المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

وواضح أن نهاية رأى الأهالي في الحكم الفرنسي ترجع إلى - تاريخ الجزائر الثقافي - جـ ٦

[أبو القاسم سعد الله]

فهرس الكتاب

- ‌الجزء السادس

- ‌الفصل الأولالاستشراق والهيئات العلمية والتنصير

- ‌الاستشراق ومراحله

- ‌حلقات اللغة العربية

- ‌ مدرسة الآداب

- ‌أعمال المستشرقين

- ‌حياة بعض المستشرقين والمستعربين

- ‌اللجان العلمية

- ‌لجنة الاكتشاف العلمي للجزائر:

- ‌لجنة الاحتفال المئوي بالاحتلال:

- ‌الجمعيات المتخصصة

- ‌المعاهد الجامعية

- ‌البعثات العلمية ومشاركة المثقفين الجزائريين فيها

- ‌الكنيسة والتنصير

- ‌نشأة الأسقفية

- ‌الأسقف بافي:

- ‌ لافيجري

- ‌شارل دي فوكو:

- ‌النشاط التنصيري منذ 1930:

- ‌الفصل الثانيالترجمة وظهور النخبة الاندماجية

- ‌مترجمو الحملة وغداتها

- ‌تنظيم فرقة المترجمين

- ‌المترجمون الجزائريون

- ‌تعاون الجزائريين والفرنسيين في مجال الترجمة

- ‌الترجمة إلى العربية

- ‌الاتجاه الاندماجي - الاستغرابي

- ‌الزيارات المنظمة لباريس وفكرة المعهد العربي

- ‌أسر الأطفال وحملهم إلى فرنسا

- ‌دعاة التعلم باللغة الفرنسية الأوائل

- ‌نماذج من المثقفين والاندماجيين

- ‌الفصل الثالثمذاهب وتيارات

- ‌(نعمة) الاحتلال

- ‌رأي باصيه، ود. وارنييه، وطوكفيل

- ‌رأي لافيجري ولويس فينيون وآخرين

- ‌(فرق تسد)

- ‌معاداة العرب

- ‌ومعاداة البربر

- ‌التآمر على زواوة

- ‌الدعوة إلى تعلم الفرنسية ..وإلى التعلم عموما

- ‌وضع المرأة

- ‌الهجرة أو البقاء

- ‌الاندماج، التجنس، النخبة

- ‌الجزائر في الكتابات الفرنسية

- ‌اليهودية والصهيونية

- ‌الماسونية

- ‌الإسلام ووحدة الأديان

- ‌المثالية والاشتراكية

- ‌ إسماعيل عربان

الفصل: وواضح أن نهاية رأى الأهالي في الحكم الفرنسي ترجع إلى

وواضح أن نهاية رأى الأهالي في الحكم الفرنسي ترجع إلى القضاء والقدر أيضا. والفرنسيون يعرفون ذلك ويبنون عليه تمديد بقائهم بالخرافة والعلم والتسلط. إنهم يعرفون مشاعر المسلمين ومدى الهوة التي تفصلهم عنهم، ولذلك كانوا يعملون على تأجيل قرار زعماء الصوفية وتحويله إلى قرار قدري ليس في أيديهم ولكن في يد سلطة أعلى منهم.

ويبدو لنا أن فهم ديبارمي للنفسية الأهلية أصدق وأعمق ربما من فهم ألفريد بيل وأوغسطين بيرك ولويس ماسينيون وأضرابهم ممن كانوا مهتمين فقط بالشرائح الاجتماعية القريبة منهم كالاندماجيين والبرجوازية والإقطاعيين. وديبارمي كان يعرف أن المداح الشعبي ومجالس الصوفية إنما هي رموز على مدلولات خفية، وأن الحقيقة كانت وراء ذلك. وأن هناك أسلوبا حكيما في التقية والتورية، سواء باستعمال ألقاب الصوفية أو استعمال الفوارس والأبطال في التاريخ القديم (1).

لم يكن الفرنسيون يحضرون فئة معينة لتولي الحكم في الجزائر بدلهم ذات يوم. كانوا يعتقدون أنهم خالدون وأن الجزائري سيظل خديمهم إلى الأبد. وإنما كانوا يستعملون الحيل والتسويف والقمع والتقسيم للإبقاء على قبضتهم. وبذلك ساهموا في توحيد الجزائريين، على عكس مقصودهم، لأن الفلاح والعامل والمثقف والسياسي ورجل الدين كلهم تيقنوا أن الفرنسيين كانوا يعاملونهم على حد سواء وهو حرمانهم من الهوية الوطنية ومن حق التمتع بالحرية.

