الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
بقرارات أخرى صادرة سنة 1848، 1854، ثم 1862. وكانت اللغة العربية قد جعلت ضرورية للتوظيف منذ 1838 بقرار من الحاكم العام (فاليه)، ويعني بذلك الموظفين الفرنسيين. ثم جعلت العربية إجبارية أيضا ابتداء من فاتح 1847. وكان معظم المترشحين في المسابقات هم تلاميذ برينيه. ولذلك كان برينيه من المساهمين في تكوين فرقتي المترجمين سواء في القضاء أو الجيش. وكان يساهم في ذلك رغم أن القرار الوزاري كان متأخرا (1). ومنذ الأربعينات تولى أساتذة آخرون حلقتي اللغة العربية في وهران وقسنطينة، وساهموا أيضا في تكوين المترجمين وغيرهم، بالإضافة إلى برينيه. وقد درسنا ذلك من قبل في (حلقات اللغة العربية).
ويبدو أن قانون الدخول إلى فرقة المترجمين العسكريين بالذات كان صارما ودقيقا جدا. ذلك أن شخصا مثل رينيه الذي قضى وقتا طويلا في تدريس العربية وفي تكوين جيل من المترجمين لم يسمح له سنة 1855 أن يشارك في امتحان الترشح لهذه الفرقة. فقد طلب ذلك في رسالته إلى لجنة الامتحان، ولكنها لم تسمح له، لأنه لم يكن حاصلا على الرتبة المؤهلة للمشاركة وذلك ما جعله يبقى في درجة ثانوية بالنسبة لتلاميذه الذين كان يتمنى أن يكون فقط واحدا مثلهم. ومع ذلك استمر في دروسه وتأليفه إلى وفاته (2).
المترجمون الجزائريون
وهناك فرقة ثالثة في ميدان الترجمة تسمى فرقة المترجمين الاحتياطيين. وهي الفرقة المخصصة عادة للجزائريين الذين تعلموا الفرنسية.
(1) فيرو، مرجع سابق، ص 84 وكور، مرجع سابق، ص 37. وكان المرسوم الملكي سنة 1845 يجبر الموظفين الفرنسيين المدنيين على معرفة العربية، أما العسكريون فيحكمهم في ذلك قرار خاص.
(2)
تعرضنا إلى حياته في فصل الاستشراق، وفي التعليم عند الحديث عن حلقات اللغة العربية. وقد ترجم له أيضا فيرو، ص 371 - 381، رغم أنه لم يكن من العسكريين.
وكان الفرنسيون يميزون بين الجزائري المسلم وغيره. فهم لا يسمحون للجزائريين بتولي نفس الوظائف التي للفرنسيين، سواء في الجيش أو في الإدارة أو في التعليم أو في القضاء. والفرقة الاحتياطية هي التي يسمح فيها للجزائريين بالدخول. وكان بعض الجزائريين الذين دخلوا ميدان الترجمة من المتجنسين أيضا. وقد ذكر فيرو عددا منهم. والتحق آخرون بميدان الترجمة بعد تأليف كتابه (أي فيرو). والتجنس بالجنسية الفرنسية لم يجعل هؤلاء الجزائريين مع ذلك على قدم المساواة مع الفرنسيين.
وقد ذكر فيرو ثلاثة من المتجنسين (1)، وهم: أحمد بن الفكون، وموسى الشرقي، وفرج نقاش. ومن بين هؤلاء واحد فقط معروف العائلة والنسب وهو ابن الفكون. أما الآخران فلا ندري أصلهما العائلي. وأما ابن الفكون فسنتحدث عنه في فقرة أخرى ضمن الذين ترجموا من الفرنسية إلى العربية. وأما فرج نقاش فقد قال عنه فيرو إنه من مواليد قسنطينة سنة 1822 وأصبح مترجما عسكريا منذ 1843، وعمل في فرقة الصبائحية، ثم تقاعد سنة 1873. ووصفه فيرو بأنه كان فارسا مغوارا، وجرح في الحرب وحصل على وسام. وذلك يدل على أنه حارب مع الفرنسيين ضد المقاومة. وأما موسى الشرقي فقد ولد بالجزائر سنة 1820، وحصل على الجنسية الفرنسية سنة 1860، أي قبل صدور القانون المشيخي الخاص بذلك سنة 1865. وأصبح مترجما مند 1846، وكان ما يزال حيا عند نشر فيرو لكتابه (سنة 1876) (2).
