلم لوصف تلك الحال، وفيهن من حملن الصليب ليعطي بركاته للمرأة المسلمة، ومنهن من فتحت ورشة لاستقبال البنات المسلمات بعد إقناع أمهاتهن بأن لا خوف عليهن من الأذى ولا من التنصير ولا من التبرج. وبدأت عملية التعرف والاتصال، ومحاولات تكسير الحواجز بين (المتقدمات) السافرات المتحررات القادمات من أوروبا وبين المتخلفات القابعات المغلوبات على أمرهن في الجزائر.

سوف لا نذكر هنا فضيحة عائشة بنت محمد وتهريبها وتنصيرها سنة 1834 وبداية الاعتداء الفرنسي على حرمات الدين والقضاء والمجتمع. فذلك فصل آخر (1). وسوف لا نذكر كذلك ورشات السيدة لوسي (الليكس) والسيدة ابن عابن، وسيدات كثيرات في العاصمة وفي زواوة وميزاب وبسكرة ووهران وغيرها حيث دروس الطرز والنسيج التي تحولت إلى دروس في الترقية الاجتماعية والدمج الحضاري، ومثلت بداية التوتر داخل الأسرة الجزائرية بين الأم والبنت، والبنت والأب، والجار والجار، وكم من فضيحة وقعت ولكن قبرت في وقتها، وكم من ضحايا لعمليات الإنقاذ هذه. فالمرأة الجزائرية لم تتول قيادة (تحريرها) بنفسها وإنما الأخريات هن اللائي رمين بحبال النجاة إليها. ولذلك بقيت تابعة لا متبوعة وفاقدة لروح المبادرة فيما يتعلق بمصيرها. كان الأخريات يتحدثن عنها وهي غائبة، ويخططن لها وهي فاقدة للوعي. ومن السيدة لوسي إلى السيدة ماري بوجيجا حوالي قرن، ولكن وضع المرأة الجزائرية هي هو هو تقريبا، رغم فرص التعلم منذ أوائل هذا القرن.

فكيف سارت الأمور؟ بالإضافة إلى كتابات الرجال عن المرأة

(1) عن المرأة الجزائرية في عهد الاحتلال انظر مغنية الأزرق (بلاغة الصمت: مشكلة المرأة الجزائرية)، نيويورك، 1994.

ص: 338

الجزائرية، كتبت عنها السيدة بروس، والسيدة روجرز، وغيرهما. وتركز وصف هؤلاء على المرأة الحضرية. ثم اتسعت الاهتمامات وانفتح الريف والبادية أمام الرحالة والإداريين والكتاب، فوصفوا المرأة في جبال زواوة والهضاب العليا وفي الصحراء. وظهرت عدة عناوين مثل (المرأة العربية) لدوماس، و (المرأة البربرية) لرين، وبحوث أخرى عديدة تتناول ظاهرة خاصة فقط كالحجاب أو العمل. ولا شك أن الاحتلال قد أدى إلى زيادة الانغلاق الاجتماعي بالنسبة للمرأة في المدن. لأن الفرنسيين أعطوا المثل السيء في الاعتداء على الحرمات وعدم مراعاة الأعراف والتقاليد التي وعدوا باحترامها في اتفاق 1830، سيما حول المرأة. وقد ذكر حمدان خوجة نمو نموذجا عن ذلك وقع أثناء حفلة زواج ابنه. فقد دعا بعض الفرنسيين لحضور الزفاف مع نسائهم بشرط عدم دخول الرجال إلى محل النساء، فإذا بالضيوف الفرنسيين يدخلون، مع ذلك، على النساء، فوقعت الفوضى والفضيحة. إن أحداثا مثل هذه كانت لا تشجع على الاختلاط بين الفرنسيين والجزائريين في المدن.

رغم الظروف الجديدة فقد استمرت العائلات في المدن على إقراء بناتها القرآن في الكتاب، ولكن بندرة. ويقول جون موريل إنه كان من النادر عند زيارته للجزائر أن تجد المعلمات الخصوصيات للبنات، كما كان الحال في الماضي. ووصف المرأة عندئذ بأنها جاهلة (1). وتؤكد السيدة بروس سنة 1849 أنه كان لا يسمح للبنات بالخروج إلى الكتاب لحفظ القرآن، وأن الكتاب (المسيد) كان خاصا بالبنين (2). ومعظم الذين وصفوا الكتاب عندئذ وصفوه على أنه للبنين وغير مختلط. إن هذا الصنف من البنات هن اللاتي ذهبت إليهن السيدة الليكس (لوسي) منذ عهد بوجو لإخراجهن إلى ورشة الطرز والخياطة بدل كتاب القرآن. ثم أخذت نساء أخريات في جلبهن إلى أماكن الرحمة وإلى الجمعيات الخيرية والتوليد، بالتدرج والاستدراج.

فهل كانت المرأة فعلا جاهلة تماما؟ إذا كان العلم بالشهادات والتقدم

(1) جون موريل (الجزائر)، لندن، 1858، ص 386.

(2)

السيدة بروس (إقامة في الجزائر)، لندن، 1852، ص 278.

ص: 339

بالدرجات في المدرسة من سنة إلى أخرى، فهذا ما لم يحصل إلا في المدارس الأهلية الفرنسية منذ حوالي 1920 فقط، وقد تناولنا ذلك في غير هذا المكان. ونفهم من بعض القصص هنا وهناك أن التعلم لم يكن محرما ولا مفقودا في بعض العائلات والمناطق، ولكنه كان تعلما استماعيا في معظمه، وكان يقوم على الحفظ والذاكرة على عادة العرب القدماء، وقلما وجدنا المرأة التي تكتب أو تؤلف أو تعبر عن علمها بقلمها. ولا شك أن النسوة كن يستمعن إلى الدروس ويستوعبن المواعظ والأحكام الشرعية شفويا، ثم ينشرن ذلك بين النساء الأخريات، وهكذا. وقد روي عن الشيخ محمد بن يوسف أطفيش أنه كان يعظ النساء في دروس مخصصة، وكان يعلمهن شفويا تعاليم الإسلام وأحكام شريعته. وممن نبغت على يدي السيدة عائشة بنت ناصر التي أصبحت متعلمة كما أصبحت بدورها واعظة للأخريات، وكانت تفصل في القضايا بين المتخاصمين (1). وكان ابن باديس ورجال جمعية العلماء قد اتبعوا منهج الوعظ والإرشاد وتعليم المرأة أيضا بالطريقة الشفوية، ثم فتحوا المدارس أيضا لتعليم البنات بالطريقة الحديثة.