(فرق تسد)

استعمل الفرنسيون سلاح تقسيم الجزائريين بكل مهارة. وتطور استعمال هذا السلاح عندهم مع الزمن. فكان لكل ظرف وكل عهد سلاحه

(1) عالج ديبارمي هذه الرموز وأناشيد المداح (القوال) في عدة أعمال نشرها. كما اهتم بالحركة الوطنية والإصلاحية بالخصوص.

ص: 299

البتار، وقد استمروا على ذلك خلال ثورة 1954 أيضا. والذين عاشوا هذه الثورة من الجزائريين يدركون أن ما فعله الجيش الفرنسي معهم وأجهزة المخابرات والمصالح الخاصة كان نسخة مكررة مما استعمله الفرنسيون ضد آبائهم وأجدادهم منذ 1830.

اعتمد الفرنسيون في البداية على مخلفات الحروب الصليبية في المشرق وفي الأندلس. ومنها اعتبار سكان شمال إفريقية مسلمين متعصبين وشرقيين معادين للأوروبيين، وأن الإسلام هنا عدو للمسيحية هناك. كما اعتمدوا على تراث مكتوب شحنه رجال الدين والأسرى والرحالة والجواسيس والقناصل بمواطف العداء لأهل شمال إفريقية ووصفهم بأوصاف التخلف والتعصب والوحشية. وقد ترجم الفرنسيون واطلعوا قبل الحملة على مؤلفات الدكتور شو، وويليام شيلر، وبوتان، ودي طاسي والأب دان، وديفونتين، وريبندر، وبنانتي وغيرهم. ولذلك كانت ردود أفعال الفرنسيين الأولى تتماشى مع الأحكام التي أصدرها هؤلاء المؤلفون ضد السكان وحكامهم.

ومعظم هذه المؤلفات كانت تصب جام غضبها على الحكام (الأتراك) باعتبارهم حكاما غرباء ومستبدين، يحكمون لمجرد الشهوة في جمع المال والثروات، ومن أجل ذلك كانوا يقومون بالقرصنة ويفرضون الجزية على الدول الأوروبية، ويأسرون الأسرى ويبيعونهم في سوق النخاسة من أجل الثروة وليس من أجل أي هدف آخر. وفي نظر هؤلاء المؤلفين كذلك أن المحكومين (الأهالي) كانوا يبغضون الأتراك وأنهم إذا وجدوا مساعدة خارجية فسينضمون إليها لتحريرهم من ربقة الذل والهوان والاستغلال الذي كانوا يتعرضون له على يد الأتراك الظلمة المستبدين. ثم إن هؤلاء الأتراك ما هم إلا أقلية (أوليغاركية) وفيهم المرتدون عن المسيحية والمغامرون والجنود الذين قدموا من أناضوليا وسواحل شرق البحر الأبيض وجزره بحثا عن الغنائم والشهوات والثروات. وليس لهؤلاء الحكام ولاء حقيقي للسلطان العثماني الذي أصبح قلقا منهم لتمردهم عليه.

ص: 300

وكان البيان الذي أصدره الفرنسيون للجزائريين عشية الحملة يسير في هذا الخط (1). وكانوا معتمدين على أن الحضر، وهم البرجوازية المتسيسة والراغبة في الحكم قياسا على المجتمعات الأوروبية، سيتعاونون معهم لفك قيود الحكم (التركي) وتولي السلطة بدلهم. وقد نجحت هذه الخطة مع سكان العاصمة إلى 5 يوليو 1830، ساعة احتلال القصبة واستيلاء الجيش الفرنسي على الحصون والقلاع. ذلك أن أعيان الحضر هم الذين ضغطوا على الداي ليفاوض بشروط ولينقذ المدينة من الدمار. ولم يكن الباشا ولا الأعيان عندئذ يفكرون في مصير الأجزاء الأخرى من الوطن. ويبدو أن الحضر كانوا يعتقدون أن الفرنسيين سيبرون بوعدهم ويجلون عن الجزائر بعد عزل الداي وتنصيب (أمير) آخر مكانه. ولم نعرف أن الداي قد شاور قادة الأقاليم وشيوخ الأوطان وأعيان البلاد في مصير الجزائر قبل أو بعد استسلامه للفرنسيين، أو أنه تنازل لأحدهم ليحكم بعده، أو فكر في الانتقال إلى عاصمة إقليمية أخرى ليقود المقاومة. فقد كان كل انشغاله وانشغال زعماء الحضر عندئذ هو إنقاذ العاصمة من التدمير بأخذ الفرنسيين لها عنوة.