ومن جهة أخرى هناك مترجمون ذكرهم فيرو ولم يتحدث عن تجنسهم بالجنسية الفرنسية، وهم إسماعيل بن مهدي البجائي وحسن بن محمد الجزائري (مدينة الجزائر)، والطاهر بن النقاد القسنطيني. فقد وصف إسماعيل بن المهدي بأنه مترجم عسكري احتياطي سنة 1870، ولكنه استقال من ذلك بعد أربع سنوات، وكان سنة 1876 مترجما قضائيا. ونحن نفهم أنه
(1) فيرو، مرجع سابق، ص 299.
(2)
نفس المصدر، ص 364.
خرج من فرقة الترجمة العسكرية إلى فرقة المترجمين القضائيين (1). ووصف فيرو السيد حسن بن محمد بأنه من مواليد 1810، ونفهم من حديث فيرو عنه أنه توظف في الترجمة العسكرية كاحتياطي، وأصبح سنة 1840 من الطبقة الثالثة فيها، ثم أصبح سنة 1876 من المتقاعدين. وكان فيرو قد اختصر عنه الحديث كعادته بالنسبة للجزائريين. أما الطاهر بن النقاد فقد كان من المترجمين من الفرنسية إلى العربية، ولذلك سنذكره في الفقرة الخاصة بذلك.
وتحضرنا أسماء أخرى من المترجمين الجزائريين الذين خدموا في الجيش الفرنسي وغيره من المصالح. وكان الفرنسيون إما أرغموهم على تعلم الفرنسية وهم صغار، مثل أحمد بن رويلة وعلي الشريف (الزهار)، اطري وآخرين. وسنذكر ابن رويلة وعلي الشريف أثناء حديثنا عن أخذ الأطفال إلى فرنسا كرهائن ومحاولة تكوين فئة متميزة منهم وزرعها في الأوساط الجزائرية والاستفادة من خبراتها.
وكان علي بن محمد من المترجمين العسكريين، ولد بالجزائر سنة 1818. واعتبره فيرو من أوائل المترجمين الجزائريين، إذ أنه سمى مترجما احتياطيا في 26 مايو، 1839. واعتبره في مكان آخر من الأوائل الذين تعلموا الفرنسية. جرح علي بن محمد (ونحن لا نعرف أصل عائلته) في معركة بوادي العلايق (الحجوط) بين الفرنسيين والجزائريين خلال ديسمبر 1839. وعاش إلى 1868، وتوفي، كما يقول فيرو، بضربة شمس في غشت من نفس العام أثناء سباق جرى في الضاية DAYA (؟) (2) .
ومنهم أحمد خاطري الذي يبدو أنه خدم الفرنسيين خدمة مخلصة كمترجم وكجندي. ولد خاطري في بجاية سنة 1825، وتعلم بها. ثم أصبح
(1) لا نعرف الآن العلاقة بين اسماعيل بن المهدي هذا وابن مهدي الذي ظهر أول القرن وتزعم القسم القبائلي في مجلس الوفود المالية.
(2)
فيرو، مرجع سابق، ص 310.
موظفا. في المكتب العربي (العسكري) فيها كدليل وفارس، ابتداء من 1847. ثم مترجما في اللغة البربرية سنة 1853. ثم استقال من هذه الوظيفة سنة 1868. وبعدها دخل الحياة المدنية، وأثناء وظيفه في بجاية كان دليلا لبوجو عندما هاجم وادي الساحل سنة 1847، ولعب دورا ضد ثورة بوبغلة فوقف ضد هجومه على بجاية 1851 وعلى البابور 1853، وجرجرة 1854. وقال عنه فيرو إنه كان فارسا أكثر منه مترجما، ووصفه بأنه قدم خدمة كبيرة للفرنسيين نظرا لمعرفته بالمنطقة، وقد جرح هو وحصانه في عدة معارك، وكان حاضرا أيضا لثورة جرت بالمنطقة سنة 1865. وقد تحصل، جزاء خدماته، على الصليب من يدي نابليون الثالث في جوان من هذه السنة ببجاية. وعند هجوم الرحمانيين على بجاية بقيادة عبد العزيز الحداد، سنة 1871، ركب أحمد خاطري جواده من جديد ووقف ضد هذا الهجوم (1).