ويذكر بعض الكتاب أن المرأة في زواوة قلما تعلم لأن التعلم في الزوايا والمدارس القرآنية كان مقصورا على البنين، ومن النادر أن تجد غير ذلك (2). ومن هذا النادر ما حكاه الشيخ علي أمقران عن السيدة ذهبية بنت محمد بن يحيى، أحد شيوخ زاوية اليلولي. فقد كانت ذهبية متعلمة وكانت لا تكف عن المطالعة في كتب أبيها أثناء هرمها (3). وكانت السيدة زهراء بنت العربي بن أبي داود معروفة بالصلاح والحكمة حتى أنهم كانوا يشاورونها في أمور الدين والدنيا، وهي من شواعر اللغة القبائلية (4). وذكر

(1) محمد علي دبوز، (نهضة الجزائر)، 1/ 347.

(2)

هانوتو ولوتورنو (منطقة القبائل)، ط. 2، ص 106.

(3)

علي امقران، مراسلة خاصة، إبريل 1979.

(4)

نفس المصدر، من أوراق له، 18 مايو، 1981.

ص: 340

الشيخ عاشور الخنقي أن زوجته، وهي باية (بية) بنت أحمد حسان، كانت قارئة للقرآن (وعالمة بعدة علوم على غاية الاتقان والإحسان)، وكانت قد أخذت الطريقة الرحمانية على الشيخ محمد بن بلقاسم الهاملي وأدخلت عند أهل الشيخ وعند ابنته زينب التي تولت بعد أبيها القيادة الروحية للزاوية (1).

وكانت زينب هذه من النساء اللواتي حظين بدراسات وأوصاف قلما حظيت بها امرأة معاصرة في الجزائر. فأبوها هو شيخ زاوية الهامل. وكانت زينب الابنة الوحيدة والوريثة له. وقد ولدت في حدود الخمسينات من القرن الماضي. ورباها أبوها وعلمها لكي تساعده في الزاوية وتخلفه بعد وفاته. وكانت متعلمة إلى أن أصبحت قادرة على الاستفادة من مخطوطات المكتبة. وكانت هي الحافظة لسجلات أملاك الزاوية. وقد بلغت مداخيلها حوالي مليونين ونصف من الفرنكات أوائل هذا القرن، كما بلغت الأراضي المزروعة التابعة للزاوية 900 هكتار في بوسعادة وحدها. وكانت الزاوية في عهد أبيها محل الزيارات والضيفان والطلبة، وقيل إن عدد هؤلاء (الطلبة) كان يتراوح بين 700 و 800 في السنة. وحين تغلبت زينب على ابن عمها في إرث بركة الزاوية تلقت أيضا زيارات عديدة، منها زيارة الفنان الفرنسي (قيومي)، والمغامرة الأديبة إيزابيل إيبرهارد، والرحالة بامبر. وكانت زينب، حسب وصف مشاهديها منقطعة للعبادة. وشهدت الزاوية في عهد والدها وعهدها هي أحداثا هامة وكانت لها مواقف، منها احتضانها (أي الزاوية) لأسرة المقراني بعد 1871، وموقفها من ثورات الجنوب، وتدريس الشيخين محمد بن عبد الرحمن الديسي وعاشور الخنقي فيها، وزيارات ناصر الدين ديني، الرسام المعروف، لها. وكانت زينب معاصرة لكل ذلك وواقفة على سير الزاوية في أحرج الظروف (2).

(1) عاشور الخنقي، (منار الإشراف)، ط. 1914، ص 25. وقال إن زوجته هذه قد توفيت سنة 1305 بالزاوية.

(2)

أنيت كوباك A. Kobak، (إيزابيل)، نيويورك، 1989، ص 191. وكلنسي - سميث =

ص: 341

وكان للنساء أدوار في الحياة السياسية والعسكرية أيضا. وقد برزت أثناء حياة الأمير عبد القادر امرأتان: أمه لاله زهرة (الزهراء) وزوجته لاله خيرة. وكانت أمه ذات مكانة خاصة في قومه حتى كان يدعى أحيانا، سيما عند البيعة، بابن السيدة الزهرة. وكان الأمير كثيرا ما يشاورها ويتبع نصائحها. وبعد معاهدة التافنة ظهر على الأمير بعض الراحة وتلقي الهدايا، فذكرته أمه بما يجب للرجل البسيط، رجل الدين والتقشف، فكان لا يلبس إلا الصوف البيضاء دون زخرفة. ولما كان في تاكدامت سمع بأمه مريضة، وهي في مليانة، فبادر إلى زيارتها قاطعا على ظهر الحصان 160 كلم في خمس عشرة ساعة. وكانت أمه وزوجه في الزمالة سنة 1843 فهربهما مولود بن عراش بحراسة أربعين فارسا حتى لا تقعان في قبضة الفرنسيين. ولما وصل الجيش الفرنسي إلى موقع الزمالة دارت معركة حامية حول الخيمة التي كانت تضم السيدتين ودافع عنها فريق من الجيش النظامي حتى قتل دونها، لتمكين السيدتين من الهروب الذي لم يعلم به الفرنسيون. ثم إن لاله زهرة هي التي استقبلت الأسرى الفرنسيين سنة 1845 بعد معركة سيدي إبراهيم. وقيل إنها هي التي نصحت ابنها الأمير سنة 1847 بتوقيف الحرب بعد مقتل البوحميدي في المغرب وفقدان الأمل في الهروب إلى الصحراء، ومحاصرة الفرنسيين لهم. وقد عانت لاله زهرة أيضا من السجن عند الفرنسيين بفرنسا حوالي خمس سنوات. وكذلك لاله خيرة وأطفالها (1).