وبدأ عيث وعبث الفرنسيين بالعاصمة وأهلها حتى قبل أن يخرج منها الداي. وأخذ الحضر يشاهدون من الفرنسيين ما لم يكونوا يتوقعون أبدا: اغتصاب المنازل، وانتهاك المساجد، ونهب التحف، وسلب المال، مع الشتائم والإهانات. وكان أول رد فعل لذلك هو خروج الآلاف من العاصمة إلى الأماكن القريبة أو الذهاب عند الأقارب في المناطق المجاورة، انتظارا لإنجلاء الموقف. ورأى بعض أعيان الحضر أن أخف الضررين هو التعاون مع العدو في تسيير المدينة، فشاركوا في أول لجنة بلدية وبعض المصالح الأخرى الثانوية، معتمدين على شروط الاتفاق الذي وقع بين الداي وقائد الحملة ومحتجين به على الفرنسيين. وحين رأى هؤلاء شكوك الحضر بهم أخذوا يميلون إلى التعامل مع اليهود ضدهم، وكان اليهود من سكان العاصمة

(1) نشرنا هذا البيان وقدمنا له وعلقنا عليه في كتابنا أبحاث وآراء، ج 1.

ص: 301

يعرفون جيدا، أحوالها السياسية والتجارية والمالية، وقد ارتموا في أحضان الفرنسيين من أول وهلة رغم أنهم كانوا منذ الطرد من الأندلس مع المسلمين، يتمتعون بمكانتهم الاجتماعية والاقتصادية في المجتمع الجزائري.

وهكذا انطلقت سياسة تفريق الصفوف: الحضر ضد الترك، ثم الحضر العرب ضد الحضر الكراغلة، ثم اليهود ضد الحضر بأنواعهم. هذا في المدن كالجزائر وتلمسان ومستغانم وقسنطينة والبليدة والمدية. وسنرى أن الحضر كانوا لا يمثلون في خطر الفرنسيين أي وزن بعد التوسع في الاحتلال. وسيعتمد الفرنسيون على نوع آخر في تفريق الصفوف عندما تخرج جيوشهم إلى البادية أو الأرياف بجبالها وسهولها وصحاريها، لأن معظم سكان الجزائر كانوا خارج المدن.

عندما ظهرت القيادات المقاومة للغزو الفرنسي داخل البلاد استعمل الفرنسيون أيضا قادة ضعفاء النفس، طامعين في السلطة وأمدوهم بالسلاح والعتاد والرجال، وضربوا، كما يقولون، الصفوف ببعضها. فقد اعتمدوا في أول الأمر على قادة من أصول تركية أو سبق لهم الحكم في الأقاليم، مثل إبراهيم بوشناق في مستغانم، ومصطفى المقلش في تلمسان، وإبراهيم الكريتلي في عنابة. الأولان ضد الأمير عبد القادر، والأخير ضد الحاج أحمد.

وفي الصفوف العربية ضربوا القادة ببعضهم أيضا سواء في شرق البلاد أو غربها. ففي الشرق شجعوا فرحات بن سعيد من عائلة وعكاز ضد شيخ العرب ابن قانة الذي كان صهرا للحاج أحمد. وفي الغرب فصلوا مصطفى بن إسماعيل ومحمد المزاري ثم سيدي العربي عن الأمير عبد القادر، وبنوا حبة من قبة على الخلاف الذي وقع بين الأمير ومحمد الصغير شيخ التجانية في عين ماضي، حتى جعلوا خلافهما متوارثا في الطريقة بين التجانية والقادرية مدة قرن. كما ضخموا الخلاف بين الأمير والحاج أحمد. ودخلوا زواوة

ص: 302

ووسعوا الخلاف بين العائلات الحاكمة هناك، عائلة أورابح ضد عائلة أوقاسي، وهذه ضد عائلة سيدي الجودي، وهذه ضد عائلة ابن زعموم الخ. واستمر الضرب على هذا الوتر طيلة عقود: ضرب العرب بالعرب والبربر بالبربر، دون تمييز. وكان بعض العرب والبربر من الغفلة والجهل بحيث مدوا رقابهم للذبح وأيديهم للقيد، دون تفكير في العواقب ودون إدراك للأهداف السياسية للفرنسيين. وإذا صدقنا الروايات الفرنسية فإن القادة الأهالي قد صفوا بعضهم ببعض، وكانت مهمة الفرنسيين هي فقط توفير السلاح.

