الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الاستشراق ومراحله
ليس غرضنا هنا التأريخ للاستشراق الفرنسي، وإنما يهمنا علاقة هذا الاستشراق باحتلال الجزائر، وهو ما ظهر جليا منذ سنة 1830 (1)، وهذا لا يعني أنه لم يكن للمستشرقين الفرنسيين اهتمام سابق بالجزائر، إننا إذا عدنا إلى كتابات ديفونتين وبيسونيل وفانتوردي بارادي سنجد النواة لذلك الاهتمام. وعند تأزم الوضع بين الجزائر وفرنسا سنة 1827 وبداية التفكير في الحملة ضد حكومة الداي، ترجم الفرنسيون أعمال زملائهم الأروبيين والأمريكيين عن الجزائر أيضا، مثل مؤلفات الدكتور شو والقنصل شيلر، والأديب باننتي. ولعبت مدرسة اللغات الشرقية عندئذ دورا مهما.
وكان زعيم هذه المدرسة بل زعيم الاستشراق الفرنسي في ذلك الوقت هو سيلفستر دي ساسي De sacy الذي اعتبره بعضهم هو (أبو الاستشراق) و (منشئ علم الاستشراق في أوروبا). فقد بقي دي ساسي نصف قرن في خدمة الاستشراق، وتخرج على يديه تلاميذ من أنحاء فرنسا وأوروبا. وكان اهتمامه بالشرق قديما وحديثا. ولد دي ساسي سنة 1757، وتعلم العربية والسريانية والكلدانية والعبرية منذ صغره. وقد عين مدرسا في مدرسة اللغات الشرقية الحية، وأصبح سنة 1824 مديرا لها. وعمل سنوات طويلة في وزارة الخارجية بدون أجر (1806، 1811 في عهد نابليون). وكان يترجم نشرات الجيش وبيانات نابليون بهدف إثارة المسلمين ضد روسيا الأرثوذكسية وكان وزيرا الخارجية والحربية يستشيرانه في كل ما يتعلق بالشرق. ومن جهة أخرى ترأس دي ساسي الجمعية الأسيوية منذ تأسيسها سنة 1822. وقد ظل مكانه شاغرا إلى أن ملأه أرنست رينان الذي كاد يغطي عليه، سيما في ميدان الفيلولوجيا، إضافة إلى السمعة العلمية.
(1) قيل إن نشأة الاستشراق عموما ترجع إلى أوائل القرن الرابع عشر 1312، عندما انعقد مجلس كنسي في فيينا للنظر في إنشاء حلقات (كراسي) اللغات العربية والعبرية والاغريقية والسريانية في باريس واكسفورد وغيرها.
ودي ساسي لم يزر الجزائر، ولكن (البيان) الذي وزعه الفرنسيون بالعربية عشية الحملة على الأعيان في الجزائر كان من إنشائه أو تحت إشرافه (1). وبعد الاحتلال شجع دي ساسي إنشاء الدراسات العربية في الجزائر بإشراف تلاميذه، وعلى رأسهم لويس برينييه الذي سنتحدث عنه. وكان يبدي اهتمامه بهذه الدراسات ويشجع عليها حتى أنه أبدى ملاحظات على قاموس ت. رولان دي بوسي. الذي سماه (القاموس الصغير العربي - الفرنسي والفرنسي - العربي) سنة 1836. وكان رولان دي بوسي مديرا للمطبعة الحكومية في الجزائر عدة سنوات، وقد أرسل نسخة من قاموسه إلى دي ساسي وطلب منه رأيه فيه. فكتب إليه هذا رسالة ونقدا يتعلق بكيفية النطق لبعض الحروف في العامية الجزائرية مقارنة مع النطق العامي في المشرق. كما سأل في رسالته عن نسخة سمع بها أنها كاملة من تاريخ ابن خلدون عند عائلة روسو، وسمع بعد ذلك أن هذه العائلة قدمت النسخة إلى المكتبة الفرنسية، وقد طلب دي ساسي التأكد من هذا الخبر (2). وقد توفي دي ساسي سنة 1838، بعد أن كان قد أشار بتلميذه برينييه ليكون رئيسا لحلقة (كرسي) اللغة العربية في الجزائر.