= (ثائر وقديس)، 1994، ص 244. وهنا وهناك. وهناك من يرى أن تولي زينب شؤون الزاوية قد أضعفها. والمعروف أن الفرنسيين بواسطة كروشار، رئيس المكتب العربي في بوسعادة، قد عارضوا توليها خوفا من أن تقع الزاوية تحت تأثير المعارضين للاحتلال. وكان الفرنسيون يفضلون تولية ابن عمها. ولكن زينب عارضت ذلك ورفضت الرسالة (الوصية) التي تظاهر بها الفرنسيون من أبيها على أساس أنه كتبها في حالة مرض وشيخوخة. وبقيت هي المتولية إلى وفاتها سنة 1904 (حوالي سبع سنوات). وقد وصفتها كلنسي - سميث بأنها (البنت العصامية).

(1)

لويس رين (المرأة البربرية) في (المجلة الجغرافية للجزائر وشمال إفريقية) SGAAN، 1905، ص 472، انظر أيضا السيدة بروس (إقامة في الجزائر)، مرجع سابق، =

ص: 342

وأثناء ثورة الزعاطشة (1849) لبست النساء لباس الأعراس والأعياد، وتخلين عن لباس الحزن والحداد، وعبرن عن فرحتهن بمن سقطوا مجاهدين من عائلاتهن. وقد دام ذلك خلال فترة الحصار الضيق الذي نصبه الفرنسيون على الواحة (1). فالمرأة كانت حاضرة في المقاومة بأفعالها ورموزها.

إن هناك نساء كثيرات في حياة الجزائر وزعمائها خلال الاحتلال. فمن أولاد سيدي الشيخ، ومن زواوة، ومن الأوراس ومن معسكر والشلف، ثم من الصحراء. لقد كانت المرأة حاضرة في المدن والأرياف. ولم تكن تنتظر النجدة من الأخوات البيض حاملات الصليب، ولا أفكار سان سيمون، لتحريرها وإنقاذها. لقد نفتها فرنسا وحدها أو مع الرجال إلى كايان وكاليدونيا، وعانت في المحتشدات التي أقامها بوجو وسانطارنو وبيليسييه. وغنت للحرية التي كانت تحوم فوق رأسها، وبكت زوجها وأبناءها يوم وصلها خبر استشهادهم في المعارك. فهذه فاطمة نسومر التي قاومت حتى ألقي عليها القبض وتوفيت في سجنها بمرض السل، وهذه زوج بوشوشة التي حال الفرنسيون بينها وبينه عندما هربوها إلى أهلها في البيض ثم قتلوه هو رميا بالرصاص في سجن قسنطينة. وهذه عيشوش التي كانت تدبر شؤون الحكم في تقرت، وتلك زينب التي كانت تدير زاوية الهامل أثناء حياة أبيها وبعده.

وحين توفي الخليفة حمزة، زعيم أولاد سيدي الشيخ، عند الفرنسيين، اتهم هؤلاء إحدى زوجاته بتسميمه لأنها لم تغفر له استسلامه المطلق للفرنسيين. كما اتهموا الطليعة بنت رابح بوضع السم لزوجها القايد جلول بن حمزة لإخلاصه لفرنسا، أما رقية بنت الحرمة فقد قيل عنها إنها

= ص 315 - 316. وفي المرجع الأخير وصف لنساء وأطفال الأمير في سجن (بو) بفرنسا، وعن نساء الأمير انظر فصل في المشارق والمغارب.

(1)

كلنسى - سميث (ثائر وقديس)، 1994، ص 345، هامش 1.

ص: 343

ربت ابنها سليمان بن حمزة على كره الفرنسيين وغذته بالطموح والكبرياء (1).

بل هناك حتى النساء المتمردات على العادات والتقاليد الاجتماعية والإسلامية. فهذه حليمة بنت محمد بن يوسف الزياني قد اشتهرت في وهران ونواحيها بالخروج عن التقاليد. فكانت تخرج سافرة وتفلح الأرض لأسرتها، وكانت تركب الخيل وتشارك في الفروسية التي تنتظم من وقت إلى آخر، كما كانت تستقبل الوفود التي تزور زوجها الذي كان يتولى وظيفة إدارية للفرنسيين، وتحضر الحفلات التي يقيمها المسؤولون الفرنسيون لأعيان الموظفين الجزائريين. واشتهرت بلقب (القايدة حليمة). وقد قيل إنها ذهبت إلى الحج قبل وفاتها واستبدلت لقب القايدة بلقب الحاجة. وتوفيت خلال الحرب العالمية الثانية (2).

وكم من قصص تروى عن النساء الجزائريات خلال هذا العهد. ففي المدن كن لا يخرجن إلا إلى الحمام حيث يلتقين ببعضهن ويتخذن ذلك ذريعة للاطلاع على الأحوال، والاستماع إلى الأخبار من كل نوع، وذريعة لتفريج الكرب والترويح عن النفس. وكثير من الحمامات كانت تتحول إلى مغنى ومرقص ومعرض للزينات والجواهر، وأسواق للبيع والشراء. والمناسبة الأخرى التي كانت المرأة تخرج فيها في المدينة هي شهر رمضان حين يطول الليل ويخرج الرجال والأطفال، ويكسو الظلام الشوارع فلا يعرف المارة إلا أن الملفوف بالحائك هو امرأة أو حرمة. وغالبا ما كانت النساء تخرج في رمضان ومعهن أطفالهن. كما كن يخرجن يوم العيد لزيارة المقابر والجيران والأقارب. وفي يوم العيد كن يتخذن الزينة ويلبس الجليد من الثياب والأحذية الملونة والمطرزة بالذهب والفضة. وفي عيد الأضحى كن يتخذن الدفوف ويرقصن ويغنين. ولكن الفرنسيات لا يعجبهن كل ذلك، إنهن يردن المرأة المسلمة أن تفعل ما يفعلنه، وإلا فهي متخلفة ومسكينة. ولم تعجبهن

(1) لويس رين (حدودنا الصحراوية) في المجلة الإفريقية، 1866، ص 189.

