المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

فهرس الكتاب

- ‌الجزء السادس

- ‌الفصل الأولالاستشراق والهيئات العلمية والتنصير

- ‌الاستشراق ومراحله

- ‌حلقات اللغة العربية

- ‌ مدرسة الآداب

- ‌أعمال المستشرقين

- ‌حياة بعض المستشرقين والمستعربين

- ‌اللجان العلمية

- ‌لجنة الاكتشاف العلمي للجزائر:

- ‌لجنة الاحتفال المئوي بالاحتلال:

- ‌الجمعيات المتخصصة

- ‌المعاهد الجامعية

- ‌البعثات العلمية ومشاركة المثقفين الجزائريين فيها

- ‌الكنيسة والتنصير

- ‌نشأة الأسقفية

- ‌الأسقف بافي:

- ‌ لافيجري

- ‌شارل دي فوكو:

- ‌النشاط التنصيري منذ 1930:

- ‌الفصل الثانيالترجمة وظهور النخبة الاندماجية

- ‌مترجمو الحملة وغداتها

- ‌تنظيم فرقة المترجمين

- ‌المترجمون الجزائريون

- ‌تعاون الجزائريين والفرنسيين في مجال الترجمة

- ‌الترجمة إلى العربية

- ‌الاتجاه الاندماجي - الاستغرابي

- ‌الزيارات المنظمة لباريس وفكرة المعهد العربي

- ‌أسر الأطفال وحملهم إلى فرنسا

- ‌دعاة التعلم باللغة الفرنسية الأوائل

- ‌نماذج من المثقفين والاندماجيين

- ‌الفصل الثالثمذاهب وتيارات

- ‌(نعمة) الاحتلال

- ‌رأي باصيه، ود. وارنييه، وطوكفيل

- ‌رأي لافيجري ولويس فينيون وآخرين

- ‌(فرق تسد)

- ‌معاداة العرب

- ‌ومعاداة البربر

- ‌التآمر على زواوة

- ‌الدعوة إلى تعلم الفرنسية ..وإلى التعلم عموما

- ‌وضع المرأة

- ‌الهجرة أو البقاء

- ‌الاندماج، التجنس، النخبة

- ‌الجزائر في الكتابات الفرنسية

- ‌اليهودية والصهيونية

- ‌الماسونية

- ‌الإسلام ووحدة الأديان

- ‌المثالية والاشتراكية

- ‌ إسماعيل عربان

الفصل: ‌حلقات اللغة العربية

هذه الكراسي كانوا من مدرسة الجزائر. وإذا كان بعض المستشرقين في فرنسا نفسها لهم نظرة واسعة للمجتمعات الاسلامية، فإن المستشرقين في الجزائر كانوا مرتبطين، كما ذكرنا، بالإدارة الاستعمارية ارتباطا سياسيا، وكانوا مدعومين من قبل لجنة (إفريقيا الفرنسية) التي كان مقرها باريس، ومن قبل زعماء الكولون أمثال يوجين إيتيان ومن الجامعات الفرنسية، ومن اللوبي الاستعماري عموما (1).

أما المرحلة الثالثة والتي لا تهمنا كثيرا هنا، فقد تميزت بالتوسع في إنشاء المعاهد المتخصصة كمعهد الدراسات الشرقية، ومعهد الدراسات الصحراوية، ثم معهد الدراسات العربية. وتحويل المدارس الشرعية الثلاث إلى ثانويات مزدوجة. وبقاء الصلة الوطيدة بين الاستشراق والسلطة الاستعمارية مع انفتاح في الأفق كالتعامل مع النخبة الجديدة التي ظهرت في القيادات السياسية في المستعمرات. ويبدو أن الاستشراق الفرنسي قد عرف هزة عنيفة مع الحرب العالمية الثانية، وثورة الجزائر، والحرب الباردة. ومن أبرز المستشرقين في هذه المرحلة هنري بيريز، وليفي بروفنصال، وكانتينو، وروبير برونشفيك.