ولنذكر أيضا عددا آخر من المترجمين الذين نشأوا في عهد الاحتلال وتعلموا الفرنسية في المدارس الأولى التي أنشأها الفرنسيون. وكان بعض هؤلاء قد ساهموا في الحياة الثقافية مثل ابن سديرة وحسن بن بريهمات، واكتفى بعضهم بمستوى بسيط يكفيهم للخدمة في الجيش الفرنسي والترجمة له أو في المحاكم والمكاتب العربية. ومن الصنف الأخير نذكر إبراهيم بن حسن بن بريهمات، الذي ولد في العاصمة سنة 1848 ودرس بها في مدرسة الجزائر الرسمية (الشرعية) أو في المعهد السلطاني، وأصبح من المترجمين. وتولى مهمات عديدة للفرنسيين ثم ترك الشؤون الأهلية سنة 1875، ولكنه سقط عن حصانه في 14 مايو من نفس العام فمات (2). ومنهم عمر بن عبد الله الذي لا نعرف عنه الكثير سوى أنه ولد ببسكرة في تاريخ نجهله، ثم دخل الخدمة (؟) في سنة 1865، ولم يسجل له من ذكروه أي دور خاص (3).
(1) نفس المصدر، ص 321، انظر أيضا بيروني، مرجع سابق، ص 228.
(2)
انظر عنه وعن أسرته فصل السلك الديني.
(3)
انظر بيرونى، مرجم سابق. الغالب أن الخدمة المشار إليها هى العسكرية.
وكذلك التومي بن أحمد، وهو من بني سليمان (قرب العاصمة)، ولد بالجزائر، سنة 1830، وأصبح من العسكريين سنة 1850، وتولى القيادة في الجلفة سنة 1863، ثم في سور الغزلان سنة 1876. وقد غادر الخدمة سنة بعد ذلك.
ومن نواحي قسنطينة ظهر عدد من هؤلاء المترجمين. منهم محمد (أو أحمد؟) بن حسين. ولد بعنابة دون تاريخ معروف، ودخل الخدمة العسكرية والشؤون الأهلية (المكتب العربي؟) في مايو 1872. وقد عمل في سور الغزلان وبسكرة ثم وادي سوف 1890 - 1897. وأثناء ذلك كلفه الفرنسيون بالقيام بمهمة خاصة في الصحراء (سنة 1893)، ولا ندري ما هي، ولكن من المعروف أن تلك الفترة شهدت نشاطا فرنسيا كبيرا في الجنوب. وقيل إن محمد بن حسين قد غادر الخدمة سنة 1898 (1). وكذلك بكير خوجة الذي يظهر من اسمه أنه من بقايا العائلات العثمانية. ولد في قسنطينة سنة 1856، وعين مترجما. سنة 1879، وقد ظل في الخدمة إلى سنة 1913 حين تقاعد عشية الحرب العالمية. وقد نشر سنة 1908 قاموسا عربيا. - فرنسيا (2). وكان ميدان خدماته واسعا، إذ أنه شمل المسيلة وسطيف وبني منصور وبسكرة وبوسعادة وقسنطينة وورقلة والأغواط، والعاصمة، بالإضافة إلى تونس (3). أما عبد الكريم بن أحمد الفكون (لعله ابن أحمد الفكون الذي سنتحدث عنه) فقد ولد في باتنة سنة 1864، وعمل في الترجمة منذ 1882، وشمل نشاطه في ذلك باتنة وتقرت وسعيدة والعين الصفراء وتكوت وورقلة وعين صالح، كما عمل في تونس. وتوفي سنة 1921.
ومن أبرز الذين دخلوا مبكرا في الخدمة العسكرية الفرنسية محمد بن داود. كان أصله من عرب الدوائر والزمالة القاطنين سهول وهران. وانضموا للفرنسيين منذ 1835 باتفاق الكرمة. وكان ابن داود (الأب) قد جاء العاصمة
(1) بيروني، مرجع سابق، ص 456.
(2)
انظر لاحقا.
(3)
بيروني، مرجع سابق، ص 524.