(2)

المهدي البوعبدلي (دليل الحيران)، المقدمة، والكتاب من تأليف محمد بن يوسف الزياني.

ص: 344

موسيقاها ولا زغاريدها، وقد بلغت الوقاحة بإحداهن أن شبهت الزغاريد بنباح الكلاب (1).

وقد سال حبر كثير عن تعدد الزوجات وحقوق الزوجة الواحدة، واعتبر الفرنسيون أنفسهم من المنقذين هنا أيضا. وربط معظم الذين تناولوا هذا الموضوع بين الجانب الاقتصادي والشريعة الإسلامية والقوانين الفرنسية. وبنهاية القرن الماضي سجلوا أن تعدد الزوجات بين المسلمين كان يقل في المناطق المدنية حيث انتشر الفرنسيون، وأن التعدد كان ما يزال شائعا فقط لدى بعض العائلات الغنية، وإنه ظاهرة تختفي بالتدرج. ونادى بعضهم بتوفير الحاجات المادية للرجل وعندئذ سوف لا يتزوج إلا واحدة. ولاحظوا أن التعدد لا يكاد يذكر في زواوة وفي بعض المناطق الفقيرة الأخرى، لأن الطبقات الفقيرة عامة لا تعرف تعدد الزوجات. ذلك أن التعدد لا يرجع إلى الشهوة الجنسية ولكن إلى دوافع اقتصادية وإلى الفخفخة وحب الظهور وكثرة الأولاد. وأخبر الضابط شارل ريشار الذي قضى مدة طويلة وهو رئيس لمكتب عربي عسكري، وكان عارفا بأحوال الأهالي في نواحي الشلف: إن تعدد الزوجات راجع إلى أسباب مادية، فالمرأة كانت تقوم بالطحن والعجن، والطبخ، وكانت تقوم بترتيب البيت وتزيينه، وكانت تنسج الحائك والبرنس، وتعد الحلوى، وتخيط الملابس وتصنع قماش الخيام، ومن ثمة كانت تشارك في البناء المنزلي. فالمرأة على هذا المنوال كانت توفر للرجل: الغذاء والكساء والسكن (2).

(1) السيدة بروس، مرجع سابق، ص 284.

(2)

شارل ريشار (تحرير المرأة العربية)، نقلا عن بول بوليو (عن الاستعمار) ط. 5، 1902، ص 464. ويذكر لويس ماسينيون في وقت لاحق أن السدس فقط من رؤوساء العائلات كان لهم أكثر من زوجة سنة 1891 (أي 149،000 من مجموع 950، 000) أما في سنة 1911 فقد انخفض ذلك العدد إلى 59، 527 فقط. وفي 1915 انخفض إلى 2،830 وهكذا. انظر (الحولية)، باريس 1955، ص 235. وعن تعدد الزوجات من وجهة نظر إسلامية انظر ما كتبه الشيخ أبو يعلى الزواوي في (الشهاب) عدد مايو 1931.

ص: 345

ورأى بول بوليو عدم المبالغة في دور المرأة الاقتصادي، رغم أنه يعترف بأن عليها يتوقف نظام المنزل وأملاكه وحسن سير المداخيل والتوفير. وإن العمل المنزلي هو مجال الزوجة الوحيدة والكفأة. وقال إن المسألة ليست في كثرة القوانين والإجراءات، ولكن في فهم عقائد المسلمين وتقاليدهم. ويكفي في نظره أن تعدد الزوجات يجعل التواصل غير ممكن بين الأوروبيين والجزائريين، وله عواقب وخيمة. وقد دلت الإحصاءات على أنه قد انحصر في بعض العائلات الغنية، كما ذكرنا. وحكم التاريخ يقتضي إذن إعطاء العربي ما قدمه له المرأة من مادة: وهي الغذاء والكساء والخياطة والبناء، الخ. وإذا توفر له ذلك فإن التعدد سيختفي من تلقاء نفسه.

ومن جهته نصح جول دوفال بمنع الموظفين الجزائريين في الإدارة الفرنسية من تعدد الزوجات، وبعدم حضور الفرنسيين حفلات الزواج الثاني إذا دعاهم الأهالي إليها، وبمقاطعتهم لزيارة أي بيت فيه أكثر من زوجة، كما طالب بامتناع الفرنسيات من الدخول على بيت فيه حريم (أكثر من زوجة). ثم رجع بوليو إلى الحديث عن بعض العراقيل التي وضعها القانون الفرنسي لمنع تعدد الزوجات، ومنها، في نظره، الإرث المتساوي بين الرجل والمرأة، والزواج المؤبد حسب القانون (الفرنسي)، وكذلك إنشاء الحالة المدنية التي رأى فيها بوليو وسيلة لإخراج الجزائريين من (نصف حضارتهم)(1).

ونحن لا نفهم من هذه الملاحظات والنصائح دفاعا عن المرأة المسلمة أو غيرة على حقوقها الإنسانية، ولكن دعوة لإدماج الجزائريين في المجتمع الفرنسي، والتخلص من العراقيل التي تحول دون ذلك. أما تعدد الزوجات في الشريعة فله شروطه المنصوص عليها، وليس مجرد شهوة أو حاجة اقتصادية أو قضية ثروة وتباه.

ومن العراقيل التي وضعها القانون الفرنسي أن الزوجة المسلمة المتوفى

(1) بول بوليو (عن الاستعمار)، مرجع سابق، ص 466.