‌حلقات اللغة العربية

عرفت الجزائر ستة دروس للعربية، سميت بالكراسي أو الحلقات. وكانت موجهة إلى الفرنسيين، مدنيين وعسكريين، لتعليمهم اللغة العربية الفصحى والعامية. وهذه الحلقات (الكراسي) بدأت في ديسمبر 1832 وانتهت بدمجها في مدرسة الآداب والمدارس الشرعية الثلاث سنة 1879. وكان ذلك كله عبر ما أسميناه بالمرحلة الأولى لنشاط الاستشراق.

(1) ادمون بورك الثالث E. Burke III (الأزمة الأولى للاستشراق: 1890 - 1914) في كتاب (معرفة المغرب (العربي)) إشراف جان كلود فاتان، باريس 1984، ص 223.

ص: 14

1 -

الحلقة الأولى: بدأت في العاصمة على يد جوني فرعون (1)، وهو سوري/ مصري الأصل، وبرينييه، وكومباريل، وريشبي، وهوداس، على التوالي.

2 -

حلقة قسنطينة: وتولاها فينيار، وشيربونو، وريشبي، ومارتن، وموتيلانسكي، وكور، على التوالي.

3 -

حلقة وهران: وتولاها هادمان، وكومباريل، وهوداس، وماشويل، وديلفان، وموليراس، وبيل.

4 -

حلقة كوليج الجزائر: (متوسطة) وتولاها قورقوس 1846.

5 -

حلقة الكوليج الامبريالي بالعاصمة: وقد تولاها الدكتور بيرون، 1857.

6 -

حلقة مدرسة الآداب، وقد تولاها هوداس، 1863.

تأسست حلقة اللغة العربية في مدينة الجزائر بعد مضي ثلاث سنوات ونصف على الاحتلال. فقد حل بالجزائر خلال شهر مايو، (1832) المتصرف المدني، جنتي دي بوسي، وكان ذلك في عهد الحاكم العام الدوق دي روفيقو، الذي عرف عهده بالارهاب والتعسف، وهو الذي أقام حكم البوليس في الجزائر ووقعت في عهده مذبحة العوفية قرب وادي الحراش. وكان الاحتلال ما يزال يتأرجح ولم يستول الفرنسيون إلا على مدينة الجزائر ووهران وعنابة. ولذلك كان لقب دي روفيقو هو (قائد الممتلكات الفرنسية في إفريقيا). هذا هو الجانب العسكري للموضوع. أما الجانب المدني فقد تولاه دي بوسي الذي حمل معه مشروعا، من عدة عناصر:

(1) سنذكر نبذة عن حياة معظم هؤلاء الأساتذة. وقد درسنا الدور التعليمي لهذه الحلقات في فصل التعليم الفرنسي والمزدوج. ونقتصر هنا على دور المستشرقين فيها وأبرز عناصرهم.

ص: 15

1 -

دعم جريدة (المونيتور) لنشر أخبار الحكومة والقرارات الرسمية. والواقع أن هذه الجريدة قد أسسها دي روفيقو يناير 1832، قبل وصول دي

بوسي.

2 -

إنشاء مكتبة عمومية من المخطوطات العربية التي استولى عليها قواد الجيش أو جمعها المرافقون للحملات العسكرية. وهذه النقطة ستتحقق على يد كلوزيل وبيربروجر بعد قليل 1835.

3 -

تأسيس مطبعة عربية - فرنسية حكومية لطبع المنشورات الرسمية.

4 -

فتح ثلاث حلقات، إثنتان بالفرنسية للجزائريين واليهود، وثالثة بالعربية للفرنسيين. وهذه هي التي تعنينا الآن.