ولم تسلم الطرق الصوفية من سلاح التقسيم أيضا. فحين رأى الفرنسيون أن الخطر يكمن في هذه الطرق بعد القضاء على المقاومة المنظمة، استعملوا نفس السلاح ضد الطرق أيضا. فقدموا بعض قادة الطرق الصوفية للوظائف الزمنية، كما فعلوا مع أولاد سيدي الشيخ في البيض، وعائلة ابن علي الشريف في أقبو، وعائلة ابن حسين في الخنقة، وعائلة الصحراوي بتيارت، الخ. وقسموا الطريقة الرحمانية إلى فروع موالية معظمها في الجنوب، وفروع معارضة معظمها في الشمال، وضربوا القادرية والرحمانية بالطريقة التجانية التي كانوا ينوهون بولائها وخدماتها. ورغم أنهم ظلوا يعتبرون الدرقاوية معارضة ومبتعدة عن الوظائف الزمنية، عدا القضاء والتعليم، فإنهم وجدوا في الطريقة العليوية (وهي درقاوية) طريقة (عصرية) قريبة من الإدارة الفرنسية وحاولوا أن يضربوا بها الحركة الإصلاحية، كما استعملوا بعض فروع الرحمانية ضد هذه الحركة مثل زاوية الهامل.

ولم تسلم الناحية المذهبية من سلاح التفريق أيضا. فقد حاول الفرنسيون أولا التفريق بين علماء المذهب المالكي والمذهب الحنفي. ولما عجزوا عن ذلك، لجأوا إلى التفريق بين أهل المذهب المالكي والإباضي. فنصبوا الحماية على ميزاب وتركوا لأهلها عاداتهم وأعرافهم، واعفوهم من الخدمة العسكرية، وراعوهم في الضرائب. وما التوترات التي نقرأ عنها في المدن بين التجار أحيانا إنما كانت بفعل سياسة التفريق هذه.

ص: 303

ومنذ أوائل الأربعينات من القرن الماضي أخذ الفرنسيون (يكتشفون) سلاحا آخر، وهو أن في الجزائر عنصرا بربريا ليس ككل البربر. وبنوا على ذلك نظريات وأجروا بحوثا انتهت في نظرهم إلى أن هذا العنصر من الجنس الآري، أو الهند أوروبي، وأنه لا علاقة له بالجنس السامي. وبعد أن كانوا يعاملون كل السكان على أنهم عرب مسلمون وشرقيون، بدأوا يعاملونهم معاملة مختلفة، فبعضهم عرب وبعضهم بربر، والبربر بعضهم من الجنس الآري وبعضهم من الجنس الحامي. وأخذوا يضعون لهؤلاء وأولئك خصائص وميزات تجعل البعض أقرب إلى المسيحية وإلى الفرنسيين في العرق والسلوك والنظام الاجتماعي من السكان الآخرين. وقد تجاهل الفرنسيون روايات النسابة البربر والعرب والنظريات التاريخية التي ترجع إلى قرون خلت، وتجاهلوا الروايات الشفوية التي يرويها البربر أنفسهم عن أنسابهم (1)، رغم أنهم (أي الفرنسيين) قد ترجموا معظم المصادر العربية والإسلامية التي تعالج هذا الموضوع، ومنها تاريخ ابن خلدون، وتاريخ ابن الأثير، وابن عبد الحكم، وابن حزم، والمسعودي وأضرابهم.