ص: 346

عنها زوجها لا حق لها في النفقة من زوجها أو من الدولة إلا إذا كان الزواج قد عقد طبقا للقانون الفرنسي، أي إذا كان الزوج قد تخلى عن أحواله الشخصية الإسلامية. فقد طالبت امرأة محمد بوكنية الذي توفي في معركة ضد العدو (؟) - حسب تعبير جريدة (المبشر) - بالنفقة من السلطات الفرنسية، ولكن هذه السلطات أجابتها بأنه لا حق لها في ذلك لأن زواجها منه كان طبقا للشريعة الإسلامية (1).

وقد كثرت شكاوى النساء الجزائريات خلال الاحتلال الذي زعم قادته أنهم كانوا يرثون لحالهن ومآلهن. والأمثلة على ذلك كثيرة. فهذه زوجة مصطفى، خوجة الخيل على عهد الداي حسين باشا. لقد نفاها الفرنسيون مع زوجها وأطفالها الثلاثة عشر، واستولوا على أرزاقهم وأراضيهم. وعاشوا فترة في الإسكندرية، ثم توفي الزوج وبقيت هي مع العيال. ثم تذكرت الأرملة أن لهم أملاكا في الجزائر فطلبت السماح لها بالعودة والإقامة، فسمح الفرنسيون لها بالرجوع، وقد تجاوزت الستين سنة، ولكن أملاكها لم ترجع إليها، ولم يدفعوا لها الكراء على ما فات من السنين، فكتبت رسالة شكوى إلى زوجة نابليون تستغيث بها وتطلب منها التدخل لجبر الحالة وتخصيص شهرية لكي تستعين بها على حياتها، والنظر إليها (بعين الشفقة والرحمة بحق من أعطاكم هذه الحرمة وأولاكم النعمة .. ولا يخفاكم حال أولاد الدار الكبيرة إذا سقط حالهم وصعبت معيشتهم)(2).

وأسوأ ما كانت تتعرض إليه المرأة هو النفي عن أهلها وموطنها. وقد ذكرنا أن الجزائريات عانين كالرجال، من المنفى البعيد، ولا سيما في عهد بوجو. والغريب أن إحداهن قد وطنت نفسها على الإقامة في المنفى الذي هو (كايان) الفرنسية، وكتبت إلى الجزائريات أمثالها ترغبهن في القدوم إلى هذا المنفى البعيد والتزوج بالمسلمين الجزائريين الذين حكم عليهم الاستعمار

(1) جريدة المبشر 16 ديسمبر 1869. وقالت الجريدة إن هذا القانون صادر في 28 أكتوبر 1866. وكان قانون التجنس قد صدر سنة 1865.

(2)

بلقاسم بن سديرة (كتاب الرسائل)، ص 304، والرسالة بتاريخ 18 سبتمبر 1860.

ص: 347

بالعيش بعيدا عن وطنهم. كما ذكرت لهن أسماء هؤلاء الجزائريين (1) الذين قد يكونون من ضحايا قمع ثورة 1871.

ولكن الحياة في الجزائر ظلت تسير، مع ذلك، فهناك الخريجات من ورشات ابن عابن، ومن بعض الورشات التي فتحت في العاصمة ووهران وقسنطينة، وأهم المدن التابعة لها، سواء تلك الورشات الخاصة أو الكنسية أو التابعة للحكومة. ومن الصنف الأخير سبعة مراكز في إقليم قسنطينة بين 1895 و 1910، وكانت تضم حوالي 539 تلميذة. وسبعة مراكز في إقليم وهران بين 1906 - 1910، وكانت تضم حوالي 674 تلميذة. أو في إقليم العاصمة بين 1903 - 1909 حيث ستة مراكز، وكانت تضم حوالي 526 تلميذة. وقد اختصت هذه المراكز بأنواع معينة من الزرابي الإيرانية والتركية والمغربية والتونسية، بالإضافة إلى الأنواع المحلية مثل زرابي جبل عمور والقلعة والطرز العربي والبربري، إلخ. وكان الهدف من هذه الورشات ليس تثقيف البنت المسلمة وإخراجها من ظلمات الجهل، كما يزعمون، ولكن جعلها وسيلة إنتاج تجارية لتبادل المنسوجات والمطروزات التقليدية مع أوروبا وعرضها في المعارض على أنها إنتاجات (فرنسية). ومن جهة أخرى كان الهدف هو دمج المرأة الجزائرية في الحياة الأوروبية، وخاصة الاقتصادية، وإخراجها من بيتها بشتى الوسائل. كما أن التجربة كانت تتماشى مع رغبة شارل جونار في استعادة وجه الجزائر العربي الإسلامي أو البربري التقليدي، حتى يحصل التناقض بين المجتمع المتخلف والمجتمع المتحضر وتكثر العقد ومركبات النقص. ويذهب من درس هذه الظاهرة عندئذ إلى أن البنات سرعان ما كن ينسين ما تعلمنه لأنه لا توجد إمكانات المواصلة. ثم إن المستفيدات لا يتجاوز عددهن 1739 تلميذة من بين حوالي خمسمائة ألف تلميذة في سن التعليم (2).

(1) المبشر عدد 22 مايو، 1880.

(2)

إسماعيل حامد (المسلمات في شمال إفريقية) في (مجلة العالم الإسلامي)، جوان 1913، ص 293 - 295. ومن رأي إسماعيل حامد أن أنانية الرجل هي فقط التي =

ص: 348

إن أصوات الباكين على المرأة كثيرة، ولكن ما صنع الفرنسيون طيلة أكثر من قرن نحو المرأة البائسة في نظرهم؟ فحالات الولادة العسيرة لم تكن غالبا محل اعتبار عندهم. وكل شيء كان متروكا للطبيعة تقريبا. وكان البعض مثل السيدة بكيرو، قد نبه منذ السبعينات إلى بؤس الحالة عند الولادة. وكانت جهود الفرنسيين منصبة على تدليل الكولون وصرف الميزانية التي تجمع من الضرائب العربية ومن الغرامات الثقيلة المفروضة على الأهالي لصالح الكولون وحدهم. وعشية مغادرته الجزائر أعلن الحاكم العام جول كامبون بأنه شاور بعض أعيان الجزائر لأخذ رأيهم في تخصيص قوابل أوروبيات (فرنسيات) لمساعدة المرأة على الولادة، وأن بعضهم قد وافقه على ذلك. وأعلن أنه قد خصص (بعثات نسائية) لمنطقة الأوراس والقنطرة وسيدي عيسى لهذا الغرض. وهذا لا يعني أن بعض المدن والمناطق الأخرى لم تتوفر لها هذه (البعثات)(1).