ولكي يفتح دي بوسي الحلقة الأخيرة طلب من وزارة التعليم العمومي موافاته بأستاذ ماهر فعينت له يوسف يعقوب، وكان من مواليد القاهرة لأب أرميني وأم سورية. وكان عندئذ يتولى كرسي اللغة العربية في كوليج لويس لوقران بباريس. ولا ندري إن كان للمستشرق دي ساسي يد في هذا التعيين. إنما مجيء يعقوب إلى الجزائر لم يتحقق لأنه توفي قبل التحاقه بها. وكان يعقوب طاعنا في السن، ومن المصريين الذين رافقوا الحملة الفرنسية على مصر بعد فشلها سنة 1801. فماذا يفعل دي بوسي؟

لقد لجأ إلى جوني فرعون، وهو مصري أيضا. من أب سوري الأصل، إسمه الياس فرعون. وكان الياس مترجما، في الجيش الفرنسي أثناء الحملة على مصر. وجدها أخذ إبنه معه إلى فرنسا، حيث تعلم (الابن) في مدرسة اللغات الشرقية، ومن أساتذته فيها دي ساسي. وقد مارس التدريس والاشراف على بعثة الضباط المصريين في فرنسا، وكان في طولون عند تحرك الحملة ضد الجزائر فانضم إليها، وأصبح مترجما وكاتبا لقائدها، دي بورمون. ثم سمي مترجما عسكريا سنة 1831، وكان عمره عندئذ 28 سنة فقط. وأصبح مترجما من الدرجة الأولى سنة 1839، وكان يعمل في الحكومة العامة بالجزائر بعد إنشائها. وقبل أن يكلفه دي بوسي

ص: 16

بدرس اللغة العربية قد نشر أول كتاب في النحو العربي تنشره المطبعة الرسمية، يوليو، 1832، وهو باللهجة العامية الجزائرية التي لا ندري كيف تعلمها في ذلك الظرف القصير. وقد أحرز الكتاب على نجاح لدى المهتمين. والتف حول جوني فرعون الضباط الفرنسيون الأوائل الذين سيشرفون على المكاتب العربية والإدارة الفرنسية في الجزائر، أمثال: لامورسيير، وبيليسييه دي رينو، ودوماس، وماري.

هذه الخبرة والسمعة جعلت دي بوسي يتبنى درس فرعون بالعربية في ديسمبر 1832. وهو الدرس الموجه للفرنسيين، كما قلنا. وهكذا يكون تعليم العربية للأوروبيين في الجزائر قد بدأ على يد مصري - سوري - فرنسي، وهو جوني فرعون. ولم يكن غرض الفرنسيين تعليم الفصحى ولا المحافظة على العربية المكتوبة أو تثقيف أهلها، وإنما كان التعرف على الجزائريين بوسيلة الاتصال الوحيدة بهم وهي العربية الدارجة، ثم العمل على نشر الفرنسية بينهم بالمؤثرات الأخرى غير التعليم. وقد عبرت عن ذلك صراحة رسالة الدوق دي روفيقو إلى وزير الحربية الفرنسي. فقد جاء فيها: إن الجزائر لن تكون حقا فرنسية إلا إذا أصبحت فيها اللغة الفرنسية هي اللغة السائدة (1)، وأصبحت الفنون والعلوم التي عرفتها فرنسا وشرفت بها، معروفة في الجزائر أيضا، وقضي على الجهل والتعصب اللذين كبلا العقل العربي فلم يظهر كل مواهبه. إن الهدف الأسمى من كل المحاولات التي تقوم بها الإدارة في التعليم هو (إحلال الفرنسية محل العربية، باعتبار اللغة الفرنسية هي لغة السلطة ولغة الإدارة. ومن ثمة فستنتشر اللغة الفرنسية

(1) يتبين من ذلك خطأ من اعتقد أن الفرنسيين كانوا (مترددين) بين الاحتفاظ بالجزائر والتخلي عنها إلى سنة (1834). ذلك أن تصرفات وتصريحات كلوزيل 1830 - 1831 والدوق دي روفيقو 1832 - 1833 لا تترك مجالا للشك و (التردد) حول عزم الفرنسيين على (فرنسة) الجزائر منذ الوهلة الأولى. أما لجنة التحقيق التي أصدرت قرارها سنة 1834 بالاحتفاظ بالجزائر، فلم تزد على تأكيد حقيقة موجودة.

ص: 17

بسرعة بين الأهالي، لا سيما إذا جاء الجيل الجديد أفواجا للتعلم في مدارسنا) (1).