وعرض خدماته على كلوزليل. وقدم وثيقة عن الكيفية المثلى لحكم الأهالي في نظره. وكان رجلا متعلما وطموحا. استخدمه الفرنسيون في مصلحة الشؤون الأهلية في وهران، ثم عينوه آغا على الدوائر. أما ابنه فقد دخل المعهد الامبريالي (المدرسة السلطانية) المخصص لأبناء الموظفين العرب. فتعلم تعليما مزدوجا. ثم أرسل إلى مدرسة سان سير العسكرية (فرنسا). ثم تدرج في الوظيف العسكري حتى وصل إلى رتبة (عقيد)، وظل الوحيد في هذه الرتبة إلى عهد طويل. وقد تجنس بالجنسية الفرنسية بتاريخ 26 أكتوبر 1858 عندما كان سنه 21 سنة (ولد سنة 1837)(1). وشارك في حملات الجيش الفرنسي في أفريقية وأوروبا. وكانت له ثروة كبيرة، وعندما تقاعد من الجيش تفرغ لخدمة أملاكه الزراعية. يقول عنه زميله إسماعيل حامد الذي عرفه عن كثب إنه كان الرجل المثال الكامل (للمسلم الفرنسي) وإن تاريخ حياته عبرة للمسلمين والأورويين. وكان لبس اللباس الوطني واللباس العسكري الفرنسي. وقد توفي ابن داود سنة 1912. ولا نعرف أن له عملا مكتوبا أو مترجما ولا كونه عمل في سلك الترجمة العسكرية. ولكن اسم ابن داود (لعله من أسرته) ظهر بعد الحرب الأولى عندما اشترك مع أحمد لعيمش في ترجمة معاني القرآن الكريم إلى الفرنسية. وقد تناولنا ذلك في مكانه من الجزء السابع (2).
والجزائريون الذين خدموا في الجيش الفرنسي كمترجمين يصعب حصرهم. وقد وجدنا منهم عددا آخر جندوا في آخر القرن الماضي وأوائل هذا القرن لخدمة البعثات الفرنسية إلى مناطق أخرى كالمغرب وافريقية. ومن الذين وظفهم الفرنسيون في المغرب قدور بن غبريط، ومحمد نهليل ومحمد المعمري. والمعروف أن الخدمة في الجيش الفرنسي كانت طوعية بين
(1) ولعل أباه قد سبقه إلى ذلك.
(2)
عن حياة ابن داود انظر اسماعيل حامد (مجلة العالم الإسلامي)، يونيو 1912، ص 315 - 318 مع صورته باللباس العسكري. وكان قد مات له أحد الأبناء في معركة بجنوب وهران سنة 1910.
الجزائريين إلى 1912 حين أصبحت إلزامية. فهذا السيد أحمد بن مجقان (مجقم؟)(1) قد ساهم كمترجم في حملة عسكرية فرنسية ضد أعالي نهر البانو (نيجيريا اليوم) سنة 1892 - 1893. وسعى جهده للحصول على معاهدة للفرنسيين من أمير يولا المسلم (YOLA). ورغم انسحاب الحملة الفرنسية بعد اتفاق بين الحكومتين الفرنسية والبريطانية، سنة 1893. فإن ابن مجقان بقي هناك إلى أكتوبر 1895 مع فرقة صغيرة من الرماة السينيغاليين، وربط ابن مجقان علاقات وطيدة مع علماء المسلمين بالمنطقة، رغم أن الناس هناك كانوا يعتبرونه من النصارى الفرنسيين ربما لأفعاله ولبياض بشرته، حتى بعد أن حلف لهم على المصحف عشر مرات بأنه مسلم. وكان قد بدأ حياته مترجما في الجيش الفرنسي.
وحين جرى ترشيحه لعضوية جمعية جغرافية الجزائر وشمال افريقيا عند تأسيسها سنة 1896، وصفه المرشحون له في تزكيتهم، بأنه كان مترجما في بعثة ميزون (Mizon) الفرنسية. وظل خلال سنتين (1893 - 1895) رئيسا لمركز يولا على نهر البنوي، وهو أحد فروع النيجر. وقد نال ابن مجقان وسام جوقة الشرف على خدماته في هذه البعثة. كما التحق ببعثة الكونغو كمترجم. وحظي بالعضوية في الجمعية المذكورة التي كان رئيسها الشرفي هو الحاكم العام جول كامبون (2). وقد تمنت الجمعية أن تحصل منه على مراسلات من أفريقية. أما ديبون وكوبولاني فقد ذكرا أن أحمد بن مجقان أصله من تيزي وزو، وأنه عندئذ كان في الكونغو، وذكرا أنه قدم لهما مخطوطا عربيا (3). ويذكر مصدر آخر أن ابن مجقان كان قد توفي في حدود
(1) وجدنا هذا الاسم باللاتينية يقرأ: مجقم، ومجقان، ومشكان، الخ. ولا ندري ضبطه الآن. انظر عنه تفاصيل أخرى في المقالة التي كتبناها عن المثقفين الجزائريين في افريقية. مجلة الثقافة، 1996.