وبعد حوالي قرن من البحث (العلمي) على يد عقداء في الجيش الفرنسي، من أمثال كاريت، ورين، وهانوتو، ودوماس، الخ. ومستوطنين حاقدين من أمثال الدكتور وارنييه، وباتييه، وقوتييه، وأندري سيرفييه، وأندري باصيه - قلنا بعد ذلك اعترف الفرنسيون بأنهم كانوا يزيفون التاريخ وأنهم إنما فعلوا ذلك من أجل السياسة والبقاء في الجزائر، أما الجزائريون

(1) من كتب النسابة البربر، حسب رواية أبي القاسم الزياني الذي ترجم الفرنسيون بعض أعماله وهو (الترجمان المعرب): - تاريخ سليمان بن إسحاق المطماطي، - تاريخ هاني بن يصدور القوصي، تاريخ كهلان بن أبي لؤي الأوربي، وقد استعمل ابن خلدون هذه التواريخ التي تعالج أيام البربر وأنسابهم في الجاهلية والإسلام. انظر مولاي بلحميسي (الجزائر من خلال رحلات

) الجزائر، 1978، ص 160 - 161. وكذلك رينييه باصيه (النسابة البربر) في (الأرشيف البربري)، المجلد الأول، ص 1? 13.

ص: 304

فهم في الواقع سواء وأن الإسلام قد وحد بينهم في حضارة عميقة لا يبغون عنها حولا، وأن لغة القرآن كان يطالب بها البربري والعربي على حد سواء، وأن الجزائريين بهذه الصفة مشتركون في العداء للفرنسيين (1).

ولن نفهم هذه النقطة إلا بالرجوع إلى بعض آراء هؤلاء الكتاب. فقد عاش البربر والعرب في ظل الإسلام والوحدة والأخوة منذ الفتح. ولم يذكر المؤرخون أي توتر بينهم كان سببه التمايز العرقي أو الاختلاف اللغوي أو المذهبي. حقيقة أن هناك ثورات اشتركوا فيها لنصرة مذهب أو حاكم، ولكنهم كانوا إذا غضبوا غضبوا لأسباب سياسية أو اقتصادية في أغلب الأحيان. وقد خاضوا معا معارك الجهاد ضد الغزاة الأجانب، كما عاملهم العثمانيون طيلة ثلاثة قرون معاملة واحدة، سواء كانوا مخازنية أو رعية. فتكونت بينهم وحدة لا انفصام لها، وتاريخ وآمال مشتركة، ووحد بينهم الإسلام عقيدة ولغة وجمعتهم خريطة الجزائر بتربتها السهلية والجبلية والصحراوية على صعيد واحد.

ولكن بعض كتاب الفرنسيين لم يرقهم ذلك. فراحوا يبحثون عن الفروق في المقابر والمتاحف والحوادث التاريخية وفي لون البشرة وتباين اللهجات والأعراف ونظام الحياة اليومية. وكانوا يدخلون البربري والعربي في المخبر الفرنسي ويأخذون عينات من دم هذا وذاك، ومن جمجمة هذا وذاك ومن جلد هذا وذاك، ثم يحللونها بمهارتهم (العلمية) باستعمال تقنيات الأنثربولوجيا، واللسانيات، والأنساب، والسلالات، ثم يعلنون النتيجة الباهرة، في نظرهم، وهي أن هناك أكثر من شعب يسكن الجزائر، وأن هناك اختلافا بين عناصر هذه (الشعوب)، وأن الإسلام بينهم ليس على درجة واحدة من التمكن والرسوخ، وأن اللغة العربية قوية هنا وضعيفة هناك، بل منعدمة في بعض الجهات. وأن هناك العرب والمعربين وغير المعربين بتاتا،

(1) شارل روبير آجرون (الجزائريون المسلمون وفرنسا) 2/ 879، وكذلك فيكتور ترنقه (دراسة اجتماعية حول المجتمع الإسلامي في شمال إفريقية)، الجزائر 1913. راجعته (مجلة العالم الإسلامي)، سبتمبر 1913، ص 348.

ص: 305

وهم الممتنعون في الجبال. وأن البربر هم هؤلاء المتحصنون في الجبال والمتكلمون بلهجاتهم الخاصة، وأن المعربين منهم إنما هم بربر أيضا، ومن ثمة فجملة البربر في الجزائر أكثر من جملة العرب فيها، وأثبت المخبر الاستعماري الفرنسي أن هؤلاء العرب هم المحافظون على بداوتهم، وهم الذين يسكنون السهول ويمارسون الرعي والترحال، وقل منهم المزارعون وسكان البيوت المبنية. وفي العرب طبقات وارستقراطية محافظة ونظام أبوي تقليدي، والولاء عندهم للعرش والجماعة. وهم محتلون للبلاد جاؤوا، في نظر الفرنسيين، من الحجاز، ومنهم الأجواد والأذواد والأشراف والمرابطون، ومنهم المخازنية والرعية، ولهم الموالي والعبيد، وهم كسلاء، ويمارسون تعدد الزوجات، كما أنهم محافظون على الدين الذي جاؤوا به. وهم في غزوات مستمرة ضد بعضهم البعض كما كانوا منذ قرون.