إن الخطة قد رسمها دو روفيقو لجوني فرعون ولكل من جاء بعده. فقد أصبح فرعون، بالإضافة إلى دروسه، هو رئيس مكتب الدوق المذكور وتحت حمايته. وقد نشر عدة أعمال لغوية وتاريخية وتشريعية عن الجزائر والجزائريين. وتوفي صغير السن في فرنسا، سنة 1848 (2). كان جوني فرعون يقوم بدرسين أحدهما عام والآخر خاص، وكان الأول مجانيا والثاني بأجر. وكانت الدروس أيام الثلاثاء والخميس والسبت، لمدة ساعة واحدة في كل درس عام. وكان ذلك في بناية وفرتها له الإدارة، ولكن التزاحم على درسه جعله يغير المكان عدة مرات بحثا عن مكان يتسع للزبائن. ولكن هذا الدرس توقف فترة طويلة، ذلك أن لجة التحقيق الرسمية التي عينتها الحكومة الفرنسية قد وصلت في سبتمبر 1833، وكان جوني فرعون هو الكاتب والمترجم لها، ودام نقلها في البلاد عدة أسابيع، فلم يستأنف فرعون درسه إلا في ديسمبر 1833.

ولكن الفرنسيين لم يؤسسوا حلقة للغة العربية في الجزائر، رغم محاولات جوني فرعون، إلا على يد لويس جاك برينييه سنة 1837. وكان دي ساسي هو الذي أشار به على وزارة التعليم العمومي. وافتتح برينييه أول درس له في الجزائر خلال يناير من العام المذكور. وسمي درسه الدرس العام للعربية، وكان يعتبر في الوثائق الفرنسية من التعليم العالي. وقد طال عهد برينييه وشارك في مختلف النشاط الاستشراقي مع زميله بيربروجر وغيره، إلى

(1) فيرو (المترجمون العسكريون)، مرجع سابق، ص 229.

(2)

نفس المصدر، ص 232، وكذلك اوغست كور (ملاحظات على كراسي اللغة العربية)، صں 24. انظر دراستنا (المستشرقون الفرنسيون وتعليم اللغة العربية في الجزائر)، في (مجلة مجمع اللغة العربية)، القاهرة، عدد 64. وكذلك هنري ماسيه (الدراسات العربية في الجزائر)، ص 4. وقد ولد جوني فرعون بالقاهرة سنة 1803، فيكون عمره عند وفاته، 43 سنة.

ص: 18

وفاته 1869. فهو بحق مؤسس مدرسة الاستشراق الفرنسي المهني في الجزائر، وقد تخرج على يديه عشرات المترجمين والباحثين، وأوصل العربية الدارجة إلى الكثير من الفرنسيين الأوائل مما جعلهم يتصلون بالجزائريين بأقرب طريق، كما نشر برينييه عدة معاجم وخطوط ونصوص.

ولد برينييه في مونتارجيس بفرنسا سنة 1814، وعمل في الطباعة، ونشأ على حب اللغات الشرقية، ثم جاء إلى باريس لدراستها على أكبر شيوخها في مدرسة اللغات الشرقية، أمثال سيلفيستر دي ساسي، وكاترمير، وجوبير، وغارسان، ودي طاسي، وبيرسوفال، الخ. وكان يحذق العربية والتركية والفارسية. وعندما تولى كرسي العربية في الجزائر لم يجد كتبا يعتمد عليها فأوصى تلاميذه باقتناء كتب أساتذته. وقد نشرت جريدة (المونيتور) أول درس ألقاه برينييه في الجزائر. وجاءت فيه عدة نقاط تستحق التوقف لأنها تعبر عن برنامجه الذي دام حوالي أربعين سنة. فكان درسه غير خاص بالدارجة الجزائرية بل شاملا للعاميات العربية في مختلف بيئاتها. وهناك ضرورة لدراسة العربية دراسة جادة لأن الهدف هو ربط الصلة مع الأهالي لكي يتعودوا على اعتبار الفرنسيين غير غزاة ولكن حماة لمصالحهم، كما قال، وإنما هم ناشرون للمدنية بينهم، همهم دراسة آدابهم للوصول إلى منابع أفكارهم وعاداتهم. وقال إن العربية هي لغة الأهالي، مستعملة في العلاقات العائلية والتجارية، وهي لغة غنية ورشيقة، وأن للفصحى مؤلفات في القواعد، أما العامية فلا. وفي مقالة نشرها في (المجلة الآسيوية) لسان حال الاستشراق الفرنسي، سنة 1838، قال برينييه إنه من الضروري أن يقضي الدارس سنة كاملة في تعلم اللغة العربية المكتوبة (الفصحى) قبل دراسة العامية (1).