ضمن الحملة الفرنسية جاء عدد من المترجمين والكتاب والفنانين المهتمين بحياة الشرق والرومانتيكيين المغامرين. وعلى أثر نجاح الحملة واحتلال مدينة الجزائر انطلق كل فريق في مجال عمله. وقد احتاجت الإدارة الجديدة إلى المترجمين بالخصوص، لأنهم هم الواسطة بينها وبين السكان (3). كما وظفت المترجمين من يهود الجزائر الذين كانوا عادة يقومون
(1) عن البيان انظر دراستنا عنه في أبحاث وآراء، ج 1.
(2)
حوليات معهد الدراسات الشرقية، الجزائر، المجلد 3، سنة 1937، ص 1 - 5. مع صورة دي ساسي على المعدن. انظر أيضا عبد الرحمن بدوي (دائرة معارف المستشرقين).
(3)
سنذكر نماذج من المترجمين (المشارقة)، أي ذوي الأصول المصرية والسورية، وكذلك بعض اليونانيين والدنماركيين وغيرهم من الجنسيات، إضافة إلى المترجمين الفرنسيين.
بالترجمة بين المسؤولين الجزائريين والأجانب في الماضي. وبدأت آلية الإدارة تتحرك في كل اتجاه وقع احتلاله. واحتيج إلى فريق آخر من التراجمة والخبراء فالتحقوا من فرنسا مدعومين من مدرسة اللغات الشرقية، وكلما تحرك الجيش في اتجاه كان معه الخبراء والمترجمون. ونشأت بلدية مدينة الجزائر، ثم توالت نواة الإدارة في وهران وقسنطينة وعنابة الخ .. وتكون (المكتب العربي) العسكري في المدن والقرى. وأصبح الذين يتولونه من المستعربين العسكريين، ومعهم مترجمون أيضا. وأخذ اهتمام المكاتب العربية بالسكان يزداد للتعرف على عاداتهم ولهجاتهم وتراثهم وأنسابهم وطرق معاشهم. وحصلوا من أجل ذلك على وثائق ومخطوطات نادرة. ثم شرعوا في حركة جمع وترجمة وتأليف اعتبرت هي الأولى من نوعها في مسيرة الاستشراق في الجزائر.
وقد واكبتهم في الحياة المدنية حركة أخرى موازية ومكملة. وتمثل ذلك في جمع المخطوطات وإنشاء المكتبة العامة بالجزائر على يد أدريان بيربروجر وهو أيضا من علماء الآثار. وقد أجرى هو وغيره، مثل كوفي، حفريات عديدة، معظمها عن آثار الكنيسة وبقايا الرومان. وسنذكر دور بيربروجر في موضع آخر. كما قام الفنانون برسم رسومات في الجزائر، منطلقين من رغبتهم في معرفة حياة الشرق التي قرأوا عنها في ألف ليلة وليلة (1). كما أن جوني فرعون ثم برينييه انطلقا في تدريس اللغة العربية، الفصحى والعامية، للفرنسيين لكي يكون في استطاعتهم الاتصال المباشر مع السكان. وهذا هو ما أطلق عليه فيما بعد إسم (كرسي اللغة العربية).
وهكذا انطلقت الإدارة العسكرية (المكاتب العربية) والإدارة المدنية (بخبرائها وفنانيها ومترجميها) في معرفة حياة الجزائر العربية الاسلامية، أو معرفة الشرق من خلالها، كما كانت تصوره الدراسات الاستشراقية إلى ذلك
(1) انظر فصل المنشآت الثقافية وفصل الفنون، وقد تحدثنا في الفصل الأخير عن أثر الجزائر والشرق فى الفن الفرنسي.
الحين. فالجزائر المتميزة عن الشرق أو الجزائر (الفرنسية) لم تظهر بعد في التصورات الفرنسية. ولذلك يمكننا القول إن انطلاقة الاستشراق الفرنسي كانت عامة في هذه المرحلة. ولعل الميزة الوحيدة لها كونها تستعمل العامية الجزائرية كأداة اتصال وليس الفصحى أو اللهجات العربية المشرقية. ومما يدل على عدم وجود لهجة جزائرية في مدرسة اللغات الشرقية قبل الاحتلال أن (البيان) الذي أشرنا إليه قد كتب بعربية مطعمة بعامية المشرق وليس بعامية المغرب، وهو كما قلنا من صياغة دي ساسي.