ومن جهة أخرى أثبت المخبر الاستعماري الفرنسي أن البربر هم السكان الأصليون وأنهم تعاونوا مع الرومان وكانوا على المسيحية. وأن لهم بشرة بيضاء وعيونا زرقاء وشعورا شقراء تدل على أن أصلهم نوردي - جرماني، وأن لهم لغة شفوية ذات أصول هندوأوروبية، وهي ذات لهجات. وهم سكان الجبال التي امتنعوا فيها عن مختلف الغزاة، ولهم نظام خاص يشبه النظام الأوروبي، فهم حينئذ ديمقراطيون بطبعهم، ولهم جماعات وأمناء، وهم يحسنون الزراعة وسكنى البيوت الطينية، وهم نشطون ويحبون العمل والمنافسة، ولا يرفضون التقدم والتمدن الذي جاء به الفرنسيون، وهم في نظر هؤلاء مسلمون، ولكن إسلامهم خفيف بدليل أنهم يفضلون العمل بالعرف على العمل بقواعد الإسلام. والبربر ليسوا قبيلة واحدة أو جنسا واحدا. فمنهم سكان الصحراء وسكان الجبال، وهم موجودون في جبال الظهرة والأوراس وجرجرة وميزاب والهقار. وهم كالعرب يغزون بعضهم بعضا أيضا.

ولو اعتمد هؤلاء الفرنسيون على روايات وأخبار المؤرخين وناقشوها وقبلوا منها ورفضوا بعضها لقلنا إن ما توصلوا إليه جدير بالنظر والدراسة.

ص: 306

ولكنهم كانوا يعتمدون على نزوات شخصية ومصالح استعمارية آنية. كانوا يصدقون أرنست رينان ويكذبون ابن خلدون، ويستوحون نظرية دورخايم ويرفضون نظريات ابن حزم وابن عبد الحكم ونسابة العرب والبربر.

ومن هو العقيد كاريت حتى يفتح باب مدرسة كاملة في شتم الشعب الجزائري وتفريق عناصره منذ 1841؟ لقد بدأ عمله عضوا في (اللجنة العلمية) التي تأسست سنة 1839 (لاكتشاف الجزائر). وكان من نتائج نشاطه كتابه الذي سماه (بحوث في أصول القبائل الرئيسية في شمال إفريقية ولا سيما الجزائر) وقد طبع هذا الكتاب بموافقة اللجنة العلمية نفسها وبأمر من الحكومة الفرنسية (1). ثم توالت الكتب التي ركزت بالخصوص على زواوة (القبائل). فألف كاريت نفسه (دراسات حول منطقة القبائل)، وبيربروجر عن (العهود العسكرية لمنطقة القبائل)، والبارون أوكابيتان (القبائل والاستعمار في الجزائر)، ودوماس وفابار (منطقة القبائل الكبرى)، وهانوتو ولوتورنو (منطقة القبائل والعادات - الأعراف - القبائلية) وأصدر الدكتور وارنييه كتابه (الجزائر أمام الامبراطور)(2)، ودوماس كتابه الآخر (القبائل العربية) أيضا، وهنري فورنيل (دراسة عن الاحتلال العربي لإفريقية). وهناك العديد من هذه الكتب، ومنها كتاب بقي (حضارة شمال إفريقية)، وإيميل قوتييه (العصور الغامضة لشمال إفريقية)، ومن أواخرها كتاب الضابط بيروني (سلالات وعوائد إفريقية الشمالية).

وفي الوثيقة الطويلة (ستة فصول) التي وزعتها مصالح المارشال بوجو على المكاتب العربية العسكرية التي كانت تحكم الجزائر، بدأت تظهر ملامح التعامل مع الأهالي. فمصالح بوجو تعرف رؤساء المكاتب العربية بالعناصر المكونة للسكان وبطريقة التعامل معهم على أساس عرقي، والاستفادة من (الصفوف) بينهم في مواجهة المقاومة. وصدرت هذه الوثيقة سنة 1845،

(1) المطبعة الإمبريالية، باريس، 1853.