ومعظم حصص برينييه كانت كالتالي: ثلاث حصص أسبوعية للتدريب

(1) من الذين دعوا إلى تعلم العربية الفصحى المستشرق هوداس الذي أصبح المفتش العام للمدارس الشرعية الثلاث. وقد توفي 1916.

ص: 19

على الفصحى والعامية، وحصة خاصة بالنحو والإملاء والأسلوب، وحصة خاصة بشرح نصوص أدبية عربية، وبعض النصوص العلمية. ثم حصة لترجمة الرسائل والنصوص الرسمية والكتابات المتداولة. وبعد مضي فترة عليه في الجزائر بدأ يصدر المؤلفات التي تخدم تلاميذه، ومنها النحو والإنشاء وشرح النصوص، والمجموعات المختارة. وربما سنتناول مؤلفاته في مكان آخر. كما شارك برينييه في الترجمة، والإشراف على امتحانات المترجمين سنوات طويلة (1).

وبعد حوالي عشر سنوات على إنشاء كرسي العربية في مدينة الجزائر وترسيخ قدم الاستشراق الفرنسي بها، وبعد بداية التفكير في إنشاء معهد عربي - فرنسي ومراجعة المنظومة التعليمية، افتتحت ثلاث حلقات أخرى في اللغة العربية في كل من العاصمة وقسنطينة ووهران، أي سنة 1846. كانت هذه السنة تمثل بداية التراجع للمقاومة الوطنية التي كان يتولاها الأمير عبد القادر، وكانت تمثل من جهة أخرى القمة في سمعة المارشال بوجو، الحاكم العام، الذي استصدر أمرا ملكيا 1845 بجعل العربية إجبارية في كل توظيف ابتداء من يناير 1847. فمن هذه الزاوية يجب النظر إلى إنشاء الحلقات الجديدة للغة العربية وإلى توسيع قاعدة الترجمة والبحث في مجال الاستشراق. وكان درس برينييه يجلب عددا كثيرا أو قليلا حسب موجات المهاجرين الأوروبيين واهتماماتهم.

فقد لوحظ أن عدد الحاضرين للدرس أخذ ينخفض بالتدرج حتى وصل إلى 21 طالبا في الدارجة وعشرة في الفصحى. وكانت الهجرات الأوروبية قبل 1844 تضم أناسا غير متعلمين بصفة عامة، ولكن ابتداء من هذا التاريخ، وطمعا في الوعود التي أعطيت بعد محاصرة المقاومة والقضاء على زمالة الأمير 1843، جاء عدد من المهاجرين المتعلمين آملين في البقاء.

(1) توفي في جوان (يونيو) 1869 وشيعت جنازته في الجزائر يوم 24 منه، انظر المبشر، أول يوليو، 1869. وفي هذا العدد النص الكامل لتأبين شيربونو له.

ص: 20

ولذلك ارتفع عدد الحضور في الحلقة سنة 1845 إلى عشرين فردا. وكانت هذه السنة أيضا سنة المرسوم الملكي المشار إليه. وقد طلبت السلطة (على لسان المفتش آر طو) من برينييه أن يحضر مسابقة للحلقة العربية العامية المخطط إنشاؤه في كوليج الجزائر، وهذا الكوليج كان في مستوى مدرسة متوسطة تضم أبناء الجالية الفرنسية. وقد نجح فيها (مارس 1846 السيد قورقوس (1)، وهو الذي تولى الحلقة المذكورة. وفي شهر مايو، جرت مسابقة أخرى لملء حلقة مماثلة لحلقة برينييه (تعليم عال) في قسنطينة، فنجح فيها فينيار Vignard ولكنه لم يسبق في الوظيف الجديد إلا بضعة أشهر فقط. كان فينيار مترجما عسكريا، ولم يكن من المستشرقين بالمعنى المهني للكلمة. وقد سمى فينيار من جديد مترجما أساسيا ملحقا بديوان القائد العام لإقليم قسنطينة.