(2)
انظر العدد الأول من مجلة الجمعية الجغرافية الجزائرية SGAAN، 1896، ص 13، وتم قبوله عضوا في جلسة 11 جوان، 1896.
(3)
ديبون وكوبولاني (الطرق الدينية)، مرجع سابق، ص 116، هامش 1.
1900 بالجزائر بعد معاناة من أمراض المناطق الاستوائية، ولكن هذا المصدر لم يحدد بالضبط تاريخ وفاته، إنما ساق خبرا يفهم منه ذلك، وهو أن الإنكليز قد أخبروا أن أحمد بن مجقان قد قتل سنة 1900 بعد صدام مع قوات رابح في باجيرمي (التشاد). ويشكك المصدر في أن الإنكليز قد يكونون أذاعوا ذلك عنه استنادا إلى خبر خاطئ أو يتعلق الأمر بمترجم جزائري آخر.
ومهما كان الأمر فإن أعمال ابن مجقان كانت في ميدان الترجمة الشفوية والعمليات العسكرية لصالح الفرنسيين. وليس لدينا ما يدل على أنه كتب مذكرات أو رحلة، رغم أن المجلة المذكورة تمنت أن يراسلها من أفريقية. ويظهر أنه كان متعلما حاذقا وشجاعا ومخلصا لقضية أخرى غير قضية بلاده. وقد وظف كل طاقته لها. ويذكر السيد كريستلو، الذي عرف المنطقة التي عمل فيها ابن مجقان في افريقية، أن أهل يولا ما يزالون إلى اليوم يذكرون باندهاش قصة ابن مجقان بينهم (1).
ومن المترجمين العسكريين السيد رجم، الذي لا نعرف سوى أنه كان من قسنطينة، من عائلة شهيرة بها، وأنه كان حائزا على الباكلوريا في الآداب والعلوم، وكان يحسن العربية والفرنسية، وكان مترجما للضابط الفرنسي، جنتيل Gentil، في باجيرمي نواحي تشاد. وقد اتهم رجم بالتدخل في الشؤون السياسية المحلية، كما يقول كريستلو. ويبدو أنه رجع إلى نشاط الطريقة السنوسية، إذ زار زاويتها في بئر علالي مع الضابط المذكور فقبض عليه وسجن، ولا ندري الآن مصيره بعد ذلك (2).
وقد أثار أحد هؤلاء المترجمين ضجة في آخر القرن الماضي، وهو
(1) الآن كريستلو، (المحاكم
…
)، مرجع سابق، ص 249 - 250. انظر عنه أيضا بحثنا المذكور - مثقفون جزائريون في افريقية.
(2)
كريستلو (المحاكم
…
) مرجع سابق، ص 250 نقلا عن دفتر الجنرال ريبيل Reibell باريس 1931، ص 337.
مسعود الجباري. فهو مثل أحمد بن مجقان، من خريجي مدرسة ترشيح المعلمين (النورمال). وكان يمتاز بالذكاء وازدواجية اللغة والطموح. ولد بنواحي عنابة، وبعد حصوله على الشهادة وظفه الفرنسيون في فرقة الخيالة وأصبح من المترجمين بعد ذلك في الترجمة العسكرية. ثم تولى الترجمة في ميدان القضاء منذ 1887. وتجنس أيضا وشارك في أعمال الترجمة بتونس بعد احتلالها. وكان ظهوره قد صادف اهتمام الفرنسيين بالصحراء وعبورها إلى افريقية حيث السودان القديم. ولمؤهلاته جندته الجمعية الجغرافية الفرنسية في باريس للقيام بمهمة بأفريقية سنة 1892. فتوجه إلى هناك متنكرا في زي خطاط الرمل وكاتب الحروز (الأحجبة).