(2)

له أيضا كتابان آخران: (الجزائر أمام مجلس الشيوخ)، و (الجزائر أمام الرأي العام) كلاهما صدر سنة 1863. أما (الجزائر أمام الامبراطور) فقد أصدره سنة 1865.

ص: 307

قبل هزيمة ديسمبر 1847 بسنتين. وكان بوجو عندئذ في أوج طغيانه، بعد أن افتك من الأمير عبد القادر المدية ومليانة وتلمسان ومعسكر وتاقدامت، واستولى على الزمالة. وواجه الفرنسيون في نفس السنة (1845) ثورة الظهرة الشهيرة التي شاركت فيها مختلف الطرق الصوفية وحد ثت على إثرها معركة سيدي إبراهيم.

فماذا قالت الوثيقة عن الجزائريين؟ إنها تحدثت عن نوعين فقط من (السلالات): العرب والقبائل، وهو تصنيف قد يكون حدث لأول مرة، حسب علمنا. أما العرب فهم على صنفين: صنف يسكن السهول بين الساحل وجبال الأطلس، ونوع يسكن الهضاب العليا. الأولون مستقرون، والأخيرون رحالة. وعرفت الوثيقة (العرب) بأنهم أهل البادية - الريف، ولا تعني سكان المدن (الحضر) لقلة عدد هؤلاء واختلاطهم بالسكان الآخرين (؟). ثم ذكرت الوثيقة، التي يغلب على الظن أن محررها هو يوجين دوماس رئيس المكتب العربي المركزي في عهد بوجو، الأوصاف التي كان يتميز بها المجتمع العربي وطبقاته كالارستقراطية ونظام الأبوة وأهمية الشرف، مضيفة شيئا لم نذكره وهو اعتماد هذا المجتمع على وحدة الدوار، ووجود مجلس في كل دوار يسيره الكبار أو الأعيان.

وأما أهل القبائل فقالت عنهم الوثيقة بأنهم هم سكان الجبال، وعرفتهم بأنهم خليط ممن قاوموا الغزاة عبر العصور. واعترفت الوثيقة بصعوبة الحكم عليهم عندئذ لعدم المعرفة الكاملة بهم. كما نسبت لهم نفس الأوصاف التي ذكرناها عن البربر، ولكنها أضافت أنهم أقل حبا للرحلة والتنقل من العرب، وأن الذي كان يوحدهم هو التعصب ضد الكفار، وأن لهم نظاما يتمثل في العرش والقبيلة والجماعة والأمين (1).

(1) نشرت (مجلة الشرق)، باريس 1845 خلاصة الوثيقة التي قالت إن بوجو قد وقعها ووزعها على رؤساء المكاتب العربية العسكرية ليحكموا بمقتضاها. انظر صفحات 347 - 361. ولا ننسى أن بعض المناطق الهامة ما تزال غير محتلة عندئذ.

ص: 308

وفي هذه الأثناء (1844) أرسلت الحكومة الفرنسية المهندس هنري فورنيل في مهمة للجزائر. ورغم أن مهمته كانت هي البحث عن المناجم وكيفية استخراج المياه الجوفية، فإن فورنيل أبى إلا أن يكتب عن تجربته في الجزائر التي زارها شرقا وغربا وشمالا وجنوبا، رغم الوضع غير المستقر. ثم ألف كتابه عن احتلال العرب لإفريقية الذي يسميه المسلمون (الفتح الإسلامي)، وانتهى فيه إلى أن العرب قد فشلوا في مهمتهم (1). وهذه الأطروحة كانت تتماشى مع أطروحة السياسيين والعسكريين الفرنسيين الذين يعتبرون أنفسهم الوحيدين من الأجانب، بعد الرومان، الذين نجحوا في احتلال الجزائر. أما العرب والأتراك، مثلا، فكلهم كانوا من الفاشلين. وهو رأي كان يؤيده أيضا رجال الكنيسة الذين كانوا يريدون إلغاء الاثني عشر قرنا من الإسلام، والرجوع بالجزائر إلى عهد الكنيسة الإفريقية - الرومانية.