وقبل أن نستعرض تطور الدراسات الاستشراقية نود أن نذكر المراحل التي مرت بها، وهي ثلاثة على الأقل. المرحلة الأولى من الاحتلال إلى إنشاء المدارس العليا سنة 1879، والثانية من هذا التاريخ إلى الاحتفال المئوي بالاحتلال، سنة 1930، والمرحلة الثالثة منذ هذا التاريخ إلى الاستقلال، سنة 1962. وتهمنا هنا المرحلتان الأوليان بالخصوص.
وقد تميزت المرحلة الأولى بجهاز ترجمة قوي على يد العسكريين في معظم الأحيان، وهناك مترجمون إداريون وآخرون قضائيون أيضا (1). وقد نتج عن أعمال هؤلاء وأولئك أكداس من النصوص والعرائض والوثائق، واشتغل المترجمون/ المستشرقون في اللجان العلمية والجمعيات المتخصصة. ونشروا أبحاثهم في شكلها العام والبسيط للتعريف بالشعب المحتل في مختلف عصوره ومظاهره. وكانت حلقات (كراسي) اللغة العربية، وعددها ستة، تسند هذه الفرق العاملة في الميدان. كما أن أساتذة الكراسي كانوا هم الرواد لحركة الاستشراق في هذه المرحلة. فقد كانوا هم أيضا يعلمون اللغة، ويشرفون على امتحانات الترجمة، ويترجمون النصوص، ويعرفون بالمدن والآثار والمخطوطات والسير، وفيهم من أصدر القواميس. وأثناء هذه المرحلة زار الجزائر عدد من الأدباء والمفكرين والفنانين الفرنسيين المهتمين بحياة الشرق، وكانت زياراتهم بدعم وتشجيع
(1) عن الترجمة انظر فصلا آخر.
من الحكومة الفرنسية نفسها. كما ظهرت أعمال اللجان العلمية التي تشرف عليها الحكومة، والمدارس الرسمية ذات الطابع الشرقي أو العربي الفرنسي، مثل المدارس الشرعية الثلاث وكوليج الجزائر ثم قسنطينة. وخلال هذه المرحلة بدأ اهتمام المستشرقين الفرنسيين في مدرسة اللغات الشرقية وفي الكوليج دي فرانس بالعربية الجزائرية، مثل أعمال الأب بارجيس وبيهان (1).
ومن الواضح أن الاستشراق هنا كان مرتبطا منذ البداية بإدارة الاحتلال، وقد ازدادت هذه الرابطة وثوقا وبلورة أثناء المرحلة الثانية 1879 - 1930. فأثناء هذه المرحلة وقعت مراجعة شاملة في فرنسا لتجربة التعليم العالي وأدخل نظام (السيمنار) الالماني، وأعيد تنظيم السوربون. لأن نقدا لاذعا ظهر عندئذ لتجربة التعليم باعتبارها هي السبب في هزيمة فرنسا سنة 1870. كما ظهرت مدرسة دورخايم 1858 - 1917 في علم الاجتماع والاستشراق. وأنشئ كرسي للغة العامية الجزائرية في باريس ثم آخر للبربرية. وظهرت مدرسة الآداب التي تحولت إلى كلية الآداب سنة 1909 عند إنشاء جامعة الجزائر وانعقد في الجزائر المؤتمر الدولي الرابع عشر للمستشرقين تحت إشراف رينيه باصيه عميد مدرسة الآداب وعميد الاستشراق الفرنسي في الجزائر عندئذ.
وفي سنة 1906 انطلق الاهتمام بالمغرب الأقصى، وظهرت (مجلة العالم الاسلامي) برئاسة ألفريد لوشاتلييه، الذي سبق له العمل في الجزائر كرئيس للمكتب العربي (العسكري) في ورقلة، كما أعيد تنظيم الكوليج دي فرانس وأنشئت فيه عدة كراسي للمجتمعات المستعمرة. وكان الاستشراق الفرنسي في الجزائر هو المغذي لذلك حتى أن معظم الأساتذة الذين تولوا
(1) نشر بارجيس عدة أعمال عن تلمسان، وقد زار الجزائر. أما بيهان فقد أصدر سنة (1851) قاموسا بعنوان (عناصر اللغة الجزائرية) وجهه لخدمة السواح، واعتمد فيه كما قال، على أسلوب التعليم في المشرق وليس الأسلوب الفرنسي. نشرت القاموس مطبعة الحكومة - باريس، 1851، 183 صفحة.