ولذلك خلفه في حلقة اللغة العربية في قسنطينة مستشرق متخرج من مدرسة اللغات الشرقية بباريس، وهو شيربونو، وذلك في 21 ديسمبر 1845. كان شيربونو يعلم القراءة والكتابة ويعرض قواعد النحو العربي طبقا للدراسات الفرنسية الكلاسيكية. وكذلك يعرض حياة المؤلفين، مفضلا أولئك الذين يقترب أسلوبهم من الحياة اليومية. وأما الحصص فقد كانت شبيهة بحصص زميله برينييه، وقد ربط شيربونو علاقات مع الأسر المثقفة في قسنطينة والعائلات العلمية والصوفية، أمثال أحمد العطار والمكي البوطالبي ومصطفى بن جلول، واستطاع أن ينشر بينهم اللغة الفرنسية أيضا، ذلك أن من مهمة أستاذ حلقة اللغة العربية الموجهة للفرنسيين، أن ينشر الفرنسية أيضا بين المتعلمين الجزائريين.

ولد شيربونو سنة 1813 في فرنسا، وقد تخرج، كما ذكرنا، من مدرسة اللغات الشرقية الحية. ونشر عدة مقالات في المجلة الآسيوية، وكان عضوا مؤسسا لجمعية الآثار بقسنطينة سنة 1853، وظل كاتبا لها سنوات طويلة. ولم تقتصر جهوده على التعليم، بل كان يبحث وينشر. وسنتناول

(1) انظر عنه لاحقا.

ص: 21

مؤلفاته بعد قليل. فقد اهتم بتاريخ الجزائر العربة الاسلامية من مختلف الوجوه، ولا سيما الآثار والتاريخ والتراجم واللغة. وفي 1863 انتقل إلى العاصمة مديرا للكوليج الامبريالي خلفا لبيرون. وفي 1871 أصبح مديرا لجريدة (المبشر)، وعند إعادة تنظيم المدارس الشرعية - الفرنسية الثلاث كلف شيربونو بتفتيشها ابتداء من سنة 1876، وكانت هذه المدارس تسمى خطأ (المدارس الاسلامية للتعليم العالي) ذلك أن مستواها في الواقع ليس سوى تعليم متوسط. ثم عاد شيربونو إلى مدرسة اللغات الشرقية سنة 1879 ليحل محل البارون دوسلان في تدريس اللغة العربية المغربية، كما كانت تسمى. وقد استمر على علاقة بالجزائر يراسل مجلاتها ويشارك في عضوية جمعياتها، إلى وفاته في ديسمبر 1882 وهو في باريس (1).

وقد استمرت حلقة اللغة العربية في قسنطينة على يد آخرين (ريشبي، ومارتن). وفي عهد الأخير منهما أصبحت الحلقة جزءا من مدرسة قسنطينة الشرعية - الفرنسية بعد تنظيم المدارس الثلاث. وقد تداول على مدرسة قسنطينة عدد من المستشرقين البارزين أمثال موتيلانسكي، وكور، ودورنون، وسان كالبر.

أما حلقة وهران فقد افتتحت أيضا في 22 ديسمبر 1846. وعين عليها هادمار الذي لم يكن من المستشرقين المحترفين، وإنما كان مترجما في إدارة المالية، وكان هادمار يقوم بثلاثة دروس أسبوعيا، بمعدل ساعة واحدة لكل درس. وقد تركت له حرية التصرف حسب الامكانات والحضور. فلم يوضع له برنامج محدد. وكان ذلك شأن زملائه أيضا في الجزائر وقسنطينة. ولذلك كان الحضور عادة مكثفا في البداية وضعيفا في نهاية السنة. كما أن شخصية الأستاذ كانت تلعب دورا رئيسيا في جلب الجمهور أو تنفيره، وكذلك فصول السنة. ولا ندري ما إذا استطاع هادمار أن يقدم أيضا درسا بالفرنسية

(1) انظر عنه هنري ماسيه (الدراسات العربية في الجزائر)، مرجع سابق، وكذلك ايرنست ميرسييه في (روكاي)، 1882، ص 413 - 418.