إن هناك عدة دراسات قد ظهرت عن المرأة الجزائرية منذ آخر القرن الماضي. ولن نتناول المؤلفات والبحوث التي عالجها الجزائريون هنا، وسنعود إليها عند دراسة الإنتاج في جزء آخر. وحسبنا أن نقول الآن إن التحديات الفرنسية قد أدت بالجزائريين إلى كتابة (ردود) عنها دفاعا عن المرأة المسلمة وعن موقف الشريعة منها، وتوضيحا لموقف الدين والمجتمع، وتبيانا للوجوه الشرعية في الصداق وتعدد الزوجات والبرقع، ونحو ذلك مما كان موضع جدل. وكان بعض الفرنسيين يثيرون ذلك لكي يطعنوا في التقاليد وفي الشرسة ويحكموا على أن الأعراف المنحرفة هي نفسها التعاليم الدينية.

ومن الكتب الفرنسية تأليف أرنست ميرسييه (حالة المرأة المسلمة في

= خطت من منزلة المرأة. انظر كريستلو (المترجمون) في مجلة (المغرب ريفيو) 10، 1985، ص 105.

(1)

(إفريقية الفرنسية. A.F)، فبراير 1897، ص 40.

ص: 349

الشمال الإفريقي) الذي ظهر سنة 1895. وقد أخذ منه وناقشه إسماعيل حامد في بحثه عن المرأة. وبعد كتاب ميرسييه بسنة واحدة ظهر كتاب صغير ومفيد ألفه محمد بن مصطفى خوجة وترجمة إلى الفرنسية السيد آرنو. وعنوانه (الاكتراث بحقوق الإناث). وقد راجعته الصحف الفرنسية واستحسنته على أنه صادر من رجل مسلم متفتح وملتزم في نفس الوقت بالدين الإسلامي. وقد تحدث فيه عن وضع المرأة في العائلة، وحقوقها وواجباتها، ولم ينف أو يستنكر تعدد الزوجات واستند في ذلك إلى القرآن والسنة. وأثبت المؤلف حسب المراجعين للكتاب، عدم تعصبه الديني، ودعا إلى التعلم (1). كما أن عبد الحليم بن سماية ألف كتابا تعرض فيه إلى وضع المرأة في الأحوال الشخصية، مثل تعدد الزوجات والطلاق والإرث والحجاب (2).

وبعد زيارة الشيخ محمد عبده (1903) وانعقاد مؤتمر المستشرقين (1905) ظهرت عدة مقالات ومؤلفات أيضا تتناول موضوع المرأة الجزائرية. كان الشيخ سلطان محمد الذي مثل مصر في المؤتمر قد ألقى فيه بحثا عن المرأة في الإسلام وفي مصر. وقارن بين المرأة في الجاهلية والإسلام، وموقف القرآن والسنة، والمرأة المتعلمة والجاهلة، وذكر أن مصر بنت المدارس للفتيات، واستشهد بالمتعلمات من نساء الرسول صلى الله عليه وسلم وشهيرات النساء العربيات. ويبدو أنه كان لكلمته صدى واسع في الأوساط المحبذة لتعلم المرأة في الجزائر (3). وعقب ذلك ظهر كتاب آخر لمحمد بن مصطفى خوجة سماه (اللباب في أحكام الزينة واللباس والاحتجاب)، وتولت

(1) راجعته جريدة (المونيتور ألجيريان)، ونقلت ذلك جريدة (المبشر) 21 مارس 1896. سنرجع إلى هذا الكتاب في جزء آخر.

(2)

انظر بحثه الذي قدمه إلى مؤتمرالمستشرقين بالجزائر سنة 1905 في المجلة الإفريقية، 1905. وعنوان كتابه هو (العلاقة بين الدين والفلسفة).

(3)

مؤتمر المستشرقين في (المجلة الإفريقية)، 1905، ص 318، تقديم محمد بن أبي شنب.

ص: 350

نشره الحكومة العامة. ولم يخرج المؤلف عن نفس الخط في كتابه الأول من حيث الموقف الديني من المرأة، ولكنه عالج أيضا موضوعات متصلة بها مثل التزين بالجواهر والملابس الحريرية، والحجاب الذي كان من موضوعات الساعة في المشرق. وقد ظهر الشيخ محمد بن مصطفى خوجة محافظا في نظر المراجعين الفرنسيين لكتابه، لأنه كان يتماشى مع قواعد الشريعة الإسلامية (1).

وفي نفس السنة (1907) وما بعدها نشر محمد بن أبي شنب مقالة عنوانها ملفت للنظر وهو (الحياة المدنية الإسلامية في مدينة الجزائر - حالة المرأة بناء على القرآن والسنة). وفي مقدمة دراسته ذكر أنه لن يكتب دراسة عميقة عن حالة المرأة المسلمة في مدينة الجزائر وأنه لم يأت ليناهض الأحكام المسبقة التي يستنكرها الشرع الإسلامي، ولكنه جاء فقط ليكتب حياة المرأة من ميلادها وزواجها إلى وفاتها. ولذلك خصص قسطا من مقالاته الثلاث لكل طور. وقد اطلعنا على هذه الدراسة فوجدناها وصفية وشرعية، ولكنها لا تعرض الآراء الاجتماعية ولا تصارعها. والمعروف أن ابن شنب يعتبر من المحافظين رغم معرفته الفرنسية جيدا والحياة الفرنسية بصفة عامة (2). ولم يذهب ابن شنب في ذلك مذهب الإندماجيين أمثال إسماعيل حامد الذي دافع عن المرأة المسلمة أيضا بناء على الشريعة ولكنه ركز (أي حامد) على أن وجود الاندماجيين (النخبة) والزواج المختلط وتعليم المرأة المسلمة هي شروط الاندماج الحقيقي، لأن دمج الأعراق أو السلالات غير ممكن في نظره (3).