والمهم عند الفرنسيين عندئذ هو إيجاد عداوة محلية يوظفونها داخل صفوف أعدائهم وليس البحث (العلمي) السلالي أو اللغوي في حد ذاته. فالتوصيات التي كانت تصدر من الكتاب مبنية على أن القبائل هم أقرب من العرب في التحالف مع الفرنسيين. وبذلك يمكن للفرنسيين أن يكسروا الحلقة التي تطوق عنقهم. وفي البحث عن العداوات داخل الصفوف الأهلية التي تكفل بها في الواقع كل مكتب عربي عسكري، جاء السيد فورتان ديفري F. d'IVRY بخلط عجيب في التسميات والخريطة الجغرافية عند حديثه عن سكان الجزائر، رغم أنه قد زارها وكتب عنها أثناء إدارة بوجو. فهو تارة كان يسمى الشاوية قبائل، وتارة يسميهم عربا يتحدثون اللغة العربية وتمتد رقعتهم في نظره إلى عنابة وقالمة والعين البيضاء، ويذهب تارة أخرى إلى أن عرب الصحراء كانوا ضد عرب التل، وأن هناك فروقا بين سكان شرق البلاد ووسطها وغربها. وكان يسمى الشاوية عرب الشرق. ويقول إنك كلما ازددت

(1) نقل ذلك عنه لويس رين في (بحث في الدراسات اللغوية والأثنولوجية عن الأصول البربرية) في المجلة الإفريقية، 1889، ص 97. وعن رحلة فورنيل إلى الجزائر انظر (مجلة الشرق)، باريس 1845، ص 164 - 167.

ص: 309

اتجاها نحو الغرب، وجدت (القبائل) أكر عنادا وصلابة وقدرة على الحرب، ويعني بالغرب الأرض الممتدة من شرشال إلى المحيط. وتأثر رأى ديفري بالنسبة لعرب الصحراء والسهول الخصبة بوثيقة بوجو، إذ قال إنها لا تحول دونهم سوى الجبال المانعة كالأوراس والظهرة وجرجرة والونشريس حيث كان يسكن القبائل (البربر؟)، الذين لهم نظام اجتماعي وحدود طبيعية متميزة. وقد كرر ديفري نفس الأوصاف التي جاءت في وثيقة بوجو حول خصائص كل (جنس)، مضيفا، أن الاستبداد السياسي الذي فرضه الإسلام (!) قاومته هذه الجبال الصلبة. وقال ديفري إن هناك عداوة زمنية متبادلة بين السكان لم تعرف فرنسا كيف تستفيد منها سياسيا. ولا شك أنه ظن أنه كان يقدم بذلك نصيحة غالية لبلاده (1).

ويكاد رأي ديفري يكون هو الرأي الذي انتهى إليه العقيد كاريت أيضا، وهما متعاصران. ففي رأي كاريت أن السكان القبائل هم المنحدرون من السكان الإفريقيين القدماء، وربما من الوندال (النورديك) أيضا، أو من المسيحيين الأولين. ونظرا لهذا الأصل غير المؤكد لغويا، أو عرقيا، أو دينيا، ولنظمهم الديموقراطية، فإنهم في نظره هم الحلفاء الطبيعيون للفرنسيين (2). وقد بينت حوادث الخمسينات والسبعينات من القرن الماضي وغيرها أن العقيد كاريت كان يبني أوهامه على الرمال وأن الأسطورة التي كان ينسجها حول هذا التحالف غير الطبيعي كانت أضغاث أحلام. ذلك أن الفرنسيين قد واصلوا منذ 1860 مناقشاتهم في الصحف عما يفعلون بالقبائل (البربر)، هل يبعدونهم تماما عن أراضيهم أو يبقونهم ويفرنسونهم (3). وسوف تستمر هذه المناقشات إلى فترة ما بين الحربين العالميتين، ولكنها لم تسفر على طائل، وعلينا الآن أن نعرف ماذا حدث بالضبط.

(1) فورتان ديفري (الجزائر) في مجلة الشرق، 1845، ص 62 - 64.

(2)

نقلت ذلك آن تومسون (بلاد البربر

) مرجع سابق، ص 87.

(3)

كوك، ج. (الاحتلال والاستعمار في شمال إفريقية)، ص 23، مرجع سابق.

ص: 310