ص: 22

للجزائريين كما فعل زميله شيربونو في قسنطينة. لكن المؤكد أن لغة التدريس هي العربية الدارجة، وكانت قلة الحاضرين تعزى عادة إلى صعوبة اللغة العربية - الدارجة - وليس إلى ضعف الأستاذ أو عدم رغبة الفرنسيين في التلقي والاستفادة (1).

وقد بقي هادمار على رأس حلقة وهران حوالي عشر سنوات، ثم خلفه زميلاه كومبريل فهوداس، ثم ماشويل. لكن في عهد هوداس وقع دمج الحلقة المذكورة في مدرسة تلمسان الشرعية الفرنسية، بعد إعادة النظر في محتوى وتوجيه المدارس الثلاث. وقد لعب هوداس دورا هاما في حياة الاستشراق الفرنسي بالجزائر. ولد سنة 1840 في (لواري)، ودرس في مدرسة اللغات الشرقية. فهو من المستشرقين بالمهنة. جاء الجزائر سنة 1863 في قمة ما سمي بعهد المملكة العربية، وقد بقي إلى سنة 1884. ثم تولى كرسي اللغة العربية في الكوليج الامبريالي سنة 1863، كما عمل أستاذا في ليسيه الجزائر الذي افتتح سنة 1860. ثم تولى حلقة اللغة العربية بوهران سنة 1869 وقد بقي هناك إلى سنة 1877 عند إعادة تنظيم المدارس الثلاث، وفي هذه السنة تولى حلقة الجزائر، ولكنه لم يبق فيها إلا قليلا إذ عين على رأس مدرسة الآداب العليا عند إنشائها سنة 1880، وهو الذي افتتح فيها درس اللغة والأدب العربي. وبعد وفاة شيربونو حل هوداس محله في مدرسة اللغات الشرقية الحية بباريس. وظل هوداس يزور الجزائر ويهتم بحياة الاستشراق فيها، ومن ذلك مرافقته للوزير كومبس سنة 1896. ولعله حضر أيضا المؤتمر الدولي للمستشرقين سنة 1905.

منذ أن حل بالجزائر كان هوداس ينشر نصوصا عربية موجهة لتلاميذه،

(1) المرسوم الملكي يجعل العربية ضرورة في التوظيف ابتداء من يناير 1847، لم ينفذ لعدة أسباب، منها أن بوجو تخلى عن منصبه كحاكم عام، ومنها أن لويس فيليب نفسه قد أطيح به في فبراير 1848. وقد عزا (كور) عدم تطبيق المرسوم الملكي الخاص باللغة العربية إلى كون الشبان الموظفين لا يبذلون جهدا واضحا لدراسة لغة تبدو صعبة وجافة فى البداية. انظر كور ص 43.

ص: 23

وكان وهو في وهران مهتما أيضا بإخراج الكتب الموجهة للتعليم المدرسي، ولكنه قام بعمل مضن رفقة زميله (مارتيل) الذي كان من مدرسة الحقوق، وهو ترجمة (تحفة الحكام) لابن عاصم. وقد اشتغل فيها هوداس قرابة العشر سنوات. وبعد رجوعه إلى باريس، كان يبحث وينشر أعمالا ليست بالضرورة حول الجزائر، ففيها ما هو حول الأدب العربي عموما والسودان ومنطقة المغرب العربي، بل إنه ترجم نصوصا من صحيح البخاري. ومما انتقده عليه زملاؤه المستشرقون أنه كان يتعجل النشر لأعماله ولا يدقق كثيرا (1).