وتطور الاهتمام بالمرأة بعد الحرب العالمية الأولى أيضا بتطور الأفكار، فقد انتشر التعليم بين الجنسين، واهتمت الحركة الإصلاحية بالمرأة

(1) انظر (مجلة العالم الإسلامي)، يناير 1908، ص 216 - 217. ظهر الكتاب سنة 1907.

(2)

نشرها في المجلة الأهلية R. Indigene 1907، 1908، 1909، ونشكر محمد العربي معريش الذي صور هذه المقالات وأرسلها من الجزائر.

(3)

إسماعيل حامد، (المسلمات)، مرجع سابق، ص 292 - 293.

ص: 351

باعتبارها ظلت مهملة وباعتبارها عضواه أساسيا في إصلاح المجتمع. وكانت دروس ابن باديس العامة منذ البداية موزعة بين الرجال والنساء، وقد أعطى هو المثل والقدوة في ذلك. وفي مجلة (الشهاب) التي أنشأها ابن باديس، باب خاص بالحديث عن المرأة في الشريعة والتاريخ الإسلامي، مع ربط ذلك بالواقع في الجزائر. ثم أصبحت لا تكاد تصدر جريدة إصلاحية دون الحديث عن المرأة ومكانتها الاجتماعية والدينية. ومن الذين خصوا المرأة بتأليف أيضا أبو يعلى الزواوي الذي كتب (مرآة المرأة المسلمة). وهذا من الكتب التي لم نطلع عليها، غير أن أبا يعلى أشار إليه في كتابه (الإسلام الصحيح) الذي يعتبر من الكتب المبكرة، والذي نشره في دمشق (؟) سنة 1924. وفي الكتاب الأخير عبر أبو يعلى (السعيد بن محمد الشريف الزواوي) عن رأيه في عمل المرأة وتعلمها ورؤية الخاطب لها، وخلص إلى القول إنه (لا يليق أن تكون المرأة عضوا أشل في الهيئة الاجتماعية الإسلامية) (1).

وقد أورد الشيخ سعيد الزاهري سنة 1347 هـ قصة حول المرأة، بعضها خيالي وبعضها حقيقي، ونشرها في مجلة مشرقية هي (الحديقة) وربما نشرها أيضا في كتابه (الإسلام في حاجة إلى دعاية وتبشير). ذكر الزاهري قصة رد فيها ردا غير مباشر على مستشرقة فرنسية - ربما كان يقصد ماري بوجيجا - التي قال عنها إنها كتبت كتابا عن تحرير المرأة المسلمة وذهبت تقرأه على النساء المسلمات في بيوتهن. وعالجت فيه مسألة الحجاب. وذكر الزاهري أن المرأة المسلمة ردت عليها بما يقنع أن الحجاب رمز العفاف والأنوثة، وأن المرأة الحضرية (ساكنة المدينة) راضية بخدمة المنزل والأولاد وشؤون الزوج، وأما المرأة البدوية (الريفية) فهي التي تخرج سافرة، وأنها فاقدة للأنوثة تقريبا (؟). وثم تبين للمرأة المسلمة أن المستشرقة الفرنسية غير متزوجة، ومن ثمة فهي غير كاملة الأنوثة في نظرها. وبعد أن انهزمت المستشرقة - حسب رواية الزاهري - راحت تتخلص من كتابها ومالت إلى

(1) أبو يعلى الزواوي (الإسلام الصحيح)، دمشق، حوالي 1924، ص 26.

أبو يعلى الزواوي (الإسلام الصحيح)، دمشق، حوالي 1924، ص 26.

ص: 352

الإسلام، وشرعت تفكر في تأليف كتاب عن الحجاب (1).

وقد لاحظنا أن الاهتمام كان بالمرأة الجزائرية المسلمة عموما. ولكن بعض الفرنسيين والفرنسيات ركزوا، ولأسباب أشرنا إلى بعضها، على المرأة الزواوية (القبائلية). فقد نظر بعضهم إليها على أنها محرومة نتيجة تطبيق العرف عليها، وبعضهم رآها ذات قابلية أكثر للاندماج الذي كان ينشده الفرنسيون. ولذلك كثرت الكتابات عن المرأة الزواوية سيما خلال العشرينات. كانت رائدة هذه الكتابات هي ماري بوجيجا، وهي زوجة إيمانويل بوجيجا الذي قضى معظم حياته متوليا للإدارة البلدية في زواوة، وكلاهما (الزوج والزوجة) ترك مؤلفات موجهة وملغومة عن تجربتهما هناك. والسيدة بوجيجا قد اشتهرت بكتابها الذي سمته (أخواتنا المسلمات) والذي شنت فيه الغارة على التقاليد البائدة، في نظرها، تلك التقاليد التي تركت (أختها) المسلمة في الحضيض بينما هي وأمثالها في القمة.

وركزت بوجيجا على الجانب الاجتماعي في دراستها للمرأة الجزائرية، واستشهدت بالمحاولات (التقدمية) في مصر التي نادت بتحرير المرأة والخروج من ركام التقاليد. وكانت بوجيجا تنشط في الصحافة والنوادي، وكانت أعمالها تجد صدى وتشجيعا من إدارة الشؤون الأهلية بقيادة جان ميرانت. وكانت تلقي المحاضرات، فتنشرها الصحف والمجلات، وتقوم بالزيارات القريبة والبعيدة، وتراسل داخل الجزائر وخارجها (2). وكانت على اطلاع واسع بتاريخ المرأة العربية والإسلامية، ولا سيما حالة المرأة في زواوة. وقد أعجبت بوجيجا بكلمة الشيخ سلطان محمد المصري التي ألقاها في مؤتمر المستشرقين بالجزائر سنة 1905 فراحت تستشهد بها.