وقد تجول الجباري في افريقية وبقي هناك حوالي سنتين بين لاقوس وأعالي النيجر. وادعى أنه جمع معلومات حيوية للجمعية وطالبها بدفع تكاليف أدلائه الأفريقيين ولكنها رفضت ذلك. وقيل إنه مرض وحاول الانتحار، وقضى أسابيع في أحد المستشفيات يتداوى من جروحه قبل رجوعه إلى تونس (مايو 1894). وفي التقرير الذي كتبه ادعى للفرنسيين أنه أسس جمعية دينية سرية تمتد اثارها من السينيغال إلى أثيوبيا، وأنه عثر على قبر المستكشف كرمبل، وتعرف على أربعة أوروبيين مسجونين عند التوارق من بينهم فلاترز. وألقى الجباري محاضرة في معهد قرطاج (تونس) أعلن فيها هذه الأخبار المثيرة. فصدقه البعض وكذبه آخرون.
وبعد أن ذهب إلى الجزائر توجه منها إلى باريس. وفي باريس ألقى محاضرات أمام آلاف المهتمين عن بعثته المثيرة وعن مشاهداته فأثار العجب. وعينت الجهات الفرنسية بعثة أخرى لكي تتحقق من معلوماته سيما فيما يخص فلاترز. وكان الجباري صاحب قلم ولسان فصيحين. فأثر على الجمهور الباريسي بمنطقه. وكتب مقالات في بعض الجرائد وقدم أحاديث إلى أخرى، وذلك في خريف 1895. وقد تبنت آراءه صحيفة (لوجور). واهتزت الحكومة العامة في الجزائر فأمر جول كامبون بفتح ملف للتحقيق في مسألة فلاترز. وأجرى الجباري مقالمة مع صحيفة (لو جورنال) وبعث برسالة
إلى صحيفة (الأخبار)، ثم ألف كتابا صغيرا سماه (الناجون من بعثة فلاترز)، ونشره في تونس سنة 1895. ونحن لا ندري إن كان الجباري قد كتب أو ترجم أعمالا أخرى، أو ترك مذكرات وتقاييد سواء عن افريية أو عن حياته الخاصة. ولكنه كان على كل حال من فئة النخبة المتجنسة التي تعاطت الترجمة والعسكرية، ومع ذلك لا نعرف آراءه في الاندماج والحضور الفرنسي في بلاده (1).
وهناك مترجمون آخرون ساهموا في هذه البعثات الفرنسية نحو افريقية في آخر القرن الماضي. منهم الفقيه عبدالقادر بن الحاج البوسعادي، والطبيب محمد بن السعيد مقبل، والإداري ميلود بن عبد السلام، والمغامر قدور بن العربي (المملوك). وقد تناولنا هؤلاء بشيء من التفصيل في بحثنا الخاص بهم (2).
ولنشر أيضا إلى السيد العلمي عليش الذي استعان به الصحفي الفرنسي، جورج ريمون، أثناء حرب طرابلس 1911 - 1912، فقد اصطحب معه هذا المترجم الجزائري لأن ريمون كان لا يعرف العربية ولا التركية. ولا ندري الآن هل كان عليش من العسكريين العاملين في الجيش الفرنسي أيضا أو أنه كان مجرد مترجم حر أو عارف بالعربية والفرنسية (3).
بعد أن استتب الأمر للفرنسيين ونظموا فرق المترجمين في مختلف
(1) انظر عنه دراسة كانيا - فورستر (دور العملاء والمترجمين الجزائريين) في مجلة (بيدونة)، 40، 1994، ص 24 - 25. وكذلك كريستلو، مجلة المغرب (مغرب ريفيو)، 10، 1985، 4 - 6. و (افريقية الفرنسية) A.F، يونيو، 1898، ص 189. ونفس المصدر، يوليو 1898، ص 223.
(2)
وهو (المثقفون الجزائريون وأفريقية). انظر سابقا.
(3)
انظر كتاب (من داخل معسكرات الجهاد في ليبيا) ترجمة محمد عبد الكريم وافي، مكتبة الفرجاني، طرابلس، 1972، وكان جورج ريمون قد ألف كتابا عن حرب طرابلس، سنة 1913 ونشره في باريس.