قلنا إن هوداس تولى حلقة اللغة العربية الجديدة في المعهد السلطاني (الكوليج الامبريالي) بالجزائر سنة 1863. وكان ذلك على إثر مسابقة جرت في 10 يوليو من نفس العام. وفاز فيها هوداس. وإلى ذلك الحين كان مدير المعهد هو نقولا بيرون الذي تولى الإدارة منذ 1857. وكانت الحكومة الفرنسية تفكر، كما ذكرنا، في إنشاء كوليج عربي - فرنسي في باريس سنة 1846، يستقبل أبناء الجزائر، ويكون بوتقة تنصهر فيها عناصرهم مع العناصر الفرنسية قبل أن يعودوا مؤهلين إلى الجزائر لنشر الأفكار الفرنسية. وكان الفرنسيون قد فعلوا شيئا من ذلك مع أبناء مصر في عهد محمد علي باشا. وكانت هذه الفكرة تتماشى مع سياسة بوجو في الجزائر. وقد اقترح لإدارة هذا الكوليج الدكتور بيرون الذي سبق له العمل في مصر، والذي صادف وجوده في باريس سنة 1846. وقد قبل بيرون بالمسؤولية الجديدة، وترك مدرسة الطب المصرية، ولكن مشروع الكوليج ظل يتعثر إلى أن استقال بوجو وانهزم الأمير ووقعت الثورة الفرنسية 1848، وأخذت السلطات الفرنسية الجديدة تهتم بالجزائر من جانب آخر، وهو الادماج في فرنسا، فاشتغل بيرون بترجمة مختصر الشيخ خليل في الفقه المالكي ضمن أعمال لجنة (اكتشاف الجزائر العلمي). وكان على بيرون أن يرجع إلى مصر سنة 1853 كطبيب.

(1) عنه انظر هنري ماسيه (الدراسات العربية ..) وعن مرافقته للوزير كومبس انظر فصل التعليم الفرنسي والمزدوج.

ص: 24

لكن فكرة الكوليج العربي/ الفرنسي رجعت سنة 1557 على أن يكون في الجزائر وليس في باريس. وكان المارشال راندون هو الحاكم العام عندئذ. وقد احتل الفرنسيون آخر معاقل المقاومة وهي جرجرة والجنوب. ونادي راندون على بيرون ليكون المدير للكوليج فقبل. وكان معاونه هو شارل فيرو، وهو المترجم العسكري الشهير في وقته. وقضى معه أربع سنوات. ولا ندري إن كان بيرون قد أدخل اللغة العربية في الكوليج، ولعل الذي كان يتولى تدريس العامية الجزائرية هو فيرو، لأن الطلبة كانوا مختلطين (عرب وفرنسيون). ومنذ 1864 سمي بيرون مفتشا للمدارس الشرعية الثلاث، ولكنه وجد التنقل من أجل ذلك في الأقاليم الثلاثة عسيرا عليه لكبر سنه. فتقاعد سنة 1872. وتوفي في ضواحي باريس سنة 1876.

لقد كان بيرون من المستشرقين البارزين. ولد 1798. وبعد أن أكمل دراسته الاجتماعية مارس التدريس في ثانوية لويس لوقران، واضطره حال أسرته إلى التخلي عن ذلك، واهتم بالطب وتأثر بالحركة السان سيمونية، وأصبح طبيبا، وحضر دروس بيرسوفال في مدرسة اللغة الشرقية، فحذق العربية والفارسية والتركية والجاوية، وقد دعاه كلوت بيه (الفرنسي)، مؤسس مدرسة الطب في مصر، للعمل معه هناك فذهب إلى مصر، وواصل فيها دراسة اللغات العربية. وحاضر في الفيزياء والكيمياء والعلوم الباطنية (الكلينيك الداخلي)، ونشر عدة رسائل بالعربية عن المواد المذكورة. وترجم عدة أعمال، وظل كذلك إلى أن عرضت عليه إدارة الكوليج العربي - الفرنسي في باريس كما ذكرنا. وأثناء وجوده بالجزائر نوه به حسن بن بريهمات كثيرا، ولعله قد تأثر به (1).

والمعروف أن المعهد السلطاني في الجزائر قد أغلقته حكومة

(1) ماسيه (الدراسات العربية ..)، مرجع سابق. انظر أيضا ترجمة حسن بن بريهمات. وعن دور المعهد السلطاني (الكوليج) في التعليم، انظر فصل التعليم الفرنسي والمزدوج.

ص: 25