(1) محمد سعيد الزاهري (الإسلام في حاجة إلى دعاية وتبشير) في مجلة (الحديقة) لمحب الدين الخطيب، ج 8، ص 190 - 206. ومن الجزائريين الذين عالجوا مسألة المرأة أيضا مالك بن نبي في كتابه (شروط النهضة) الذي صدر في الأربعينات.

(2)

بدأت الحركة النسائية في مصر خلال العشرينات على يد هدى شعراوي وزيزي نبراوي وغيرهما.

ص: 353

ولكن الجديد الذي تبنته ماري بوجيجا وسعت إلى إنجاحه هو عقد مؤتمر نساء البحر الأبيض المتوسط في قسنطينة، سنة 1932. ويهمنا حضور المؤتمر وتوصياته. أما الحضور فقد قيل إن 31 امرأة جاءت المؤتمر من أنحاء أوروبا. كما ألقيت في المؤتمر رسالة باسم السيدة الصغير الحسن، وهي زوجة قائد سيقوس. كما حضرها بعض الرجال الذين منهم: عبد القادر فكري وأحمد الأرقش. وألقيت في المؤتمر عدة تقارير عن وضع المرأة المسلمة (لأن المرأة الأوروبية ربما لا تحتاج إلى ذلك رغم أن عنوان المؤتمر يشملها) وعبر فيها أصحابها عن مأساتها في نظرهم، واقترحوا الحلول للخروج من ذلك الوضع. وشمل الحديث تاريخ المرأة المسلمة ومكانتها في القرآن ومسألة تعدد الزوجات، ووجهة نظر المرأة القبائلية خاصة. وقد عبرت السيدة الصغير الحسن على أن المرأة في الريف وغيره بدأت تفكر كالفرنسية (!) أما التوصية الأخيرة فكانت عن اللغة الفرنسية التي قيل عنها إنها هي التي ستوحد الشعبين (كذا) المختلفين في الأصل، ولذلك طالب المؤتمرون بضرورة تعليم اللغة الفرنسية للمرأة المسلمة (1). وبذلك انكشف المخطط الذي كانت تعمل داخله السيدة بوجيجا لإنقاذ المرأة المسلمة بالتعاون مع إدارة الشؤون الأهلية بزعامة ميرانت.

وفي سياق شبيه بسياق ماري بوجيجا التي قدمت نفسها على أنها (أخت) للمسلمات، كتبت إحدى المنصرات (المبشرات) وهي الراهبة روش، ووصفت المرأة الجزائرية بأنها ترسف في أغلال التقاليد، ومنها ضيق المنزل (أو السجن) وغلظة الرجل. وتأسفت على أنه لم يكن للمرأة تنظيم

(1) محاضرة السيدة ماري بوجيجا في مؤتمر قسنطينة، منشورة في المجلة الجغرافية للجزائر وشمال إفريقية SGAAN، 1932 . وكانت قد ألقتها في مقر جمعية المجلة في 7 جوان 1932. أما المؤتمر نفسه فقد انعقد أيام 29 - 31 مارس 1932. والمراد (بالشعبين) الجزائري والفرنسي. عن عبد القادر فكري (وهو اسم مستعار)، انظر فقرة الأدب بالفرنسية.

ص: 354

ولا قيادة. ولكنها قالت إن الفتيات يذهبن إلى المدارس سافرات وهن يلبسن اللباس الأوروبي. وللكاتبة صداقة مع بعض النساء المسلمات. وقالت إن بعضهن لا يدركن عواقب ثورتهن على التقاليد. وهي كمنصرة كانت متفائلة لأنها لاحظت أن بعض النسوة يؤمن بالمسيحية سرا في بيوتهن وأن بعضهن قد وجدن أزواجا مسيحيين. وتنبأت أنه سيأتي يوم تصبح فيه المرأة المسلمة مؤمنة بالمسيح (1). ولعل الراهبة روش لا تعرف أن كل المسلمين يؤمنون بالمسيح عليه السلام ولكن ليس كإيمانها هي به. فالخط الذي كانت تسير فيه روش كان يشبه الخط الذي تسير فيه بوجيجا. هذه كانت تدعو إلى اللغة الفرنسية والحضارة الأوروبية (وهي مسيحية الأصل)، والأخرى كانت تدعو إلى المسيحية أو على الأقل تحكم على الآخرين من خلالها.

ومن الملاحظ أن روش أوردت أيضا كتابات بعض المتجنسين الجزائريين حول المرأة المسلمة. ومنها ما كتبه ربيع الزناتي في (لافوا أند جين) عن تخلف المرأة المسلمة وتناقض التقاليد والواقع عندها. ثم مقالة المنور قلال في جريدة الكولون المعروفة وهي (لاديباش ألجيريان)، وهي مقالة حول موقف الشباب الإندماجي من الزواج بالمرأة المسلمة (الجاهلة). وبناء على السيد قلال، فإن هذا الشباب (المثقف) سيبحث له عن امرأة تناسبه ولا يرضى لنفسه بشريكة حياة متخلفة عنه. والأمر كذلك عنده بالنسبة للجندي الجزائري الذي خدم في الجيش الفرنسي وشاهد وعاش مظاهر الحضارة الأوربية، فهو أيضا سيبحث له عن امرأة (مناسبة). ويبدو أن الموجة خلال الثلاثينات كانت تندفع في هذا التيار. فقد كتب آخرون حول هذا الموضوع، ومن ذلك مقالة ابن حوراء في الجريدة نفسها (لاديباش) عن الإصلاح الإسلامي وتحرير الفرد (2). وكانت جرائد جمعية العلماء وجرائد الإصلاح

(1) ميليسانت روش M.H. Roche في مجلة (العالم الإسلامي) - بالإنكليزية - ج 23، 1933، ص 290.

(2)

نفس المصدر.

ص: 355