الميادين، ظهر عدد من المترجمين في الإدارة والجيش (المكاتب العربية بالخصوص)، والاستشراق، والقضاء. وقد ساهمت المدارس الشرعية الثلاث ومدرسة الآداب (الكلية) أيضا في تكوين جيش من المترجمين. وتنافس بعض المترجمين في إصدار الكتب والنصوص في مختلف التخصصات. وكان أفضلهم أولئك الذين عملوا في التعليم والإدارة (سيما الأهلية) والجيش. أما القضاء فكان حظ المترجمين للنصوص فيه ضعيفا نسبيا. وكثير من رؤساء المكاتب العربية والبلديات الكاملة أو المختلطة قد ألفوا أعمالا تنم عن معرفتهم للعربية الفصحى والاستفادة من نصوصها وليس مجرد معرفة الدارجة. أما المستشرقون فقد كانوا بالطبع أبرع من غيرهم في ترجمة النصوص والاستفادة من المصادر. وقد وظفوا مواهبهم في ترجمة النصوص من اللهجات العامية والبربرية أيضا وما كانوا يسمونه بالفولكلور. ونحن لو عدنا إلى المجلة الأفريقية أو مجلة الجمعية الجغرافية وغيرهما لعثرنا على أسماء كثيرة في ميدان الترجمة الكتابية. ومعظم أصحابها من الفرنسيين واليهود الذين تجنسوا بالجنسية الفرنسية ..
ولعل من بين هؤلاء (اليهود) موريس بن حزيرة، الذي يوصف بأنه ضابط مترجم. فقد قام سنة 1905 بدراسة مطولة عن منطقة الطوارق - الهقار -. وكان الجنرال (لابرين) قد كلفه بدراسة المنطقة. وقد تعلم لهجة التماشق (ويسميها التماهق) وكان يعرف العربية (1).
كانت الترجمة في البداية عند الفرنسيين وسيلة فهم واتصال مع الجزائريين، ثم أصبحت وسيلة تسلط وإنتاج. يقول فيرو إن الفرنسيين قد فهموا مدى أهمية اللغة العربية وأنها واسعة الانتشار بين الأهالي. ورغم عدم مبالاة الفرنسيين باللغات الأجنبية فقد اضطروا إلى دراسة العربية الدارجة، كما أن البعض قد درس المكتوبة أيضا. ويضيف: ها نحن نرى (سنة 1876)
(1) انظر دراسته عن الهقار في مجلة الجمعية الجغرافية الجزائرية SGAAN (1906) قسم 1، ص 260 - 288، قسم 2، ص 308 - 386.
لغة محمد صلى الله عليه وسلم تدرس في ليسيه الجزائر وفي الكوليجات (المتوسطات) البلدية، وفي المدارس الشرعية - الفرنسية الثلاث. وفي نفس الوقت أصدر بعض الأساتذة الفرنسيين معاجم وكتبا في النحو ومجموعة من المؤلفات التعليمية. لقد كان القداس الأول في الجزائر قد ألقاه المترجم العسكري القس شارل زكار، ثم جاء مترجم آخر ليفتتح أول درس بالعربية للفرنسيين، ثم توارد على الجزائر برينية وشيربونو، وكلاهما من مدرسة اللغات الشرقية بباريس، وفي الخمسينات جاء الدكتور بيرون ليتولى إدارة المعهد (الكوليج) العربي - الفرنسي، ثم توالى المترجمون في مختلف المجالات بعد ذلك (1).
هكذا صور شارل فيرو مسيرة حركة الترجمة في الجزائر، وهي الحركة التي بدأها شذاذ من كل جنس ودين، وطورها مستشرقون عسكريون، كرسوا حياتهم لخدمة السلطة الاستعمارية ووظفوا لذلك عددا من الجزائريين. فاستفادت اللغة الفرنسية ولم تستفد اللغة العربة أي شيء، بل كانت تموت بالتدرج كما خطط لها أنصار الترجمة من العربية إلى الفرنسية فقط. لقد كانت العربية هي الخاسرة لهذه الأسباب:
1 -
سيطرة اللغة الفرنسية في الإدارة والقضاء والصحافة والجيش ثم الشارع، سيما في المدن الرئيسية.
2 -
تدريس اللهجات العربية للفرنسيين والأوروبيين وحتى للجزائريين في المدارس.
3 -
تدريس بعض اللهجات البربرية منذ أواخر القرن الماضي، ثم تسييس تعلمها وجعلها منافسة للعامية والفصحى.
4 -
مهاجمة الإسلام والقرآن من قبل رجال الكنيسة والتقاء آراء هؤلاء مع آراء المستشرقين في كثير من الوجوه.
5 -
اعتبار اللغة الفرنسية هي اللغة الرسمية الوحيدة واللغة العربية لغة أجنبية.
(1) فيرو، مرجع سابق، ص 19 - 20.